Friday, 17 April 2009

I like burekas in the morning

نفتالي شيمتوف

ترجمة: نائل الطوخي

ولدت بعد ثورة وادي الصليب (1) بكثير. التقى والداي بينما كان الفهود السو (2)ديزلزلون البلاد. كبرت في أزمة حرب يوم الكيبور، وصادقت بخوف جيراناً خرجوا للحرب في لبنان. في الحي الذي كنت أسكن فيه بكفر شاليم كانوا يقومون بالترميمات، كانوا يقومون بتوسعة مساكن حجر الصوان ويقيمون مركز شباب. أُطلق على هذا اسم مشروع ترميم الأحياء. الشباب في الشوارع كانوا يهتفون "بيجن للسلطة، وبيريز يعمل سَلَطة". ظن الجميع أن الليكود في طريقه السليم. التضخم المالي كانت يركض، وتخفيضات الميزانية كانت مرعبة. انتحرت الكيبوتسات سوياً مع البورصة، ضرب المسيح تليفوناً وجاء لزيارة المستوطنات في الأرض المحتلة، وكنت أنا أقفز فقط إلى الصف الدراسي الأول، من حضانة ملكا إلى مدرسة جولومب، 186 طريق اللد.

حدود عالمي تعينت من الحديقة الوطنية في رامات جن وحتى كافيه نوح بجانب حي هاتكفاه. النافذة الوحيدة التي كان يمكن من خلالها النظر إلى الأفق السكني كان التليفزيون الأبيض وأسود. بدا الأطفال في فيلم "لحظة مع دودالي" وفي "كشكشتا" بشكل مختلف، وكانوا يتحدثون بعبرية تشبه عبرية المعلمة براخا في المدرسة. الحي في فيلم "دوبي دوبرمان كلب مخلص" كان معتنى به ومليئا بمساكن النخبة الراقية. فقط في حي حاييم، وهو ليس حياً راقياً ولا فقيراً، لم يكن الأطفال يأكلون الحصى ولا يشربون البنزين، وإنما يلتهمون الكبة العراقية والتي كانت أم يوني تعدها له، بالضبط كما كانت أمي تعدها لي كل ثلاثاء.

في يوم الجمعة كان الجميع يشاهدون الفيلم العربي. قناة واحدة تحكمت في صور حياتنا. أرى الصور ولا أفهم الكلام. باقي عائلتي يقرأون الترجمة العبرية، وأبي هو الوحيد الذي لا يحتاجها. هو يفهم اللغة العربية – المصرية. يدندن الأغاني مع المغني، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، والأعظم، أم كلثوم. "هل تعرف أنها تبرعت بالملايين لناصر بعد حرب الأيام الستة." يقول لي وهو لا يزال يغني معها "غني لي شوية شوية"، وأم كلثوم الشابة تقفز وتغني بين الصخور في خلفية قروية مع صبايا وراعيات غنم. يحكي أبي أنه شاهد هذا الفيلم منذ كان في بغداد. "وجدت ورقة بدينار. ثمن إيجار شهر. اشتريت بلحا، زنقلة، ملبس أبو لوز وبيبسي كولا، ثم دخلت السينما لأشاهد أم كلثوم. آخ يا رب. أي صوت لها. لقد سحرت كل القاعة، حتى بدأوا جميعا في الغناء معها." منذ عشرين عاما لم يزر أبي السينما: "ماذا نفعل، نحن لم نعد شبابا، من العمل للبيت ومن البيت للعمل. الموضوع لم يعد كما كان." ويحكي لي عن فترة عزوبيته: "كانوا يدعونني للغناء في الحفلات في حي هاتكفاه. لم يكن هناك زفاف أو فرح لم أظهر به." أمي تهتم بأن تؤكد: "وكانوا يدفعون له أيضاً". لأبي صوت عذب ونقي وهو يحفظ شفويا جميع الأغاني العربية تقريباً. ذات مرة أجرينا، أنا وأهارون، اختباراً. غيرنا محطات الراديو و مع كل أغنية عربية كان ينضم للمغني أو المغنية ويغني مثلهم بالضبط. أسأله: "لماذا إذن لم تصبح مغنيا؟" ويرد مرتبكا: "أبواي، الله يرحمهما، كانوا يعتقدون أن عملي مغنيا هو عار، وأن أكون في عالم المغنين والفنانين فهذا ليس أكل عيش، هكذا كان كبار السن يفكرون ساعتها.. وهل هذا أكل عيش؟ ينكسر ظهري وأعمل مثل الحمار. كل جسمي مكسر." ينتهى الفيلم وبعد دعاء ليلة السبت فوريا ينزل كل البلوك إلى أسفل لكي يصف ويحلل ويفسر ويشرح ويستمتع باستحضار حبكة الفيلم، فقط ريمونا من الطابق الثاني تصرخ بحماس: "أموت أنا. أي مز هو فؤاد المهندس. أي مز."

هذا ما كان يحدث، حتى يوم تغير فيه كل شيء. زرت أورن جولان، صديق من حضانة ملكا، كان يدرس الآن في فصل ألف ثاني، وفي صالون بيته رأيت تليفزيوناً يعرض الصور بالألوان، مثل أفلام السينما، ليس هذا فقط، وإنما كان له صندوق صغير يحوي أزراراً، بدون أي سلك، يمكنه من إطفاء وتشغيل ورفع الصوت وتغيير اللون والتحويل لقناة أخرى (بالكثير القناة الأردنية). خيال علمي فعلا. جهاز تحكم لاسلكي. اختراع جديد. تليفزيون ملون. كنت مذهولاً من التطور.

قرر أبي شراء تليفزيون كهذا. بالتأكيد هو غال جدا، ولكن ماما تقول: "أن يشتري تليفزيوناً ملوناً أفضل من أن يدور الأولاد في الشوارع." كسر أبي الوديعة التي تم جمعها مليماً بعد مليم لكي يشتري تليفزيوناً ملوناً، وليس أي واحد، ماركة "جرونديج": "الألمان الملعونون لديهم بضاعة جيدة، مية مية، ليس مثل زبالة البلد هنا." ويصر على النوستالجيا: "الخضر والفاكهة هنا في البلد ليست مثل تلك التي كانت في العراق، كان هناك طعم ورائحة عطرية لكل برتقالة أو تفاحة. هنا، كل شيء هو صلصال، صدقني، أنا عملت في الزراعة، في بساتين بجانب معبرة عاكير، في مفترق طرق بيلو"، ولكن التفاح والبرتقال وعناقيد تكون أو لا تكون لخضروات ألبرت (3)كانت ملونة جدا في التليفزيون الجديد.

على مدار أسبوعين كنا نشاهد برامج مختلفة ومتنوعة بالألوان. الجيران والأعمام كانوا يزوروننا بانتظام لمشاهدة الصور المعروفة بألوان جديدة. وأبي، بعد يوم عمل منهك في المصنع، كان يجلس ويشاهد القناة الأردنية، برنامج "أغاني على كيفك" للمشاهدين من جميع أنحاء الشرق الأوسط. كان يفرح عندما يطلب مشاهدون عراقيون أغاني ناظم الغزالي، المغني العراقي الكبير. ولكن ذات صباح، بعد ليلة ملونة من الأغاني والبرامج، سمعنا صفقة كبيرة ومدوية من أبي. انتبه الجميع بفزع. أبي كان يقف في وسط الصالون مذهولا ومنزعجا ويقول: "ر- ا- ح". الأقفال والباب كانت مفتوحة، وعلى البوفيه الصغير ظلت أثار التراب في خطوط مستقيمة. في اليوم التالي أعيد للصالون التليفزيون القديم الذي تم رميه سابقاً في الخزانة، معززاً مكرماً، وعدنا لكي نرى صور حياتنا باللون الأسود، وأحيانا بالأبيض كذلك.

لم أكد أفق من اختراع التليفزيون الملون مع جهاز التحكم البعيد (ومن سرقته من بيتنا)، حتى اشتروا أتاري ليوسي مكابي، صديق أخي أهارون في المدرسة. ما هي الأتاري؟ يشرح أهارون أنهم يلعبون كأنهم في ساحة ألعاب "مايرلند" في بناية كولبو شالوم. يلعبون داخل البيت؟ كيف؟ كيف يمكنني إدخال أجهزة كبيرة لهذه الدرجة مع دركسيون ودواسات سباق السيارات إلى البيت؟ على الترابيزة في الصالون كان هناك جهاز بني صغير، يوضع في داخله شريط. يخرج منه سلكان وفي نهاية كل سلك مسطح بلاستيكي مع يد. "اسمها جويستيك"، هكذا كان يوسي يشرح لي كيفية عمله. على شاشة التليفزيون الملون أرى رأساً صغيراً في متاهة، تأكل وتأكل وتأكل، وتهرب من كل أنواع العفاريت التي يمكنها ابتلاعها، وتسرع إلى مركز المتاهة حيث توجد الجبنة. "باك مان، هذا باك مان!" كان أهارون يشير ويتحمس ويجمع النقاط. بعد هذا كنا نبدل الشريط إلى سباق الدراجات وإلى سفينة الفضاء التي تقصف أي كائن فضائي، حتى تقول أم يوسي له: "كفى اليوم، لقد شبع الباك مان خلاص، وهناك ما يكفي من الكائنات الفضائية للغد..." وأعود أنا مع أهارون إلى البيت.

- "يارب يكون عندنا أتاري أيضا." عبرت عن أمنيتي.

- "لن تشتري لنا ماما أبدا أتاري. إنه غال جدا."

- ولكنني مع كل هذا أريد.

- "ماذا؟ من أين لي المال لشيء كهذا؟ هل تعلمون ثمنه؟ هل قطفت المال من على الشجر؟"

- "بس يا ماما."

- "من غير بسبسة. لو كنتم تعملون كنتم ستقدرون المال.هل تعلمون كم ساعة أعمل في النظافة عند رايخمان المقاول، يلعن أبوه، حتى أستطيع شراء جاكتات الشتاء لكم، ودفع مصاريف المدرسة."

سكتنا.

- "وغير هذا"، تضيف أمي جملتها المعروفة عن اللعب: "أنا لا أشتري غير المشاكل. لا أتاري ولا بطيخ". وكانت تشير إلى السجالات بيني وبين أهارون بخصوص كل لعبة تشتريها.


الثورة الحقيقية حدثت بعد هذا: الفيديو. حتى ذلك الوقت كان التليفزيون الرسمي يسيطر بيد قوية من القدس على كل صورنا وأصواتنا الجمعية. الفيديو، جهاز يشبه الكاست، ولكنه أكبر وله شرائط أكبر. هذا التطور مكننا من مشاهدة الأفلام وتسجيل البرامج من التليفزيون، وليس فقط الاستماع إليها. لم نصبح ملزمين بانتظار إعادة البث. ولكن عندئذ بدأت تلك الكلمة الساحرة تتردد: تسجيل [كاليتيت]، كأن كلمة كاست (4) لم تعد خلاص على الموضة. الكاست يوجد فقط في المحطة المركزية، هناك يتم غناء موسيقى الكاستات، ولكن منذ اختراع الفيديو أصبح عندنا تسجيل، تسجيل يسجل تسجيلاً واضحاً وخاصاً. وباختصار، هناك من تظل حياته مرتبطة بشريط كاسيت يزن، وهناك من تمتد حياته بالألوان على الشريط المغناطيسي لشريط الفيديو.

في زفاف العمة ليئا بكافيه نوح بجانب حي هاتكفاه، تعثرت بالفيديو للمرة الأولى. أقيم هذا الحفل في حديقة مناسبات، حتى من قبل أن يفكر الناس في إمكانية إقامة الزفاف في الحديقة وليس فقط في القاعات المبهرجة لشارع هامسجير ("قاعات شقائق النعمان"، "قاعات السوسن"، و"قاعات الرؤساء"). في الزفاف، بالإضافة لمصور الصور المعروف بفلاشه المؤلم للعيون، كان هناك مصور آخر معه كاميرا فيديو وشاشة صغيرة. في كل مرة نعبر فيها بجانب الكاميرا كان يمكننا رؤية أنفسنا أيضاً في التليفزيون الصغير. أنا وأهارون وأبناء أعمامنا بدأنا "في الظهور": نعمل باي باي، نغير من ملامحنا، وبشكل خاص ننمي لدينا قدرات ومواهب "اللعب أمام الكاميرا". بعد حفل الزفاف بعدة أيام، عندما شاهدت عمتي ليئا، العروس الجديدة، فيلم الفيديو لم تحب بالتحديد المحاولات الفنية لأبناء أخيها. ولكن بلا شك، فقد كانت هذه خبرة مؤسسة لنا، وبشكل خاص لأخي هارون الذي أصبح فيما بعد مخرجاً سينمائياً.

زهافاه بوكعي، جارتنا التي تسكن أمامنا، اشترت جهاز فيديو ودعتنا جميعاً لمشاهدة فيلم. أطفأنا النور في الصالون كي نتمكن من المشاهدة جيداً. "تشارلي ونصف" يندفع من الشاشة في لباس غريب. في الفيلم هناك رجال يلبسون بنطلونات واسعة من أسفل، وثياباً ملونة، ولكنهم مضحكون جداً.

- ساسون، مع من أنت مشغول على الصبح.

- من مشغول؟ هذا ميكو

- ما الذي تريده هذه الدودة؟

- تبحث عن صنارة

- لا تعطي لها شيئا.. ألف مرة أخذوا حاجات ولم يعيدوها

- من الذي يعطيهم، هل أنا خزينة دان الاقتصادي


ميكو، هذا الولد الصغير اللعين، نصف شارلي، يتحدث بلكنة مغربية ثقيلة. كان هذا غريباً جداً بالنسبة لي، لأن الرجال الكبار فقط مثل تسيون هاروش في الطابق الثالث هم من يتحدثون هكذا. على أي حال، نهاية الفيلم كانت مثيرة جداً. انقلب تشارلي مع سيارة ساسون. وجيلا، حبيبته، وصلت بسرعة لمستشفى هاشارون. دخلت القسم في نفس اللحظة التي يخرجون فيها الجثة المغطاة بملائة من الغرفة. يتوجه الطبيب إلى جيلا قائلا: "جئت له؟ الوقت متأخر." وتنفجر جيلا في البكاء. ننظر إلى الشاشة مصدومين من هذه النهاية التي تمزق القلب. ولكن زهافاه تبتسم وتقول لماما: "لا أريد أن أخبركم بالنهاية". تنزل جيلا على السلالم وهي تبكي بهيستريا، وفجأة تسمع أصوات ضحك. تقترب من إحدى الغرف وترى تشارلي (وقام بدوره يهودا بركان) يلعب الكوتشينة مع جرحى آخرين. في النهاية يصبح كل شيء جيداً. الإشكنازية الغنية، الطفلة الجيدة، القيصرية، تتوحد مع الشرقي الفقير الوصولي الهيجان ابن الشرموطة.

ليس هذا هو الفيلم الإسرائيلي الوحيد الذي ينتهى بالزفاف بين شرقيين وإشكنازيم. كانت هناك سلسلة الأفلام تلك التي رأيناها عند الجيران. في فيلم "كازابلان" يعطي هورام جاؤون بوكسا لجولاش المجري ويتزوج براحيل الإشكنازية: "لأن كلنا يهود، من نفس الجدة، من الجزائر وكفر سابا وحتى من بولندا"، لسنا مجرد يهود وإنما "مئة في المئة كذلك أطفال الشوارع وأعداء العرب". في فيلم "كاتس وكارسو" والذي قام ببطولته رودنسكي ويوسف شيلوح، يبدو الكثيرون كالمجانين إزاء بوليصات التأمين، وأبناء كارسو اليونانيون يستمتعون بالحياة مع البنات البولنديات لكاتس. جابي عمراني يجعل الجميع يرقدون من الضحك في عائلة تسنعاني ويبحث عن خاتم زواج امرأته في كاكّا شمشون الرضيع. وبرغم أنه في نهاية الفيلم تظهر جملة "يُتبع"، فللأسف الشديد لم يتم أبدا عرض تسنعاني 2. لم أعرف في الحي تقريبا أطفالاً لأباء إشكنازيين، وبالتأكيد فلم ألتق بخلطة بين الشرقيين والإشكناز مثل التي قابلتها في الأفلام. وإذا كان لشخص ما في الفصل الذي أدرس به اسم إشكنازي فهذا لأنه يسكن في "بناية الروسيين"، المقامة من أجل المهاجرين الذين جاؤوا الحي في السبعينيات.

ساسون هو شخصية محبوبة بشكل خاص. زئيف ريفاح كان يظهر معه تقريبا في كل فيلم يقوم ببطولته. بدأ بفيلم "تشارلي ونصف" ثم ظهر في "اليوم فقط". ساسون هناك كان هو الخضري في السوق والذي يحب الطالبة "الإشكنازية" (إفرات لافي والتي قامت بدور راحيل في فيلم كازابلان)، ولكن هذه المرة يتحدى ريفاح الحبكة ويفاجئنا. يتضح أن الطالبة ليست إشكنازية وإنما شرقية مثلنا بالضبط– هي ابنة جاك كوهين، التاجر، وهو جاره في سوق محانيه يهودا. الطالبة المتعالية، المتجاهلة، التي لا تزور السوق تقريباً، تحب ساسون، وهو يحبها بالطبع. غريب، هذه المرة يتحد شرقي مع شرقية. قمة تألق ساسون كانت في فيلم "يسرق من لص مرفود" (اللص ذو الخمسة ملامح)، هناك هو لاعب نذل ولص بجانب جاك كوهين. هذا هو الفيلم الأكثر إضحاكاً في كل صناعة السينما الإسرائيلية، وبالتحديد في نوعية أفلام البوركاس (5). مفتش الشرطة اسمه بوعاز دافيدزون (مخرج فيلمي "احتفال سنوكر" و"شارلي ونصف" وكذلك "حظيرة عصابة زاهار وأينشتاين")، وساسون كما هو معروف يتم يدفعه لمنصة الفيلم البطولي "عملية يوناتان" لكي يقوم بدور عيدي أمين (ساسون القادم من أصول شمالية أفريقية يجسد دور شخص أفريقي أصلي)، ويبدأ بالجملة الخالدة: I like burekas in the morning.

بالنسبة لنا كانت تلك أفلاماً إسرائيلية مضحكة وليس أكثر. ليس من ضرورة للقول أنه قبل عصر الفيديو والكابلات، كانت الأفلام الإسرائيلية تبث في التليفزيون الإسرائيلية مرة في السنة – في يوم الاستقلال. لم أسمع هذه الكلمة – بوركاس– وهي اسم هذه النوعية من الأفلام – في الحي أبداً. كذلك ولا عبارة "موسيقى شرائط الكاست" أو موسيقي "المحطة المركزية". بالنسبة لي كان الفيلم الإسرائيلي أو زوهار أرجوف (6) محيطا طبيعيا للغاية. فقط عندما ذهبت للثانوية المتكاملة وتعرفت على تل أبيبيين آخرين قيل لي أن الأفلام الإسرائيلية سيئة، وبشكل خاص أفلام البوركاس، ناهيك عن موسيقى الكاست، والتي تبدو في آذانهم المصقولة كـ"موسيقى أحادية النغمة مع نصوص ضحلة". كانت الذروة عندما عرض علي شخص ما أن نذهب للأكل في مطعم شرقي. لم يخطر أبداً على بالي أن المطاعم في شارع إيتسل بحي هاتكفاه، وبعضها في الجانب الشرقي والآخر في الجانب الغربي من الشارع، يسميها التل أبيبيون "مطاعم شرقية".

في الحقيقة لم أفكر في أن هذه الأفلام الإسرائيلية هي شيء آخر بخلاف كونها كوميديا مضحكة جداً. في سن 17، بالصف الحادي عشر، التقيت في المكتبة البلدية بمركز الشباب بكتاب له غلاف أسود وبسيط عن السينما الإسرائيلية. الكتاب كان يحوي فصلاً كاملا، يتضمن صوراً، عن أفلام البوركاس. إيلا شوحاط، المؤلفة، كانت تكتب بجدية كاملة عن هذه الأفلام المضحكة، كانت تصف مشاهد وتحللها كأنها قصيدة لبياليك أو رواية لعاموس عوز. علمتني شوحاط أن هذه الأفلام موجهة ضدي بالتحديد، وأنها مليئة بالقوالب الجاهزة عن الشرقيين، وتعرض جماعتي بأشكال مثيرة للسخرية. ولكن مع هذا، فالإشكنازيم كذلك يتم عرضهم بوصفهم مقرفين ومتعالين، وفي النهاية يخسرون. الشرقي يتسلل داخلاً، يتزوج بهم، يحتلهم، وتبرز إنسانيته. فهمت بعدها أن هذه الأفلام هي جزء من الحمولة التي بقيت معي. تستفزني، تؤثر في، تغضبني، تجعلني أنفعل. هي جزء من ثقافتي.

ولكن عصر الثورة لم ينته. الآن، بعد التليفزيون الملون، الفيديو والأتاري الذين جعلوننا نتجاهل التليفزيون الرسمي ونقرر لأنفسنا ما نشاهده، جاء دور الكابلات. هذا حدث حتى قبل yes أو hot. الكابلات "غير القانونية" كانت هي الثورة. أطلقوا عليها "كابلات القراصنة"، برغم أنه لم تكن لديهم سفينة، ولا يخت ولا حتى مركب صيد، وإنما جهاز إرسال وكابلات تمتد من مبنى لآخر، من بلوك لآخر، وصولاً إلى مساكن "حديثي الزواج" في نهاية الحي.

دقت إستر جارتنا على الباب: "هل يوجد هنا من يريد وصل كابل بدلا من وضع طبق والتقاط لبنان." لم تفهم أمي عما تتحدث. دخل فجأة شاب الصالون وقال: "مدام، لا تهتمي، كلها ثلاثون شيكل في الشهر وأضبط لكم الأفلام الإسرائيلية، التركية، الهندية، الأمريكية، الأكشن، كل ما ترغبون فيه." والداي لم يدفعا أبداً الأجرة. عندما كانت الكوبونات مستحقة السداد تأتي في البريد كان أبي يمزقها ويقول: "كس أمكم، يخرب بيتكو، تعرضون زبالة وتريدون نقودا على هذا." أما الآن فقد دفعت أمي.

كابلات القراصنة لم تكن فقط تعرض الأفلام الإسرائيلية المعروفة، وإنما أيضاً ميلودرامات تركية وأفلاما هندية مصحوبة بالأغاني والرقصات والمشاهد التي تمزق القلب. ابتسمت أمي بتأثر: "شاهدت كل هذه الأفلام مع أبيكم حتى قبل أن نفكر فيكم.. رأيناها في السينما في يافا، في شارع النبي وفي المحطة المركزية. بكيت أنا وكل صديقاتي وتأثرنا بكل الأفلام التركية، وكنا ندندن جميع الألحان الهندية". أمي كانت تحن معنا إلى صباها. المغنيات الهنديات ورقصهن بين الأشجار والحدائق المخضرة على إيقاع الـ"إيتشي كادانا – إيتشي كادانا". المشاهد الطبيعية الكردية الجبلية في الأفلام التركية كانت تقربني إلى العالم الآخر لأمي، العالم كما ينبغي أن يكون، وليس كما آل بها في شقة بالمساكن، مع أربعة أطفال وزوج عامل أيامه صعبة.

بعد سنتين قبضت الشرطة على سفينة كابلات القراصنة التي كانت راسية طوال هذا الوقت في شقة مساكن مزدحمة. انتهى الاحتفال بالسنوكر. عدنا إلى التليفزيون الرسمي، ولكن لم يمض وقت طويل حتى ظهرت قناة اثنين التجريبية في الهواء، وبعدها ظهرت الكابلات القانونية، الإذاعة المحلية، والإنترنت وغيره. أصبحت الخلفية متعددة القنوات. يمكننا الآن أن نلتقط ليس الأردن فقط، وإنما مصر أيضاً، المغرب والإمارات بوضوح تام (بدون ثلج)، وأدرك أنا أن التليفزيون الملون، ومشاهدة الفيديو واستخدام كابلات القراصنة كانوا حركة احتجاجية ضد سياسة الإشراف الثابت على صور حياتنا. بإصبع مثلث كنا نضغط على أزرار الريموت كنترول ونشكل أنفسنا وثقافتنا.

الآن خلا البيت. كبرت أنا وإخوتي وتركنا الحي، كل واحد إلى طريقه. أحيل أبي إلى التقاعدجرةغطعددة القنوات. يمكننا الآلباء الموسيقى الشرقية في إسرائيل. دن من الموسيقي لتي راجت في إسرائيل، بعد أربعة وأربعين عاماً، "مدتين تأبيدة مع الأشغال الشاقة"، كما كان يعلن محتجاً في أي فرصة. يجلس في الصباح المتأخر أمام التليفزيون، يشرب كوباً من الشاي البني الداكن ويرفرف بين القنوات العربية. الأفلام القديمة، وبشكل خاص المشاهد الأرشيفية من الحفلات الموسيقية، تؤثر فيه كل مرة من جديد. مغنيات يرتدين ملابس سهرة لامعة ومبهرجة وأوركسترا عربية بعازفين يرتدون بذلات داكنة، كل هذا كان يجعل أبي يطير بعيدا عن بيته الخالي، ويعيده إلى عالم شرق أوسطي كان موجوداً ولم يعد. ماضيه وذكرياته ينضفران في صور عن الخلفية ويقومان بإحياء، ولو للحظة، طفولته، حريته، وصوته الذي تم إسكاته.

________________________________________________

نفتالي شيمتوف، ولد عام 1975 لأب من أصول عراقية، وأم من كردستان. يعد رسالة الدكتوراه في قسم المسرح بجامعة تل أبيب عن "مهرجان عكا من أجل مسرح إسرائيلي مختلف". النص مأخوذ من كتاب "أصداء الهوية – الجيل الثالث يكتب باللغة الشرقية"، والذي أعده ماتي شمولوف، نفتالي شيمتوف، ونير برعام، عن تجربة الجيل الثالث من اليهود القادمين من أصول شرقية وإحساسهم بهويتهم وطرق التعبير عنها في دولة إسرائيل.

(1) حي في حيفا، اندلعت فيه في عام 1959 عدة مظاهرات ضد الظلم الذي يتعرض له اليهود الشرقيون

(2) حركة سياسية ظهرت في السبعينيات قادها اليهود الشرقيون للمطالبة بالمساواة بينهم وبينهم الإشكناز – اليهود الغربيين.

(3)"عناقيد عنب تكون أو لا تكون- إشكولوت لهيوت أو لو لهيوت" صيغة إعلان ظهرت في إسرائيل الثمانينيات تدعو لشراء الفواكه الإسرائيلية.

(4) شريط الكاست لا يعني فقط شريط تسجيل الأغاني، وإنما تشير كلمة "الكاست" أيضا إلى "موسيقى الكاستات" التي غناها مغنون شرقيون ولحنها موسيقيون شرقيون في السبعينيات، وأصبحت تشير إلى نوع عد متدنياً وشعبياً من الغناء، يحوي مؤثرات عربية ويونانية وتركية.

(5) سلسلة أفلام كوميدية وشعبية ظهرت في السبعينيات، يقوم اليهود الشرقيون ببطولتها وتعرض أنماطا عن شخصية اليهودي الشرقي.

(6) مغن إسرائيلي، ولد عام 55 وتوفى عام 87، يعده البعض من كبار المغنين الشرقيين في إسرائيل.

11 comments:

  1. بوست جميل . والأجمل أنك فكرتنى بالأتارى

    ReplyDelete
  2. oh kabib el2ana
    جو الترجمة مش بس أمتعنى لأ كمان فكرني بأشيائي الخاصة جداااااا في الأجواء دي
    الجيران اللى يجتمعوا علشان يتفرجوا على تليفزيون سوا وزي ما قلت الاصرار على النوستالجيا
    بجد رائع
    i like it so much ;)

    ReplyDelete
  3. هو الحلو المرة دي ان النص مختلف ومفاجئه عن اللي فات ورغم إنه مش كتابة ادبيه زي النص السابق الا ان للنوستالوجيا سحرها برضه
    وخصوصا ان الشرقيين بيشتركوا في نفس الذكريات بشكل عام سواء يهود او غير يهود
    دخول التلفزيون ثم الدش والوصلات وغيره
    طبعا البهارات اللي اضفتها زي فؤاد المهندس "المز" والشرقي الهيجان ابن ال***لطيفه جدا
    رغم أنك لم تشير الي ان لفظ مز ترجع ملكيته الفكرية لايناس الدغيدي في الالفينات بعد ما بقي عندها حاجه وخمسين سنه
    :D
    عموما اي لايك ات
    تحياتي

    ReplyDelete
  4. ههههههه

    أحلى مترجم بالدنيا نائل الطوخي

    لو كنت ترجمعت " كس أمكم " بتبّاً لكم كنت غيرت نظرتي فيك هههه

    ـ أنا تفاجئت بالمدونة ..جهد كبير و مشكور عليه جدا .

    ReplyDelete
  5. مدونة مفيدة جدا

    ReplyDelete
  6. جد مشكور وذنب مغفور يا نائل يا جميل .. بجد أمتعتنا القراءة والمعرفة والترجمة المبدعة

    ReplyDelete
  7. أخيرا يا نائل
    بجد انا متابع مدونتك من زمان ...قصدى مدونتك السابقة
    و كنت منتظر منك إنى أشوف ترجمة للأدب العبرى و مع إن فيه ترجمات شحيحة إلى حد ما قبل كده لكن بدايتك دى أحسبها عليك....و النص الجميل ده الحميمى بالشكل ده إدانى أد ايه الأدب العبرى بينتمى و غير مقصى عن الآداب التانية هوا فى النهاية أدب إنسانى ....بعيدا عن مصطلحات التطبيع و الذى منه
    جهدك ده مشكور عليه فى ترجمة سلسه و جميلة أوى كده
    أكيد هتابعك على طول
    أنا معرفش غير أسماء قليلة زى عاموس عوز و يهوشواع
    أشكرك إنك عرفتنى بأسماء تانية

    ReplyDelete
  8. عجبتني جدا الفصة
    والمني شعور الاغتراب بين ما اتربى عليه وما اضطر ان اكونه
    اجمل ما فيها الانسان
    شكرا لمدونتك المختلفة

    ReplyDelete
  9. جميل الشغل ده يا نائل باشا

    ReplyDelete
  10. حلو قوي الجو الحميمي والانسانيات اللي في القصة دي
    حسيت اني في حي من الاحياء الشعبية المصرية ايام الستينات والسبيعنات، ماما بتحكيلي طبعا، بصرف النظر عن انهم في اسرائيل/البعبع
    : )
    طبعااميمة صبحي

    ReplyDelete
  11. جميل هذا الجهد ..نائل

    ...

    كم سعدتُ بالعثور على هكذا فضاء


    وضحى المسجّن
    البحرين

    ReplyDelete

comment ya khabibi