Friday 28 August 2009

في ذلك الزمان لم يكن أحد يموت

باني وجفريئيل

نافا سيمل

ترجمة: نائل الطوخي


جدي ترك جدتي. في هذا الزمن تم اعتبارها فضيحة، سرا كانوا يتهامسون به في الغرف المغلقة، سرا لا يجب أن يصل والعياذ بالله إلى آذان الأطفال. الطلاق بالطبع كان أمرا لا ينطق به أحد، مثل الموت بالضبط. في هذا الزمن لم يكن الناس يطلقون أو يموتون.

ليس فقط أن جدي ترك جدتي، وإنما ترك أيضا أبي الذي كان عندئذ رضيعا يبلغ ستة أشهر – تركه وهاجر لأمريكا. حدث هذا في 1919 عندما كانت البلدات اليهودية الصغيرة في أوروبا تغرقها الشائعة التي تقول أنه في نيويورك ثمة أرصفة مذهبة وكانوا يطلقون على أمريكا بلغة الييديش: "جولدنع مدينع". (دولة الذهب).

وعد جدي بأنه سيرسل تذاكر عندما ينصلح الحال. وانصلح الحال مع جدي، ولكنه لم يرسل التذاكر أبدا. في استمارات تسلمتها من متحف أليس آيلنز بنيويورك، يعلن جفريئيل هرتسيج أنه ترك زوجة في أوروبا، ولكن يتسحاك يخفي أمر الرضيع. هل خاف من سلطات الهجرة، أم أنه تناسى حقيقة أنه أهمل ابنه وحيده؟

سنوياً، في يوم ميلاده، كان أبي يتلقي إشارة الحياة من نيوريورك على هيئة فاتورة تتضمن دولارا أخضر في مظروف. عندما كان أصدقاؤه يكايدونه في بلدة سيرت الصغيرة ببوكوفينا –رومانيا بسبب غياب والده، كان يفكر في نفسه أن الأب الميت قد يكون أفضل من الأب الغائب – الحي. سوف يقول لي عندما أكبر "فضلت أن أكون يتيماً"، وهي الجملة التي لسعت قلبي.

لست متأكدة أن جدتي باني فضلت أن تكون أرملة، ولكنها ظلت حزينة. لم يكن مزعجا لجدي جفريئيل هذا أن يقيم حياة زوجية بطريقة متطورة مع امرأة أخرى اسمها كلارا مندل، وهي مهاجرة مثله. عاش الاثنان في شقتين منفصلتين في لوار إيست سايد، كلارا في شارع كلينتون وجدي في شارع نورفوليك.

هل كانت هذه التسوية العصرية مريحة بالنسبة لها أم أنها قد فرضت عليها فرضا؟ لا أعرف. سواء هذا أم ذاك، فقد عاشا على طريقة وودي آلان ومايا بارو لثلاثين عاما وأكثر. كل صباح يأتي إليها جدي ليشرب القهوة ثم يذهب للعمل في البورصة بنيويورك. صحيح أنه لم يقطف الذهب من على الأرصفة، ولكنه أصبح متخصصا في الأسهم التي مثلت في عينيه خلاصة العالم الجديد والمؤثر.

جدتي المهجورة، في مقابله، لم تعرف أبدا رجلا آخر، بالمفهوم التوراتي*، وبالمفهوم الواقعي أيضاً. الرجل الوحيد في عالمها كان أبي الذي سارت وراءه في كل مكان. لقد نجح في إنقاذها من إرساليات الموت إلى ترنسمينستريا وتحويلها إلى صهيونية رغما عنها، على النقيض المطلق من زوجها الذي لم تكن أرض إسرائيل بالنسبة له أبدا اختيارا، والدعاء اليهودي "العام القادم في القدس" لم يكن إلا مجرد كلام فحسب.

قد تكون جدتي قد تمسكت بأبي لهذا الحد لأنها رأت فيه العريس الوسيم والمثير الذي انتظرته بإخلاص لأربع سنوات عندما كان يخدم كجندي في الحرب العالمية الأولى. "ليس بمقدور المياه الكثيرة إطفاء نار الحب"، هذا ما قيل في نشيد الأنشاد، وحتى المحيط الأطلنطي لم يستطع إطفاء نار حب جدتي.

لو كنت في مكانها، كنت لأحارب وأتمرد، وبالتأكيد كنت سأثور على الحبيب الأول الذي وقع في كي أرمم، ولو قليلا، الأنا المجروحة، ولكن في ذاك الزمن، فالنساء كن يتلقين مصيرهن بخنوع، كأنه قدر. كيف بررت جدتي وضعها العائلي، لا أستطيع تخيل هذا إلا في الكتب التي أكتبها.

في 1946، بعد الهولوكست، أجرت صحيفة يهودية أمريكية حواراً مع أبي بوصفه نشطاً صهيونياً شاباً في مؤتمر "الشباب الصهيونيين" بباريس. في صباح نيويوركي آخر، مع فنجان قهوته، فتح جدي بهدوء الجريدة، وفجأة ميز صورة أبي في التقرير. هكذا اكتشف أن ابنه الوحيد حي يرزق. وربما لأن ضميره عذبه، لكونه لم يفعل ما فيه الكفاية لإنقاذهم من فظائع الاحتلال النازي، فلقد اتصل بالجريدة وطلب منهم طرف الخيط. لا أتخيل أبدا احتمال أن تكون كلارا العاقر هي من دفعته للبحث عن ابنه.

بعد هذا بثلاث سنوات التأمت العائلة في حفل طهور أخي الكبير شلومو في كيبوتس بوادي يزرعئيل. وصل جدي البلد للتعرف على حفيده الأكبر وعلى ابنه- اثنان بسعر واحد. رفضت جدتي استقباله بمطار حيفا، ربما خافت أن يضعف الغطاء الهش الذي غطى على مشاعرها العميقة.

لم أنجح في تخمين ما حدث في اللقاء الأول بين جديّ على انفراد، باستثناء حقيقة أن كلا من جفريئيل الذي نزل من على سطح السفينة، ويتسحاك الواقف أمامه على الرصيف، قد وضعا في صدر سترتيهما شارة فيه اسماهما حتى يتعرف الواحد منهما على لآخر – توافق عرضي كامل. عندما عرفت القصة كاملة لم يكن جفريئيل وباني من بين الأحياء، ولو كنت قد حظيت بفرصة للسؤال، أشك أنهما كانا سيعترفان، من كان يمكنه الكشف عن مشاعره في هذا الزمن؟

سواء هذا أم ذاك، في صورة ابيض وأسود وحيدة تبقت من تلك الزيارة، بدا واضحا في حفل طهور أخي عندما كان يضرب بمعول أرض إسرائيل الصلبة وجدتي تنظر له نظرة جانبية وكئيبة. بعد ثلاثين سنة من هجرها أرسل لها أخيرا ورقة طلاقها وأحلها من عزلتها. الآن أصبحت متاحة لكل الناس. ظاهريا، فلقد انتهت قصة الحب القديمة هذه.

حتى تجاه دولة إسرائيل الشابة لم يشعر جدي بحب كبير. لقد بدت له مكانا بعيدا وليست له فرصة في الشرق الأوسط، محاطا بجيران معادين ومشبعين بالعنف. واحتقر الكيبوتس باعتباره "قلعة الشيوعية"، أما الصهيونية فلقد رآها وكأنها مغامرة حمقاء مجنونة. وقدم لأبي إنذارا أخيراً: "إما أن تسافروا معي لأمريكا، أو سأترككم أنا مجدداً."

رفض أبي بالطبع. صحيح أنه في إسرائيل لم تكن هناك أرصفة مذهبة وهي لم تكن أرضا تفيض باللبن والعسل، ولكنها كانت المكان الوحيد له ولأمي من أيام النجاة من أوشفيتز. من وجهة نظرهما فأية بلد أخرى مضمونة لم تخطر على بالهما. بعد هذا فورياً قام أبي بتحويل اسم عائلته من "هرتسيج" إلى الاسم العبري "أرتسي"، وهكذا انشقت الهوية العائلية بالشكل الأكثر حدة ووضوحا.

بعد الطلاق بعشر سنوات والمغادرة الثانية، عاد جدي مجددا وبشكل مفاجئ لحياتنا. كلارا مندل، أو كما كانت تسمى حينها "قريبتنا بين الجمهور"، أرسلت خطابا يحوي البشارة الحزينة – جدي يتجه نحو العمى. هي من جانبها، لم تنو الاهتمام به. بعد كل شيء، حتى وهو رجل خال أخيرا، لم يجهد نفسه في لبس الدبلة حول إصبعه. الآن يصبح هو الرجل الذي تتركه النساء. هناك من سيقولون إنها "العدالة الشعرية."

كنت ابلغ خمس سنوات عندما سافر أبي لنيويورك. انتقل للسكنى بشقة جدي في شارع نورفولك، ولكونه قد أصبح رجلا ناضجا ورب أسرة فلقد تعرف بنفسه لأول مرة من قريب على أبيه الذي هجره. الحميمية المفروضة كانت متأخرة للغاية، وظل الاثنان غريبين، أما مع كلارا – والتي كانت لا تزال بشارع كلينتون – فلقد خلق أبي علاقة حميمة. ربما يكون قد تعاطف سرا مع قرار الإنسانة المحبة بأن تكافئ المتهرب المتسلسل بما يستحقه.

خطابات أبي كانت تعبر المحيط يومياً. بعد موته قرأتها، والوعد اليائس في نهاية كل خطاب "يا أولادي الأحباب، سأعود"، يشهد على مدى تملك حمى المغادرة منه. كابوسه، وهذا ما سيخبرني به عندما أكبر، أن يُنظر إليه كأب يهجر أطفاله.


بعد ستة أشهر من الغياب عاد أبي إلينا مع جد غريب في بذلة أنيقة وربطة عنق من الحرير لم نر مثلها في مكاننا، ومع سيارة بليموث أصبحت عندئذ حديث المدينة. في كتاب "جرشونا أخرى" الذي نشرته قبل عقدين، كتبت: "وأنا لا أعرف أنه كان لي جد أصلاً."

الآن انضفرت قصة الحب القديمة في حياتنا وخلقت مشاكل جديدة غير قليلة. لأن جدي وجدتي كانا منفصلين وكان ممنوعا عليهما العيش معا وفق اليهودية، فلقد كنت أنام عند قدمي العجوز الأمريكي الكئيب على سرير مطوي في الصالون، أما أخي الأخبر فكان يقتسم الشرفة الصغيرة مع جدتي. الجروح الصغيرة أشعلت البيت. داخلي تتردد كلمات لاذعة قيلت بالييدشية، لحظات صمت تغلق الشفاه وسحب أزمات في الغرف المزدحمة حد الاختناق. لم يقل لي أحد شيئا عن هذا. الأمر كما قلت، الطلاق هو سر ينبغي إخفاؤه عن الأطفال، مثل الموت.

بسرعة، ظهر حل مبدع للتصرفات غير المحتملة في البيت. عرض جدي الزواج على جدتي وهي، برغم المفاجأة، وافقت. جدي الآخر هو من دبر المؤامرة لأنه رثى لحال ابنته – أمي، المطحونة في محور الضغط العائلي. أغلق الصفقة مسبقا بين الجانبين، كسمسار موهوب.

لماذا وافقت جدتي على الزواج من جدي مرة ثانية؟ هل كانت هذه لحظة مجيدة من النصر والتكفير عن الإذلال الذي تحملته طول حياتها، تجسيد متأخر للحب الذي كانت حبيسة فيه طوال هذه السنوات الطويلة، أم أن هذا كان المصير الساخر الذي أعطته لها حياة جديدة تبدلت فيها الحقائق، حيث مُنحت أخيراً حق السيطرة على رجلها – أعمى، عجوزاً ومستسلماً. كانت باني تعرف أن جفريئيل لن يتركها مرة ثانية أبداً.

حفل الزواج المتواضع أقيم في مكاتب الحاخامية بتل أبيب. الأحفاد – أنا وأخي – لم نكن بين المدعوين. لم يكن هناك فستان زفاف ولا حتى مصور يقوم بتخليد الموقف، ولكن "الزوجين الشابين" كانا مستحقين وفق القوانين الإسرائيلية لشقة بسعر رخيص وانتقلا للإقامة في حينا. فقط ظلت السيارة البليموث اللامعة تركن بشكل ثابت أسفل بيتنا، لأن جدي، الذي حل عليه الظلام الدامس، لم يعد يستطيع القيادة.

ظاهريا، نهاية سعيدة.


في الصورة الاحتفالية التي بقيت في الألبوم تحدق جدتي في الفراغ وشفتاها مزمومتان، يداها معقودتان على صدرها، وليس هناك أي اتصال بينها وبين الرجل أشيب الشعر الذي غادرها قبل أربعة عقود وعاد فجأة لحياتها.

الطفلة التي تضحك والتي وقفت حاجزا بينهما كانت أنا.

الفصل الثاني من الحياة الزوجية لباني وجفريئيل لم يقل سوءا عن الأول. كان الزوج مهموما ومتذمراً، وكان يحتقر إسرائيل، ويلعن العمى الذي أصيب به، ويقضي أيامه ملتصقا بإذاعة "صوت أمريكا" وكانت تصدر من جهاز الراديو الذي حصل عليه بفضل كونه مهاجرا جديداً. لم يكن يتوقف عن تأنيب العروس بييدشية غاضبة مخلوطة بالإنجليزية، أما جدتي فكانت تتلقى إهاناته بهدوء رواقي ولم تتوقف عن شرح تعلقه بها. صحيح أن أبي كان يعامله بدرجة الاحترام الواجبة وكان يقرأ عليه كل ليلة أبواب الأسهم في بورصات نيويورك، ولكنه لم يشعر بالحب أبدا تجاهه.

"هل غفرت له؟" هكذا تساءلت عندما كبرت، وأنا أضرب تعظيم سلام لنبل أبي الذي لم يرد على هجر أبيه له، الهجر الذي كان أمرا مفهوماً حتى بين اليهود الرحماء. احتضنته بقوة عندما احمر وجهه كطفل وقال بارتباك: "الدم ليس ماء" –وهي مقولة خالدة في اللغة الييدشية التي كانت تربكني في شبابي.

كانت هناك حلقة أخيرة في مسلسل الصابون العائلي هذا. بعد ثلاث سنوات من الحفل المتواضع بالحاخامية هبطت كلارا مندل علينا من كوكب نيويورك. قالوا لي ولأخي أنها "عمتنا من أمريكا". المرأة القصيرة والضحوك التي كانت ترتدي ملابس مبهرجة وكانت شفتاها مطليتين بالأحمر الوهاج، أحضرت هدايا جعلت منا حديث المدينة – عروسة ترتدي فستان كرينولينا وجيبة مع يافطة بعيدة. كنا موضع حسد كل أطفال حي العمال التل أبيبي.

تملصت من القبلات اللزجة لكلارا، مثلما تملصت من مظاهر الحب العلني التي تضمنتها كلمات "سويتي" و"دارلينج" بصوت عال. ومثل جدتي، فلقد حافظت كلارا أيضاً حافظت على إخلاصها فقط لرجل واحد، وربما كنا نحن بديلا عن الأحفاد الذين لم يولدوا لها أبدا.

في زيارتها تمت استضافة الضيفة في بيت الإكس الأسطوري الخاص بها وبطليقته – والتي أضحت زوجته الآن.

لمزيد الدهشة، فجدتي وكلارا قد انصلح حالهما بشكل ممتاز وأصبح التواؤم بينهما كاملاً. أصبحت الاثنتان يدا واحدة ضد الرجل الذي تلاعب بمشاعرهما والآن أضحى عقابه أضعافا مضاعفة. لا أستطيع اكتشاف ما همستا به من وراء ظهره، إلا في الكتب. أنا محظوظة لأن هذا الكم من الحب المصارع يكفيني للكثير والكثير من المواد.

في "إيسرائيل" التي استعدت بها مدن الملجأ المقامة لليهود في 1852 في جزيرة جراند آيلاند بنهر النيجر، لم أتمكن من إثارة السجال مع شبح جدي وإثبات له أن إسرائيل هي المكان الوحيد لنا، وأنه ليست لدينا أية أرض بديلة.

لقد وجد راحته الأخيرة هناك، لا بأمريكا.

نعم، أيضا عن الموت صرت أعرف، برغم أن أحدا لم يحدثني عنه عندما كنت طفلة.

أما في "زفاف أسترالي" فلقد تردد صدى جين الترحال الموجود لدى جدي في ابني البكر. كان يبحث عن أرض آمنة في مكان بعيد جدا على الكرة الأرضية ووجد هناك الحب. في الكتاب تعقبت القصة الرومانسية لآيار سيمل، وهو إسرائيلي أصلي، ولوسي إليوت – وهي صبية أسترالية فاتنة وقعت في سحر الرجل اليهودي والإسرائيلي الأول الذي قابلته في حياتها.

الكلمة العبرية الأولى التي علمها إياها ابني وقالتها لي مقلدة اللكنة الإسرائيلية عندما احتضنا بعضنا البعض على شاطئ المحيط في أستراليا هي AHAVAH.**

________________________________

* واحد من المعاني التوراتية لكلمة عرف في العبرية هي "ضاجع".

** أهافاه= الحب .

____________________________________

نافا سيمل أديبة ومسرحية وشاعرة. ولدت عام 1954. من يافا، ابنة يتسحاك وميمي أرتسي وهما الناجيان من الهولوكست. والأخت الصغرى للمغني شلومو أرتسي وزوجة مدير المسرح الكامري بتل أبيب، نوعام سيمل. حصلت على الدكتوراه في تاريخ الفن من جامعة تل أبيب. بدأت في الكتابة في الثمانينيات. كتابها الأخير "زفاف أسترالي" رأى النور في فبراير 2009 عن دار نشر "عام عوفيد". في عام 1996 حصلت على جائزة رئيس الوزراء.

نشرت 16 كتابا وأربع مسرحيات. تهتم في أعمالها بفكرة الجيل الثاني للهولوكست، أبناء الناجين، وبالعائلة الإسرائيلية في ظل الهولوكست وبالبحث عن الهوية الإسرائيلية. أبطال أعمالها مولودون في إسرائيل ويحاولون التعاطي مع الهوية الإسرائيلية ومع جروح الماضي.


Friday 21 August 2009

قصة عن الحب والظلام




عاموس عوز

ترجمة: نائل الطوخي

عاموس عوز واحد من أكثر الأدباء الإسرائيليين شهرة، إن لم يكن أكثرهم شهرة على الإطلاق، ولد في القدس باسم عاوز كلاوزنر، جده لأمه جاء من مدينة روفينو بأوكرانيا، وهاجر إلى إسرائيل عام 1934. أمه وأبوه كانا محسوبين على الحركة التصحيحية الصهيونية، التابعة لتيار جابوتينسكي، أحد أكثر التيارات الصهيونية عنصرية في بدايات قيام إسرائيل. أمه، بانيا، انتحرت وهو في سن الثانية عشرة.

في سن الخامسة عشر ترك عاموس البيت منضما إلى كيبوتس حولدا، هناك تبنته عائلة حولدا. واختار لنفسه اسم "عاموس عوز" وتزوج من نيللي زميلته بالكيبوتس، وأنجب منها بانيا وجاليا ودانيال. وذلك قبل انتقاله إلى بلدية "عيريد" التي يقيم فيها حتى الآن. وباستثناء عدة مقالات بصحيفة الكيبوتس وبصحيفة "دافار" فلم ينشر عوز شيئا حتى سن الثانية والعشرين، والذي بدأ فيه في نشر القصص. مجموعته القصصية الأولى "بلاد ابن أوى" صدرت عام 1965. وروايته الأولى "مكان آخر" صدرت عام 1966. بدأ عوز ينشر في دار نشر "عام عوفيد" إلى أن تركها إلى دار "كيتير" والتي وفرت له عقدا يشتمل على مرتب شهري ثابت له غير متصل غير مشروط بانتظامه في الكتابة.

***

روايته الأشهر "ميخائيلي" – والمترجمة عربيا تحت عنوان "حنا وميخائيل" صدرت عام 1968. وترجمت لثلاثين لغة. تصف الرواية قصة حب وزواج فتاة على خلفية القدس في الستينيات. تدخل الرواية العوالم النفسية حنا، وتصف الكوابيس التي تسيطر عليها. أما كتابه الأوتوبيوجرافي "قصة عن الحب والظلام" - الذي يصف بعض تفاصيل الحياة بالكيبوتس ونترجم هنا فصلا منه عن أول تجربة جنسية للكاتب - فيلقي المزيد من الضوء على شخصية حنا، والتي ثارت التكهنات أن عوز يقصد بها أمه.

***

المواقف السياسية لعاموس عوز لا تلقى الرضا دائما، فبرغم انتماءه لتيار السلام في إسرائيل، إلا أنه مازال يواصل تعريف نفسه كصهيوني، ويصب غضبه وانتقاداته الحادة على اليسار غير الصهيوني في إسرائيل والذي - في رأيه الغاضب- "ينكر وجود إسرائيل"، وبرغم هذا، فيحسب لعوز أنه عارض المستوطنات بالأراضي المحتلة منذ اليوم الأول لقيامها.

في واحد من خطبه قال: "على الإنسان أن يعمل من أجل الآخرين وألا يتجاهلهم. إذا رأى حريقا، فعليه أن يحاول إطفاءه، وإن لم يكن يملك دلاء ماء، يمكن له استخدام الأكواب، وإن لم يكن لديه كوب، فهو يملك كفاً، وإن لم يملك كفا، فهو يملك ملعقة صغيرة." وبناء على هذه العبارة فقد أقيمت في إحدى زياراته إلى البلاد الاسكندافية "مسيرة الملاعق"، والتي علق أعضاؤها على ملابسهم ملاعق صغيرة.

بلغ عوز السبعين عاما في مايو. وبهذه المناسبة فقد أقامت له بلدية "عيريد التي يقيم فيها احتفالية استمرت ثلاثة أيام حضرها الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز.

يمكن قراءة المزيد عن عاموس عوز هنا وهنا.

الفيديو الملحق هو لحوار أقيم معه بمناسبة حصوله على جائزة أمير استورياس عام 2007.


فصل من "قصة عن الحب و الظلام"


كانت هناك في كيبوتس حولدا بستانية, أو معلمة للفصل الدراسي أ. سوف أدعوها أورنا. كانت مدرسة بالأجر تبلغ خمسا و ثلاثين عاماً, و تسكن عندنا في غرفة أخيرة في أحد الأجنحة القديمة. تسافر كل خميس إلى زوجها و تعود لعملها في حولدا كل أحد في الصباح الباكر. دعتني مرة و معي اثنتين من زميلاتي في الفصل الدراسي إلى غرفتها مساء للحديث عن قصائد ديوان "نجوم بالخارج" و للاستماع معها إلى كونشرتو للكمان و الأوركسترا لمندلسون و للسيمفونية الثامنة لشوبرت.

الجرامافون كان منتصبا على كرسي بامبو بلا ظهر, في زاوية غرفتها, التي اشتملت كذلك على سرير و طاولة و كرسيين و فنجان كهربائي و خزانة ملابس مغطاة بستارة مشجرة وقذيفة على هيئة إصيص زرع, و نبتت منها أشواك بنفسجية. على حيطان غرفتها علقت أورنا لوحتين لجوجان, نساء سمينات و ناعسات, نصف عاريات, و كذلك بعض الخربشات بالقلم الرصاص, رسمتها هي بنفسها, و صنعت لها بيديها بروازاً. ربما بتأثير لوحات جوجان رسمت هي أيضاً صوراً لنساء عاريات, ممتلئات, في أوضاع الاضطجاع أو الاتكاء.

كل هؤلاء النساء, نساء جوجان و نساء أورنا, كن مرويات و كسولات كأنهن بعد فعل اللذة, و مع هذا فلقد بدا من أوضاعهن المرتاحة أنهن مستعدات لغمر من لم يرتو بعد باللذة.

على رف الكتب, فوق سرير أورنا, وجدت "رباعيات" عمر الخيام, و طاعون كامي, بجوارهما انتصب برجنت و هيمنجواي و كافكا, و كذلك أشعار ألترمان و راحيل و شلونسكي و ليئا جولدبرج و حاييم جوري و ناتان يوناتان و زروبابل جلعاد و قصص يزهار و "طريق رجل" ليجئال موسينزون, و قصائد "في الصباح في الصباح" لأمير جلبوع و "أرض الظهيرة" لعين هالال و كذلك "أوراق الصيف" و "موت محب" لرابندراندت طاغور. بعد أسابيع قليلة اشتريت لأورنا, بقروشي, "اليراع" و كتبت لها على صفحتها الأولى إهداء روحياً, كتبت فيه كلمة "نابض".

كانت أورنا امرأة خضراء العينين, نحيلة الرقبة, و لها صوت موسيقي مدغدغ و كفان صغيرتان و أصابع رقيقة, غير أن ثدييها كانتا ممتلئتين و صلبتين و كان فخذاها قويين. في الغالب كان وجهها جادا و هادئا غير أن هذه الملامح كانت تتغير فجأة عندما تبتسم: كانت لها ابتسامة جانبية, ابتسامة عجلى تقريبا, كأنها غمزة سريعة, غاصت في داخلك و رأت هنالك كل الأسرار و سامحتك. كان إبطاها نظيفان من الشعر و لكن نظافتهما لم تكن على نفس الدرجة, كأنما نظفت واحدا منهما بقلمها الرصاص. عندما كانت تقف كانت تريح كل ثقلها دوما على قدمها اليسرى, و بهذا يتقوس عن غير عمد فخذها الأيمن. كانت تحب التعبير عن آرائها بخصوص الفن و الوحي ووجدت في مستمعاً مخلصاً.

بعد أيام قليلة تشجعت, أمسكت بمجلد أشعار "على العشب" لوالت ويتمان ترجمة هيلكين (و كنت قد حدثت أورنا عنه في الليلة الأولى) , و عدت مجدداً و خبطت على باب غرفتها مساء, كنت هذه المرة وحدي. قبل هذا بعشر سنوات كنت أجري هكذا إلى شارع صفنيا, إلى بيت المعلمة زلدا.

أورنا كانت ترتدي فستانا طويلاً مزرراً من الداخل في صف طويل من الأزرار. كان الفستان بلون الكريم, غير أن النور, بفضل غطاء المصباح الملون, منحه لونا مائلاً إلى الاحمرار. عندما وقفت أورنا بيني و بين المصباح ارتسم شكل فخذيها و خطوط كيلوتها من خلف قماش الفستان. وضعت على الجرامافون هذه المرة "بر جينت" لجريج.

جلست بجانبي على السرير المغطى بسجادة شرقية و فسرت لي الأحاسيس التي يعبر عنها كل جزء من العمل. أما أنا فقرأت لها قصائد من "على العشب" و انطلقت في استنتاجاتي حول تأثير والت ويتمان على أشعار عين هالال.

قشرت لي أورنا ثمرة يوسفي و سقتني ماء باردا من إناء فخاري مغطى بشاش. وضعت كفها على ركبتي مشيرة لي أن أتوقف لحظة عن الحديث, و قرأت لي قصيدة حزينة كتبها أوري تسيفي جرينبرج, ربما لم تكن من مجلد "شوارع النهر" و الذي كان أبي يحب إلقاء قصائده بصوت عاصف و إنما من كتاب لم أعرفه, كان له اسم غريب: "أنكراون على قطب الحزن".

بعدها طلبت مني أن أحكي لها قليلا عن نفسي, و لم أعرف ماذا أحكي و تحدثت عن الكثير من الأشياء المختلطة, عن فكرة الجمال, إلى أن عادت ووضعت كفها على قفاي و قالت لي كفى, لنكن هادئين قليلاً؟ في العاشرة و النصف قمت. خرجت للتجوال تحت ضوء النجوم بين المخازن و الزرائب. كنت سعيداً لأن أورنا دعتني للمجيء ثانية, في إحدى الليالي, بعد غد, بل وحتى غداً.

بعد أسبوع أو اثنين دارت شائعة في الكيبوتس. كان هناك من دعوني "العجل الجديد لأورنا". كان لديها معجبون, أو محادثون, عديدون, غير أن أحدا منهم لم يكن بالكاد يبلغ ستة عشر عاما, ولم يكن بإمكان أحدهم أن يستظهر شفويا, مثلي, قصائد ديوان "فرحة الفقراء" أو "برق في النهار".

مرة أو مرتين وقف أحد معجبيها و انتظر في الظلام بين أشجار الأكليبتوس أمام الجناح: انتظر خروجي, من غرفتها, و أنا, في لسعة الغيرة, تلكأت في ظل الجدار, و تمكنت من رؤيته يدخل الغرفة التي كانت أورنا تعد فيها القهوة الثقيلة في الفنجان, و فيها قالت أنني "غير عادي", بل و سمحت لي بتدخين عدة سجائر برغم أنني كنت لا أزال صبيا ثرثاراً في الصف الحادي عشر. لمدة ربع ساعة وقفت هناك, ظلاً بين الظلال, حتى انطفئ النور.

في إحدى المرات, في هذا الخريف, ذهبت في الثامنة مساء إلى غرفة أورنا. لم أجدها, ولكن, و لأن نور مصباحها غمرني في الخارج, نور باهت غامض من خلف الستائر المنسدلة, و لأن الباب لم يكن مغلقاً, فلقد دخلت و ربضت على الحصير منتظرا إياها.

انتظرت لساعات طوال, حتى خفت أصوات الرجال و النساء من الشرفات, علت مكانها أصوات الليل, بكاء ابن آوى و نباح الكلاب و ثغاء الأبقار من بعيد, نقيق أوركسترا الضفادع و الصراصير.

تخبطت فراشتان بين المصباح و بين غطاءه الداكن المائل إلى الحمرة. ألقت الأشواك في المزهرية القذيفة بظل متكسر على الأرض و الحصير.

نساء جوجان على الحيطان, و الخربشات العارية التي رسمتها أورنا بقلمها الرصاص, أثارت بي فجأة نوعا من التخيل الغامض لجسدها بدون ملابس, تحت الدش, كيف تبدو على السرير مساء بعد ذهابي, لا تكون وحدها, بل ربما مع يوئاف, أو مع مندي, برغم أن لها زوجاً في مكان ما, ضابطاً في الجيش النظامي. و بدون أن أقوم من مكمني على الحصير, طويت للحظة الستارة التي غطت خزانة ملابسها و رأيت ملابس داخلية بيضاء و ملونة و قميص نوم واحد من النايلون, شفاف تقريبا, بلون الخوخ.

في النهاية, على العتبة, توقفت, و بدون إخراج أصابعي من الخوخ و كفي من التل فتحت عيني و اكتشفت أن أورنا قد دخلت بدون أن أشعر بها و وقفت حافية متطلعة إلي على طرف الحصيرة, أغلب جسدها مرتكن على قدمها اليسرى, لذا فقد كان الجانب الأيمن من خصرها منحنياً قليلاً. كانت مريحة يدها على هذا الجانب, و بيدها الأخرى داعبت برفق كتفها من تحت شعرها المكشوف.

هكذا وقفت و نظرت لي و ابتسامتها الدافئة الصبية ممتدة على شفتيها و عيناها الخضراوتان تضحكان لي كأنما تقولان: أعرف, أعرف أنك طبعا كنت تريد الآن أن تموت في هذا المكان, و أعرف انك كنت لتصبح أقل ارتباكا لو وقف في مكاني هنا الآن قاتل يوجه إليك رشاشه, و أعرف أنه بسببي فأنت الآن بائس حتى النخاع, و لكن لماذا أنت بائس؟ انظر إلي, هل أنا مرتبكة مما رأيته عندما دخلت الغرفة. كفاك بؤساً.

أغمضت عيني من شدة الخوف و اليأس وتظاهرت بالنوم. لربما تصدق أورنا أن شيئا لم يحدث, و إن كان شيء قد حدث فلقد حدث في الحلم فقط، و إن كان قد حدث في الحلم فأنا آثم و حقير, غير أنني أقل حقارة مما لو كنت قد فعلت هذا في اليقظة. قالت أورنا: "لقد أزعجتك", و لم تضحك عندما قالت هذا و إنما أضافت القول أنها آسفة, أعتذر.

وفجأة, و بنوع من الكسل, حركت خصرها في حركة راقصة معقدة و قالت أن لا, أنا في الحقيقة لا أعتذر, لقد كان لطيفا بالذات أن تنظر لي, لأن وجهك في هذه اللحظات بدا متألما و مضيئا في ذات الوقت. و لم تقل شيئاً آخر لي, و إنما بدأت في حل أزرارها, من الزر الأعلى و حتى الخصر, و وقفت أمامي حتى أواصل التطلع إليها. و لكن كيف يمكن لي أن أفعل هذا؟

أغمضت عيني بالقوة, غمزت بعيني و في ذات الوقت استرقت النظر إليها و توسلت لي ابتسامتها الفرحة ألا أخاف, ماذا هناك؟ وصدرها, الصلب, حتى هو بدا كأنه يتوسل لي. نزلت على ركبتيها, على الحصيرة إلى يميني. أمسكت كفي و أبعدتها عن أكمة بنطلوني ووضعت بدلا منها كفها ثم فتحت و حلت و حررت، وسلسلة من الشرر الحاد كالمطر الثقيل من النيازك مرت على طول جسدي. أغلقت عيني مجدداً. لكني لم أفعل هذا إلا بعد أن رأيتها تنثني و تنحني ثم تقترب مني و تميل و تأخذ و ترشد يدي, هنا وهنا, و تمس شفتاها جبهتي و تمسني في عيني المغمضتين ثم تأخذ يدها و تغطسهما فيّ, في كلي, و في نفس اللحظة تدور في عمق الجسد مثل برق رخو, ثم, بعدها مباشرة, يغمر برق قاطع. كان على أورنا أن تغلق فمي بقوة بسبب الحيطان غير السميكة.

عندما ظنت أورنا أن هذا كاف و رفعت أصابعها لكي تدعني أتنفس ثانية كانت مضطرة لأن تسرع وتغلق شفتيّ بقوة لأنني لم أكتف بعد. ضحكت و داعبتني كأنما تداعب طفلا ثم قبلتني على جبيني و غطت رأسي بشعرها و أنا, دامع العينين, بدأت في رد قبلاتها بقبلات خجلانة و ممتنة, على وجهها على شعرها و على ظهر كفها. أردت أن أقول شيئا ما غير أنها لم تسمح لي, ثم غطت فمي بيدها حتى تنازلت عن الحديث.

بعد ساعة أو اثنتين أيقظتني. كان جسدي يريد المزيد منها. كنت ممتلئا بالخجل والمهانة, و هي لم تبخل بل همست لي كأنما بابتسامة تعال خذ, و همست أنظروا كم أنه وحش صغير, و كانت قدماها محروقتين بلون بني ذهبي و على فخذيها كان هناك زغب ذهبي دقيق يمكن بالكاد رؤيته. بعد أن خنقت مجدداً بكفها سيل صرخاتي أوقفتني و ساعدتني على أن أزرر ملابسي. صبت لي ماء بارداً من الآنية الفخارية المغطاة بقطعة شاش بيضاء, وداعبت رأسي وضمتني إلى صدرها. قبلتني قبلة أخيرة, على طرف أنفي بالضبط, ثم أرسلتني إلى برودة الصمت الثقيل في الثالثة فجرا بليل خريفي.

عندما جئتها صباحا للاعتذار منها, أو للتوسل إليها بأن تنسى المعجزة, قالت: انظروا, هاهو شاحب كالطباشير. ماذا حدث لك؟ تعال اشرب كوبا من الماء. أجلستني على الكرسي و قالت تقريبا هذا: شوف, لم تحدث أية كارثة غير أنه منذ هذه اللحظة أريد أن يكون كل شيء كما كان قبل الأمس, ماشي؟ كان صعبا علي أن أنفذ ما رغبت فيه, وبالتأكيد فلقد أحست أورنا أيضا بهذا.

هكذا بهتت ليالي قراءة الشعر على صوت شوبرت و جريج و برامز المنطلق من الجرامافون. بعد مرة أو اثنتين توقفت, فقط ابتسامتها كانت تحط على وجهي إذ يمر واحد منا بالآخر. كانت ابتسامة مشبعة بالكسل, بالفخر و الحب: ليس كمحسنة يشرق وجهها للصبي المفضل لديها و إنما كرسامة تنظر إلى لوحة رسمتها, و برغم أنها في ذات الوقت تذهب إلى لوحات أخرى فهي لا تزال راضية عن صنعتها و لا تزال فخورة بالتذكر و فرحة بالعودة لرؤيتها من بعيد. منذئذ صرت أحب أن أتواجد بين النساء.

مثلما يهيأ لجدي ألكسندر, و برغم أنني على مر السنوات تعلمت أن أعرف القليل, فلا يزال- مثلما في تلك الليلة في غرفة أورنا – لا يزال يهيأ لي أن مفاتيح السعادة كامنة في يد النساء. يبدو لي تعبير "أعطته من محاسنها" صائبا و ثاقبا أكثر من التعبيرات الأخرى. تثير بي محاسن النساء, بخلاف الرغبة و الإثارة, موجة من الامتنان الطفولي أيضاً, مع رغبة في السجود لها: لكوني أكثر ضآلة من كل هذه الأعاجيب.

ألست ممتنا لك هذه القطرة الوحيدة, مندهشاً و عاجباً, فما بالك بالبحر إذن. و كأنني دوما فقير على الباب: أليست المرأة دوما أكبر وأكثر اتساعا مني و هي فقط ما تملك الاختيار, أن تفيض أو لا تفيض. ربما كمنت هنا أيضا غيرة خفيفة من جنس المرأة, هي الثرية الرقيقة و المعقدة كثيرا, كأفضلية العود على الطبلة. أو من خلال صدى ذكرى أولية لأول أيام حياتي: ثدي أمام سكين.

ألم تكن من انتظرتني على الباب فور مجيئي للعالم امرأة تسببت لها في ألم عظيم, و ردت لي هذا بتفضل رقيق, ردت لي السيئة بالحسنة, و قدمت لي ثديها. الجنس الذكوري, في مقابل هذا, تربص لي في المدخل ممسكا بسكين الختان في يده. كانت أورنا امرأة تبلغ خمسة و ثلاثين, أكثر من ضعف سنواتي في هذه الليلة. و كأنما كانت تنفق نهرا كاملا من الأرجوان و القرمز و الفيروز و سائر الأحجار الكريمة على خنزير صغير لم يعرف ماذا يفعل بها, و إنما خطفها وبلعها بدون مضغ, و اختنق من الشبع.

بعد عدة أشهر تركت أورنا عملها في الكيبوتس. لم أعرف أين راحت. بعد سنوات عرفت أنها طلقت و تزوجت من جديد, و لفترة ما كان لها عمود ثابت في إحدى الجرائد النسائية الأسبوعية. قبل سنتين, في أمريكا, بعد محاضرة و قبل حفل استقبال, و داخل دائرة مزدحمة من السائلين و المناقشين, أومضت لي أورنا بعينيها فجأة, خضراء العينين, مشرقة, و أكبر بقليل مما كانت في أيام صباي, مرتدية فستان بأزرار فاتحة اللون, أضاءت عيناها لي بابتسامتها العارفة بكل الأسرار, ابتسامة الإغواء, العزاء و الإشفاق, ابتسامة الليلة إياها, و أنا, كالمأخوذ بالسحر, لم أكمل جملتي. شققت طريقي إليها, دفعت الواقفين في طريقي, و دفعت جانبا حتى العجوز المشدوهة التي كانت أورنا تدفعها على كرسيها المتحرك, توقفت و احتضنتها و ذكرت لها اسمها مرتين, و قبلتها بدفء على شفتيها. تخلصت مني بحركة رقيقة. لم تحاول أن تغمرني بابتسامة الجميلة التي جعلت وجهي يحمر في صباي. أشارت إلى الكرسي المتحرك و قالت بالإنجليزية: هذه أورنا, أنا الابنة. للأسف, أمي لم تعد تتحدث, و هي أيضاً لم تعد تميز الآن.

Friday 14 August 2009

شخص آخر يغني في حنجرتك يا عصفورة

يونا فولاخ

ترجمة: نائل الطوخي


يونا فولاخ هي واحدة من أهم المجددات في الشعر الإسرائيلي المعاصر، وذلك بسبب جرأتها بالتحديد، واستخدامها للإيروتيكا بوضوح لم يكن معهوداً في زمنها. ولدت عام 1944 وتوفت عام 1985. قتل أبوها، ميخائيل فولاخ، بنيران صديقة في حرب 48 وهي تبلغ من العمر أربع سنوات. ولدت وعاشت وماتت في شارع أطلق اسمه على اسم أبيها.

اكتشفها الشاعر ماكسيم جيلان الذي عرفها على المحرر جفريئيل موكيد، والذي كان أول من نشر لها قصائدها في مجلة "عخشاف" عام 1964. بدءا من عام 1972، أصبحت قريبة من هيئة تحرير دورية "سيمان كريئاه" ومحررها، مناحيم بيري، والذي نشر لها كتابين. وكانت من مؤسسي مجلة "بشيتا"، التي اعتنت بإدخال اللغة اليومية في الشعر.

في سن الواحدة والعشرين دخلت بإرادتها مصحة نفسية، حيث تناولت أقراص مخدر الـLSD، وهي التجربة التي وصفتها في عدد من قصائدها، ومنها قصيدة: "إذا خرجت لرحلة الإل. إس. دي". وفي عام 1981 اكتشفت مرض السرطان والذي ماتت بسببه بعد ثلاث سنوات.

عام 1982 نشرت في مجلة "عيتون 77" قصيدة أثارت حولها عاصفة بسبب موضوعها، "التفيلين"، وهو أداة يهودية مقدسة من الجلد تستعمل بغرض التعبد وتلف حول الرأس واليد. استخدمت الشاعرة "التفيلين" في سياق جنسي تماما، في قصيدة تقول فيها: "ضع أيضا التفيلين من أجلي/ لفه حول يدي/ فتته فيّ/ مرره برقة على جسدي/ حكه بي جيداً/ استثرني في كل الأماكن/ أفقدني الوعي من فرط الإحساس/ مرره على كسي/ اربطه بخصري/ حتى أنتهي بسرعة." بسبب هذه القصيدة، وصفتها نائبة وزير التعليم والثقافة، مريام جلزار تعساه، بأنها "بهيمة هائجة"، وقاطعتها صديقتها الشاعرة المتدينة زلدا فور نشر القصيدة.

التجارب الحميمية هي أساس كتابتها: الاهتمام الواضح بالجنس، شعور الإنسان بعدم انتمائه لجنسه، التجربة النسوية، الخوف من الموت (الموت غير البطولي في السياق الإسرائيلي)، الاهتمام بالجنون. ترجمت بعض قصائدها للإنجليزية، الإيطالية، الييدشية، وظهرت أنطولوجيا موسعة لقصائدها باللغة العالمية، الاسبرانتو. من دواوينها: "أشياء، 966"، "حديقتان، 1969"، "نور وحشي، 1983"، "أشكال، 1985"، "منظر، 1985"، "أردت أكثر.. مجموعة شعرية نشرت بعد وفاتها". نقدم هنا بعضا من قصائدها المغناة:


رجل جيد يحب بيتيا

رجل جيد يحب بيتيا

لسعادتي العظيمة

فلولا هذا كنت لأصبح قلقاً

من كان ليحب بيتيا

ولمن تعطي بيتيا حبها


رجل جيد مثلي يحب بيتيا

نتحدث نحن الثلاثة بصراحة

لولاه لكنت أنا لبيتيا

وقتها أشاروا لي أنها محتارة

وأنا زدت عليها بألا تتردد

فلماذا تحتار بيتيا وتعتذر


رجل جيد يحب بيتيا

لسعادتي العظيمة

فلولا هذا كنت لأصبح قلقاً

من كان ليحب بيتيا

ولمن تعطي بيتيا حبها


دائما نضحك نحن الثلاثة سوياً

على ما يقولونه ويضحكون

وأضحك أنا أيضا عندما تكون بيتيا سعيدة


كنت أعتقد أنه مثلما أننا اثنان

مثل أنه لبيتيا جناحان

ولكن لا، أنا فقط

لبيتيا جناح واحد، لبيتيا جناح واحد


رجل جيد يحب بيتيا

لسعادتي العظيمة

فلولا هذا لأصبحت قلقا

من كان ليحب بيتيا

من كان ليحب بيتيا

من؟


...................................................

الجنود خرجوا للطريق

الجنود خرجوا في الطريق

ذهبوا لمكان ما

في نفس المكان تقريبا

ينتظرهم شيء ما مخيف


الجنود خرجوا للأبد

خرجوا وفق الأوامر

يتساءلون هنا ما هو القتل

وحريتهم تضيع


الجنود جاءوا من فوق

من اتجاه السماء

ودائما يسيرون فصاعدا

إلى القبر الممطر


هم دائما يسيرون للخلف

ودائما ما يأتون من ظهري

أحدهم يسقط في البئر

والثاني الذي يقف معه يتعارك


دائما ما ينجذبون للأسفل

إلى هاوية الجحيم السفلية

في الهواء ينقض عصفور

سيأكل هناك بلا مفرش سفرة


سوف يأتون فيما بعد

عن طريق الغد

سوف يغنون بعد

نفس الشيء

اليوم سنصل

غدا سنذهب

اليوم سنلمس

رباط محبتك


.......................................................

مشاكل هوية

يا عصفورة، ماذا تغنين

شخص آخر

يغني في حنجرتك

شخص آخر

كتب أغنيتك

يغني في البيت

عن طريق حنجرتك

يا عصفورة يا عصفورة

ماذا تغنين

شخص آخر يغني

عن طريق حنجرتك


....................................................

محبوبتي الميتة

من القادم

اعطني كل ما

احتاجه

من يتبقى؟

اعطني كل ما هو موجود فقط

هاهو ميت

ها هي جريمة وقعت الآن

أستطيع

لو أنك فقط تنصت لي..


هاهو حي

وهاهو ميت

دم سائل أو دم مرتعش

دم حساس أو دم متجلط


قلتِ أنك ستعيشين للأبد

دائما ستكونين لي هناك

وأنا لازلت أبحث لازلت

إن كان الأبد

هو أنت.


القانون هو القانون،

طيب،

ماذا لدينا هنا للحديث عنه،

إذا ركبتَ،

إذا ركبتَ لإنقاذ صديق

تنكر، تنكر في هيئة عربة إسعاف

القاضي سيأتي بشرطي.

وستدفع الغرامة كلها

القانون هو القانون،

هو القانون.


هاهو حي

وهاهو ميت

دم سائل

أو دم مرتعش

دم حساس أو دم متجلط

إذا قلتَ أنك ستعيشين للأبد

دوما ستكونين لي هناك

فأنا لازلت أبحث لازلت

إن كان الأبد

هو أنت.


هو أنت

Friday 7 August 2009

إيلي، إيلي، لماذا شبقت عاموس كينان

عاموس كينان، أوري أفنيري

ت: نائل الطوخي


رحل يوم الثلاثاء الماضي عاموس كينان، وهو واحد من أهم الأدباء والشعراء والنحاتين الإسرائيليين، بعد أن عاني لعشر سنوات من مرض الزهايمر. هذه التدوينة عنه، وله.

ولد كينان عام 1927 في تل أبيب باسم "عاموس لفين". شارك في شبابه بحركة "هاشومير هاتساعير" وتنظيم "لحي" وهو أحد التنظيمات الصهيونية المسلحة قبيل حرب 48، المعروفة عبريا باسم حرب الاستقلال، درس العهد القديم في الجامعة العبرية بالقدس، شارك في حرب 48 وجرح في مذبحة دير ياسين ضمن إطار القوة الإسرائيلية التي هاجمت القرية العزلاء. وكان قد انضم قبل الحرب إلى حركة "الكنعانيين" والتي ظل تأثيرها واضحا عليه طوال مسيرته الفنية والأدبية. وعبر عنها بشكل واسع في كتابه "سوسنة أريحا، أرض إسرائيل: البيئة والهوية والثقافة."، 1998. وهي حركة حاولت الربط بين الشعوب التي كانت تعيش في فلسطين منذ ألف عام، وبين الشعب العبري، وليس اليهودي بالضرورة. في الأعوام 1950 – 1952 كتب العمود السريالي الساخر "عوز وشوث" في صحيفة "هاآرتس" من بعد بنيامين تموز، والذي كتب هذا العمود قبله. أثرت مقالاته الساخرة على أسلوب الكتابة الإسرائيلية. وفي جزء كبير منها كان يوجه سهامه ضد المؤسسة الدينية.

..............................

في عام 1952 تم إلقاء القبض عليه بتهمة إلقاء قنبلة على بيت وزير الاتصالات دافيد تسيفي بنكاسن، وهو الوزير الديني عن حزب "هامزراحي"، واتهم سويا مع شئلتيئيل بن يائير بإلقاء القنبلة احتجاجا على القانون الذي يمنع حركة السيارات الشخصية أيام السبت لتوفير البنزين. تم تبرئة الاثنين، ولكن زوجة كينان، الناقدة نوريت جيرتس، والتي كتبت عنه كتابا بعنوان "بحسب نفسه"، أوردت في كتابها اعتراف بن يائير بأنه شارك زوجها في تدبير الحادث، وكذلك شهد النشط السياسي ومؤسس حركة "جوش شالوم"، أوري أفنيري بأن كينان وبن يائير هما من نفذا الحادث، في شهادة نقدمها اليوم في المدونة. وبرغم تبرئته فلقد ترك كينان صحيفة هارآرتس وغادر إسرائيل إلى باريس والتي مكث بها تسع سنوات وظل يكتب هناك في صحيفة "هاعولام هازيه"، ولدى عودته بدأ الكتابة في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، وهي الكتابة التي كانت مرفقة برسومه.

.........................................

بعد حرب 1967 بدأ كينان في معارضته لسيطرة إسرائيل على أراضي الضفة الغربية وغزة وأقام عام 1970 حركة "مجلس السلام بين إسرائيل وفلسطين"، وذلك في الوقت الذي كانت فيه كلمة "فلسطين" تعد تعبيرا متطرفا.

كتب كينان عددا من الأعمال المهمة، منها "الطريق لعين حارود" وهو عمله الأكثر نجاحاً، يصف فيه حبكة متخيلة عن دولة إسرائيل التي تسيطر عليها حركة عسكرية متشددة وسعي نشط سري للوصول إلى مستوطنة عين حارود الحرة. تم تحويل الرواية إلى فيلم في عام 1990. كما كتب مسرحية "الأسد" التي أخرجها في باريس. وعدت مسرحيته "أصدقاء يتحدثون عن يسوع" واحدة من أكثر أعماله إثارة للجدل. تم منعها من العرض عام 1972 بدعوى أنها تستفز مشاعر المسيحيين، وأثارت نقاشات صحفية كثيرة حول "هل يمكن السخرية من الله على خشبة المسرح"، و"حدود حرية التعبير."

كينان هو أبو الصحفية شلومتسيون والمطربة رونا كينان، والتي غنت ألبوما كاملا من أشعاره ومهدى له، هنا نجد رابطاً لحديثها حول الألبوم مع صحيفة يديعوت أحرونوت وتدريباتها على الغناء له.







ننشر أيضاً هنا مقدمة كتابه بعنوان "كتاب المتع" 1970، وهي مقدمة ساخرة تقدم كثيرا من سمات أسلوبه العدواني والمحبب. كما ننشر مقالة أوري أفنيري في رثائه. وقطعة صغيرة من كتابه "تاريخ اليأس" عن يسوع المسيح والمسحاء الكاذبين. ويمكن لمن يحب العثور على مواد إضافية في صفحة معجبيه على موقع الفيسبوك.


مقدمة "كتاب المتع"، 1970

نطلب من ربة البيت المجتهدة ألا تقرأ كتابنا. هو ليس لها. ولن تجد به أي محتوى عن كيفية استخدام بقايا البنجر المخلل الموجود منذ الأمس. وخلطة الجزر المطبوخ مع شوربة أول الأمس، سويا مع بقايا لبنة يوسي الذي لم يرغب في إكمالها، وكل هذا سويا يوضع في فطيرة مسكرة. لا، لا نريدك هنا، يا ربة البيت. اشتري لك كتاباً آخر، رجاء. كتابنا يتوجه للمرأة المبذرة، الطائشة. للمرأة التي تصحو متأخرا، واهتمامها الأول هو التطلع في المرآة، وليس في زوجها بالذات. نحن نتوجه ليس للمرأة التي تتمنى فقط في سرها العثور على حبيب، وإنما التي نجحت أيضاً في الحصول عليه. وإذا علمنا هذه المرأة شيئا عن أسرار المطبخ، فنأمل أنه ذات يوم، في عطلة نهاية أسبوع سرية، سوف تطبح وجباتنا لحبيبها بالذات. أما زوجها فيمكن لها أن تترك له بقايا البنجر.

نعم، كتابنا يتوجه للرجل الذي لا يشكل صريخ الأطفال بالنسبة له الذورة الموسيقية. والذي لا يتذكر بدقة عيد ميلاد زوجته، وإنما هو مشتت قليلا في هذا الموضوع بالذات. نتوجه للرجل الذي ربما يكون قد ربى كرشاً، ولكنه لا يحاول بالضبط أن يبرزه. لرجل جشع، كريم، طائش ويحب الحياة. رجل ليس عضوا في الويتسو – [المنظمة الصهيونية العالمية]. رجل لا ينتظر 20 سنة حتى يترقى للمرة الأولى، و15 سنة لكي يسافر لأول مرة في الأجازة بدون زوجته، و35 سنة لكي يتجرأة على مضاجعة قحبة، عندما يكون قد أصبح عاجزاً.

باختصار، من هو قارئنا العزيز.

هو أنتِ، يا فتاتي، سيدتي الرقيقة، امرأة غير تقليدية، ملهمة الشعراء، أم سيئة لا تضحي بحياتها من أجل أطفالها وتؤمن بأن الأطفال سينجحون حتى بدون هذه التضحية، وأنها تضحية بلا جدوى. الله يعلم كم شخص قد يكره أماً تضحي بكل شيء من أجله، وكم شخص قد يحب ويحترم أما لم تضح بكل شيء ولذا فهي لا تطلب أيضا التضحية من أولادها. نعم، نعم، نتوجه لامرأة جذابة في أي سن، الطبخ عندها ليس واجبا كريهاً لمد الحيوانات المفترسة التي تسكن عندها بالطعام، وإنما فن، متعة وتضييع رائع للوقت. وباختصار، نتوجه لامرأة عصرية، ونعرف أن امرأة كتلك موجودة.

ورجلنا؟

هو واحد قد تكون له امرأة محبوبة، محبة وذكية، أو ربما يكون محبطاً، مطلقاً وبارداً. في الحالتين، هو لا يعزل نفسه عن متع الحياة. لا يغض بصره عندما تمر بنت جميلة في الشارع، ويستطيع في أي سن الاستيلاء على قلبها، وبالطبع جسمها كذلك. رجل ليست السيارة هي مصدر جاذبيته، ولا حساب البنك هو الذي يمنحه الأمان في حياته. رجل مستعد للمغامرة حتى لو كانت خطرة فعلاً، رجل يتساءل الرجال بغيرة وباحتقار عن سبب حب النساء له. رجل طائش، مبذر، مخادع قليلاَ، محبوب، مبتسم، يحبه الأطفال من جميع الأعمار وتحذّر سيدات البيوت أنفسهن وبناتهن وكناتهن منه. أنتم، والآخرون جميعاً، كل هؤلاء الذين يرغبون ويعرفون، وليسوا واثقين، واثقون ولكنهم يفرحون بأي تصديق على رأيهم، أنتم القراء الأعزاء لهذا الكتاب، الذي نقدمه لكم بحب.


* من "كتاب المتع"، 1970.

_____________________________________

حوار يجريه إيهود مانور مع كينان ويظهر فيه مشهد مسرحي كتبه للمثل الإسرائيلي الكوميدي شايكه أوفير.




إيلي إيلي لماذا شبقتني


جميع المسحاء [جمع مسيح] الكاذبين كانوا مسحاء حقيقيين: الله هو وحده الذي سمع صرختهم من أجل الخلاص. أول المسحاء الكاذبين والأكبر كان هو يسوع. تنبأ يسوع بملكوت السماء، الذي لم يقم وأشك في أنه سيقوم يوماً. يسوع وجميع المسحاء الذين جاءوا بعده تمسكوا بالإيمان أن هناك إلها وأن الإله يسكن في السماء وأنه يدير كل العالم الذي خلقه.

أول من تجرأوا على التشكيك في ماهية العناية الإلهية، ولو بصورة مقنعة وغير مباشرة، كانوا أنبياء إسرائيل.

عندما تنبأ ميخا بآخرة الأيام التي سيجلس فيها الذئب مع الحمل، بدا من كلامه أن الخلق الأول معيب.

صرخة يسوع: "إيلي، إيلي، لماذا تركتني"، أنبتت ديناً توحيدياً جديداً، أصبح بموجبه يسوع هو ابن الله الذي تركه.

وليس فقط أنه تركه: عبارة "إيلي، إيلي، لماذا شبقتني"، تصور يسوع وكأن الرب، أباه، قد قتله.

ثورات العبيد الكبرى في الأيام السابقة، وكذلك في أيامنا، تتوجه أيضا ضد القدر القديم الذي يلعب دورا في الواقع وفي وضع الإنسان. عندما يتجاهل الله الإنسان ولا يلعب دورا في العناية بوضعه، فإن الإنسان يثور عليه، الدين الجديد ليس ثورة، ولكنه بما أن الثائر هو الإنسان، فإن الدين الجديد أيضا يتحول إلى دين مؤسسي، وكل شيء يعود والعياذ بالله.

كل مسيح هو ثائر.

الحنين لمملكة السماء هو ثورة على الأرضي، المادي، وربما كذلك على الخلق نفسه. ثورة على من خلقه على هذه الشاكلة.

* من كتاب "تاريخ اليأس".



كلمة النشط أوري أفنيري عن رحيل رفيقه

أنا حزين اليوم. بالأساس لأن عاموس كينان ينتمي للثقافة العبرية التي أقمناها وخلقناها في السنوات السابقة لحرب الاستقلال. كانت هذه هي ثقافة تلك الحرب والبلاد حتى عشر سنوات بعد الحرب. بعد هذا احتضرت وقتلت، وبدلا منها جاء ما هو موجود اليوم. لذا فحقيقة أنه بدا غير موجود في السنوات الأخيرة هي حقيقة شبه رمزية. لأن الثقافة التي كان يمثلها لم تعد قائمة في الدولة اليوم. الثقافة العبرية، غير اليهودية.

كينان، مثلي، آمن أننا أمة جديدة، عبرية، ولدت في هذا البلد، ولذا فهي تنتمي له ومتجذرة فيه، وأن الشعب الآخر الموجود في البلد هو حليفنا بطبعه. عرفته على مدار حرب الاستقلال عند الأديب ميداد شايف، والذي أعجبنا به نحن الاثنين، ومنذ ذلك الحين بقينا صديقين على المستوى الشخصي، ولكن بالأساس أيضا شريكين في السياسة.

كان من أوائل من آمنوا بفكرة أننا نحتاج السلام مع الفلسطينيين، في فترة آمن فيها 99.9 % من الشعب بأنه ليس هناك من شيء كهذا مع الفلسطينيين أبداً. في 1957، بعد حرب سيناء التي عارضناها بحدة، قمنا، وآمنا سويا أن المستقبل يكمن في التحالف مع العالم العربي، أننا نخلق أمة عبرية جديدة ولذا فمستقبلنا هو مع الشعوب الأخرى في هذا الحيز.

شاركنا سويا في "منشار هاعفري"، وهي الخلفية التي تحدثت لأول مرة عن إقامة دولة فلسطينية، ما يسمى اليوم بـ"دولتين للشعبين"، وفوراً، بعد حرب الأيام الستة شارك معي في منظمة اسمها "فيدرالية إسرائيل – فلسطين"، تدعم إقامة دولة فلسطينية بجانب إسرائيل وخلق فدرالية بين الدولتين.

ولكن بالطبع فبجانب عمله السياسي، لم يقل نشاطه الأدبي أهمية. لقد كان واحد من المواهب العظمى في جيلنا. لم يصل أبدا إلى كتابة الرواية العبرية الكبرى التي انتظرناها جميعاً، لكنه كتب عدة أشياء قصيرة لا تنسى، وهنا ظهرت موهبته. هكذا ففي عموده الساخر – الساطيري "عوزي"، الذي خلق مدرسة كاملة في أعقابه، كنب عملا كلاسيكيا عبريا واليوم لا تغيب كتاباته عن أية أنطولوجيا عبرية.

أثناء قضية إلقاء القنابل على بيت الوزير دافيد تسيفي بنكاس، عرفت من البداية أنه هو من فعل هذا. لم يخف هذا عني أبدا. عندئذ، اضطر لترك جريدة "هاآرتس" إلى جريدة "هاعولام هازيه". كان فنان اللغة العبرية، الصبارية الجديدة، واستخدمها بصورة محكمة لأجل التعبير عن أفكاره الأكثر عمقاً.

لقد أظهر أنه يمكن، على خشبة المسرح وفي الأدب، التحدث باللغة العبرية الجديدة، البسيطة، المحكمة التي نقلها عنه جيل كامل. لقد كان مجايلا لبن آموتس، أوري زوهير وكل مبدعي جيل حرب الاستقلال. وليس صدفة، على ما يبدو، أنه غادرنا بالتحديد في عصر أطل فيه برأسه كل ما كان يعارضه. سوف يترك مكانه فارغاً جداً.


* عن صحيفة "هاآرتس"

....................................

* الصورة المرافقة لقطعة "إيلي إيلي لماذا شبقتني" هي عمل نحتي لكينان باسم "المسيح".