نشر المدون عوفري إيلاني هذه التدوينة، والتي تشير إلى العلاقات المتواصلة بين فلسطين ( أرض إسرائيل بالمفهوم اليهودي) وبين مصر. التدوينة على ما فيها من أراء مثيرة للجدل، تمثل نموذجاً للرأي العام في إسرائيل الآن حول مصر والتطورات الحادثة فيها، الرأي العام الذي يمكن وصفه بأنه مزيج من الرعب والانبهار. يطالب إيلاني في تدوينته هذه بوحدة إسرائيلية/فلسطينية مع مصر، ولا يعدم الدلائل التاريخية التي تشير أن هذه الوحدة حتمية وكانت موجودة دائماً، التدوينة منشورة بالعبرية هنا في المدونة التي تحمل اسم "أرض الأموري. أفكار وآراء من هنا ومن خلف النهر". يذكر أن تعبير "أرض إسرائيل" الوارد بوفرة في المقالة، هو أحيانا يكون ترجمة اجتهادية مني لتعبير "הארץ"، أو "ארץ ישראל" (هاآرتس أو إريتس يسرائيل) والمقصود بها فلسطين في الأزمنة القديمة بحسب المفاهيم اليهودية.
الحياة في مستوطنة مصرية
عوفري إيلاني
ترجمة: نائل الطوخي
"من الناحية الجيولوجية، فأرض إسرائيل هي إسفين يعوق البحر المتوسط عن الاتصال بالبحر الأحمر. ولكن هذا أيضاً أمر مؤقت "
"نقش على حائط المعهد الجيولوجي. منسوب لواحد من أحفاد دكتور بني بيجين"
ما يستفزنا في قصة الخروج من مصر ليس عدم صدقيتها، وإنما الحقيقة التي تخفيها. منذ أكثر من مائة عام، يعرف الأركيولوجيون أن قصة الخروج من مصر هي خيال سياسي محكم. ولكن المشكلة بوجه عام ليست في عدم دقة الوصف، أو عدم وضوح هذا الحادث الإعجازي أو ذاك. عندما يتم الحديث عن نص كُتب قبل ألفي عام، فكل هذا غير مفاجئ. من الناحية السياسية، فما هو فضائحي في القصة المحكية في الفصح هي أن الخروج من مصر لم يكن من الممكن له أن يحدث، لأن الأرض الموعودة أيضاً كانت جزءاً من مصر، لذا فلم يكن هناك ما يمكن الخروج إليه أبداً.
"في أرض مصر قام الشعب اليهودي، حيث تم تشكيل صورته الروحانية، الدينية والسياسية، وفيها عاش حياة من المواطنة بدرجات مختلفة تتراوح بين الازدهار والعبودية"، هذا الحكم مبتذل بما يكفي، ويتضح من داخل النص [الديني] نفسه. فرعون هو أول من أطلق على بني إسرائيل "شعباً"، وبعده على الفور أتى موسى. فقط بولندي عنيف ذو فكر مشوه مثل بن جوريون يمكنه أن يزعم –على النقيض التام مما قيل صراحة في التوراة – أن الشعب اليهودي قام في أرض إسرائيل، بل وأن يحول هذا إلى بديهية إنسانية عامة.
ما لا يتضح من النص نفسه هو أن أرض إسرائيل أصلاً كانت هي مصر. العهد القديم ينكر ويتجاهل حقيقة معروفة: في غالبية الفترات الموصوفة في العهد القديمة، فإن هذه الأرض كانت مستوطنة فرعونية. على مدار 400 عاماً على الأقل، ساد الحكم المصري على البلاد، وحتى بعد هذا ظلت أجزاء كبيرة منها خاضعة للتأثير المصري. محاولة التمييز بين إسرائيل ومصر كانت فعلاً قسرياً تماماً.
يمكننا أن نبدأ من هنا. عندما يتحدث نتنياهو أو عوتنيئيل شنلر بحنين عن أرض الأباء والاستيطان في الجبل، يمكننا تذكيرهما بأن الفترات التي يتحدثان عنها كانت هنا في مصر. ولإثبات أنني لا أخترع أية نظرية، فهاهو اقتباس من مقال يوحانان أهاروني، وهو ربما كبير الأركيولوجيين الصهاينة:
"أرض كنعان كانت مندرجة في إمبراطورية المملكة الفرعونية الجديدة التي قامت على ضفاف النيل ... [ولكن] قوة مصر القديمة وسلطتها على أرض إسرائيل في فترة الاستيطان لا تظهر في العهد القديم. عندما نقرأ وصف احتلال الأرض على يد يوشع، يصعب علينا تخيل أن هذه الأحداث وقعت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، في أيام السلطة المتواصلة لرمسيس الثاني، والذي حكم أرض كنعان أيضاً"...
ثمة شيء ما ممتع في أن يكون الدليل التاريخي الأساسي على وجود شعب اسمه إسرائيل في فترة العهد القديم هو نقش مرنبتاح، والذي يحكي فيه ملك مصري بأثر رجعي كيف ضرب هذا الشعب ومحى نسله. لو كان العهد القديم يحكي الحقيقة، فيمكننا اختصار القصة تقريباً في هذه الكلمات: "كان هنا مصريون، وكل الباقي كانوا زبداً على وجه الماء". ولكن بشكل موجه، فإن العهد القديم يخفي هذه التفصيلة التاريخية الهامشية. هذا يشبه تقريباً دولة ويسكونسين التي كانت تحكي تاريخها في مئات السنوات الأخيرة بدون الإشارة إلى كيان اسمه الولايات المتحدة.
على الامتداد الطويل، فلقد كانت كنعان مقاطعة مصرية. التأثير المصري كان مرتبطاً بشكل خاص بخط الساحل. يافا، وهي من المدن القديمة في أرض إسرائيل، كانت مدينة مصرية (بقايا هذا ظلت في باب رمسيس). التأثير المصري على الثقافة المحلية يتم التعبير عنه بطيف واسه من النتائج، منه في التوابيت التي تحاكي جسم البشر ويراقب بعضها المارة في الطابق الثاني من بناية جيلمان. دين العهد القديم مكدس بالأسس المصرية. النص الأول المكتوب بلغة شبيهة بالعبرية مكتوب بخط هيروغليفي. لفترات طويلة ظلت النخبة المحلية تدرس وتصقل ثقافتها في مصر. عندما نجح الحكام المحليون في التحرر من مصر، حدث هذا فقط لفترة محدودة وبدعم إمبراطوريات أخرى.
ليس أنه لم تكن هناك محاولات للمقاومة. كانت هناك طبعاً فترات طويلة فقد فيها المصريون البلاد. ولكن الأحداث الكبرى في تاريخ البلاد مرتبطة في الغالب بالاتصالات المتجددة مع مصر. عادت مصر في كل مرة. عادت مع الفرعون شيشك وعادت مع الفرعون ناخيه. وكذلك بعد عصور العهد القديم، عادت مصر. عادت مع التلميين، ومع صلاح الدين والمماليك، ومع محمد علي في القرن التاسع عشر والذي ولد في عصره الشعب الفلسطيني[1]. فقط في 1906 تم تحديد خط الحدود المباشر والمصنوع بين مصر البريطانية وفلسطين العثمانية. ولكن هذا أيضاً حدث لمرحلة مؤقتة. السيطرة البريطانية قامت من جديد بالتوحيد بين مصر وفلسطين. من ينظر إلى صحف فترة الانتداب البريطاني يرى أن تقارير وكالات الأنباء كانت تصل عن طريق القاهرة. في الواقع، فلقد كانت القاهرة هي عاصمتنا.
2
ولكن انظر إلى أرض مدينة القدس هذه! لا أبي ولا أبي [أع]طياني إياها- اليد [القوية لملكي أع]طتني إياها!
(جزء من خطاب لفرعون، من وثائق العمارنة، الوثيقة رقم 287)
مؤرخون محترمون سبق وأن أثبتوا أن الأسطورة الصهيونية عن إيقاف طابور المدرعات المصرية في جسر "عد هالوم"[2] لا تناسب الوقائع. دافيد طال أبان عن أن رحلة الطابور المصري شمالاً لم يتم إعاقتها على يد جيش الدفاع الإسرائيلي، وأنها توقفت بالأساس تبعاً لحسابات القائد المصري. وأكثر من هذا، فالمصريون لم يفكروا فعلاً في الوصول لتل أبيب، وخططوا للوصول على الأكثر ليفنيه.
مع هذا، فأسطورة "عاد هالوم" تشير إلى شيء ما جوهري: الخوف العميق لدى الصهيونية من الغزو المصري. هذا في الواقع هو الوضع الكارثي الذي يراه الإسرائيليون في كوابيسهم: المصريون قادمون. بعدها بخمس وعشرين عاماً، تجسد نفس المشهد بشكل أكثر تراجيدية في معارك الإيقاف بسيناء ضد الغزو المصري. عندما تحدث ديان عن خراب الهيكل الثالث، كان يعرف ما الذي سيأتي بدلاً منه: سلطة مصرية على أرض إسرائيل، وهو اختيار التقصير – الوضع طبيعي، ما بعد الكارثي. أنا، الذي كبرت في ظل اتفاقات كامب ديفيد، كنت أسمع بالأساس جملة "السوريون على الجدار". اتفاق السلام مع مصر حدد الحدود مجدداً، والتهديد المركزي انتقل للشمال. ولكن الوضع بعد كامب ديفيد هو وضع فريد وغير مستقر: ليس فقط أن المصريون لا يسيطرون على إسرائيل، ولكن في المقابل، وبمفهوم معين فإسرائيل تسيطر على مصر، بواسطة تعاون مبارك مع الإمبراطورية الأمريكية – صهيونية. تنسيق كهذا حدث للمرة الأول في أيام احتلال مصر على يد الهكسوس، قبل حوال 3740 عاماً.
وماذا الآن، عندما تتغير مصر؟ من أين نبع الخوف العظيم عندما بدأ عرش مبارك في الاهتزاز؟ هذا نفس الخوف القديم من الغزو المصري، وهو أساس أولي في الوجود هنا. ربما ينبغي أن نتحرر منه.
3
الحاخامات يقولون، أنه عندما حدث الشرخ السوري
الأفريقي، سكان المناطق لم يكونوا
متطورين. انشغل كل منهم
بعمله. بشحذ الفئوس. بتمزيق الحيوانات
(آفوت يشورون، من "أغنية على مساء هذا اليوم")
قبل عدة سنوات شاركت في واحدة من تلك اللقاءات التي ينظمها الاتحاد الأوروبي للصحفيين في الشرق الأوسط. حدث هذا في أثناء عملية "الرصاص المصبوب". الصحفيون الأردنيون كانوا واعين جيداً لأزمة الوعي الاستراتيجية التي تقع فيها إسرائيل، والتي تدفعها للرد بشكل عنيف جداً. ولكنهم لم يفهموا لماذا نتجاهل الخيار الذي بدا لهم مطلوباً: السماح للملك الأردني بإدارة الشئون في فلسطين. "الملك وأبوه، هما رجلان متزنان جداً"، قالوا، "هما يعرفان كيف يديران هذه الشئون".
وبالفعل، خيار الاتحاد الكونفديرالي مع الأردن يقع دائماً في مكان ما في الأفق. ولكن الأردن هي عكاز هش – دولة ضعيفة، متخيلة أكثر بكثير من إسرائيل. وهي أيضاً تتمتع بنظام رجعي مكروه من الفلسطينيين.
في مقابل هذا، فهناك في المنطقة قوة عظمى أخرى يمكن التوحد معها: مصر. مصر هي المستقبل. هي القوة الفعالة والإبداعية في المحيط من حولنا. سواء كان هذا جيداً أم سيئاً، فإن الأمور المهمة في المنطقة تحدث في مصر، منذ ناصر، مروراً بحرب أكتوبر، اتفاقات السلام وثورة التحرير.
وأكثر من هذا، فإن الحديث عن وحدة كهذه أو تلك مع الأردن، الضفة وإسرائيل دائما ما تتجاهل غزة، التي تظل بمثابة إزعاجاً خاضعاً للبؤس الدائم. محللو الأمور العربي يبتهجون بشرح أن سكان غزة وسكان الضفة لا ينتميان إلى شعب واحد – الغزاويون يتحدثون بلهجة مصرية ويتأثرون بالسياسة المصرية.
فقط الوحدة مع مصر، بهذا الشكل أو آخر، سوف تمنح وظيفة جوهرية لقطاع غزة – ليس كفضالة جنوبية لفلسطين، وإنما كنقطة اتصال مع أفريقيا، أسيا وأوروبا، محطة انتقالية بشوشة للاجئين والمهاجرين والحجاج والسياح.
آلاف السنوات، بدون مبالغة، من التلقين جعلتنا نفكر في أن هذه الفكرة هشة. ولكن يمكنها أن تكون عقلانية، بل وفي القريب. عندما يسقط الأسد في سوريا، قد يقوم نظام شقيق للنظام الذي سيقوم في مصر. في هذه الحالة، ليس بعيداً أن يقام اتحاد ما بين الدولتين، فيما يشابه جمهورية ناصر العربية المتحدة. ولكن هذه المرة، على إسرائيل – فلسطين أن تكون جزءاً من الاتحاد.
في الواقع، فإن الامتزاج في مصر هو الخيار الوحيد الذي يمكنه أن يضمن الاستقرار والازدهار هنا. بالتحديد لأنه يناقض حدسنا الكاذب، فهو يثير الحماس أكثر.
على السطح، فإن تأثير الثقافة المصرية على إسرائيل الحالية هو هامشي. ربما هو محسوس فقط في المناطق الجنوبية مثل إيلان ونيتسانا. ولكن في الطبقة الأكثر عمقاً، فمصر هي كل شيء. محاولة معارضة التأثير المصري، وضع الأسوار والحصون والحواجز بيننا وبين مصر، هي في الحالة الأفضل بطولة ولكن بلا معنى، وفي الحالة الأسوأ هي مثيرة للشفقة ووحشية. ليس فقط جدار شارون، وإنما أيضاً جدار بيبي نتنياهو سوف يسقط يوماً ما.
خاتمة ثيولوجية: إلغاء الفصح
في ليل الفصح أنا في حديقة الاستقلال
(منسوب لحازي لسكالي)
وفق تعريفه، فإن الدين التوحيدي هو قبل كل شيء نفي لتعدد الآلهة. "ولا يكن لك آلهة أخرى أمام وجهي"، هكذا قال موسى عندما أسس دين إسرائيل. فيما يوائم هذا، فإن الدين التوحيدي مرتبط باضطهاد ونفي الأديان الأخرى. لذا فتأسيس دين توحيدي يأتي مصحوباً بتدمير المقدسات ومذبحة للمؤمنين.
قبل ولادة التوحيد في مصر، لم يكن هناك في الواقع أديان في العالم. لكل مدينة أو مملكة كانت هناك آلهة تخصها، ولكن عندما كان يزور يوناني من طيبة مصر أو سوريا كان يقدم القرابين للآلهة المحلية. عالم المصريات النظري يان أسمن يشير إلى الخروج من مصر بوصفه اللحظة التاريخية التي ولد فيها الدين التوحيدي الأول. يطلق عليه "The Mosaic Distinction "التمييز الموسوي". هذا خط تم تحديده على الأرض، ويقرر: حتى هذه اللحظة كانت هناك عبادة الأوثان المصرية، ومنذ هذه اللحظة صارت هناك عبادة "الإله الحقيقي". هذا في الحقيقة التمييز الأيديولوجي الأول، إذا شئتم: التطهير الأيديولوجي الأول في التاريخ. في نفس اللحظة ولدت أجهزة الكشف عن المعادن وولد الجدار، وولد أيضاً التعقيم القاتل المحسوس عندما ندخل الحي اليهودي في المدينة القديمة بالقدس، والذي يفوق أحياء أكثر إثارة للإعجاب . منذ أن تم تحديد الخط، ولد من صلبه بسرعة عدد لا يحصى من التمييزات الثانوية، المصحوبة بعنف مدمر. فور الانفصال عن مصر جاءت مذبحة الأموريين وشعوب كنعان.
في الواقع، فإن ادعاء أسمن هو أكثر تركيباً. في كتابه Moses the Egyptian يثبت بنجاح كاف أن قصة الخروج من مصر هي في الواقع معالجة لحادث صادم في التاريخ المصري: الثورة الدينية التوحيدية للفرعون إخناتون. أي أن الحدث المؤسس أيضاً للتاريخ اليهودي هو في الواقع حادث مصري داخلي.
أما فرويد، وآخرون بعده، فلقد ادعوا أن موسى هو في حقيقته كاهن مصري. من هذه الناحية، فالعودة إلى مصر، أو عودة مصر إلينا، ليست فقط حدثا درامياً على المستوى المحلي أو الإقليمي. إنه إغلاق لدائرة دينية سحرية. لأن عيد الفصح قائم كله على هذا التمييز بين المصري والعبراني:
"إنكُم تقُولون هي ذبيحَة فَصْحٍ للرَبِ الذي عَبَرَ عَن بيًوت بَنِي إسرائيل فِي مِصْر لمّا ضَرَبَ المِصْريين وَخَلصَ بيوتنا"
لذا فبعد أن نتوحد مع مصر يمكننا أن نقوم بشكل طقوسي بإلغاء عيد الفصح. نعم: هو العيد الأهم في اليهودية، مع كل اليهودية الييدشية والتراث والدموع والأغاني، العيد التوحيدي، العيد الذي يحتفي بيسوع نفسه والذي احتفل به يهود جيتو وارسو قبل ثورتهم- هذا العيد لن يعود ضرورياً حينها.
كل هذا يبدو خيالياً، ولكن يمكنه الحدوث وقريباً أيضاً. مبكراً أو متأخراً، فإن مصر ستعود. الشرط الأساسي الذي ينبغي توافره هي أن يرغب المصريون بدورهم بنا.
[1] يشير هنا المدون إلى ثورة الفلاحين (1834) التي حدثت في فلسطين ضد محمد علي احتجاجا على الخدمة العسكرية الإلزامية والتي يرى أنها حملت أول بذرة للتمرد الفلسطيني على مصر، وبالتالي أول بذرة لتكون الهوية الفلسطينية.
[2] جسر عاد هالوم يقع بجانب مدينة أشدود، 35 كيلومتراً جنوب تل أبيب. والمعركة المذكورة واحدة من معارك حرب 1948، بحسب الرواية الإسرائيلية للحرب.