Friday, 24 April 2009

مختصر تاريخ ميخال

داليا رابيكوفيتش

ترجمة: نائل الطوخي

في المقدمة كانت تتحرك سيارة لنقل العفش، ومن خلفها سافرت العائلة في تاكسي (سيارة أجرة). عندما وصلوا لأحد التلال، الواقعة قبل عفولة، انفجرت ميخال في البكاء. بنتها، ابنة الست سنوات، خافت، ولم يصدر الأخوان التوأم، ذوا السنة ونصف، أي رد فعل.

في الكيبوتس (1)، عندما فككوا العفش ورتّبوه في الغرفة، اتضح أن لوح الطاولة انكسر. ومنذ ذلك الحين، لم يتم إصلاح تلك الطاولة.

السريران، واحد منهما سفلي ويصدر صريراً عندما يتحرك كل ليلة، والآخر علوي مغطى بسجادة وردية، كانا منتصبين بالقرب من الجدار الشمالي، بجانب الطاولة.

بقيت ابنة الست سنوات مقيمة في حجرة ميخال ولم تذهب إلى الحضانة. لم تحرص ميخال على ترتيب السريرين وأحيانا ما كانتا تنامان بملابسهما على السجادة الوردية، مغطاتين بالبطانية. ابنة الست سنوات لم تحب التسيب والإهمال. كل ليلة كانت تطبق ملابسها بشكل منظم على الكرسي.

تراكم الغبار على أرفف الكتب. قرر أحد التوأمين، عندما كبر، ألا يدخل كتباً لبيته بسبب ذكرى هذا الغبار، لم تفعل ابنة الست سنوات شيئاً، كرهت الغبار بدون أن تحاربه بشكل فعلي. انتظرت شخصا ما لكي يحارب من أجلها.

ماتت ميخال في بداية الربيع، في كيبوتس آخر، بعد ثماني سنوات من شلل نصفي وخرس التزمت به، لأنه لم يكن لديها من تتحدث معه. بعد ثماني سنوات توقفت عن الأكل وخفضت رأسها. عندما طلبوا منها، ميخال افتحي عينيك، أغلقتهما بالقوة. لم يطعموها أي شيء رغماً عنها. فقط كانوا يدهنون شفتيها بعصارة العسل المخفف ويقلبون جسدها كل ساعتين منعا للقروح.

ماتت ميخال بعد أسبوع من عدم الأكل، ودفنت في نفس الكيبوتس، ولم يقيموا سبعة أيام الحداد عليها، لسبب ليس هذا هو المكان لتفصيله.

لم يتم إصلاح الطاولة أبداً. كانت ميخال قد استبدلت منذ ذلك الصباح في الطريق إلى عفولة الكثير والكثير من العفش، ولكن كل شيء كان بلا طعم وذوقه ردي. عاشت حياتها دائما في تقشف وفقر. وذات مرة كذلك أثير الشك في أنها ماتت بسبب الجوع.

بعد أن ترملت ميخال بعشر سنوات تزوجت من مدير مدرسة في احتفال بحاخامية حيفا. ارتدت ملابس غير ملائمة من أجل الزفاف. جاكت تركواز، قميص منقط وجيبة رمادية. ابنة الست سنوات والتي كانت وقتها ابنة ست عشرة سنة لم تحضر الزفاف برغم سعادتها بأنه سيكون لميخال زوج.

قال مدير المدرسة لميخال: "أنا أعرف أنني في المكان الأخير لديك". لم يقل هذا محتجاً، وإنما قالها بلهجة من يعترف أن الكوب قذر أو أن الطبق مكسور. ليس هناك كوب وطبق آخران، وبالتالي فسوف يشرب ويأكل فيما هو متاح.

لم تحتمل ميخال الكيبوتس ولم يكن لها هناك أصدقاء. كانت ملاحظات بسيطة تشعرها بالإهانة. وكانت هناك أيضا ملاحظات خبيثة من نوعية: "هذا القماش يبدو أصغر من سنك كثيراً"، وذلك عندما تذهب، وهي ابنة الأربع وثلاثين، لمحل الخياطة لاختيار ملابس.

كل ما كان لديها ضد الكيبوتس حفظته في قلبها ولم تعبر عنه إلا بعد عشرين عاماً. عندئذ انفجر كل شيء مثل السيل. ابنة الست سنوات تركت الكيبوتس وهي في سن الثلاث عشر وأقامت عند خمس عائلات تقوم بالتربية، الواحدة تلو الأخرى. يمكننا القول أن طفولتها انتهت ويمكننا القول أنها بدأت للتو، لأن الأطفال في حيفا، والتي كانت تعيش فيها، لم يضايقوها، بل كانوا رمزا للصداقة.

***

لنترك الآن ابنة الست سنوات والتي سوف تقتحم القصة وتحطمها من حين لآخر، على النقيض حتى من رغبتنا أو على النقيض من رغبتها. كانت ميخال دائما مخلصة بقلبها وروحها لعملها كمدرسة. كانت مدرسة للحياة. كانت تشجع وتدعم وتجسد مواد الدراسة. وكانت تعيد الاختبارات التي حصلت على علامة الامتياز (100%!). وكانت تحب تشجيع التلاميذ غير المرغوبين بالتحديد، هؤلاء الذين كانوا عبئاً على الكيبوتس. ولكننا لن نتحدث عن الكيبوتس أيضا هذه المرة، على الأقل لن نتكلم عنه أكثر مما يجب.

السنوات الثمانية الأخيرة في حياة ميخال تشبه فصلاً في الجحيم، ارتدت فيها الأقمطة، وكانت لديها امرأة تعتني بها من كريات شمونه. نامت يومياً لأحد عشر ساعة في السرير بلا قدرة على القيام أو قياس الزمن.

قالت لابنها: "من الأفضل أن تقتلني، لقد عشت بما يكفي." ولكن الابن التوأم لم يفكر في هذا بجدية. اعتقد هو أن لديها نظام يرضيها، وصار يأخذها أيضاً إلى طبيبة الأسنان لأجل تنظيف أسنانها نصف سنوياً. كانت محكومة جيداً مثل هيكل سيارة قديمة خربة، وتقريبا لم تكن تتحدث. ابنها التوأم قال أن ماما أصبحت تخرف، ولكنني أعتقد أنها مكتئبة. لم يكن من الممكن إدخالها إلى غرفة الأكل، لأنها لم تكن تأكل بشكل جميل.

ما الذي يعنيه غير جميل؟ كانت تأكل بالضبط مثل حيوان. كل شيء بيديها، والأكل يقع من فمها. ليس هناك شك في أن مخها كان مصاباً بشكل خطير. قبل هذا اعتادت على القول أنها تتمنى ألا يحدث لها هذا وأن تموت فجأة. ولكن ما يحدث لنا ليس هو ما نريده.

***

بين الرحلة في التاكسي واليوم الذي ماتت ميخال فيه، 19 فبراير، مرت خمسة وخمسون عاماً أو أقل. حدثت في هذه الأثناء أشياء كثيرة سوف أحاول ترتيبها. ولكنني واثقة أن الأمور ستختلط علي بين ما حدث في الأول وما حدث في الآخر، لأن القصة تؤلمني.

عندما وصلت ميخال لسن التسع وخمسين قررت ترك الكيبوتس. كانت هناك اجتماع للأصدقاء، وسمعت ميخال هناك كلمات انتقاد قاسية. لا أعرف ما قيل بالضبط في هذا التجمع، ولكن ميخال ذكرت بصراحة أموراً قاسية ومهينة. زوجها، مدير المدرسة السابق، والذي أصبح مفتشاً إقليمياً للتعليم الزراعي من قبل وزارة الزراعة، لم يكن مؤهلاً نفسيا لترك الكيبوتس والانفطام من عادة منح أمين الصندوق كل مرتبه شهرياً.

أضمر الزوج الكراهية ضد ابنة الست سنوات السابقة لأنها، كما بدا له، تجذب أمها للخروج من الكيبوتس. لم تكد تمر أيام أو أسابيع حتى مات بسبب أزمة قلبية مفاجئة، في غرفته المؤجرة بتل أبيب. كانت ميخال معه، تقبض على التليفون وتحاول عبثا الاتصال بطبيب مشهور قريب للعائلة.

ترملت ميخال مرة ثانية وعادت لتكون امرأة وحيدة. ابنة الست سنوات السابقة حافظت على بغضها لمدير المدرسة السابق الذي جعل أمها أرملة. اعتقدت أنها - هي أيضاً - ستدفع ثمن هذا، فأمها، والتي أصبحت فجأة بلا بيت، سوف تلتصق بها، وهذا ما حدث.

العلاقة بين ميخال وأولادها كانت مختلفة ومعقدة. ترك التوأم الكيبوتس، واحد منهما إلى كيبوتس آخر، والثاني هاجر إلى أمريكا. وكلاهما، عندما كانا يزوران أمهما، كانا يجلسان ويقرءان صحيفة الصباح، أو صحيفة المساء، وبعد ساعة أو ساعتين يفترقان ويذهب كل إلى بيته. ابنة الست سنوات السابقة لم تستطع تحمل الوجود المتواصل لميخال بجانبها، والذي يعني الكثير جداً، في وقت متأخر جدا.ً عندما كانت ميخال تدق الباب، كانت البنت – لعصبيتها الشديدة – تصاب بالمغص، حتى ولو لم تستطع إخبار ميخال إلى أي درجة تريد الابتعاد عنها. كانت ميخال تواصل تغطية نفقات ابنة الست سنوات السابقة، والتي لم تستطع أبداً التكفل بنفقات حياتها، كما أنه لم يكن لها عمل ثابت.

عندما بلغت المياه الحلقوم، انتقلت ابنة الست سنوات السابقة إلى شقة أخرى، وانتقلت ميخال، وهي تقارب الثمانين، إلى كيبوتس أحد ولديها التوأم، بصفة غامضة، "أم عضو في الكيبوتس".

***

بعد سنتين حكت فيهما للجميع كم أنه تم استيعابها بشكل رائع في الكيبوتس، هاجمتها سكتة دماغية في عيد هاسوكوت وتم علاجها وهي في حالة حرجة بمستشفى "زيو" بصفد. من صفد تم نقلها للنقاهة في تل-هاشومير، ولكن النقاهة لم تنجح، وعادت للكيبوتس، بادئة في رحلة الثماني سنوات التي خاضتها، والتي كانت تجلس فيها على كرسي وتقرأ جريدة "لمتحيل"، من النهاية للبداية، ثم من البداية للنهاية، لأنها لم تكن تتذكر أصلا ما تقرأه. انتقلت بشكل سريع جدا إلى الصمت التام. من كان يصر فحسب هو من كان ينجح في الثرثرة معها. كانت تقول مراراً وتكراراً: "هذا ليس بيتي."

ابنة الست سنوات السابقة أتت لزيارتها وسألتها: "ماما. كيف هو بيتك؟". فكرت كثيراً وردت: "خلف أشجار السرو"، وعندما ماتت ميخال، فرحت ابنة الست سنوات السابقة أنه تم إنقاذ أمها من المهانة وآلام الروح. كل العائلة الموسعة، والتي لم يكن أبناؤها قليلين، تجمعت لمرافقة ميخال إلى راحتها الأبدية. كان هذا يوماً ربيعياً رائعاً. كان جيداً بالنسبة لميخال أن لا تقلق أقربائها وإنما تمنحهم الفرصة للتنزه في الطبيعة. تم دفنها في مدافن تظللها أشجار الكاليبتوس. وكان شاهد قبرها يشبه جميع شواهد القبور المجاورة، كأنها في مدافن عسكرية، لأن هذه هي عادة الكيبوتس. وكانت هناك أيضا امرأة مختصة وظيفتها الاهتمام بجمال المدافن.

لم تتم إقامة حداد السبعة أيام عليها، وابنة الست سنوات السابقة لم تزر قبرها لأسباب يصعب عليّ إيرادها هنا. هي تتمنى أن يكون القبر محكماً بالفعل بحسب الشريعة، وفي نفس الوقت لم تكن لها علاقة عميقة بالقبور.

هذا هو مختصر تاريخ ميخال. أستطيع أيضا أن أحكي عن بداية حياتها حتى زواجها بحبيبها والذي كان هو أبا التوأم وابنة الست سنوات، ولكنني لن أكتب هذا إلا إذا استطعت، لأنه ليس سهلا عليّ الحديث عن هذا، كما أن الكتابة نفسها لا تواتيني بسهولة.

***

وُلد تسعة إخوة وأخوات لعائلة هامر، ولكن لم يصل لسن الشباب منهم سوى ستة. كانت ميخال هي الرابعة من بين من تبقوا على قيد الحياة. كان للأبوين عينان داكنتان وكانت لميخال عينان زرقاوتان. تم توجيه الأولاد إلى العمل اليدوي والبنات أصبحن مدرسات، باستثناء كبراهن التي ظلت سيدة منزل. لقد جئن من عائلة فقيرة وعاملة ولم يدرسوا إلا الحد الأدنى الضروري، باستثناء مريم التي تلقت منحة للدراسة في لندن وهناك أدخلت رأسها في فرن غاز. سافرت الأخت الكبرى لإحضار تابوتها.

وُلدت ميخال في مدينة رحوفوت التي كان يحكمها الأتراك، قبل الحرب العالمية الأولى بخمس سنوات. كان أبوها مزارعاً، وأمها، شوشانا-تسيبورا، كانت تخفق الزبد عبر خض برطمان الزيت الذي كانت تخبط به فخذها.

عندما عرفتُ الجدة، شوشاناه–تسيبوراه، كانت قد تميزت بشكل خاص في تقطيع لحم البقر.. لم تكن ثرثارة. حكت ميخال أن أمها تيتمت في سن العاشرة وكانت تفتقد الثقة بنفسها. الجد دافيد كان جريئاً ومبادراً بشكل خاص. وساد الانسجام بينه وبين الجدة شوشاناه-تسيبورا.

كل الأبناء والبنات تزوجوا باستثناء مريم، والتي اختارت الرحيل عن العالم. أقام الجميع حياة عائلية مناسبة، ولكن الانسجام لم يسد في عائلتين بالتحديد، ولن أقوم بالتفصيل احتراماً للخصوصية الفردية. كما قال تولستوي، كان هناك اختلاف بينهم.

تزوجت ميخال في سن الست أو السبع وعشرين، هي نفسها لم تكن تعرف سنها بوضوح، حتى عادت للنظر في شهادة الميلاد. ولكن قبل زواجها، والذي سوف أتحدث عنه بشكل منفرد، مرت بطفولة معقدة للغاية. داهمها النضج فجأة، عندما طلبوا منها أن تزرع حقلاً، وكان ينبغي عليها أن تخفي البذور، في مكان غير عميق جداً ولا قريب من السطح جداً. إذا تم دفنها عميقاً فلن تصل إليها الشمس، وإذا تم دفنها في مكان قريب من السطح فسوف تأكلها العصافير. هذا القلق ميز طفولتها التي لم تعد إليها منذ ذلك الحين.

الجميع كانوا يعملون بشكل قاس في المزرعة، ويعيشون بتقشف. مرض الجد دافيد بالطاعون ونجا بفضل أخت له اسمها شبيرا اعتنت به بإخلاص وافر. الكوخ الذي كانوا يسكنون به تم تدميره بأوامر السلطان التركي أو البريطاني، لا أتذكر مَن مِنهما، وتم سكب الجير عليه لتطهيره.

على مدار الحرب العالمية الأولى طردهم الأتراك من الشارع إلى كفر سابا، وفي الطريق هجم عليهم لصوص عرب، على الأقل لم يصيبوهم في أرواحهم. تعلم الأطفال عندئذ ما يمكن تعلمه: القليل في المدرسة والكثير في الحياة. ولكن البنات وهبن فضولاً إضافياً، ولهذا فلقد درست ثلاثتهن في سمينار "شرقي" للبنات. وإذا كانت هناك وقتها امتحانات للتخرج، فإن ميخال لم تمر بها.

كان لميخال وجه مشرق وجميل، وكانت لها ضفيرتان داكنتان وكانت عنزة برية تجب الحياة، حتى في ظل الفقر. ومثل الجد دافيد فقد كانت واثقة بنفسها، ولم تستجب للمغازلين الذين لم يوائموا أحلامها. هاجمها مرض غامض في أمعائها واستمر طول حياتها، وفيما يخيل لي، فقد كان تعبيراً عن التوتر الداخلي، ولكن لا يمكن التيقن، لأنه بعد موت ميخال لم يعد هناك من يتفرغ لمحاولة فهم حياتها.

كانت لدى الجد دافيد مزرعة حيوانات وحديقة خضروات، وكانت ميخال تقوم بتوزيع الحليب صباحا على البيوت في قدر طويل يسع لتراً. عندما وصلت الهجرة الرابعة إلى البلاد، كان المهاجرون يعتقدون أن الجميع يخدعونهم واتهموا ميخال وقتها أنها تخلط اللبن بالماء. لم تتغلب على هذه الإهانة، سواء في شبابها أو شيخوختها. كانت تذكر بشكل خاص امرأة تمنت لها، عشية رأس السنة، ألا تضطر في العام القادم لأن تكون بائعة لبن.

بعد سنتين أو ثلاث سنوات من الدراسة في سمينار "شرقي" للبنات، أصبحت ميخال مدرسة للاستيطان العمالي. بعد سنتين عادت إلى تل أبيب وسكنت مع الأخوة والأخوات غير المتزوجين في كوخ بحي هاركيفيت بجانب يهودا عميحاي.

ظلت ميخال لسبع سنوات متزوجة من ليفي "ليو"، وهو مهندس يحب الشعر جاء البلاد من الصين، وكان صهيونياً بقلبه وروحه. ولم يقلّ حبه لها مع الزمن، حتى صدمته سيارة في شارع جابوتنسكي برامات جن، بجانب المعبد، ومات في نفس المكان. عندما سمع الجد دافيد بهذا فقد وعيه. وصلت ابنة الست سنوات إلى البيت واعتقدت أن الجد أصابته السيارة. لم تعرف شيئا عن أبيها لسنتين. قيل لها أنه سافر إلى الخارج للعلاج. ومنذ موت ليفي انهارت العائلة.

قال لي أحد الأخوين التوأم ذات مرة أن ميخال كانت متدينة يوماً ما، وأنها اعتقدت بقلبها أن لكل فعل جزائه، وأنها رفضت السكنى عند ابنها بأمريكا لأنها خافت من الانتقال إلى بيئة غريبة، وبشكل عام، فهي لم تعتقد أنه بإمكانها الابتعاد عن كل المخاوف السابقة، هي قد كبرت لتكون امرأة إشكالية قليلاً. هكذا أو هكذا لم تحتر طويلاُ، انتقلت إلى الكيبوتس وعلى الفور قامت بمديح استيعابها الناجح في الكيبوتس. ليس لديّ فكرة عن سبب مداهمة السكتة لها في عيد السوكوت بالتحديد. كانت ميخال دائما ما تؤمن بالأعياد وبمناسبات اليهود بل وكتبت كتابا بعنوان "ولتخبر ابنك". لو كان الكتاب قد تم تحريره كما ينبغي، لأمكن له أن يصبح أعلى مبيعاً. ربما تكون الوحدة في العيد هي ما أصابتها بالسكتة.

هذا هو تاريخ ميخال باختصار شديد، أو كما كانت ميخال تقول، بشكل مختزل.

عندما أتذكر أموراً أخرى سوف أواصل الحكي، وربما لن أحكي المزيد.

***

قالت ميخال أنه لم يقع أبدا شجار بينها وبين ليفي، ولكنني أتذكر الأمور بشكل مختلف. أذكر أنها عاقبت ليفي عقوبة كانت معتادة منها: ألا تتحدث إليه. اشترت كاكاو مستورداً وألقى هو العلبة من النافذة لإيمانه أنه لا ينبغي شراء إلا النتاج المحلي فحسب. عندئذ أخبرته أنها لن تتحدث معه. شكا ليفي: ميخال (والتشديد على المقطع الأول)، تعالي نوقف هذه اللعبة. ولكن ميخال كانت مصرة على أن تعلمه درساً.

حتى المساء كانت تواصل "عدم التحدث إليه"، وعندما كانت تحتاج لأن تقول شيئاً كانت تطلب من ابنة الست سنوات التي كانت وقتها ابنة أربعة "قولي لبابا أن.."، ومن وقتها قبل ليفي بالحكم: الطفلة أكثر أهمية من الإنتاج المحلي. وهكذا، ففي صباح كل يوم كانت الطفلة تشرب كوب كاكاو (بدون وجه).

عندما أصبحت ابنة الست سنوات ابنة أربعة كانت تعود كل يوم من الحديقة وتطلب: "ماما ارسمي لي طفلة"، وكانت ميخال ترسم كل يوم طفلة بضفيرتين. كانت بنت الأربعة تحب رسومات الأطفال بما لا يقل عن حبها للعروسة التي تفتح وتغلق عينيها. كانت بنت الأربعة مرتبطة جداً بميخال وكان من الصعب عليها فراقها كل ثلاثاء بعد الظهيرة، عندما كانت تذهب لاجتماع المعلمين.

البيت الذي سكنوا به كان قريباً من مصنع "كيشيت"، والذي كانت مدخنته تلفظ سخاماً بلا انقطاع. كان السخام يبقّع أقمطة التوأم عندما يتم تعليقها على السطح، وميخال كانت تجمع الأقمطة المنقطة بالسخام وتقول لليفي: "ليفينكا تعال بنا نهرب من هنا"، وهو يقول: "نهرب إلى أين؟"، وفي نفس اليوم، أو بعده بعدة أيام عبر الطريق، وصدمته السيارة التي كانت تتحرك بسرعة مجنونة. كل أعضاؤه الخارجية ظلت سليمة، خسارة أنهم لم يسمحوا لابنة السادسة أن تنظر إليه بعدما مات.

وفي نفس اليوم انهارت العائلة.

عندما كانت ميخال مريضة تحتاج المعونة ولا تتحدث تقريباً، قمت بتعليق صورة ليفي في غرفتها. أصبحت هي امرأة عجوزاً بينما ظل هو شاباً للأبد. كأنما قتل على تل الرصاص (2) وليس على الطريق الرئيسي. بعد موت ميخال لم أجد الصورة، وأشك في شخص ما قد أخذها لنفسه، ولكنني أستطيع دائما العثور على صورة أخرى.

لا أعرف ما المكتوب على شاهد قبر ميخال، وأتمنى أن يكون على الأقل مكتوباً عليه بشكل واضح: "لتكن روحها مربوطة بالحياة الأزلية".

تستحق ميخال أن يكتب عاموس عوز أو ميئير شاليف عنها رواية كاملة ويقومان بتطوير الأمور التي حكيتها عنها بتقشف واختزال، ولكن هذا هو حظها البائس: ألا يكتب عنها أحد غيري، ومن أكون أنا؟ لا أؤمن بأوصاف الطبيعة وتحليل الشخصيات ولا أكتب إلا ما هو أقل من القليل بدون نظام أو تفسير.


_________________________________________________

(1) الكيبوتس هو صورة من الحياة المشتركة رافقت الصهيونية منذ بداية الاستيطان في فلسطين، تقوم على التعاون وفق أسس اشتراكية في قرية عمالية واحدة.

(2) اسم نصب أردني في شمال القدس، وقعت فيه معركة أثناء حرب 67، اليوم يوجد عليه موقع لتخليد ذكرى الجنود الإسرائليين في الحروب.

_______________________________________________________________

ولدت داليا رابيكوفيتش، والتي تعد من أهم رموز الشعر والأدب الإسرائيلي المعاصر، في رامات جن عام 1939، لأب هاجر من الصين وأم تدعى ميخال. تزوجت في سن 24 من الأديب يوسف بر يوسف، وانفصلا بعد ثلاثة أشهر. بعد عامين تزوجت الإعلامي يتسحاك ليفني وانفصلا بعد ثلاث سنوات. عام 1978 ولدت ابنها من المحامي حاييم كلير، والذي عاشت معه 13 عاما، وبعد انفصالها عنه قررت المحكمة أحقية الأب في الاحتفاظ بالابن. حظت قصائدها بتقدير نقدي كبير، كما حازت رابيكوفيتش على جوائز كثيرة منها: جائزة بياليك (1987)، جائزة إسرائيل (1998)، جائزة شلونسكي، وجائزة رئيس الوزراء للأدباء العبريين (2005)، كما حصلت على الدكتوراه الفخرية من جامعة حيفا عام 2000. في 21 أغسطس عام 2005 تم العثور عليها ميتة في شقتها ، استنتجت جميع الصحف أنها قد انتحرت. ولكن الطب الشرعي أثبت عدم العثور على كميات زائدة من الأدوية في جسدها. وأعلن الطبيب عن وجود تضخم في قلبها ماتت بسببه.

بعد حرب لبنان 1982 بدأت رابيكوفيتش في كتابة الشعر السياسي معبرة عن موقفها الرافض للحرب والداعي للسلام، من منطلق إنساني وليس سياسي، كما كتبت قصيدة من وجهة نظر فدائي فلسطيني في طريقه لتنفيذ عملية انتحارية وهو ما أثار ضدها غضبا شديدا في إسرائيل. في يناير 2000 ظهرت على شاشة الـCNN، لتعبر عن رفضها لحكومة باراك التي تستولي على الأراضي الفلسطينية بمنطقة جبل الخليل، وهو الفعل الذي تسبب في هجرة الفلسطينيين من المنطقة، وزارت رابيكوفيتش المنطقة مع وفد من الأدباء والشعراء لتعبر عن تضامنها مع المواطنين الذين يتم إخلاؤهم.

من دواوينها "الحب تفاحة ذهبية" 1959، "شتاء قاس" 1964، "الكتاب الثالث" 1969، "هاوية قارئة" 1976، "أم وطفل" 1992، "مياه كثيرة: أشعار 1995-2005" 2006. ومن مجموعاتها القصصية، "الموت في العائلة" 1976، "جاءت وذهبت" 2005، وقامت بتحرير الكتاب الأخير الأديبة أورلي كاستل بلوم. والقصة المنشورة هنا من المجموعة الأخيرة.


Friday, 17 April 2009

I like burekas in the morning

نفتالي شيمتوف

ترجمة: نائل الطوخي

ولدت بعد ثورة وادي الصليب (1) بكثير. التقى والداي بينما كان الفهود السو (2)ديزلزلون البلاد. كبرت في أزمة حرب يوم الكيبور، وصادقت بخوف جيراناً خرجوا للحرب في لبنان. في الحي الذي كنت أسكن فيه بكفر شاليم كانوا يقومون بالترميمات، كانوا يقومون بتوسعة مساكن حجر الصوان ويقيمون مركز شباب. أُطلق على هذا اسم مشروع ترميم الأحياء. الشباب في الشوارع كانوا يهتفون "بيجن للسلطة، وبيريز يعمل سَلَطة". ظن الجميع أن الليكود في طريقه السليم. التضخم المالي كانت يركض، وتخفيضات الميزانية كانت مرعبة. انتحرت الكيبوتسات سوياً مع البورصة، ضرب المسيح تليفوناً وجاء لزيارة المستوطنات في الأرض المحتلة، وكنت أنا أقفز فقط إلى الصف الدراسي الأول، من حضانة ملكا إلى مدرسة جولومب، 186 طريق اللد.

حدود عالمي تعينت من الحديقة الوطنية في رامات جن وحتى كافيه نوح بجانب حي هاتكفاه. النافذة الوحيدة التي كان يمكن من خلالها النظر إلى الأفق السكني كان التليفزيون الأبيض وأسود. بدا الأطفال في فيلم "لحظة مع دودالي" وفي "كشكشتا" بشكل مختلف، وكانوا يتحدثون بعبرية تشبه عبرية المعلمة براخا في المدرسة. الحي في فيلم "دوبي دوبرمان كلب مخلص" كان معتنى به ومليئا بمساكن النخبة الراقية. فقط في حي حاييم، وهو ليس حياً راقياً ولا فقيراً، لم يكن الأطفال يأكلون الحصى ولا يشربون البنزين، وإنما يلتهمون الكبة العراقية والتي كانت أم يوني تعدها له، بالضبط كما كانت أمي تعدها لي كل ثلاثاء.

في يوم الجمعة كان الجميع يشاهدون الفيلم العربي. قناة واحدة تحكمت في صور حياتنا. أرى الصور ولا أفهم الكلام. باقي عائلتي يقرأون الترجمة العبرية، وأبي هو الوحيد الذي لا يحتاجها. هو يفهم اللغة العربية – المصرية. يدندن الأغاني مع المغني، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، والأعظم، أم كلثوم. "هل تعرف أنها تبرعت بالملايين لناصر بعد حرب الأيام الستة." يقول لي وهو لا يزال يغني معها "غني لي شوية شوية"، وأم كلثوم الشابة تقفز وتغني بين الصخور في خلفية قروية مع صبايا وراعيات غنم. يحكي أبي أنه شاهد هذا الفيلم منذ كان في بغداد. "وجدت ورقة بدينار. ثمن إيجار شهر. اشتريت بلحا، زنقلة، ملبس أبو لوز وبيبسي كولا، ثم دخلت السينما لأشاهد أم كلثوم. آخ يا رب. أي صوت لها. لقد سحرت كل القاعة، حتى بدأوا جميعا في الغناء معها." منذ عشرين عاما لم يزر أبي السينما: "ماذا نفعل، نحن لم نعد شبابا، من العمل للبيت ومن البيت للعمل. الموضوع لم يعد كما كان." ويحكي لي عن فترة عزوبيته: "كانوا يدعونني للغناء في الحفلات في حي هاتكفاه. لم يكن هناك زفاف أو فرح لم أظهر به." أمي تهتم بأن تؤكد: "وكانوا يدفعون له أيضاً". لأبي صوت عذب ونقي وهو يحفظ شفويا جميع الأغاني العربية تقريباً. ذات مرة أجرينا، أنا وأهارون، اختباراً. غيرنا محطات الراديو و مع كل أغنية عربية كان ينضم للمغني أو المغنية ويغني مثلهم بالضبط. أسأله: "لماذا إذن لم تصبح مغنيا؟" ويرد مرتبكا: "أبواي، الله يرحمهما، كانوا يعتقدون أن عملي مغنيا هو عار، وأن أكون في عالم المغنين والفنانين فهذا ليس أكل عيش، هكذا كان كبار السن يفكرون ساعتها.. وهل هذا أكل عيش؟ ينكسر ظهري وأعمل مثل الحمار. كل جسمي مكسر." ينتهى الفيلم وبعد دعاء ليلة السبت فوريا ينزل كل البلوك إلى أسفل لكي يصف ويحلل ويفسر ويشرح ويستمتع باستحضار حبكة الفيلم، فقط ريمونا من الطابق الثاني تصرخ بحماس: "أموت أنا. أي مز هو فؤاد المهندس. أي مز."

هذا ما كان يحدث، حتى يوم تغير فيه كل شيء. زرت أورن جولان، صديق من حضانة ملكا، كان يدرس الآن في فصل ألف ثاني، وفي صالون بيته رأيت تليفزيوناً يعرض الصور بالألوان، مثل أفلام السينما، ليس هذا فقط، وإنما كان له صندوق صغير يحوي أزراراً، بدون أي سلك، يمكنه من إطفاء وتشغيل ورفع الصوت وتغيير اللون والتحويل لقناة أخرى (بالكثير القناة الأردنية). خيال علمي فعلا. جهاز تحكم لاسلكي. اختراع جديد. تليفزيون ملون. كنت مذهولاً من التطور.

قرر أبي شراء تليفزيون كهذا. بالتأكيد هو غال جدا، ولكن ماما تقول: "أن يشتري تليفزيوناً ملوناً أفضل من أن يدور الأولاد في الشوارع." كسر أبي الوديعة التي تم جمعها مليماً بعد مليم لكي يشتري تليفزيوناً ملوناً، وليس أي واحد، ماركة "جرونديج": "الألمان الملعونون لديهم بضاعة جيدة، مية مية، ليس مثل زبالة البلد هنا." ويصر على النوستالجيا: "الخضر والفاكهة هنا في البلد ليست مثل تلك التي كانت في العراق، كان هناك طعم ورائحة عطرية لكل برتقالة أو تفاحة. هنا، كل شيء هو صلصال، صدقني، أنا عملت في الزراعة، في بساتين بجانب معبرة عاكير، في مفترق طرق بيلو"، ولكن التفاح والبرتقال وعناقيد تكون أو لا تكون لخضروات ألبرت (3)كانت ملونة جدا في التليفزيون الجديد.

على مدار أسبوعين كنا نشاهد برامج مختلفة ومتنوعة بالألوان. الجيران والأعمام كانوا يزوروننا بانتظام لمشاهدة الصور المعروفة بألوان جديدة. وأبي، بعد يوم عمل منهك في المصنع، كان يجلس ويشاهد القناة الأردنية، برنامج "أغاني على كيفك" للمشاهدين من جميع أنحاء الشرق الأوسط. كان يفرح عندما يطلب مشاهدون عراقيون أغاني ناظم الغزالي، المغني العراقي الكبير. ولكن ذات صباح، بعد ليلة ملونة من الأغاني والبرامج، سمعنا صفقة كبيرة ومدوية من أبي. انتبه الجميع بفزع. أبي كان يقف في وسط الصالون مذهولا ومنزعجا ويقول: "ر- ا- ح". الأقفال والباب كانت مفتوحة، وعلى البوفيه الصغير ظلت أثار التراب في خطوط مستقيمة. في اليوم التالي أعيد للصالون التليفزيون القديم الذي تم رميه سابقاً في الخزانة، معززاً مكرماً، وعدنا لكي نرى صور حياتنا باللون الأسود، وأحيانا بالأبيض كذلك.

لم أكد أفق من اختراع التليفزيون الملون مع جهاز التحكم البعيد (ومن سرقته من بيتنا)، حتى اشتروا أتاري ليوسي مكابي، صديق أخي أهارون في المدرسة. ما هي الأتاري؟ يشرح أهارون أنهم يلعبون كأنهم في ساحة ألعاب "مايرلند" في بناية كولبو شالوم. يلعبون داخل البيت؟ كيف؟ كيف يمكنني إدخال أجهزة كبيرة لهذه الدرجة مع دركسيون ودواسات سباق السيارات إلى البيت؟ على الترابيزة في الصالون كان هناك جهاز بني صغير، يوضع في داخله شريط. يخرج منه سلكان وفي نهاية كل سلك مسطح بلاستيكي مع يد. "اسمها جويستيك"، هكذا كان يوسي يشرح لي كيفية عمله. على شاشة التليفزيون الملون أرى رأساً صغيراً في متاهة، تأكل وتأكل وتأكل، وتهرب من كل أنواع العفاريت التي يمكنها ابتلاعها، وتسرع إلى مركز المتاهة حيث توجد الجبنة. "باك مان، هذا باك مان!" كان أهارون يشير ويتحمس ويجمع النقاط. بعد هذا كنا نبدل الشريط إلى سباق الدراجات وإلى سفينة الفضاء التي تقصف أي كائن فضائي، حتى تقول أم يوسي له: "كفى اليوم، لقد شبع الباك مان خلاص، وهناك ما يكفي من الكائنات الفضائية للغد..." وأعود أنا مع أهارون إلى البيت.

- "يارب يكون عندنا أتاري أيضا." عبرت عن أمنيتي.

- "لن تشتري لنا ماما أبدا أتاري. إنه غال جدا."

- ولكنني مع كل هذا أريد.

- "ماذا؟ من أين لي المال لشيء كهذا؟ هل تعلمون ثمنه؟ هل قطفت المال من على الشجر؟"

- "بس يا ماما."

- "من غير بسبسة. لو كنتم تعملون كنتم ستقدرون المال.هل تعلمون كم ساعة أعمل في النظافة عند رايخمان المقاول، يلعن أبوه، حتى أستطيع شراء جاكتات الشتاء لكم، ودفع مصاريف المدرسة."

سكتنا.

- "وغير هذا"، تضيف أمي جملتها المعروفة عن اللعب: "أنا لا أشتري غير المشاكل. لا أتاري ولا بطيخ". وكانت تشير إلى السجالات بيني وبين أهارون بخصوص كل لعبة تشتريها.


الثورة الحقيقية حدثت بعد هذا: الفيديو. حتى ذلك الوقت كان التليفزيون الرسمي يسيطر بيد قوية من القدس على كل صورنا وأصواتنا الجمعية. الفيديو، جهاز يشبه الكاست، ولكنه أكبر وله شرائط أكبر. هذا التطور مكننا من مشاهدة الأفلام وتسجيل البرامج من التليفزيون، وليس فقط الاستماع إليها. لم نصبح ملزمين بانتظار إعادة البث. ولكن عندئذ بدأت تلك الكلمة الساحرة تتردد: تسجيل [كاليتيت]، كأن كلمة كاست (4) لم تعد خلاص على الموضة. الكاست يوجد فقط في المحطة المركزية، هناك يتم غناء موسيقى الكاستات، ولكن منذ اختراع الفيديو أصبح عندنا تسجيل، تسجيل يسجل تسجيلاً واضحاً وخاصاً. وباختصار، هناك من تظل حياته مرتبطة بشريط كاسيت يزن، وهناك من تمتد حياته بالألوان على الشريط المغناطيسي لشريط الفيديو.

في زفاف العمة ليئا بكافيه نوح بجانب حي هاتكفاه، تعثرت بالفيديو للمرة الأولى. أقيم هذا الحفل في حديقة مناسبات، حتى من قبل أن يفكر الناس في إمكانية إقامة الزفاف في الحديقة وليس فقط في القاعات المبهرجة لشارع هامسجير ("قاعات شقائق النعمان"، "قاعات السوسن"، و"قاعات الرؤساء"). في الزفاف، بالإضافة لمصور الصور المعروف بفلاشه المؤلم للعيون، كان هناك مصور آخر معه كاميرا فيديو وشاشة صغيرة. في كل مرة نعبر فيها بجانب الكاميرا كان يمكننا رؤية أنفسنا أيضاً في التليفزيون الصغير. أنا وأهارون وأبناء أعمامنا بدأنا "في الظهور": نعمل باي باي، نغير من ملامحنا، وبشكل خاص ننمي لدينا قدرات ومواهب "اللعب أمام الكاميرا". بعد حفل الزفاف بعدة أيام، عندما شاهدت عمتي ليئا، العروس الجديدة، فيلم الفيديو لم تحب بالتحديد المحاولات الفنية لأبناء أخيها. ولكن بلا شك، فقد كانت هذه خبرة مؤسسة لنا، وبشكل خاص لأخي هارون الذي أصبح فيما بعد مخرجاً سينمائياً.

زهافاه بوكعي، جارتنا التي تسكن أمامنا، اشترت جهاز فيديو ودعتنا جميعاً لمشاهدة فيلم. أطفأنا النور في الصالون كي نتمكن من المشاهدة جيداً. "تشارلي ونصف" يندفع من الشاشة في لباس غريب. في الفيلم هناك رجال يلبسون بنطلونات واسعة من أسفل، وثياباً ملونة، ولكنهم مضحكون جداً.

- ساسون، مع من أنت مشغول على الصبح.

- من مشغول؟ هذا ميكو

- ما الذي تريده هذه الدودة؟

- تبحث عن صنارة

- لا تعطي لها شيئا.. ألف مرة أخذوا حاجات ولم يعيدوها

- من الذي يعطيهم، هل أنا خزينة دان الاقتصادي


ميكو، هذا الولد الصغير اللعين، نصف شارلي، يتحدث بلكنة مغربية ثقيلة. كان هذا غريباً جداً بالنسبة لي، لأن الرجال الكبار فقط مثل تسيون هاروش في الطابق الثالث هم من يتحدثون هكذا. على أي حال، نهاية الفيلم كانت مثيرة جداً. انقلب تشارلي مع سيارة ساسون. وجيلا، حبيبته، وصلت بسرعة لمستشفى هاشارون. دخلت القسم في نفس اللحظة التي يخرجون فيها الجثة المغطاة بملائة من الغرفة. يتوجه الطبيب إلى جيلا قائلا: "جئت له؟ الوقت متأخر." وتنفجر جيلا في البكاء. ننظر إلى الشاشة مصدومين من هذه النهاية التي تمزق القلب. ولكن زهافاه تبتسم وتقول لماما: "لا أريد أن أخبركم بالنهاية". تنزل جيلا على السلالم وهي تبكي بهيستريا، وفجأة تسمع أصوات ضحك. تقترب من إحدى الغرف وترى تشارلي (وقام بدوره يهودا بركان) يلعب الكوتشينة مع جرحى آخرين. في النهاية يصبح كل شيء جيداً. الإشكنازية الغنية، الطفلة الجيدة، القيصرية، تتوحد مع الشرقي الفقير الوصولي الهيجان ابن الشرموطة.

ليس هذا هو الفيلم الإسرائيلي الوحيد الذي ينتهى بالزفاف بين شرقيين وإشكنازيم. كانت هناك سلسلة الأفلام تلك التي رأيناها عند الجيران. في فيلم "كازابلان" يعطي هورام جاؤون بوكسا لجولاش المجري ويتزوج براحيل الإشكنازية: "لأن كلنا يهود، من نفس الجدة، من الجزائر وكفر سابا وحتى من بولندا"، لسنا مجرد يهود وإنما "مئة في المئة كذلك أطفال الشوارع وأعداء العرب". في فيلم "كاتس وكارسو" والذي قام ببطولته رودنسكي ويوسف شيلوح، يبدو الكثيرون كالمجانين إزاء بوليصات التأمين، وأبناء كارسو اليونانيون يستمتعون بالحياة مع البنات البولنديات لكاتس. جابي عمراني يجعل الجميع يرقدون من الضحك في عائلة تسنعاني ويبحث عن خاتم زواج امرأته في كاكّا شمشون الرضيع. وبرغم أنه في نهاية الفيلم تظهر جملة "يُتبع"، فللأسف الشديد لم يتم أبدا عرض تسنعاني 2. لم أعرف في الحي تقريبا أطفالاً لأباء إشكنازيين، وبالتأكيد فلم ألتق بخلطة بين الشرقيين والإشكناز مثل التي قابلتها في الأفلام. وإذا كان لشخص ما في الفصل الذي أدرس به اسم إشكنازي فهذا لأنه يسكن في "بناية الروسيين"، المقامة من أجل المهاجرين الذين جاؤوا الحي في السبعينيات.

ساسون هو شخصية محبوبة بشكل خاص. زئيف ريفاح كان يظهر معه تقريبا في كل فيلم يقوم ببطولته. بدأ بفيلم "تشارلي ونصف" ثم ظهر في "اليوم فقط". ساسون هناك كان هو الخضري في السوق والذي يحب الطالبة "الإشكنازية" (إفرات لافي والتي قامت بدور راحيل في فيلم كازابلان)، ولكن هذه المرة يتحدى ريفاح الحبكة ويفاجئنا. يتضح أن الطالبة ليست إشكنازية وإنما شرقية مثلنا بالضبط– هي ابنة جاك كوهين، التاجر، وهو جاره في سوق محانيه يهودا. الطالبة المتعالية، المتجاهلة، التي لا تزور السوق تقريباً، تحب ساسون، وهو يحبها بالطبع. غريب، هذه المرة يتحد شرقي مع شرقية. قمة تألق ساسون كانت في فيلم "يسرق من لص مرفود" (اللص ذو الخمسة ملامح)، هناك هو لاعب نذل ولص بجانب جاك كوهين. هذا هو الفيلم الأكثر إضحاكاً في كل صناعة السينما الإسرائيلية، وبالتحديد في نوعية أفلام البوركاس (5). مفتش الشرطة اسمه بوعاز دافيدزون (مخرج فيلمي "احتفال سنوكر" و"شارلي ونصف" وكذلك "حظيرة عصابة زاهار وأينشتاين")، وساسون كما هو معروف يتم يدفعه لمنصة الفيلم البطولي "عملية يوناتان" لكي يقوم بدور عيدي أمين (ساسون القادم من أصول شمالية أفريقية يجسد دور شخص أفريقي أصلي)، ويبدأ بالجملة الخالدة: I like burekas in the morning.

بالنسبة لنا كانت تلك أفلاماً إسرائيلية مضحكة وليس أكثر. ليس من ضرورة للقول أنه قبل عصر الفيديو والكابلات، كانت الأفلام الإسرائيلية تبث في التليفزيون الإسرائيلية مرة في السنة – في يوم الاستقلال. لم أسمع هذه الكلمة – بوركاس– وهي اسم هذه النوعية من الأفلام – في الحي أبداً. كذلك ولا عبارة "موسيقى شرائط الكاست" أو موسيقي "المحطة المركزية". بالنسبة لي كان الفيلم الإسرائيلي أو زوهار أرجوف (6) محيطا طبيعيا للغاية. فقط عندما ذهبت للثانوية المتكاملة وتعرفت على تل أبيبيين آخرين قيل لي أن الأفلام الإسرائيلية سيئة، وبشكل خاص أفلام البوركاس، ناهيك عن موسيقى الكاست، والتي تبدو في آذانهم المصقولة كـ"موسيقى أحادية النغمة مع نصوص ضحلة". كانت الذروة عندما عرض علي شخص ما أن نذهب للأكل في مطعم شرقي. لم يخطر أبداً على بالي أن المطاعم في شارع إيتسل بحي هاتكفاه، وبعضها في الجانب الشرقي والآخر في الجانب الغربي من الشارع، يسميها التل أبيبيون "مطاعم شرقية".

في الحقيقة لم أفكر في أن هذه الأفلام الإسرائيلية هي شيء آخر بخلاف كونها كوميديا مضحكة جداً. في سن 17، بالصف الحادي عشر، التقيت في المكتبة البلدية بمركز الشباب بكتاب له غلاف أسود وبسيط عن السينما الإسرائيلية. الكتاب كان يحوي فصلاً كاملا، يتضمن صوراً، عن أفلام البوركاس. إيلا شوحاط، المؤلفة، كانت تكتب بجدية كاملة عن هذه الأفلام المضحكة، كانت تصف مشاهد وتحللها كأنها قصيدة لبياليك أو رواية لعاموس عوز. علمتني شوحاط أن هذه الأفلام موجهة ضدي بالتحديد، وأنها مليئة بالقوالب الجاهزة عن الشرقيين، وتعرض جماعتي بأشكال مثيرة للسخرية. ولكن مع هذا، فالإشكنازيم كذلك يتم عرضهم بوصفهم مقرفين ومتعالين، وفي النهاية يخسرون. الشرقي يتسلل داخلاً، يتزوج بهم، يحتلهم، وتبرز إنسانيته. فهمت بعدها أن هذه الأفلام هي جزء من الحمولة التي بقيت معي. تستفزني، تؤثر في، تغضبني، تجعلني أنفعل. هي جزء من ثقافتي.

ولكن عصر الثورة لم ينته. الآن، بعد التليفزيون الملون، الفيديو والأتاري الذين جعلوننا نتجاهل التليفزيون الرسمي ونقرر لأنفسنا ما نشاهده، جاء دور الكابلات. هذا حدث حتى قبل yes أو hot. الكابلات "غير القانونية" كانت هي الثورة. أطلقوا عليها "كابلات القراصنة"، برغم أنه لم تكن لديهم سفينة، ولا يخت ولا حتى مركب صيد، وإنما جهاز إرسال وكابلات تمتد من مبنى لآخر، من بلوك لآخر، وصولاً إلى مساكن "حديثي الزواج" في نهاية الحي.

دقت إستر جارتنا على الباب: "هل يوجد هنا من يريد وصل كابل بدلا من وضع طبق والتقاط لبنان." لم تفهم أمي عما تتحدث. دخل فجأة شاب الصالون وقال: "مدام، لا تهتمي، كلها ثلاثون شيكل في الشهر وأضبط لكم الأفلام الإسرائيلية، التركية، الهندية، الأمريكية، الأكشن، كل ما ترغبون فيه." والداي لم يدفعا أبداً الأجرة. عندما كانت الكوبونات مستحقة السداد تأتي في البريد كان أبي يمزقها ويقول: "كس أمكم، يخرب بيتكو، تعرضون زبالة وتريدون نقودا على هذا." أما الآن فقد دفعت أمي.

كابلات القراصنة لم تكن فقط تعرض الأفلام الإسرائيلية المعروفة، وإنما أيضاً ميلودرامات تركية وأفلاما هندية مصحوبة بالأغاني والرقصات والمشاهد التي تمزق القلب. ابتسمت أمي بتأثر: "شاهدت كل هذه الأفلام مع أبيكم حتى قبل أن نفكر فيكم.. رأيناها في السينما في يافا، في شارع النبي وفي المحطة المركزية. بكيت أنا وكل صديقاتي وتأثرنا بكل الأفلام التركية، وكنا ندندن جميع الألحان الهندية". أمي كانت تحن معنا إلى صباها. المغنيات الهنديات ورقصهن بين الأشجار والحدائق المخضرة على إيقاع الـ"إيتشي كادانا – إيتشي كادانا". المشاهد الطبيعية الكردية الجبلية في الأفلام التركية كانت تقربني إلى العالم الآخر لأمي، العالم كما ينبغي أن يكون، وليس كما آل بها في شقة بالمساكن، مع أربعة أطفال وزوج عامل أيامه صعبة.

بعد سنتين قبضت الشرطة على سفينة كابلات القراصنة التي كانت راسية طوال هذا الوقت في شقة مساكن مزدحمة. انتهى الاحتفال بالسنوكر. عدنا إلى التليفزيون الرسمي، ولكن لم يمض وقت طويل حتى ظهرت قناة اثنين التجريبية في الهواء، وبعدها ظهرت الكابلات القانونية، الإذاعة المحلية، والإنترنت وغيره. أصبحت الخلفية متعددة القنوات. يمكننا الآن أن نلتقط ليس الأردن فقط، وإنما مصر أيضاً، المغرب والإمارات بوضوح تام (بدون ثلج)، وأدرك أنا أن التليفزيون الملون، ومشاهدة الفيديو واستخدام كابلات القراصنة كانوا حركة احتجاجية ضد سياسة الإشراف الثابت على صور حياتنا. بإصبع مثلث كنا نضغط على أزرار الريموت كنترول ونشكل أنفسنا وثقافتنا.

الآن خلا البيت. كبرت أنا وإخوتي وتركنا الحي، كل واحد إلى طريقه. أحيل أبي إلى التقاعدجرةغطعددة القنوات. يمكننا الآلباء الموسيقى الشرقية في إسرائيل. دن من الموسيقي لتي راجت في إسرائيل، بعد أربعة وأربعين عاماً، "مدتين تأبيدة مع الأشغال الشاقة"، كما كان يعلن محتجاً في أي فرصة. يجلس في الصباح المتأخر أمام التليفزيون، يشرب كوباً من الشاي البني الداكن ويرفرف بين القنوات العربية. الأفلام القديمة، وبشكل خاص المشاهد الأرشيفية من الحفلات الموسيقية، تؤثر فيه كل مرة من جديد. مغنيات يرتدين ملابس سهرة لامعة ومبهرجة وأوركسترا عربية بعازفين يرتدون بذلات داكنة، كل هذا كان يجعل أبي يطير بعيدا عن بيته الخالي، ويعيده إلى عالم شرق أوسطي كان موجوداً ولم يعد. ماضيه وذكرياته ينضفران في صور عن الخلفية ويقومان بإحياء، ولو للحظة، طفولته، حريته، وصوته الذي تم إسكاته.

________________________________________________

نفتالي شيمتوف، ولد عام 1975 لأب من أصول عراقية، وأم من كردستان. يعد رسالة الدكتوراه في قسم المسرح بجامعة تل أبيب عن "مهرجان عكا من أجل مسرح إسرائيلي مختلف". النص مأخوذ من كتاب "أصداء الهوية – الجيل الثالث يكتب باللغة الشرقية"، والذي أعده ماتي شمولوف، نفتالي شيمتوف، ونير برعام، عن تجربة الجيل الثالث من اليهود القادمين من أصول شرقية وإحساسهم بهويتهم وطرق التعبير عنها في دولة إسرائيل.

(1) حي في حيفا، اندلعت فيه في عام 1959 عدة مظاهرات ضد الظلم الذي يتعرض له اليهود الشرقيون

(2) حركة سياسية ظهرت في السبعينيات قادها اليهود الشرقيون للمطالبة بالمساواة بينهم وبينهم الإشكناز – اليهود الغربيين.

(3)"عناقيد عنب تكون أو لا تكون- إشكولوت لهيوت أو لو لهيوت" صيغة إعلان ظهرت في إسرائيل الثمانينيات تدعو لشراء الفواكه الإسرائيلية.

(4) شريط الكاست لا يعني فقط شريط تسجيل الأغاني، وإنما تشير كلمة "الكاست" أيضا إلى "موسيقى الكاستات" التي غناها مغنون شرقيون ولحنها موسيقيون شرقيون في السبعينيات، وأصبحت تشير إلى نوع عد متدنياً وشعبياً من الغناء، يحوي مؤثرات عربية ويونانية وتركية.

(5) سلسلة أفلام كوميدية وشعبية ظهرت في السبعينيات، يقوم اليهود الشرقيون ببطولتها وتعرض أنماطا عن شخصية اليهودي الشرقي.

(6) مغن إسرائيلي، ولد عام 55 وتوفى عام 87، يعده البعض من كبار المغنين الشرقيين في إسرائيل.

Friday, 10 April 2009

اذبحني يا أبي اذبحني

حانوخ لفين

ترجمة: نائل الطوخي

اجتماع الحكومة

رئيسة الوزراء: أنا أفتتح الاجتماع الأسبوعي للحكومة، لتذكيركم بأنني رئيسة الوزراء. في البداية سوف ألقي خطاباً إلى جيراننا العرب. (تخطب) سادتي، حاولت وحاولت ولكنني لم أستطع أن أجد أي عيب في نفسي. لواحد وسبعين عاما أفحص نفسي ولا أجد في نفسي إلا الحق الذي يحفظه الرب. يومياً يفاجئني هذا الأمر من أول وجديد. أنا صح، صح، صح، وصح مرة ثانية. أقول لنفسي: "ليوم واحد لا تكوني صح، فالإنسان هو مجرد إنسان، ويمكنه أن يخطئ مرة،هذا طبيعي، هذا عادي." ولكن لا! أقوم في الصباح وهوبّا، أجد نفسي صح مرة ثانية. وفي اليوم التالي أقوم وهوبّا، أجد نفسي صح. هوبّا، صح، هوبّا، صح. ذات مرة نعست قليلا في الظهيرة، قلت لنفسي: ربما أرتكب حماقة وأنا نعسانة؟ وعندئذ، هل ارتكبت حماقة وأنا نعسانة؟ هل عرفتم من يفعل حماقة وهو نعسان! لم أولد لأرتكب حماقة، ببساطة لم أولد لأرتكب حماقة. بالمناسبة، أنا رئيسة الوزراء وأنتم لا، ولو أنني في مكانكم كنت سأعاني من هذا. شكرا (تجلس).


وزير البريد: هل مسموح لي بإلقاء ملاحظة؟

رئيسة الوزراء: لا، أنت في النهاية وزير البريد، أنت إنسان جانبي ومهمش، وأنت تجلس هنا بفضل منا.

وزير البريد: أعرف. أردت أن أعرف إذا كنت أيضا أستحق السخرية.

رئيسة الوزراء: أكيد.

وزير البريد: شكرا جزيلا.


رئيسة الوزراء: وزير الخارجية سوف يلقي خطابا إلى الأمم المتحدة.

وزير الخارجية: (يقوم) الأمم المتحدة المحترمة، طولبت بأن أعرض أمامكم الخطوط السياسية الرئيسية لحكومة إسرائيل. حكومة إسرائيل قررت أن قرار مجلس الأمن لنوفمبر عام 67 ليس..

(رئيسة الوزراء تمد يدها بين رجليه وتمسكه من بيضانه، يخرس تماما، تتركه ويواصل)

قررت حكومة إسرائيل أن موضوع الأراضي المحتلة..

(يحدث المذكور أعلاه)

قررت حكومة إسرائيل أن مصير اللاجئين العرب هو..

(يحدث المذكور أعلاه، ولكنها تتركه فوريا. يحاول أن يخدعها وينهي جملته)

مصير اللاجئين العرب هو مشكلة إنسانية يمكن..

(يحدث المذكور أعلاه)

يمكن بالتأكيد..

(يد رئيسة الوزراء تندفع بين رجليه إلى الأمام، توقف كلامه بحركة إصبع مهددة)

لم يبق لي إلا إنهاء كلماتي بتعبير أوكسفورد

(وزير الخارجية ينظر باتجاه منطقة الأحداث بين رجليه)

لونج لايف ذي كينج (يجلس)


رئيسة الوزراء: شكرا. والآن وزير البريد.

(وزير البريد محرج)

وزير البريد!

الجميع: (بتصفيق جمعي) وا-زير البا-ريد! وا-زير البا-ريد!

وزير البريد: (يقفز من مكانه) ألو؟ ألو؟؟ وزير البريد يتحدث! ما أصغره. أحمر ويقف أحيانا؟ البريد الآلي. (يضحك بخفوت) رقم كم أنا – كوكو خالص. ألو؟ ألو؟ وزير البريد يتحدث.


رئيسة الوزراء: وزير النقل سوف يلقي خطاباً على شعوب العالم.

وزير النقل: (يقوم) سادتي، أريد في البداية أن أقول كلمة واحدة لشعوب العالم.

من هم شعوب

العالم؟ ما هو العالم (ينفخ بفمه، يحرك يديه باستخفاف، وبدون انتباه يثبت

على هذا الحال ويواصل التعبير بقوة متزايدة عن قرفه، باستخدام حركات وأصوات

فظة، يصل

إلى ذروته ويجلس)

رئيسة الوزراء: شكرا جزيلا لك

يا وزير النقل، ولكنك لم تقل بعد كل شيء (يقوم. ينفخ بفمه عدة مرات

أخرى ويجلس)


رئيسة الوزراء: شكراً جزيلاً. وزير الأمن، والذي قفز منذ فترة بسيطة من الهليكوبتر، حيث كان في مهامه الأمنية، سوف يلخص اجتماع الحكومة في خطاب إلى الشعب

وزير الأمن: (يغني أغنية "الوعد")

أعدكم بالدم والدموع

وكلمتي واحدة.

وإذا وعدتكم بالدم والدموع

يعلم الجميع أن ما سيحدث هو الدم والدموع

وأن أحداً لم يتحدث عن العرق.


بعد قليل سوف تسوء أحوالكم جداً

وكلمتي واحدة.

وإذا قلت لكم أن أحوالكم ستسوء جداً

إذن عليكم أن تثقوا في أنها ستسوء جداً.

بل وربما أسوأ جداً جداً.


بدون أي بصيص أمل ستواصلون حياتكم

وكلمتي واحدة.

وإذا قلت لكم أنكم ستواصلون حياتكم،

إذا فستواصلون في الحقيقة حياتكم

ولكن بدون أن تسألوا من أجل ماذا.

__________________________________________________________


التضحية

أبراهام: إسحق يا ابني، هل تعرف ما الذي سأفعله بك الآن؟

إسحق: نعم، يا أبي، أنت ستذبحني.

أبراهام: الله أمرني.

إسحق: ليس لدي ما اتهمك به يا أبي، إذا كان عليك أن تذبح، فاذبح.

أبراهام: يجب أن أذبح، أخشى أنه ليس لدي خيار.

إسحق: أنا أفهم، لا يجب أن تقسو على نفسك، قم ببساطة وارفع السكين عليّ.

أبراهام: سأفعل هذا بوصفي رسولا من الله.

إسحق: بالتأكيد أنت رسول، يا أبي. قم بصفتك رسولا وارفع السكين بوصفك رسولا على ابنك وحيدك الذي تحبه.

أبراهام، جيد جدا، يا إسحق، نكد على أبيك المسكين، اقلب مزاجي، كأن هذا لا يكفيني.

إسحق: من الذي ينكد يا أبي؟ قم بهدوء وصفي بحركة إلهية واحدة ابنك التعس.

أبراهام: أعرف، سهل جدا أن تتهمني، ليس هناك شيء، ليس هناك شيء، الق بالاتهامات على أبيك القاسي.

إسحق: ما الذي أتى بسيرة الاتهامات، أنت رسول من الله، أليس كذلك؟ وعندما يقول لك الله أن تذبح ابنك مثل الكلب فعليك أن تجري وتذبحه.

أبراهام: رائع، رائع، هذا هو ما أستحقه في سني. ألق عليّ كل الاتهامات إذا كان هذا سيريحك، ألقها عليّ، على أبيك الشيخ والكسير المضطر في سنه هذا أن يصعد بك إلى الجبل، وأن يقربك على المذبح، وأن يذبحك، وبعد كل هذا أن يحكي كل شيء لأمك. هل تعتقد أنه ليس لدي ما أفعله في سني هذا؟

إسحق: أنا أفهمك ببساطة، يا أبي، أنا لا أشكو في الحقيقة، يأمرونك أن تذبحني، أن تقطع نسلك بيديك، وأن تغسل يديك بالدم، أنا مستعد، من فضلك، اذبحني يا أبي، اذبحني.

أبراهام: هكذا، يا ابني العزيز، تلعب بمشاعر بابا والذي بعد قليل سيصبح أب بلا أبناء. اكسر، اكسر قلبي، يا ابني يا متعلم يا من تحترم والديك، انظر لي بعينيك الواسعتين، يا ابني الحبيب، وابتر العام أو العامين الأخيرين اللذين تبقيا لأبيك العجوز من الحياة بعدك.

إسحق: أنا لا أفهمك يا أبي، أنت ترى أن كل شيء على ما يرام من جانبي، إذا كنت مستعدا لأن تقتلني بدم بارد، أن تقتل ابن شيخوختك، ابن بهجتك الذي أتاك وأنت في سن التسعين بمعجزة، أن تقتل العزاء الوحيد لك في الحياة، إذا كنت مستعداً لهذا فهل سأكون أنا من يقول لك لا؟ يأمرونك بأن تذبح، يا أبي، إذن اقفز على ساقيك واذبح، ولا يكن لديك أي آلام ضمير والعياذ بالله. لأنه ما الذي حدث في نهاية الأمر هنا؟ تذبح طفلا. هل هو أمر عظيم أن تذبح طفلا صغيرا وضعيفاً؟ وما يعني أن تذبح طفلا؟ وماذا يعني الطفل أساساً؟ وبشكل خاص عندما يكون من يذبحه هو أبوه، ويكون جزارا معتمداً وبالإضافة لهذا فهو مجرد رسول؟ اذهب واغرز نصل السكين في لحمي الصغير، يا بابا، و اذبح حنجرتي حتى ينفجر الدم ويندفع خارجاً على الأرض مثل دم بقرة. اجعلني بقرة يا بابا، وعندما تنفتح عيناي على اتساعهما، ويخرجان من محجريهما ويزرق لساني ويتدلى خارجاً مع صرخاتي المهشمة الأخيرة، فعندئذ يا بابا، أحط السكين برقبتي وأنا، الذي من لحمك ودمك، أتمزق برجلي على المذبح وأنتفض انتفاضة الاحتضار الأخيرة. طيب، يا بابا، يأمرونك بأن تذبح، اذبح.

أبراهام: نعم نعم، هكذا هو الأمر، ما الذي يمكنني فعله، ولدت لأكون ضحية. أنا ضحية. ما المقابل الذي تتلقاه بعد العمر والروح التي تمنحها لأبنائك؟ بصقة على الوجه. لماذا لا تلعب بضميري إذا أمكن؟ لماذا لا ترميني في هاوية الحزن عندما أحاول أنا في النهاية أن أنفذ أوامر السماء؟ لماذا لا؟ شخص عجوز، واهن، رجله في القبر. عندئذ ربما، يا إسحاقي، يا ابني المخلص، ربما تقوم فجأة من المذبح وتهرب؟ ربما تسمح لي بالركض وراءك بركبتي الواهنتين؟ أو ربما تخطف مني السكين أيضا، هه؟ لماذا لا؟ ربما تمسك أنت السكين وتذبحني؟ اذبح، اذبح أباك الضعيف، هذا ما أستحقه بالضبط.

إسحق: اذبح أنت، يا بابا، يا رحيم وحنون، اذبحني يا بابا، يا قديس.

أبراهام: اقتل أباك، يا لص، اقتله.

إسحق: اذبح، يا بابا، يا مثالي، يا بابا، يا ذا القلب اليهودي الحار، اذبح!

أبراهام: ادفن أباك الوحيد يا حقير.

إسحق، اقطع، يا بابا، اقطع وأجلب اللحم لماما.

أبراهام: يا قاتل. (يمسك إسحق من حنجرته) ارقد!

إسحق: صوت! صوت! أسمع صوتاً!

أبراهام: أي صوت؟ ارقد!

إسحق: لا أعرف. الصوت يقول "لا تمد يدك على الصبي."

أبراهام: لم أسمع شيئاً.

إسحق: منذ فترة طويلة لم تعد تسمع جيداً. الصوت يتكرر ثانية "لا تمد يدك على الصبي"، ألم تسمع؟

أبراهام: لا.

إسحق: أقسم لك.. "لا تمد يدك على الصبي."

(صمت. يتركه أبراهام)

إسحق: أبي، أقسم لك أنني سمعت صوتاً من السماء.

أبراهام: (بعد فترة ما) طيب. إذا كنت سمعت، فبالتأكيد أنت سمعت. أنا، كما قلت، أصم تقريباً.

إسحق: مئة في المئة، أنت تعرف أنني من جانبي كنت مستعدا، ولكن الصوت هو صوت. (صمت). أنت رأيت بنفسك أنني من جانبي كان الأمر على ما يرام. (صمت) بالنسبة لكلينا كان الأمر على ما يرام. (صمت) من جانبنا كان الأمر على ما يرام، أليس كذلك يا أبي (صمت)، كل شيء انتهى بشكل جيد، يا أبي، لماذا أنت حزين؟

أبراهام: أفكر فيما سيحدث مع الآباء الآخرين الذين سيضطرون لذبح أبنائهم، من سينقذهم؟

إسحق: يمكن للصوت دائما أن يأتي من السماء.

أبراهام: (بتسليم) طيب، كما تقول.

_________________________________________

حانوخ لفين من أعلام المسرح والأدب الإسرائيلي. ولد عام 1943 لأبوين من أصول بولندية وتوفى عام 1999. نشر قصيدته الأولى عام 1967 باسم "بركات الفجر". اهتم بالمسرح السياسي الساخر، فقدم عام 1968 مسرحية "أنا وأنت والحرب القادمة"، وفي عام 69 قدم "كاتشب"، وفي كلا العملين عارض الطابع العسكري لدولة إسرائيل وسخر من عجز ولامبالاة السياسيين، مما أثار ضده النقاد، وبعد تقديم عمله الثالث "ملكة الكبانيه"، على المسرح الكامري في أبريل 1970 ، ثار الرأي العام الإسرائيلي ضده بدرجة غير مسبوقة: تظاهر المشاهدون وقاموا بأعمال شغب ضد عرض المسرحية في المسرح الكامري، وهو مسرح تابع للدولة، وطالب حزب المفدال بمنع العرض الذي يدنس شرف العهد القديم، وهددت الحكومة بوقف الدعم المقدم إلى المسرح. تعرض لفين كذلك لانتقادات شديدة فيما يخص عرضه "عدة حوارات متخلفة وأغان تهدف لصب الملح على الجروح المفتوحة"، حيث قال عنها الصحفي أوري بورات: "يبدو من هذه المسرحية الزبالة أننا جميعا قتلة حقراء، مواطنون في دولة عسكرية متعطشة للدماء"، أما رئوفين يناي فقد قال عنها: "هناك مشهد عن صحفي يذهب لإجراء حوار مع أرملة شابة سقط زوجها في القناة، ويمارس معها الحب ببهجة – فقط عقل شيطاني أو مريض نفسي يمكنه كتابة مشهد كهذا... إنها سخرية خبيثة من آلاف الأباء الثكلى."

المشهدان المترجمان هنا مأخوذان من مسرحية "ملكة الكبانيه". مشهد "التضحية" سبق ترجمته ونشره في العدد الرابع عشر من مجلة الغاوون اللبنانية تحت عنوان "اذبحني يا أبي اذبحني"