Friday, 26 March 2010

إن لم تلمسني - سأموت

شيرا ستاف

ترجمة: نائل الطوخي


حب من طرف واحد


سأموت

إن لم تلمسني



ولكنك لن تلمسني

وأنا لن أموت.




القفزة

كانت لنا أخوة من الأطفال المضروبين

لعبنا لعبة، كأننا

محبون، وفي أحلامنا نملك

بيتاً، خاويا من الواجبات والآباء والنواهي

كل نقودنا أنفقناها على الكلمات

والتسجيلات، عرفنا أننا سنحتضر جوعا، سنكون

مهمَلين، ولم يهمنا،

تخيلنا مطاردات، وحدنا في الشوارع المظلمة

والخاوية، فقط ظلالنا معنا، لتذكيرنا

أنه كانت هناك أيضا

حياة أخرى


كنتَ مظلياً ولذا فلقد أمنت بكً

تصورتُ أنك تعرف كيف تلقي

بنفسك من الهيلوكبتر، كيف تفلت أنفاسك

أمام الجمال الذي يضربك مثل ارض،

الريح كانت قوية، وتسلقنا سويا

سلماً من الحبال، خطوة بخطوة،

رئتانا تصفران من قلة

الهواء، مأخوذيْن بالسعادة وصلنا عاليا،

نعض على أظافرنا خائفين،

رميتني أولا، ومن هناك

تطلعتَ إليّ، وأنا أمزق كل الخيوط،

حتى آخر خيط، وأنت، من بعدي

لم تقفز.

واحدة أحبت

جاء واحد ولمس قلبي

بإصبعه ذي الإظفر غير المقصوص

كانت له كفان رهيبتان وجميلتان

قامتا بتفتيتي، بهدوء

في المساء، في نومه، كان يصدر أصواتاً

كحمل وديع، كطفل

كنت أنصت له

وداخلي ينشق وينتظر

وينتظر. في النهار

كنت أقف أمامه

وأفتح عينيه بقوة

تخيلت حدقتيه محفورتين

حتى سمك الأرض،

واسودت أظافري. ذات مرة

ذهب بي الشوق إليه

حتى نهاية شارعه

لم يُحفر بئر

هناك

ولم توضع علامة

ولم أستطع المرور

........................

وقلت لي اذهبي من مدينتك ومن غرفتك

ومن بيت أبيك إلى الشارع الذي أريك هناك

شقة بإيجار مضاعف ولتأخذي

ابنتك وحيدتك التي لا تحبينها

وعدة أغراض أخرى بكابينة قديمة

وأصعديها محرقة على

إحدى الأعماق التي أقول

لك، عميقاً


وسكتَّ ولم تواصل الكلام


الآن انظري كيف

تسيرين، كيف تُضربين، لأين

تتبخرين، كأنك تناطحين

الجدران، احترسي

ولأين تتعجلين المسير، حتى لو

كانت في نهاية الليلة المضببة تنتظرك

طفلة وأبوها مع

الشاي الساخن، لن تشربيهما

ليس حتى القطرة الاخيرة، أنت

التي تذكرين أن ليس هناك مكان هو

بيت لك، أنت التي تعرفين أن ليس هناك بيت

هو مكان.

________________________________

ولدت شيرا ستاف عام 1971. شاعرة، عملت في جميع المهن المتخيلة، غسالة وطباخة وبائعة في محل فلافل، مدرسة للغة العبرية، باحثة في مكتب للإحصاء، مدرسة أدب في مدرسة ثانوية، محررة ومترجمة حرة. تقوم اليوم بتدريس اللغة العبرية في جامعة بن جوريون. من كتبها "أنا محتلة يا أبي: علاقات الأباء والبنات في الشعر العبري بالستينيات وفق قصائد داليا رابيكوفيتش، ترتسا أتار ويونا فولاخ"، 2007، ترجمة كتاب "المخ الشعوري: البنية الأخلاقية للحياة الشعورية" لجوزيف لادو، 2005. حائزة على جائزة "تيفاع" للقصيدة ومنحت لها في مهرجان مطولة الشعري. القصائد المترجمة هنا منشورة في يديعوت أحرونوت والصورة الأولى بعدسة عيدان لاندو.

Friday, 19 March 2010

هيثكليف

ولدت أورلي كاستل بلوم عام 1960 في تل أبيب لعائلة يهودية هاجرت من مصر إلى إسرائيل عام 1949. كانت تتحدث الفرنسية منذ طفولتها بفضل مربيتها الفرنسية التي كانت تعمل في بيت والديها. بعد دراستها الثانوية في مدرسة هرتسليا وبعد انتهائها من خدمتها العسكرية، درست السينما لسنة واحدة في جامعة تل أبيب ثم درست لسنة في مدرسة "بيت تسيفي" العليا لفنون المنصة في رامات جان. بدأت في نشر كتاباتها عام 1987. اكتشفها المحرر الأدبي حاييم بيساح، والذي كان يحرر كتب إتجار كيريت ويعمل في دار نشر عام عوفيد، حيث نشرت مجموعتها الأولى "غير بعيد عن مركز المدينة"، ولكن تألقها الأكبر في الساحة الأدبية المحلية حدث بعد نشر روايتها "أين أوجد"، وكتاب آخر من الكتب التي حظت بتقدير كبير هو رواية "دولي سيتي"، والتي تعالج فيه قضية الأمهات في إسرائيل. في عام 1990 فازت بجائزة تل أبيب، وفي عام 1993 فازت بجائزة ألترمان، وفي عامي 1994 و2001 فازت بجائزة رئيس الوزراء للإبداع. تمت ترجمة كتبها لتسع لغات. وكتاب "دولي سيتي" تم تحويله لمسرحية عرضت عام 2006 على المسرح الكامري من إخراج توفي ديكمان.

من كتبها:

"غير بعيد عن مركز المدينة"، مجموعة قصصية، 1987، "محيط معاد"، 1988، "قصص غير جادة"، 1993، "راديكاليون أحرار"، 2002، "تكستيل"، رواية، 2006.

قصتها المترجمة هنا، والتي تمزج فيها الكاتبة بين الواقع الإسرائيلي المعاصر وأجواء رواية "مرتفعات ويذرنج"، هي إحدى قصص مجموعتها الأولى "غير بعيد عن مركز المدينة".


أورلي كاستل بلوم

ترجمة: نائل الطوخي



هيثكليف

الأيام كانت أيام حرب. الجنود النظاميون والاحتياطيون لم يكونوا يأكلون العسل. في أحيان نادرة تأخذ القوات المحاربة أجازة ليوم أو يومين. الأجازات كانت قصيرة. قصيرة للغاية. الفترة التي نتحدث عنها كانت بعد منتصف الحرب بقليل، وبرغم أن الحرب لا تزال مستمرة، فقد ساد الجمهور مناخ من الوهن والتخمة، كأنها انتهت بالفعل. بدأت أصوات عالية معارضة للحرب تتردد، وعلى الناحية المقابلة، ترددت عشرات الحجج لصالح الحرب. وكان هناك أيضا أناس لم تعنهم الحرب أبداً في حد ذاتها، لدرجة أنهم لم يستطيعوا تحديد من المنتصر ومن المهزوم. كانت قلوبهم تميل في اتجاهات أخرى تماماً.

عندما خرجت سمدار من السينما كان الجو لا يزال نهارا. امتزجت الحمرة التي غطت وجهها بأشعة الشمس الحمراء، والتي أوشكت على الخروج دائما إلى خلف بناية المكاتب القبيحة. في عقلها ترددت كلمة وحشية واحدة ووحيدة: هيثكليف. كانت تبلغ أربعة عشر عاماً. لم تكن هذه معجزة، بل وكانت شيئاً بديهياً.

يداها كانتا مبتلتين من أثر الدموع التي مسحتها بسرعة وهي تصعد السلالم باتجاه الخروج، وبللت تذكرة السينما أيضاً. ألقتها مبللة ومفتتة، مسحت دمعة أخرى، وقطعت الطريق.

الميدان الواسع كان خاوياً. جلست سمدار على درجة من درجات سلم مدخل المبنى وأشعلت سيجارة وجدتها مطوية في عمق الدوسيه القماشي. ثلاثة من قائدي الموتوسيكلات، يكبرونها بعام، مروا بها. لاحظ أحدهم الفتاة التي تدخن وصفّر لزميليه كي يتوقفا. رأتهم سمدار وتمكنت من مسح دمع أخرى، دمعة حزن، انزلقت من عينها.

نزل من الموتوسيكل.

"تريديين جولة؟" سألها.

لم ترد الفتاة.

"تريدين جولة"، سألها مرة ثانية، ولم ترد.

"لا تفهمين العبرية؟" كان يمضغ لبانة.

استمرت سمدار في تنفس الدخان صامتة.

"انظروا، إنها ترتعش"، هتف.

أثار قائد المتوسيكل الثاني الضجة وهو يضغط على دواسة البنزين. فضل الدوران حول الميدان في جولات واسعة.

"ما قصتك يا شولا؟" قال. "لا تريدين جولة معنا، أخبرينا. لست الأولى ولا الأخيرة."

"لا أريد"، قالت سمدار وقامت من مكانها. لم تبد من بعيد كابنة الرابعة بعشر. كان يمكن بسهولة إعطاؤها ثمانية عشر عاماً.

غضب ماضغ اللبانة. اقترب من وجهها، جذب السيجارة من فمها وسحب منها نفساً. تجمدت ابتسامة المبتسم. شدت سمدار رقبتها ونظر إلى الشابين باحتقار، ثم غادرت مكانها واختفت بين عواميد الأسمنت.

"ما الذي فعلته يا أفنير؟" سأل المبتسم زميله بغضب.

"لا أحتمل أشكالهن. لسن جميلات ويعتقدن أنفسهن الليدي ديانا."

أدار المبتسم موتوسيكله وانضم لصديقهما، والذي كان يدير منذ فترة حوارا مع طفلة أخرى وجدها في طريقه. انطلق أفنير وراءه بسرعة، كي يثبت لنفسه للمرة المئة أن قوة أحصنة موتوسيكله تساوي قوة أحصنة موتوسيكل صديقه.

شقت سمدار طريقها في شارع إيفن جفيرول. طعم السيجارة كان مراً. نظرت على جانبيها للتأكد أن أحداً لا يراها وبصقت بصقة كبيرة على الرصيف. عندما رفعت عينيها، احمرّ وجهها. كانت هناك عينان تتطلعان بها. كانتا عيني هيثكليف[1]، خضراوتين، مائلتين قليلاً، وتركزان عليها جيداً. فحصت نظرته وواست نفسها بأنه في النهاية، فإن البصق هو فعل طبيعي، والطابع الوحشي لهيثكليف لن يرفضها بسبب بصقة.

النظرة الثاقبة التي غرزها فيها في البداية تحولت إلى ما يشبه ابتسامة. ملابس القطيفة التي كان يرتديها كانت جيدة عليه. حلت ربطة شعرها وتركته يسقط. كانت خفيفة، وكان بإمكان هيثكليف، لو أراد فحسب، أن يحملها بيد واحدة ويركض بها صامتاً على طول الشارع.

توقف أوتوبيس مليء بالعمال العرب في الإشارة القريبة. اختفى هيثكليف وفرسه باتجاه قمة الشوك. هناك سوف يستمر هيثكليف في الصراخ، وأصداء صرخاته فحسب هي ما ستصل إلى أذنيها المنصتتين. العمال العرب كانوا منهكين ونعسانين. لقد انتهوا من يوم عمل مرهق، والآن هم في طريقهم إلى إحدى المدن في الجنوب. لم تجهد سمدار نفسها في التطلع إلى وجوههم. أحد العرب، وكان موجودا في وسط الأوتوبيس، سحب مسدساً، ولكنها تجاهلته. وحتى عندما صوب إليها ماسورة المسدس لم تغير إيقاع سيرها. منذ زمن طويل كانت تريد أن تصبح ضحية عملية إرهابية كتلك. تغيرت الإشارة وانطلق الأوتوبيس.

انطلاق الأوتوبيس كشف سمدار التي كانت تقف وتتطلع للأعلى. السماء كانت مليئة بالنجوم، ولكن هناك ضوءاً نهارياً رمادياً. حولت نظرها قليلاً باتجاه الأسفل متطلعة إلى أطراف التلال الخضراء ومتجاهلة أجهزة الإيريال والعواميد الكهربائية في الطريق. لم تر هيثكليف، كما أن صرخاته غابت بين صخب السيارات المنطلقة. العمال العرب هم المتهمون في هربه. أصبح أكثر نبلاً في عينيها. واصلت السير ببطء لخطوات أخرى ووقفت بجانب شجرة كبيرة وسميكة. ليست هناك عصافير صاحية ليلاً. كلها نائمة على الأشجار، مخفاة جيدة عن أعين البشر، مثل محاربي العصابات. دققت سمدار النظر في أعماق الشجرة. كل شيء أسود وبصعوبة أمكن رؤية الأوراق. حاولت نفضها كي ترى كيف تطير العصافير منها، ولكن الشجرة كانت قاسية وثابتة وأكثر سمكا منها.

يفترض أن هناك في الدوسيه سيجارة أخرى. في رحلتها غير المتعاطفة بداخلها تعثرت بقطعة حلوى لزجة وبفتات حبات مضاد حيوي تبقى من دور البرد الأخير الذي أصابها. من حين لآخر كانت تخرج يدها من الدوسيه وتحكها في بنطلونها، وربما في الجيبة الرمادية الطويلة.

للمرة الثالثة والأخيرة، هكذا أكدت لنفسها، غرزت يدها في الدوسيه، وأخيراً تعثرت في سيجارة مطوية ملتصقة بإحدى قطع الحلوى. ببطء نقلت السيجارة والحلوى لأعلى الدوسيه. الدوسية كان طويلا وضيقا، وكان عليها التمرين بحرص شديد، كي لا تقوم الأشياء الكثيرة بداخله، ومنها سندوتش جبنة صفراء وزيتون، له ثلاثة أيام، وأقلام رصاص مقصوفة، مبراة، غطاء قلم روج، بتمزيق الورقة الحساسة للسيجارة.

عندما نجحت في إخراج هذين الشيئين، بدأت في محاولة الفصل بينهما بحرص. هذه المهمة كانت تتطلب يدين رقيقتين، ولكن حتى اليدين المرتعشتين لمدمن كانتا لتنجحا أكثر من يديها اليسريين. انفتح ثقب في السيجارة، والتصقت قطعة الحلوى بيدها. حاولت سمدار التخلص منها عن طريق نفض يدها، ولكنها أبت الانفصال. في النهاية تخلصت منها عن طريق حكّها على لوحة إعلانات قريبة، وجلست يائسة على أريكة صفراء. تفاقم الإحساس بالجوع، الذي كان قد داهمها منذ مشاهدتها الفيلم. قضمت سندوتش الجبن الصفراء بشراهة. اصطدمت أسنانها بذر الزيتون الموضوع بإهمال داخل السندوتش. لفظته بداخل كفها.

هبط هيثكليف من على فرسه وجلس بجانبها. داعب وجهها. رمت من يدها بذر الزيتون. سندت رأسها على صدره، وداعب هو شعرها الثائر. خافت من أن يقبلها، لأنه لم يقبلها أي رجل من قبل أبداً. ولكن هيثكليف لم يفعل إلا أن قبلها على وجنتها المشتعلة وأزاح من علي عينيها خصلة شعرها التي كانت تحجب عنه نظراتها.

لم يقل كلمة. أرادت سمدار أن تقول له بالإنجليزية، آي لوف يو، ولكنها لم تحب أن تكشف عنها لكنتها الغريبة. من المفضل لها كذلك ألا يعرف عنها هيثكليف كل شيء. لم تكن تعرف أن هيثكليف يعرف ويرى كل شيء، وأنه يتغذى على حبها له مثلما تتغذى الأرض على المطر الذي يهطل عليها.

رائحة الأرض المبتلة بفعل المطر تصاعدت في أنفها. ربما جاءت من هيثكليف. كان غارقا في التأملات ويتطلع إلى الأفق. تجرأت سمدار على نقل أصابعها إلى جانبي وجهه الحاد، ولم يتحرك. أنفها كان بارزا للغاية، وتمنت ألا يلمسه. قام هيثكليف بتوجيه رأسه إليها وسكت. كان ما بينهما أكبر من الكلمات. لم تجرؤ حتى على الابتسام له. قام واختفى خلف التلال الخضراء.

أكثر قليلا من مئة متر كانت تفصل بين سمدار وبين بيت أبويها، ولكنها فضلت السير حتى تصل إلى التلال الخضراء على الضفة الأخرى من السهل المتاخم للمدينة من ناحية الشمال.

أرادت أن يطلع النهار، كي تتمكن من الركض والدحرجة على العشب النابت بشكل فاتن. ولكن المكان كان مظلماً ومخيفاً، ومن بين الأشجار قد تظهر في أي لحظة، إذا أرادت فحسب، الأرواح والساحرات والقتلة الهاربون. مياه السهل كانت سوداء، حتى النجوم لم تجرؤ على الانعكاس فيها.

مر كلب ضال بجانبها وتشممها. كيف يمكن معرفة أن روح هذا الكلب ليست روحا محبوسة، لا تطلب إلا الخروج والانتقام؟ واصل الكلب تشممها. ألقت عصا إلى البعيد. ركض الكلب إليها وأعادها مغروزة بين أسنانه. رقد بجانبها وتثاءب. رائحة فمه كانت سيئة. نام.

حركت الريح أفرع الشجر. لم تستغرق سمدار في الخوف. رقدت على العشب الندِي وتدحرجت عليه ذهاباً وإياباً. صحا الكلب. وضعت سمدار رأسها على الدوسيه وتعثرت بأركانه المؤلمة، ثم قامت وخطت باتجاه الشجرة الوحيدة على الضفة الخضراء.

في الثامنة والنصف بحسب ساعتها أطلقت على هذا المكان اسم يوركشاير.

قالت لنفسها: "لا أدين بأي شيء لأي شخص. ولا حتى للعصفور الغبي الذي يغير وضعه في منتصف الليل. ولا للذئاب التي يمكنها الخروج من الأرض وافتراسي. أنا حرة. أنا لهيثكليف."

عادت لترقد عل العشب وأغلقت عينيها. لم ترغب في فتحهما، ولكن ملمس يد شخص على رقبتها اضطرها لأن تفعل هذا. كانت يد هيثكليف. رددت اسمه، ولم يرد عليها. أراد أن تسأله أين كان في هذا الوقت المتأخر، ولكنه رقد عليها وفتح أزرار قميصها. بعد قبلة طويلة هدأ هيثكليف ونام. تنفسه أصبح أكثر وأكثر بطئاً. تنفسها كان ثقيلاً. نامت على مروج يوركشاير عارية كما ولدتها أمها، مشتعلة من الخجل. لم تجرؤ على الحركة، ولا على أن تطلب منه الحركة، حتى وإن كان ثقل وزنه قد ضايقها. بحثت عن حصانه، ولكنها لم تجده، وافترضت أن الحصان قد خرج للركض وحده في المساحات المفتوحة. تطلع الكلب إليها انتظاراً للملاطفة. ثقُل جسم هيثكليف عليها. كان الضغط على رئتيها كبيراً. هزته بخفة، واستيقظ. وبينما كان يزيح برقة من على جبينها عشباً التصق بها، لاحظت سمدار أن ملابسه خضراء بالفعل، ولكنها ليست من القطيفة كما اعتقدت في البداية.

قال لها هيثكليف: "عليّ أن أذهب"، وسمدار كانت تعرف أنها لن تراه لأيام طويلة. لم تكن لديها فكرة عن كيف يمكنها أن توقفه وتجعله يبقى. مشيته كان منحنية. زرر بنطلونه. سار الكلب خلفه وذيله بين رجليه. سألت نفسها إن كانت حاملاً أم لا. ارتسمت ملامح عابسة على وجهها الشاب.



[1] هيثكليف هو بطل "مرتفعات ويذرنج"، رواية إميلي برونتي الشهيرة. وقح وفج، يحب كاثرين التي تفضل زوجا آخر عليه. أحداث الرواية تدور في يوركشاير، وهي المنطقة التي نشأت فيها برونتي.

Friday, 12 March 2010

أفكار عن ذلك الشيء المستحيل

اليوم يمر عام على نشر التدوينة الأولى بهذه المدونة.

منذ عام يتوالي نشر الأدب الإسرائيلي بهذه المدونة، أكتشف، وأحاول عرض مناطق جديدة بهذا الأدب، وأقوم بالتعديل في رؤيتي له، وللترجمة. أغير آرائي أحياناً. هذا يحدث.

كنت متحمسا وأنا أنشر تدوينتي الأولى. قلت: "الاهتمام الأساسي هنا سيكون الأدب الإسرائيلي الجيد (والجيد يعني طبعا الجيد من وجهة نظر صاحب المدونة، بما أنه ليس هناك معايير عالمية متفق عليها لجودة الأدب.)" لم ألتزم بهذا المعيار فقط، ترجمت أشياء لا أحبها، لأهميتها، الأدبية والسياسية، كنت أترجم أشياء لا ترضيني من الناحية الأدبية، أو أختلف مع رؤيتها السياسية. المترجم في رأيي هو شخص ينقل معرفة بعينها، لا رأيا بعينه.

على مدار هذا العام قامت معارك كثيرة، معركة ترجمة الأدب الإسرائيلي، والتي قرر فيها جابر عصفور أن ترجمة الأدب الإسرائيلي لا تعني تطبيعا طالما تمت بالاتفاق مع دور نشر غربية، وطالما تمت عن لغة أخرى غير العبرية، وتمت مناقشة ترجمة ديوان إيمان مرسال "جغرافيا بديلة" إلى العبرية. الترجمة من وإلى لغة الأعداء تمت مناقشتها في هذه السنة. الجميع كانوا يناقشون، ولا أحد يفعل شيئاً، والمعرفة بهذا المجال ليست معرفة، إنها ورقة سياسية، تربح أو تحترق. فاروق حسني يخسر اليونسكو، فيحارب اليهود الذين جعلوه يخسر، فيتراجع عن الترجمة المتطوعة لكتبهم، وهو ما يشكل تراجعا عن التراجع، بعد أن كان قد أعلن، في ذلك الماضي السحيق، أنه على استعداد لحرق أي كتاب إسرائيلي يدخل مصر. من يذكر كل ذلك الآن!

***

ذات يوم، حضرت نقاشا حول ترجمة الأدب الإسرائيلي بين صديقين. بدا أحدهما متحمسا. أشار إلى كتاب مترجم عن العبرية وتعرض كاتبته وجهة نظر مؤيدة للعرب. تساءل مستنكراً كيف لا نتحمس لترجمة هذه الكتب وهي تدافع عن مصلحتنا. الأخر كان أكثر حماساً. قال أنه يتوجب علينا ترجمة ما هو ضدنا أيضاً. الطريق الثالث الذي بدا بعيداً جداً في هذه اللحظة هو الآتي: ترجمة ما هو ليس معنا وليس ضدنا، ترجمة ما لا يعني بنا أصلا. ما لا يتحدث عنا. إذا أردنا معرفة شيء ما، فمن المفترض أننا نريد معرفته، لا معرفتنا. ولكن الأمر يتحول مع الأدب الإسرائيلي، يبدو همنا منصباً على معرفة أنفسنا، ومعرفة أنفسنا مرة أخرى، بعيون الآخر/ العدو. من هنا تأتي أهمية ترجمة الأدب الإسرائيلي، وليس تقارير الجيش الإسرائيلي، ومن هنا تأتي أهمية ترجمة الأدب الإسرائيلي الذي لا يستمد قوته من كونه أدب احتجاج على الحرب/ أدب متدينين يهود/ أدب شرقيين. ينبغي علينا أن نعيد التذكير مرة بعد أخرى: عند الترجمة فأنت تبصر الآخر/ العدو، أنت لا تبصر نفسك. سيقول البعض - وأنا منهم - بأنه حلم مستحيل، (أي حلم إبصار الآخر مجردا من نفسك)، ولكن الأحلام المستحيلة لا تفقد شرعيتها لكونها مستحيلة. ما لا يدرك كله لا يترك كله. أؤمن بهذا.

على الجانب الآخر فإن الأدب الإسرائيلي الذي يكتبه يهود شرقيون مثلاً، أو يعني بقضية الهوية الشرقية، كان له حظ كبير من الاهتمام في المدونة، نظرا للحالة "غير الطبيعية" لإسرائيل، هوية أنشئت بقرار سياسي، دولة تعادي محيطها كله، مجتمع من المهاجرين الذين يحلون محل السكان الأقدم بعد طردهم، ولكن ما يهمنا هو كونها دولة شرقية من الناحية الجغرافية، ولكن جزءاً كبير من خطابها قائم على تعريفها لنفسها بوصفها غربية، أو على أنها في مكانة "الغربية بين الشرقيين". من هنا كان لمواضيع الهوية الشرقية والغربية أهمية بالغة هنا، في النهاية، أعتبر أنه من أهم الأعمال التي قمت بها هنا هو تمكني من ترجمة هذه الدراسة لإيلا شوحاط، التي تحلل في مفاهيم الشرق والغرب عن طريق تحليل سينما "البوريكاس" الرخيصة في السبعينيات.

***

قيل لي ألا أكتفي بالترجمة. أن الجهد الأكثر أهمية هو كتابة دراسة عن ظواهر بعينها بالأدب الإسرائيلي. كان رأيي مختلفاً. مقالات كثيرة ودراسات كثيرة مكتوبة عن الأدب الإسرائيلي (تبدأ بالنتيجة النهائية المريحة: "مما لا شك فيه أن الأدب الإسرائيلي هو أدب مجند من الدرجة الأولى")، الحديث عن الأدب الإسرائيلي، وليس ترجمته، هو أمر مريح وغير موصوم، عندما يتحدث العربي عن الإسرائيلي فإنه يمرره عبر مصفاته، يحرفه ليصبح الإسرائيلي إما عربيا بضراوة، أو معاديا للعرب بضراوة. وكأن الإسرائيلي لا يمكنه إلا أن يفكر بنا، سلبا وإيجابا، ليس لديه ما يشغله.

على الناحية الأخرى، فإن الترجمة (وهي مصفاة أخرى) هي جهد أكثر راديكالية – في رأيي - وأقل تحريفاً. هنا يتحدث الإسرائيلي بدون مرشحات، ونسمعه بدون مرشحات، أحيانا عن أشياء لا تعنينا، وأحيانا عن أشياء تعنينا. أقول أنها "أقل تحريفا"، لأن هناك أشياء لا يمكن ترجمتها دون مرشحات، هناك "إريتس يسرائيل ארץ ישראל" مثلا، أو "أرض إسرائيل"، وهو المصطلح الذي يعني أرض فلسطين التاريخية قبل قيام دولة إسرائيل، أحيانا ما كنت أترجمه "فلسطين"، هنا كنت أقوم بتعريب لا مفر منه للإسرائيلي، وأحيانا ما كنت أستخدم هوامش لا أحب استخدامها كثيراً. حالة أخرى: يستعمل الإسرائيليون للسباب كلمات عربية يكتبونها بحروف عبرية، مثل "خرا" أو "كس أمك". لترجمتها أكتفي بنقلها للحروف العربية. بالطبع هنا لا يمكنني استعمال ألفاظ أكثر تحفظا, ستكون النتيجة كوميدية، الإسرائيلي يقوم بتعريب نفسه وأرفض أنا!

***

للسادة المولعين بالإحصاء، أقول أنه تمت على مدار العام ترجمة هذه النصوص:

73 قصيدة ليهودا عميحاي، أهارون شبتاي، دافيد أفيدان، ميئير فيزلتير، ناتان زاخ، يونا فولاخ، روني سوميك، مويز بن هاروش، دفنا شحوري، شيز، ألموج بهار، عِران تسلجوف، ماتي شيموئولوف، روعي إراد، إفرات ميشوري، نوعام برتوم، روني هيرش، مرحاف يشورون، ويفتاح إشكنازي. و13 قصة لعاموس عوز، بني تسيبار، إتجار كيريت، إشكول نيفو، سامي بردوجو، سيجال بريلمان، نافا سيمل، ميري شاحام، ياعيل نئمان، بوعاز لافي. 6 فصول من روايات شموئيل يوسف عجنون، عاموس عوز، دافيد جروسمان، أ. ب. يهوشواع، سامي ميخائيل، يتسحاك لاؤور وجادي تاوب. و4 دراسات ومقالات لإيلا شوحاط، أورن كاكون، دان لاؤور، نفتالي شيموتوف. يوميات ليئا جولدبرج، ساسون سوميخ، داليا رابيكوفيتش وسيد قشوع. مشاهد مسرحية لحانوخ لفين وتساحي ميلاميد وعيدان لاندو. وحواران مع شمعون بلاص، يورام كانيوك. رسالتان لأهارون ميجد وآلون حيلو ونصان مفتوحان لعاموس كينان.

.

شكرا، جدا، جزيلا.

المخلص للأبد

نائل الطوخي

Friday, 5 March 2010

تسيبار لا يعرفني

ولد بني تسيبار في تل أبيب عام 1953 لأبوين هاجرا من تركيا. متزوج وأب لثلاثة. تسيبار هو واحد من أشهر الصحفيين الإسرائيليين في العالم العربي بشكل عام وفي مصر بشكل خاص بسبب زياراته المتكررة لها. وواحد من أسباب شهرته أيضا هو مدونته بموقع صحيفة هاآرتس التي يكتب فيها بشكل استفزازي عن مواضيع حساسة وكثيرا ما يعلن فيها احتقاره لليهودية ولدولة إسرائيل. واحد من الاتهامات التي توجه له على الدوام هو احتقاره أيضا لليهود الشرقيين، وتعلقه بالثقافة الأوروبية، وبالتحديد الفرنسية – واحد من أسباب حبه للقاهرة مثلا هو أنه يراها مدينة أوروبية أكثر بكثير من تل أبيب! - واتهام آخر هو مثليته الجنسية التي يصرح بها أحيانا وينكرها أحيانا، مما يزيد من ارتباك المتلقين حول شخصيته. هذه المواضيع كلها حاضرة في القصة المترجمة هنا والتي قام بنشرها في كتاب بعنوان "المحرر الصحفي الذي يتخطى الحدود"، والذي قامت بتحريره تالما أدمون وضم قصصا مختلفة لكتاب مختلفين. يتلاعب تسيبار في القصة بشخصيته وهويته الحقيقية.

يمكن الاطلاع على بعض مقالاته هنا وهنا.

من كتبه "عصفور يغرد في الرأس"، 1978، نثر شعري، "مارش تركي"، 1995، رواية، "تسيبار ومن على شاكلته"، 1999، رواية عن الحياة المثلية لاثنين، "اسطنبول من الألف للياء"، 2000، كتاب رحلات، "صعود المحرر الأدبي للسماء"، 2005. يقوم بتحرير الملحق الثقافي الأسبوعي لصحيفة هاآرتس منذ عام 1988.

تسيبار لا يعرفني

بني تسيبار

ترجمة: نائل الطوخي

كل المتطفلين يلتصقون بي. "أرسلت لك قصيدة للنشر ولم ترد عليّ." أو: "لماذا تنشر دائما لنفس الأسماء. ألا تقرف؟" و: "ملحقك هو أول شيء أقرأه يوم الجمعة." لدي إجابات جاهزة وابتسامة جاهزة لكل واحد من هذه النماذج. كانت هناك حالة واحدة أقل إثارة للتعاطف. كان الرجل مضطربا تماماً. ادعى أنه يعرفني من ماضيّ الطلابي وكان يعتقد أنه دائماً مدين لي بشيء ما ويزعجني بلا توقف. الحالات المشابهة تنتهي برضاهم بفكرة اللقاء بي. يمكنهم أن يحكوا بعد ذلك أنهم التقوا بالمحرر الأسطوري بذاته (من كلمات قيلت في حوار مع "معاريف" بعد صدور كتاب بني تسيبار "صعود المحرر الأدبي إلى السماء".)

إيلكايام:

الرجل "المضطرب تماماً"، الذي أشار إليه تسيبار في الحوار – وهو شخص مضطرب لا يستهان به بطبيعته، وثمة شواهد على هذا - هو أنا. لهذا الأنا اسم، برغم أن تسيبار الخرا يفضل ألا يكون هناك أي اسم وأن يغرق في هاوية النسيان: الاسم هو آفي، إلكايام آفي، شركة ومحل استيراد النجف الكريستال ومستلزمات الإضاءة، 22 شارع وولفسون، تل أبيب. في ظهيرة يوم الثلاثاء بهذا الأسبوع رغبت في الحمص. تسيبي، سكرتيرتنا، قالت أنهم فتحوا محل حمص جديدا غير بعيد، في زقاق المصنع. كنت أعرف طول الوقت أن هيئة تحرير "هاآرتس" قريبة منا، ولكنني لم أتخيل أنني سوف ألتقي بتسيبار بعد خمس وثلاثين عاما لم نلتق فيهما. لم يعرفني. كان منغمسا كله في طبق الحمص الخاص به. غطى صحن الحمص بجسمه كأن الحمص كله في العالم قد انتهى، وكأنه يخاف أن يخطف منه أحدهم الطبق من تحت أنفه. هذا الوسخ قطع الرغيف بيديه وجفف الحمص في الطبق بسرعة وشهية، بدون الانتباه أن بعضه قد التصق بأصابعه. ثم تذكر طبق الحمص. بأصابعه السمينة، المدهونة بالحمص، أمسك بشريحة خيار مخلل وألقاها في فمه. أدخل بعدها ورقة كرنب مخلل في فمه. في النهاية لحس الباقي الذي تجمد على يده، وبعضه على ظهر يده أيضاً، والقليل بين أصابعه.

هذا هو تسيبار الشهير. محرر الملحق النخبوي الأدبي في "هاآرتس"، والذي لا يستحسن فكرة نشر القصائد والقصص التي أرسلها له منذ سنوات، ولا يجهد نفسه ولو بالرد. قل كلمة يا بني آدم، كي لا أجلس لأسابيع وأقرض أظافري مترقباً. قل أنني كاتب خرا، أنني أرتكب أخطاء إملائية، فقط قل. وأنا أجلس أمامه وأنظر له وهو يُظهر أنه لا يعرفني. أنا من وجهة نظره لا شيء، لا يهمه إن كنت أو لم أكن، أنا ذرة رمل، أنا العمود السينمائي الطارئ الموضوع هناك من أجله. لأنه حتى تكتمل متعة ابن الشرموطة هذا بالحمص فهو يحتاج ديكور من الناس البسطاء، الذين يدورون حول الطاولات من حوله، هؤلاء البسطاء، من بينهم أنا، وأنا شخص غير معروف، عمالة صغيرة كما يقولون، يعيش على عمل غير ذهني ويهتم بأمر هذا الشيء القذر المسمى المال.

الآن يصارع تل الحمص الأخير في الصحن، والذي يهدد بأن يُغرق بداخله الرغيف الأخير. سيدي الفاضل، من أجل هذا اخترعوا الشوكة. لا. هو يستعين بأصابعه ويقبض على تل الحمص بيده ويبلعه ويلحس شفتيه. ويجذب من الجهاز المفارش المطبوع عليها بالأحمر كلمة "شهية طيبة"، مفرش ومفرض ومفرش، ويجفف فمه، ومفرش آخر ومفرش آخر من أجل اليد التي تجمدت عليها المادة الصفراء الرمادية وانفجرت مثل أرض الراسب الطفالي في الصيف. هذا، يا سادتي، هو المحرر الأدبي، الذي يجلدنا ليلا ونهارا لأننا لسنا أوروبيين بما يكفي من أجله. هذا الذي لا يتحدث في التليفون مع من هو أقل من شوبنهاور.

أغرز نظراتي به ولا يرد. لا يخطر على بال هذا الخرا أنه يمكنني مقاربة مستواه، وأنه يمكنني أن أدير معه حوارا عن ألبير كامي. نعم، أنهيت لتوي قراءة ألبير كامي وأستطيع الحديث معه عن "الطاعون". وفق رؤيته الثابتة ، ففي المناطق الصناعية لا يوجد إلا جهلاء مصيرهم هو العمل بيديهم والحديث بلكنة متدنية[1]، لأنه لولا جهلهم ما كان ليوسخون أيديهم بالأعمال القذرة.

حتى الآن لم أعبر عن ألف باء غضبي على تسيبار ومن على شاكلته. لأن تسيبار ليس هو الحقير الوحيد في نوعه. هو في نهاية الأمر مظهر من محاولة واسعة للغاية لمحونا. لجعلنا شفافين. لجعلنا ديكوراً يمكنهم التنهد حسرة عليه والشكوى من أن كل شيء هو شرقي هنا، وكم أنهم يعانون من هذا وكم يصارعون من أجل الإبقاء على الوجه الأوروبي لدولتنا المتدهورة.

انظروا انظروا. ها قد أصابته زغطة. يحبسها بفمه ويعيدها لحلقه، لأنه فقط البربريون من أمثالنا تصدر منهم الزغطة إلى الخارج في صخب. يبدأ في النقر على الطاولة بنفاد صبر، مترقبا الحساب. أكره الناس الذين يدقون على الطاولة بنفاد صبر. هذا أمر غير مهذب وفق أي معيار. ولكنه مسموح بالنسبة له.

فهو من أجل هذا ينزل إلى الشعب، لأجل الاستمتاع بفظاظة الناس العاديين، والذي يصدرون الزغطة بدون حساب ويتحدثون بعبرية ريانة متبلة بكلمات مثل "أخي" و"كفارة". كل هذا يمكنه أن يخدم تسيبار في كتابته. لنفترض أنه لم يكن لديه غدا موضوع لمقاله الأسبوعي الضحل والممل. عندئذ سوف يتذكرنا، نحن الشعبيين، وسيكتب بالقدر المناسب من التعاطف الممزوج بالاحتقار عن التشوهات التي أصابت عبريته الغالية.

من هو المتوحش هنا؟ نحن أم هو؟ هو مقتنع بأنه هو النموذج، الكامل، المركز، ونحن المتوحشون الذين هبطوا لتوهم من فوق الأشجار. وهو يأخذ على عاتقه وظيفته التعليمية بدون أي حس ساخر. يقوم هو بتشغيل سخريته على كل شيء بخلاف نفسه.

دفع الحساب وقام. لاحظ أنني أتطلع به وهز رأسه محيياً. خرا مثلك. وجهك لا يزال مغلقا. حركة الرأس التي أومأت لي بها كانت حركة ميكانيكية قصدت أن تقول بها: "أنا أستهين بك، ولكن المتحضرين مثلي يتعاملون باحترام حتى مع القرود. حركة الرأس هذه ليست شيئا شخصيا ولا تخدع نفسك بالظن أنها تدل على أي نية من جانبي للتقرب منك." هو لا يعرفني في الحقيقة. هو لا يتذكر في الحقيقة. وربما هذا هو الأفضل. سوف تكون له فيما بعد فرصة للتذكر. سوف يندهش عندما أحكي له أنني جلست أمامه في مطعم حمص ولم أقدم نفسي. "لماذا فعلت هذا؟" سوف يسألني بدهشة. الناس على شاكلته غير قادرين على فهم أنه حتى نحن لدينا رغباتنا الضارة، وأننا نستمتع بالتربص بمفترسنا ولحس شفتينا في رضا وتخيل طعم اللحم الذي مازال بعض منه مغروزا بين أسناننا. ثم رأيت أنه ترك بقشيشا سخياً، الخرا المسكين. هذا التعاطف، الذي يثير الاستفزاز، على كل "المساكين" من وجهة نظره، فقط لكونهم يعملون في مطعم حمص وليس في جريدة، هذا التعاطف يخرجني عن شعوري. هو أكثر سوءاً من البخل. أفضل ألا يترك بقشيشا أبداً. في هذه الأماكن البقشيش مرتبط بالسعر. إذن فهو يلعب هنا دور السخي المعروف.

قام وخرج. جذب البنطلون الذي انزلق من تحت كرشه لأعلى وغرز بداخله القميص الذي خرج عن البنطلون من الخلف. وقف وألصق يديه بوسطه للحظة وفرد ظهره. ثم بدأ في السير مع الرصيف الضيق لزقاق المصنع.

انتظرت قليلا ثم خرجت في أعقابه. سار بثقل كشخص ما على وشك فقدان توازنه، ومن حين لآخر كان يمد ذراعيه إلى جانبيه من أجل عدم التعثر في صف الموتوسيكلات الحديثة بجراج موتوسيكلات سوزوكي، والذي أغلق المعبر واضطره للهبوط إلى الطريق. من ظهره بدا أكثر كهولة من عمره الحقيقي، عجوز تقريباً، يثير الشفقة تقريبا، برغم أنني لا أشعر بالشفقة تجاهه، تجاه هذا الكائن القذر. تمنيت له أن يتعثر. ولكن ألا يكسر شيئاً ما. ليس بعد. في هذه المرحلة يكفي أن يتوسخ بنطلونه بالتراب، فقط كتذكرة له بأنه ليس إلا كائن من لحم ودم، وأنه سيعود للتراب مثلنا جميعاً. سرت وراءه وقلت لنفسي: "سأدعه يسير بهذا الإيقاع البطيء الذي يسير به. في نهاية الأمر يمكنني تعقبه ودفعه بخفة من جانبه، كأن الأمر غير متعمد. ولكنني لن أفعل معه هذا لأنني لست حقيرا مثله وأيضا لأننا، نحن القرود، نحترم كبار السن ولا نتعقبهم في الجنوب."

أعرف أنه يشعر بأن شخصاً ما يسير من خلفه وأنه يعطله. يحاول إمالة رأسه للخلف كي يرى من هذا، ولكن رقبته العجوز والمتحجرة، مثل رقبة قرد عجوز، لا تسمح له بفعل شيء أكثر من التحول جانباً ثلاثين درجة.

قبل دخوله إلى البيت رقم 22، قبل لافتة معهد الكرة بقليل، توقف والتصق بالباب وأشار لي بيده أن أسير وراءه. لم أسر وراءه. مد ذراعه اليمنى إلى الخلف وتحسس منطقة مؤخرته كي يطمئن أنه لم يتم نشله. اندهش أنه لم يشعر بحضوري ينفخ في قفاه. غطى بيده عينيه أمام الشمس وتطلع إلى شيء ما أثار فضوله في السماء، ربما سرب من العصافير الجائلة من أوروبا، مهد حضارته.

"حاول أن تتذكرني"، هذا ما خططت لأن أقوله له أثناء مروري به. في هذه المرحلة ضيعت اللحظة. فرصة أخرى يا ابن الشرموطة. في هذه الأثناء سأواصل بلورة وتنميق كل كلمة من كلمات الحوار الذي سيدور بيننا عندما تأتي اللحظة المناسبة للتعارف. مثلما كان الأمر مع يوسف وإخوته قبل تعارفهم. كان لدى يوسف أبينا صبر الجبال كي ينتظر مجيء هذه اللحظة. "حاول أن تتذكرني"، ستكون هي كلماتي الأولى. سوف يقول لي: "من أنت؟" أو ربما: "من أي مكان أعرفك؟" سوف أجعله يتوتر قليلاً. ليس أكثر مما يجب، حتى لا أدمر التوتر. سوف أرمي له علامة أولى. علامة بسيطة. سأقول له: "شفياه"، "شفياه". سأعطيه وقتا للتركيز كي يرى أمام عينيه وادياً مصمتاً، فاغراً، كبيراًً، بين الجبال، وصفوفاَ ومربعات من الأخضر والبني والأصفر. عنباً. كان هناك عنب. ولمحة عن نايلون الصوبات ، التي تبدو من بعيد مثل مخازن مياه مجمدة. في شفياه، في مدرسة البنات التي كتب بياليك عنها قصيدته "إلى بنات شفياه"، عام 1971، شاركنا في مؤتمر لجنة الطلبة من جميع الجامعات في البلد. نعم، كنتُ طالباً، ولو للأدب العام. شفياه. كان الجو حاراً هناك، لأنه في كل العالم فإن الطلبة يثورون، وفقط نحن كنا أطفال القدس الجيدين، الذين يطيعون الأوامر عندما يؤمرون بالتجند في الجيش ولا يفكرون أكثر من اللازم في النتائج.

جولدا مائير زارتنا لتلقي هناك محاضرة، رميتُ عليها بيضة مسلوقة تبقت من الإفطار وحفظتها في جيبي. ربما يتذكر إذا قلت له "بيضة مسلوقة"، لأنه كان عليه أن يقذف البيضة الثانية، ولم يقذفها. برغم أن الخطة كانت خطتنا نحن الاثنين، وأننا عملنا على أدق تفاصيلها ليلا، في الغرفة. قال لي: "في البداية اعتقدت أنها نكتة وكنت واثقا أن كل شيء هو دعابة منك وأنه بديهي أننا لن نكون أغبياء لدرجة قذف بيضة مسلوقة على رأس جولدا." خائن.

سوف أقول له في النهاية "خائن" بوقاحة. وعندئذ سيستوعب. سوف يقوم مخه فجأة برحلة العودة الطويلة تلك بصحراوات الذاكرة إلى الوادي الفاغر بين الجبال وإلى الليلة إياها، والتي ضجت بالبعوض وكل أنواع العثة. ورائحة زبل الطيور، رائحة الطليعيين الذين لا يخونون أهدافهم برغم الحرارة الثقيلة والعثة والبعوض. أعددنا خططاً لتحريض الشباب على الثورة على هذا النهج. تبادلنا الأراء عن داني الأحمر[2]، عن مسرح العبث وبيكيت، عن يونسكو. خائن. خائن. كم كنت مغفلاً. أعجبت به. كل الكتب التي ذكرها لي ذهبت لقراءتها. قرأت سارتر، قرأت ماركيوز، قرأت كارل ماركس.

جولدا حتى لم تتلق البيضة في رأسها. سقطت البيضة بين الجمهور، بين الصفين الثالث والرابع، شيء ما كهذا، وانفجر الجميع في الضحك. واصلت جولدا إلقاء محاضرتها بلا توقف. لم تندلع ثورة طلاب إسرائيل. وأنا أتهمك، أيها المحافظ البائس. على شخص ما أن يكشف عن وجهك الحقيقي المختبئ خلف قناع المحارب الذي ترتديه. وإذا تطلب الأمر أن يمزقه من على وجهك مع جلدك، وأن يشرب الدماء، فلن يهمني. انظروا إليه. سمين كالخنزير، راض عن نفسه، يخطب وده جميع الجميلين المسحورين به وباستفزازيته. كله على الورق، يا ابن الشرموطة.

تسيبار:

(بصوته، كما سجلته مسجلة مراسل "معاريف"، رُويْ وولمان، جزء من الحوار تم نشره في الصحيفة).

آفي ألمكييس، هذا هو الاسم، إذا كنت أتذكره جيداً. وقد يكون إلكابتس. أتعثر بأسماء كثيرة جدا ويمكنني الخطأ. كان أكبر مني سنتين أو ثلاث. كنت في السنة الأولى وهو كان في السنة الثالثة وكنت أنظر إليه كأنه الله. كان وسيما في نظري. عينان بنيتان داكنتان تصوبان إليك نظرات نافذة، وشعر أسود. كنت وحيدا في نهاية الأمر، لم أعرف أحداً في الجامعة، أغلب الوقت كنت أقضيه بالمكتبة. عندما اقترب مني وبدأ في محادثتي شعرت بفخر شديد لأن شخصاً ما قد انتبه لي، وأنني أساوي شيئاً. كان يدخن وأنا لا. أعتقد في نهاية الأمر أن ما جذبني إليه كان رائحة السجائر التي انبعثت منه، وأنه قد يكون مدمنا بدرجة معينة. اقترح أن نذهب للسينما سوياً. عندئذ كانت موضة وودي آلان قد بدأت وهو يموت في وودي آلان. ذهبنا لمشاهدة "كل ما ترغب بمعرفته عن الجنس ولم تجرؤ على السؤال". كان هناك مشهد لشخص ما يمارس الحب مع عنزة، لو كنت أتذكر بشكل سليم. هذا لا يفرق. الرسالة هي أن كل شيء متاح. كل ما يمتعك متاح. عندما خرجنا من الفيلم، سألني: "ماذا تقول؟" قلت: "أنا أيضاً أريد ممارسة الحب مع العنزة." فتح أزرار قميصه وأراني شعر صدره الكثيف. "أنا عنزة"، قال. لم أعرف ماذا أقول. سكت. كنت لا أزال ساذجا بشكل رهيب. لم تكن لدي أية مشكله مع جسده ولا معه. بدا لي رمزا للصحة النفسية. كان يحكي لي عن الفتيات التي كان معهن.

مكان اللقاء الثابت لنا كان في كانتين سائقي التاكسيات في أينشتاين ناصية بارت. بدت لنا رامات أفيف عندئذ كمدينة تنمية في قلب الرمال، وهذا الكانتين كان المحطة الأخيرة قبل السهول اللانهائية التي كانت متجذرة في الشمال، منقطة بعدة جزر مستوطنة. كنت آتي محملا بالكتب من المكتبة المركزية، وكان يأتي هو بالقصص. أحياناً كنت أطلب بيرة. وقتها كان شرب البيرة هو أقصى ما وصلته من جرأة. جاء في أحد الأيام وأعلن أنه سيتزوج. سألته: "بمن؟" أجاب: "لا تعرفها." كان عصبيا وكان يشعل سيجارة من طرف سيجارة. تعصبت للغاية ولكنني قلت له أنني سعيد لسعادته وسوف أسعد بلقاء العروس. فقط عندئذ فهمت أنني لا أعرفه في الحقيقة ولا أعرف خلفيته. حكى لي أن والديه غير راضيين عن قضائه وقته في الدراسة الزائدة بالجامعة. أبوه أراده في العمل العائلي. كانا يونانيين، لم يكونا ناجيين من الهولوكست بالتحديد. فقط يونانيين، رغم أن الأم كانت إشكنازية، إذا لم أخطئ. هذا لا يفرق. عندما رأيت العروس فكرت أنها غير جميلة. ليست قبيحة ولكنها أيضاً ليست جميلة. قلت لآفي أنها "لطيفة جداً". قال لي أنها دافئة، وغمز بعينيه.

بالنسبة لي كان كل هذا ساحراً. كان هذا هو لقائي الأول بالحياة الحقيقية لأناس حقيقيين ليسوا أدباء. دعاني لحفل الخطوبة. بدا لي أبواه عصبيين من فرط الخوف وكان يتصرف بشكل مضطرب تماما عندما يكون برفقتهما ويدخن ويزعق طول الوقت. كان مختلفا تماما عن الوضع الذي رأيته عليه عندي في البيت، والذي كان بيتا إشكنازيا وهادئا ومرتباً. جلس الضيوف هناك حوله في الصالون. خلعت خطيبته خاتم خطبتها الجديد، الذي أعطاه لها آفي، ومررته على الضيوف، ولدى كل منهم كان هناك شيء يقوله عنه، سواء كان تهنئة أو دعابة تافهة. وعندئذ تساءل شخص ما: "ما الذي اشتريتيه للعريس." استل آفي من جيب قميصه قلما ذهبيا مرصعة رأسه بألماسة. وقام القلم بجولته بين الضيوف. في النهاية سألتُه إذا كان سيستمر في الجامعة على الأقل حتى نهاية العام. ربت على كتفي وقال: "أكيد، أكيد"، ولكنني رأيت أن ذهنه كان في مكان آخر.

اللقاءات في أينشتاين ناصية بارت صارت نادرة. أصبح يحدثني عن حمويه، وعن المشاكل التي يتسببان فيها في موضوع المشاركة بتكاليف الزفاف. حاولت إبداء اهتمام بهذا، ولكنني في النهاية شعرت بالملل من هذه القصص. ذات يوم أمسكت يده في وسط كلامه وهتفت بشكل طفولي: "بعد الزواج، هل ستسمح لك بالذهاب معي للسينما." احمر وجهه قليلا. ثم قال: "لا تقل لي أنك تغار. أمي تغار علي وهذا يكفيني." جذبت يدي وأملت رأسي. قلت: "أنت تفهم بالضبط ما أقصده.". قال: "نعم".

آفي إلكايام:

(متأخرا أكثر، بالتليفون)

تريد التبول، أم ماذا يا تسيبار؟

تسيبار:

سيدي، كم مرة سأكرر أنني لا أعرف عم تتحدثون؟ لم أستلم أية قصة من النوع الذي تصفونه. ما أقترحه عليكم هو أن تفحصون إذا كنتم قد كتبتم العنوان السليم لهيئة التحرير. ربما عاد الخطاب وهو ينتظركم الآن في فرع البريد. صبري بدأ ينفد، لدي أشياء أخرى لأفعلها غير الاستماع لاتهامات بلا نتيجة. لا، يا سادتي أنا لا أنشر فقط للشعراء الإشكناز. أنا أنشر ما يعجبني وما يبدو لي مناسباً وجيداً. وإذا كان بالصدفة كاتب القصيدة إشكنازيا، فالله يبارك له. أنا رجل رسمي. نعم. من وجهة نظري، الجميع مقبولون طالما أنهم يكتبون جيداً. ما الذي أعتبره كتابة جيدة؟ هذا سؤال غير سهل. أنا أبحث عن كتابة فيها لمحة من العبقرية. بدلا من هذلا فأنا أستلم مرارا وتكرارا نفس المادة المريعة وأعيدها مرفقة ببطاقة مهذبة، وأنتم لا تفهمون الإشارة الخشنة وتعودون لتجربة حظكم. تخترعون لكم أسماء جديدة وهويات مختلفة كي لا أعرفكم. أنا أشم عدم موهبتكم من على بعد كيلومتر، برغم الشكل الذي تكتبون به العنوان على المظروف، وبرغم خطكم. حسب السطر الأول الذي يخرج من تحت يدكم. الأمر الرهيب أكثر من أي شيء آخر هو تباهيكم بالتفكير في أن شخصا ما عليه أن يقرأ أكثر من سطر واحد منكم للتأكد من طبيعة كتابتكم الغبية.

رغبتكم في أن تكونوا أدباء. من أدخل في عقولكم العصافيرية أنه يكفي الركض وراء أديب وكتابة كتاب كي تكونوا أدباء؟! لكم مرة سأكتب وأكرر الشرح، أن الأديب قبل أي شيء عليه أن يرفض أن يكون أديباً. عليه محاربة هذا الميل بكل قوته كي يكون مناسباً لحمل اللقب. فقط بعد أن يتضح له بدون أدنى شك أنه لا يستطيع مقاومة المرض وأن أي انفطام لن يداوي إدمانه، فقط عندئذ. وحتى هذا ليس مؤكداً.

إلكايام:

نسيتني، نسيت نفسك يا تسيبار. غبت عنك في عالم النظريات وأنا طول هذا الوقت داخل عالم الأعمال الصلب، حافظت في عقلي على صورة لكلينا ونحن نخرج من سينما "مغربي" ونسير باتجاه سوق بتسلئيل لشراء فلافل. حكيت لك أنني كنت في حمام ليلي مع شخص ما. سألتَني بفضول إذا كنا عريانين. حكيتُ كل شيء بأدق التفاصيل. في الواقع فلم أكن في أي حمام ليلي. تخيلت هذا بشكل ناجح تماما لدرجة أنني بدأت في الاقتناع بالكذبة واستمررت فيها واستمررت. ألا يدل هذا على أنني أديب جيد؟

تسيبار:

سينما "مغربي" اختفت، وما الذي تبقى من سوق بتسلئيل؟ وحلوى كبولسكي في شارع اللنبي، حيث في الشتاء تستقبلك رائحة المعاطف المبتلة لدى دخولك وفي الصيف يغطي بخار البرد الفاترينا التي تكشف عن فطائر الكريم. والبحر، هناك بالأسفل، كان لا يزال قريبا جدا من أعمدة التنزه، وفي أيام العاصفة كان يغرق الرصيف ويقطر رذاذا وحشيا على النظارات. كل موجة كانت قارباً محطماً، محملا ب لفات الأقمشة الدقيقة، البيضاء والزرقاء والخضراء والبنية والرمادية، وفي المساء تصبح حمراء وبنفسجية. ولكن قل لي أنت، يا إله الزمن الذي يمر بلا عودة: هل صحيح أنه لكي أظل شخصاً صادقاً ومستقيماً مع نفسي، فعلي تجديد العلاقة مع هذا الأحمق، الذي يتعقبني كظلي وأنا أحاول التظاهر بأنني لا أذكره.

أنا كبير السن الآن، ذاب سحري الذي كان يتدفق مني في تلك الأيام. أنا تغيرت أيضاً، نظرتي للعالم تغيرت. هذا هو الأمر، انتهى. كلنا قام بخطوات معينة، وعلى حدة. لستُ متعالياً أو متكبراً. في لحظات المعاناة، ربما تبدو النفس أمام الخارج وكأنها متسامية جدا، ولكن هذا ليس إلا وهما. بخلاف هذا، انظر كيف تلبس، يا إلكايام. بنطلون تريننج وتي شيرت مبطن، يبرز رقبتك المجعدة فحسب. في سننا لا نسير بتي شيرتات يا حبيبي. وبالتأكيد ليس ببنطلونات تريننج. أنا أراك تتشاجر مع زوجتك. تزعق، وهي صامتة، أو ربما ترد عليك بالزعيق، أو تبكي، وأنت تترك البيت صافقاً الباب وتخرج للتدخين، لأنها لا تسمح لك بالتدخين في البيت. رائحة السجائر لا تكيفها. وحتى مغادرتك المنزل بشكل درامي لا تكيفها. لفترة ما ترتعد رقبتك المجعدة غضباً. لا تتوقع مني التعاطف. في رأيي، لم يكن عليك الزواج شابا لهذه الدرجة، لم يكن عليك الاستسلام لوالديك وللمال ولبريق الكريستال. لو كنتَ قد سرتَ في الطريق الذي تراه مناسباً، لكنت قد أصبحت اليوم شخصا ما من المفيد إجراء حديث معه. بدلا من هذا أصبحتَ عبئاً محبَطاً يظن نفسه مثقفا ومتحضراً.

زوجة إلكايام:

آفي، ماذا أعد اليوم للغداء؟ هناك شنيتسال أو لحم مطحون مع باستا. ولكن البيوريه انتهى. أحضر اثنين لبن وأنت راجع.

إلكايام:

قل لي يا تسيبار، صحيح ما يقولونه عنك من أنك مثلي؟ بالأمس تناقشت حول هذا مع شخص قال لي أنه قرأ في مكان ما أنك مش مظبوط[3]. قلت أن هذا غير ممكن وأنني أعرفك أفضل مما تعرف أنت نفسك وأنك قلت هذا لأجل الاستفزاز. أصر وقال أن هذا مكتوب، قلت له أن يغلق فمه. ولم يغلق فمه فبهدلته. إذن كرر، يا تسيبار، أنا أطلب منك، لأنه إذا كان هناك من لا أحتملهم أبداً فهم هؤلاء المثليين الذين يتحدثون مثل المثليين ويتحركون مثل المثليين ويريدون طول الوقت أن يلفتوا النظر إليهم. يا تسيبار، أنت تجلب على نفسك الأزمات. أنا لا أفهم أبدا ما هي القصة الكبرى في أن تكون مثلياً. إذا كنت فعلا تنوي أن تكون مثليا، فكن على علم أن حياتك في خطر. لأنه شخصياً، يؤذيني أنك خدعتني وأكاد أجن فقط من فكرة أنه كان لي ذات يوم صديق مثلي وأننا أكلنا من نفس الطبق وشربنا في نفس القهوة وعرّفته بزوجتي وحكيت له أشياء عني وطول هذا الوقت كان مثلياً. أنا أرتجف من فكرة أنك فتحت مؤخرتك لرجل. أشعر أن فمي يتوسخ فقط من هذه الكلمة. الآن، اسمعني يا تسيبار. كن عملياًَ ببساطة، إذا أردت ألا يحدث لك أي شيء سيء، ففكر في الفرصة، لا تنقصك فرص الكتابة، واعلن بشكل علني أنك لا، لأجل إزالة الشكوك. وحتى لا أسمع مرة ثانية عبارة "مش مظبوط"، تخرج بسخرية من فم شخص ما.

يشكو نسيبار للشرطة من إلكايام بسبب خطاب التهديد. الخطاب لم يثر انطباعات قوية لدى الشرطة، ولكنها تدعو إلكايام للقِسم، وهناك يأخذه أحد الضباط لحوار بين الرجال، ويخبره بأنه إذا هدأ، في رأيه، فسوف يرى الموضوع منتهياً. يتعهد إلكايام بالابتعاد عن تسيبار. ويدعو الرب في قلبه بأن يحرق تسيبار. يسمع الرب كلام إلكايام، ويقرر فرض السلام بين الاثنين.

كلمة الرب:

درست واكتشفت أن تسيبار وإلكايام يوشكان على شراء خبز من نفس المخبز الحديث في شارع إيفين جفيرول، غير بعيد عن المدينة، والتي على خلفيتها يتردد صدى كونشرتي لبيانو رحمانينوف وموتسارت. استاء إلكايام جداً في ذلك اليوم. وجهه كان شاحبا للغاية. لم يكن وراء هذا سبب معين، بخلاف رغبتي في أن يبدو هكذا. تسيبار، الواقف إلى جانبه، طلب من البائعة، التي ترتدي طاقية الشيفات البيضاء المصنوعة من ورق وقفازات نايلون شفافة، الخبز سبعين في المائة شيفون الذي طلبه إلكايام. قالت البائعة: "آسفة، لقد طلب السيد الرغيف الأخير قبلك." اضطر تسيبار عندئذ أن ينظر إلى السيد الذي تتحدث عنه وذهل لشحوبه. وقال إلكايام لتسيبار: "من فضلك، لا يهمني التنازل عن الخبز من أجلك." وقال تسيبار لإلكايام أنه غير رأيه وأنه في الحقيقة يفضل الخبز القروي الفرنسي المصنوع كله من القمح. لدى البشر مواضيع يردون عليها منذ أن لعنتُهم وفرضت عليهم الأكل من عرق جبينهم.

"أهذا أنت؟"، تساءل إلكايام بنبرة مترددة في الظاهر، لأنه واقعيا كان يعرف بوضوح أنه هو. وهتف تسيبار: "آفي!" وقال في قلبه: "إنه يبدو كمصيبة. أتمنى ألا يموت هنا من فرط التأثر". وبصوت عال: "ماذا حدث معك؟ كل هذه السنوات. لم تتغير أبداً." عندما صافحا بعضهما البعض، لاحظ تسيبار أن يدي إلكايام دافئتان ولاحظ إلكايام أن يدي تسيبار باردتان مثل يدي الميت. "أنت بارد كالثلج"، قال إلكايام. وقال تسيبار: "أنت تبدو مثل شخص ما مصاب بالأنفلونزا." غرز إلكايام عينيه الواسعتين في تسيبار وانتظر أن يقول شيئا ذكياً وحكيماً يُنقش في ذاكرته. لم يفعل تسيبار غير أن يتساءل مرارا وتكرارا: "كل شيء على ما يرام؟" وفي النهاية انهار إلكايام وقال: "راحيل، زوجتي، ماتت من السرطان قبل أقل من شهر. ألم تر؟ نشرت إعلانا في هاآرتس." هز تسيبار رأسه بالسلب. وقال في قلبه شيئا ما ساخراً، لا يمكن قوله بصوت عال، إذن فأخيرا نُشر لإلكايام نصٌ بقلمه في هاآرتس.

"سمنتَ قليلا"، قال إلكايام. تسيبار يكره من يلاحظون سمنته لأنها نقطة حساسة لديه، ويدعي أن ملاحظات كتلك تكشف قلة ذوق من يلاحظ. ولكنه سامح هذه المرة وقال: "من يأكلون خبزا كل يوم هم أصحاء." وتساءل برقة، وذوق شديد، إذا لن يزعج حداده أن يجلسا لشرب شيء ما في القسم المخصص لهذا من المخبز. لم يستطع الامتناع عن الملاحظة: "لأنني أعرف أنه لديكم تحرصون كثيرا على طقوس الحداد." بهذه الملاحظة، اعتقد تسيبار أنه ينتقم من آفي لزواجه من امرأة لم يحبها ولاستسلامه لأوامر عائلته اليونانية. أدرك آفي بالضبط الضربة من تحت الحزام ورد عليها: "قل لي، أتمنى أن تكون مستريحاً مع حياتك المضطربة." تساءل تسيبار عن قصده. شرح إلكايام: "المثليون وكل هذا. طول الوقت اسمك في عناوين الأخبار. أفهم أنه ليس لديكم سن معين لهذه الأشياء." أراد تسيبار أن يقول شيئا ما ولكنه كبح نفسه. بدلا مما أراد قوله، قال: "كنت أريد تحقيق الثورة التي حلمنا بها عندما كنا طلبة ولكن هذا ما حدث. أنت أمسكت نفسك في اللحظة المناسبة وقفزت من القطار وتزوجت وأصبحت برجوازياً." "أنا أصبحت برجوازيا؟" ثار إلكايام، "أنا لم أحقق الثورة؟ بحياتك، من قذف البيضة المسلوقة على جولدا، أنت أم أنا؟ لا تأت الآن وتشوه الحقيقة." أمال تسيبار رأسه. في النهاية خرجت منه كلمات: "تعرف بالضبط ما أقصده." قال إلكايام: "لا، لا أعرف." وتسيبار، بعينين مليئتين بالدموع: "كنت أحبك. كنت أرغبك. وأنت هربت من كل هذا إلى الزواج."

الألم كان مازال حياً وقاطعاً داخل تسيبار. هو نفسه لم يستطع تخمين مداه. سكت إلكايام. فجأة انتظم كل شيء في رأسه. لهذا تجاهله تسيبار طول هذه السنوات. كان يمكن لكل شيء أن ينصلح قبل خمس وثلاثين عاماً. بدون قصد، خرجت نهاية فكرته بصوت عال: "بسبب مصة لم تحدث، أليس كذلك يا تسيبار." ابتسم تسيبار ابتسامة خجول وأومأ برأسه. إلكايام، من جانبه، عاد ليصبح الصديق المحبوب في السنة الثالثة، الذي يعرف كيف يصيغ الكلمات بحدة وشجاعة. واصل إلكايام. قال: "نحن نعيش في خيالات، طول الوقت، كل الحياة." ارتشف تسيبار رشفة قهوة وقال: "لم تشرب القهوة حتى الآن. برِدَتْ." وبدون انتظار انتقل للموضوع الآخر، لأنه رأى إلكايام يشعل سيجارة: "لا تزال تدخن كما كنت سابقا؟ هذا ليس جيدا لصحتك."

إلكايام: ولكن اعترف أنه يثيرك. قلت لي مرة هذا.

تسيبار: أنا قلت لك شيئا كهذا؟

إلكايام: نعم. في شفياه. هل تذكر تلك الليلة؟ الحجرة التي تكاد تنفجر من فرط التوتر. تعتقد أنني لم أستوعب؟ لففت ودرت مع كل الرموز. أشرت إلى كاتب ما مثلي.

تسيبار: أندريه جيد.

إلكايام: وإذن، كل شيء يبدأ وينتهي بالقضيب.

تسيبار: هل يمكنني لقاءك مرة أخرى يا آفي.

إلكايام: قم، تعالي نذهب من هنا.

تسيبار: إلى أين؟

إلكايام: لا أعرف، هل تذكر الكانتين في رامات أفيف؟ كان مكانا لطيفا. رأيت أنه تم تحويله أيضاً إلى شيء مبهرج.

وجد كل منهما طريقه لقلب الآخر. وهكذا أيضا انتهى تدخلي في هذا الأمر، كلمة الرب.

سقط تسيبار في الفخ الذهبي الذي أعده له إلكايام ووافق على الصعود معه إلى البيت. قبل أن تمرض زوجته، انتقل إلكايام معها لشقة أبويها في طريق عمانوئيل الرومي. فكر تسيبار في أن هذه الشقة مشبعة بمذاق صادم ولكنه لم يقل شيئاً. بحماقته كان لا يزال يأمل أن يحدث شيء ما، عندما قال له إلكايام أن ينتظره قليلا في الصالون. عاد إلكايام ومعه ملف ثقيل يحوي إبداعات من أنواع مختلفة، قصائد، قصصاً، مقالات، تقارير، خواطر. أخذ تسيبار الموضوع بجدية وبدأ في التصفح والدراسة والتقسيم لمجموعات "جيد جدا"، "متوسط" و"سيء". بعد الفهرسة الأولية، أخذ مجموعة الـ"جيد جداً" وبدأ في غربلتها هي أيضا. في النهاية تبقى نص واحد قرأه باهتمام. "إنه شيء جيد جداً." قال في النهاية لإلكايام، الذي جلس منغمساً في الكرسي ينتظر الحكم. "ما هذا؟" تساءل إلكايام ومد يده إلى مجموعة الأوراق. وعندما رأى ما هذا، هتف: "لن أوافق أبدا على نشره."

"هذا هو الشيء الأفضل بين كل ما رأيته حتى الآن"، قال تسيبار.

"أنا أفهم بالضبط لماذا أحببته، ولكنني لا أستطيع، بحياتك، لدي ثلاثة أولاد وحفيدان."

"توقف"، قال تسيبار.

"لا يمكنني أن أفعل هذا لذكرى راحيل"، قال إلكايام.

"جيد"، قال تسيبار، "أنا بالتأكيد لست ذلك الرجل الذي يجعلك تدنس ذكرى زوجتك."

قام قائلاً أن عليه العودة للعمل. اتفقا على اللقاء من الآن وعلى احيان أكثر تقاربا. وكلاهما كانا يعرفان أن هذا كذب.

________________________________________________

صور بني تسيبار هي لدان كينان وهي منشورة في الأصل بصحيفة يديعوت أحرونوت


[1] التعبير الذي استمعله الكاتب هو "التعبير بالحاء والعين"، في إشارة إلى الحروف التي لا يستطيع إلا اليهود الشرقيين في إسرائيل نطقها ، وهو ما يشير إلى تدني اللكنة.

[2] الاسم المعروف به دانيال كوهين بنديت، واحد من قادة اضطرابات الطلبة عام 1968 في فرنسا. الآن هو رئيس المجموعة الخضراء ببرلمان الاتحاد الأوروبي.

[3] التعبير الأصلي يعني "خرجت من الصندوق"، ولكنه في العامية العبرية يشير إلى أي ميل جنسي غير ما تم التعارف عليه بوصفه الميل "الطبيعي"، وبالتالي تدخل في ذلك المثلية الجنسية.