Friday, 28 August 2009

في ذلك الزمان لم يكن أحد يموت

باني وجفريئيل

نافا سيمل

ترجمة: نائل الطوخي


جدي ترك جدتي. في هذا الزمن تم اعتبارها فضيحة، سرا كانوا يتهامسون به في الغرف المغلقة، سرا لا يجب أن يصل والعياذ بالله إلى آذان الأطفال. الطلاق بالطبع كان أمرا لا ينطق به أحد، مثل الموت بالضبط. في هذا الزمن لم يكن الناس يطلقون أو يموتون.

ليس فقط أن جدي ترك جدتي، وإنما ترك أيضا أبي الذي كان عندئذ رضيعا يبلغ ستة أشهر – تركه وهاجر لأمريكا. حدث هذا في 1919 عندما كانت البلدات اليهودية الصغيرة في أوروبا تغرقها الشائعة التي تقول أنه في نيويورك ثمة أرصفة مذهبة وكانوا يطلقون على أمريكا بلغة الييديش: "جولدنع مدينع". (دولة الذهب).

وعد جدي بأنه سيرسل تذاكر عندما ينصلح الحال. وانصلح الحال مع جدي، ولكنه لم يرسل التذاكر أبدا. في استمارات تسلمتها من متحف أليس آيلنز بنيويورك، يعلن جفريئيل هرتسيج أنه ترك زوجة في أوروبا، ولكن يتسحاك يخفي أمر الرضيع. هل خاف من سلطات الهجرة، أم أنه تناسى حقيقة أنه أهمل ابنه وحيده؟

سنوياً، في يوم ميلاده، كان أبي يتلقي إشارة الحياة من نيوريورك على هيئة فاتورة تتضمن دولارا أخضر في مظروف. عندما كان أصدقاؤه يكايدونه في بلدة سيرت الصغيرة ببوكوفينا –رومانيا بسبب غياب والده، كان يفكر في نفسه أن الأب الميت قد يكون أفضل من الأب الغائب – الحي. سوف يقول لي عندما أكبر "فضلت أن أكون يتيماً"، وهي الجملة التي لسعت قلبي.

لست متأكدة أن جدتي باني فضلت أن تكون أرملة، ولكنها ظلت حزينة. لم يكن مزعجا لجدي جفريئيل هذا أن يقيم حياة زوجية بطريقة متطورة مع امرأة أخرى اسمها كلارا مندل، وهي مهاجرة مثله. عاش الاثنان في شقتين منفصلتين في لوار إيست سايد، كلارا في شارع كلينتون وجدي في شارع نورفوليك.

هل كانت هذه التسوية العصرية مريحة بالنسبة لها أم أنها قد فرضت عليها فرضا؟ لا أعرف. سواء هذا أم ذاك، فقد عاشا على طريقة وودي آلان ومايا بارو لثلاثين عاما وأكثر. كل صباح يأتي إليها جدي ليشرب القهوة ثم يذهب للعمل في البورصة بنيويورك. صحيح أنه لم يقطف الذهب من على الأرصفة، ولكنه أصبح متخصصا في الأسهم التي مثلت في عينيه خلاصة العالم الجديد والمؤثر.

جدتي المهجورة، في مقابله، لم تعرف أبدا رجلا آخر، بالمفهوم التوراتي*، وبالمفهوم الواقعي أيضاً. الرجل الوحيد في عالمها كان أبي الذي سارت وراءه في كل مكان. لقد نجح في إنقاذها من إرساليات الموت إلى ترنسمينستريا وتحويلها إلى صهيونية رغما عنها، على النقيض المطلق من زوجها الذي لم تكن أرض إسرائيل بالنسبة له أبدا اختيارا، والدعاء اليهودي "العام القادم في القدس" لم يكن إلا مجرد كلام فحسب.

قد تكون جدتي قد تمسكت بأبي لهذا الحد لأنها رأت فيه العريس الوسيم والمثير الذي انتظرته بإخلاص لأربع سنوات عندما كان يخدم كجندي في الحرب العالمية الأولى. "ليس بمقدور المياه الكثيرة إطفاء نار الحب"، هذا ما قيل في نشيد الأنشاد، وحتى المحيط الأطلنطي لم يستطع إطفاء نار حب جدتي.

لو كنت في مكانها، كنت لأحارب وأتمرد، وبالتأكيد كنت سأثور على الحبيب الأول الذي وقع في كي أرمم، ولو قليلا، الأنا المجروحة، ولكن في ذاك الزمن، فالنساء كن يتلقين مصيرهن بخنوع، كأنه قدر. كيف بررت جدتي وضعها العائلي، لا أستطيع تخيل هذا إلا في الكتب التي أكتبها.

في 1946، بعد الهولوكست، أجرت صحيفة يهودية أمريكية حواراً مع أبي بوصفه نشطاً صهيونياً شاباً في مؤتمر "الشباب الصهيونيين" بباريس. في صباح نيويوركي آخر، مع فنجان قهوته، فتح جدي بهدوء الجريدة، وفجأة ميز صورة أبي في التقرير. هكذا اكتشف أن ابنه الوحيد حي يرزق. وربما لأن ضميره عذبه، لكونه لم يفعل ما فيه الكفاية لإنقاذهم من فظائع الاحتلال النازي، فلقد اتصل بالجريدة وطلب منهم طرف الخيط. لا أتخيل أبدا احتمال أن تكون كلارا العاقر هي من دفعته للبحث عن ابنه.

بعد هذا بثلاث سنوات التأمت العائلة في حفل طهور أخي الكبير شلومو في كيبوتس بوادي يزرعئيل. وصل جدي البلد للتعرف على حفيده الأكبر وعلى ابنه- اثنان بسعر واحد. رفضت جدتي استقباله بمطار حيفا، ربما خافت أن يضعف الغطاء الهش الذي غطى على مشاعرها العميقة.

لم أنجح في تخمين ما حدث في اللقاء الأول بين جديّ على انفراد، باستثناء حقيقة أن كلا من جفريئيل الذي نزل من على سطح السفينة، ويتسحاك الواقف أمامه على الرصيف، قد وضعا في صدر سترتيهما شارة فيه اسماهما حتى يتعرف الواحد منهما على لآخر – توافق عرضي كامل. عندما عرفت القصة كاملة لم يكن جفريئيل وباني من بين الأحياء، ولو كنت قد حظيت بفرصة للسؤال، أشك أنهما كانا سيعترفان، من كان يمكنه الكشف عن مشاعره في هذا الزمن؟

سواء هذا أم ذاك، في صورة ابيض وأسود وحيدة تبقت من تلك الزيارة، بدا واضحا في حفل طهور أخي عندما كان يضرب بمعول أرض إسرائيل الصلبة وجدتي تنظر له نظرة جانبية وكئيبة. بعد ثلاثين سنة من هجرها أرسل لها أخيرا ورقة طلاقها وأحلها من عزلتها. الآن أصبحت متاحة لكل الناس. ظاهريا، فلقد انتهت قصة الحب القديمة هذه.

حتى تجاه دولة إسرائيل الشابة لم يشعر جدي بحب كبير. لقد بدت له مكانا بعيدا وليست له فرصة في الشرق الأوسط، محاطا بجيران معادين ومشبعين بالعنف. واحتقر الكيبوتس باعتباره "قلعة الشيوعية"، أما الصهيونية فلقد رآها وكأنها مغامرة حمقاء مجنونة. وقدم لأبي إنذارا أخيراً: "إما أن تسافروا معي لأمريكا، أو سأترككم أنا مجدداً."

رفض أبي بالطبع. صحيح أنه في إسرائيل لم تكن هناك أرصفة مذهبة وهي لم تكن أرضا تفيض باللبن والعسل، ولكنها كانت المكان الوحيد له ولأمي من أيام النجاة من أوشفيتز. من وجهة نظرهما فأية بلد أخرى مضمونة لم تخطر على بالهما. بعد هذا فورياً قام أبي بتحويل اسم عائلته من "هرتسيج" إلى الاسم العبري "أرتسي"، وهكذا انشقت الهوية العائلية بالشكل الأكثر حدة ووضوحا.

بعد الطلاق بعشر سنوات والمغادرة الثانية، عاد جدي مجددا وبشكل مفاجئ لحياتنا. كلارا مندل، أو كما كانت تسمى حينها "قريبتنا بين الجمهور"، أرسلت خطابا يحوي البشارة الحزينة – جدي يتجه نحو العمى. هي من جانبها، لم تنو الاهتمام به. بعد كل شيء، حتى وهو رجل خال أخيرا، لم يجهد نفسه في لبس الدبلة حول إصبعه. الآن يصبح هو الرجل الذي تتركه النساء. هناك من سيقولون إنها "العدالة الشعرية."

كنت ابلغ خمس سنوات عندما سافر أبي لنيويورك. انتقل للسكنى بشقة جدي في شارع نورفولك، ولكونه قد أصبح رجلا ناضجا ورب أسرة فلقد تعرف بنفسه لأول مرة من قريب على أبيه الذي هجره. الحميمية المفروضة كانت متأخرة للغاية، وظل الاثنان غريبين، أما مع كلارا – والتي كانت لا تزال بشارع كلينتون – فلقد خلق أبي علاقة حميمة. ربما يكون قد تعاطف سرا مع قرار الإنسانة المحبة بأن تكافئ المتهرب المتسلسل بما يستحقه.

خطابات أبي كانت تعبر المحيط يومياً. بعد موته قرأتها، والوعد اليائس في نهاية كل خطاب "يا أولادي الأحباب، سأعود"، يشهد على مدى تملك حمى المغادرة منه. كابوسه، وهذا ما سيخبرني به عندما أكبر، أن يُنظر إليه كأب يهجر أطفاله.


بعد ستة أشهر من الغياب عاد أبي إلينا مع جد غريب في بذلة أنيقة وربطة عنق من الحرير لم نر مثلها في مكاننا، ومع سيارة بليموث أصبحت عندئذ حديث المدينة. في كتاب "جرشونا أخرى" الذي نشرته قبل عقدين، كتبت: "وأنا لا أعرف أنه كان لي جد أصلاً."

الآن انضفرت قصة الحب القديمة في حياتنا وخلقت مشاكل جديدة غير قليلة. لأن جدي وجدتي كانا منفصلين وكان ممنوعا عليهما العيش معا وفق اليهودية، فلقد كنت أنام عند قدمي العجوز الأمريكي الكئيب على سرير مطوي في الصالون، أما أخي الأخبر فكان يقتسم الشرفة الصغيرة مع جدتي. الجروح الصغيرة أشعلت البيت. داخلي تتردد كلمات لاذعة قيلت بالييدشية، لحظات صمت تغلق الشفاه وسحب أزمات في الغرف المزدحمة حد الاختناق. لم يقل لي أحد شيئا عن هذا. الأمر كما قلت، الطلاق هو سر ينبغي إخفاؤه عن الأطفال، مثل الموت.

بسرعة، ظهر حل مبدع للتصرفات غير المحتملة في البيت. عرض جدي الزواج على جدتي وهي، برغم المفاجأة، وافقت. جدي الآخر هو من دبر المؤامرة لأنه رثى لحال ابنته – أمي، المطحونة في محور الضغط العائلي. أغلق الصفقة مسبقا بين الجانبين، كسمسار موهوب.

لماذا وافقت جدتي على الزواج من جدي مرة ثانية؟ هل كانت هذه لحظة مجيدة من النصر والتكفير عن الإذلال الذي تحملته طول حياتها، تجسيد متأخر للحب الذي كانت حبيسة فيه طوال هذه السنوات الطويلة، أم أن هذا كان المصير الساخر الذي أعطته لها حياة جديدة تبدلت فيها الحقائق، حيث مُنحت أخيراً حق السيطرة على رجلها – أعمى، عجوزاً ومستسلماً. كانت باني تعرف أن جفريئيل لن يتركها مرة ثانية أبداً.

حفل الزواج المتواضع أقيم في مكاتب الحاخامية بتل أبيب. الأحفاد – أنا وأخي – لم نكن بين المدعوين. لم يكن هناك فستان زفاف ولا حتى مصور يقوم بتخليد الموقف، ولكن "الزوجين الشابين" كانا مستحقين وفق القوانين الإسرائيلية لشقة بسعر رخيص وانتقلا للإقامة في حينا. فقط ظلت السيارة البليموث اللامعة تركن بشكل ثابت أسفل بيتنا، لأن جدي، الذي حل عليه الظلام الدامس، لم يعد يستطيع القيادة.

ظاهريا، نهاية سعيدة.


في الصورة الاحتفالية التي بقيت في الألبوم تحدق جدتي في الفراغ وشفتاها مزمومتان، يداها معقودتان على صدرها، وليس هناك أي اتصال بينها وبين الرجل أشيب الشعر الذي غادرها قبل أربعة عقود وعاد فجأة لحياتها.

الطفلة التي تضحك والتي وقفت حاجزا بينهما كانت أنا.

الفصل الثاني من الحياة الزوجية لباني وجفريئيل لم يقل سوءا عن الأول. كان الزوج مهموما ومتذمراً، وكان يحتقر إسرائيل، ويلعن العمى الذي أصيب به، ويقضي أيامه ملتصقا بإذاعة "صوت أمريكا" وكانت تصدر من جهاز الراديو الذي حصل عليه بفضل كونه مهاجرا جديداً. لم يكن يتوقف عن تأنيب العروس بييدشية غاضبة مخلوطة بالإنجليزية، أما جدتي فكانت تتلقى إهاناته بهدوء رواقي ولم تتوقف عن شرح تعلقه بها. صحيح أن أبي كان يعامله بدرجة الاحترام الواجبة وكان يقرأ عليه كل ليلة أبواب الأسهم في بورصات نيويورك، ولكنه لم يشعر بالحب أبدا تجاهه.

"هل غفرت له؟" هكذا تساءلت عندما كبرت، وأنا أضرب تعظيم سلام لنبل أبي الذي لم يرد على هجر أبيه له، الهجر الذي كان أمرا مفهوماً حتى بين اليهود الرحماء. احتضنته بقوة عندما احمر وجهه كطفل وقال بارتباك: "الدم ليس ماء" –وهي مقولة خالدة في اللغة الييدشية التي كانت تربكني في شبابي.

كانت هناك حلقة أخيرة في مسلسل الصابون العائلي هذا. بعد ثلاث سنوات من الحفل المتواضع بالحاخامية هبطت كلارا مندل علينا من كوكب نيويورك. قالوا لي ولأخي أنها "عمتنا من أمريكا". المرأة القصيرة والضحوك التي كانت ترتدي ملابس مبهرجة وكانت شفتاها مطليتين بالأحمر الوهاج، أحضرت هدايا جعلت منا حديث المدينة – عروسة ترتدي فستان كرينولينا وجيبة مع يافطة بعيدة. كنا موضع حسد كل أطفال حي العمال التل أبيبي.

تملصت من القبلات اللزجة لكلارا، مثلما تملصت من مظاهر الحب العلني التي تضمنتها كلمات "سويتي" و"دارلينج" بصوت عال. ومثل جدتي، فلقد حافظت كلارا أيضاً حافظت على إخلاصها فقط لرجل واحد، وربما كنا نحن بديلا عن الأحفاد الذين لم يولدوا لها أبدا.

في زيارتها تمت استضافة الضيفة في بيت الإكس الأسطوري الخاص بها وبطليقته – والتي أضحت زوجته الآن.

لمزيد الدهشة، فجدتي وكلارا قد انصلح حالهما بشكل ممتاز وأصبح التواؤم بينهما كاملاً. أصبحت الاثنتان يدا واحدة ضد الرجل الذي تلاعب بمشاعرهما والآن أضحى عقابه أضعافا مضاعفة. لا أستطيع اكتشاف ما همستا به من وراء ظهره، إلا في الكتب. أنا محظوظة لأن هذا الكم من الحب المصارع يكفيني للكثير والكثير من المواد.

في "إيسرائيل" التي استعدت بها مدن الملجأ المقامة لليهود في 1852 في جزيرة جراند آيلاند بنهر النيجر، لم أتمكن من إثارة السجال مع شبح جدي وإثبات له أن إسرائيل هي المكان الوحيد لنا، وأنه ليست لدينا أية أرض بديلة.

لقد وجد راحته الأخيرة هناك، لا بأمريكا.

نعم، أيضا عن الموت صرت أعرف، برغم أن أحدا لم يحدثني عنه عندما كنت طفلة.

أما في "زفاف أسترالي" فلقد تردد صدى جين الترحال الموجود لدى جدي في ابني البكر. كان يبحث عن أرض آمنة في مكان بعيد جدا على الكرة الأرضية ووجد هناك الحب. في الكتاب تعقبت القصة الرومانسية لآيار سيمل، وهو إسرائيلي أصلي، ولوسي إليوت – وهي صبية أسترالية فاتنة وقعت في سحر الرجل اليهودي والإسرائيلي الأول الذي قابلته في حياتها.

الكلمة العبرية الأولى التي علمها إياها ابني وقالتها لي مقلدة اللكنة الإسرائيلية عندما احتضنا بعضنا البعض على شاطئ المحيط في أستراليا هي AHAVAH.**

________________________________

* واحد من المعاني التوراتية لكلمة عرف في العبرية هي "ضاجع".

** أهافاه= الحب .

____________________________________

نافا سيمل أديبة ومسرحية وشاعرة. ولدت عام 1954. من يافا، ابنة يتسحاك وميمي أرتسي وهما الناجيان من الهولوكست. والأخت الصغرى للمغني شلومو أرتسي وزوجة مدير المسرح الكامري بتل أبيب، نوعام سيمل. حصلت على الدكتوراه في تاريخ الفن من جامعة تل أبيب. بدأت في الكتابة في الثمانينيات. كتابها الأخير "زفاف أسترالي" رأى النور في فبراير 2009 عن دار نشر "عام عوفيد". في عام 1996 حصلت على جائزة رئيس الوزراء.

نشرت 16 كتابا وأربع مسرحيات. تهتم في أعمالها بفكرة الجيل الثاني للهولوكست، أبناء الناجين، وبالعائلة الإسرائيلية في ظل الهولوكست وبالبحث عن الهوية الإسرائيلية. أبطال أعمالها مولودون في إسرائيل ويحاولون التعاطي مع الهوية الإسرائيلية ومع جروح الماضي.


1 comment:

comment ya khabibi