عاموس عوز
ترجمة: نائل الطوخي
عاموس عوز واحد من أكثر الأدباء الإسرائيليين شهرة، إن لم يكن أكثرهم شهرة على الإطلاق، ولد في القدس باسم عاوز كلاوزنر، جده لأمه جاء من مدينة روفينو بأوكرانيا، وهاجر إلى إسرائيل عام 1934. أمه وأبوه كانا محسوبين على الحركة التصحيحية الصهيونية، التابعة لتيار جابوتينسكي، أحد أكثر التيارات الصهيونية عنصرية في بدايات قيام إسرائيل. أمه، بانيا، انتحرت وهو في سن الثانية عشرة.
في سن الخامسة عشر ترك عاموس البيت منضما إلى كيبوتس حولدا، هناك تبنته عائلة حولدا. واختار لنفسه اسم "عاموس عوز" وتزوج من نيللي زميلته بالكيبوتس، وأنجب منها بانيا وجاليا ودانيال. وذلك قبل انتقاله إلى بلدية "عيريد" التي يقيم فيها حتى الآن. وباستثناء عدة مقالات بصحيفة الكيبوتس وبصحيفة "دافار" فلم ينشر عوز شيئا حتى سن الثانية والعشرين، والذي بدأ فيه في نشر القصص. مجموعته القصصية الأولى "بلاد ابن أوى" صدرت عام 1965. وروايته الأولى "مكان آخر" صدرت عام 1966. بدأ عوز ينشر في دار نشر "عام عوفيد" إلى أن تركها إلى دار "كيتير" والتي وفرت له عقدا يشتمل على مرتب شهري ثابت له غير متصل غير مشروط بانتظامه في الكتابة.
***
روايته الأشهر "ميخائيلي" – والمترجمة عربيا تحت عنوان "حنا وميخائيل" صدرت عام 1968. وترجمت لثلاثين لغة. تصف الرواية قصة حب وزواج فتاة على خلفية القدس في الستينيات. تدخل الرواية العوالم النفسية حنا، وتصف الكوابيس التي تسيطر عليها. أما كتابه الأوتوبيوجرافي "قصة عن الحب والظلام" - الذي يصف بعض تفاصيل الحياة بالكيبوتس ونترجم هنا فصلا منه عن أول تجربة جنسية للكاتب - فيلقي المزيد من الضوء على شخصية حنا، والتي ثارت التكهنات أن عوز يقصد بها أمه.
***
المواقف السياسية لعاموس عوز لا تلقى الرضا دائما، فبرغم انتماءه لتيار السلام في إسرائيل، إلا أنه مازال يواصل تعريف نفسه كصهيوني، ويصب غضبه وانتقاداته الحادة على اليسار غير الصهيوني في إسرائيل والذي - في رأيه الغاضب- "ينكر وجود إسرائيل"، وبرغم هذا، فيحسب لعوز أنه عارض المستوطنات بالأراضي المحتلة منذ اليوم الأول لقيامها.
في واحد من خطبه قال: "على الإنسان أن يعمل من أجل الآخرين وألا يتجاهلهم. إذا رأى حريقا، فعليه أن يحاول إطفاءه، وإن لم يكن يملك دلاء ماء، يمكن له استخدام الأكواب، وإن لم يكن لديه كوب، فهو يملك كفاً، وإن لم يملك كفا، فهو يملك ملعقة صغيرة." وبناء على هذه العبارة فقد أقيمت في إحدى زياراته إلى البلاد الاسكندافية "مسيرة الملاعق"، والتي علق أعضاؤها على ملابسهم ملاعق صغيرة.
بلغ عوز السبعين عاما في مايو. وبهذه المناسبة فقد أقامت له بلدية "عيريد التي يقيم فيها احتفالية استمرت ثلاثة أيام حضرها الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز.
يمكن قراءة المزيد عن عاموس عوز هنا وهنا.
الفيديو الملحق هو لحوار أقيم معه بمناسبة حصوله على جائزة أمير استورياس عام 2007.
فصل من "قصة عن الحب و الظلام"
كانت هناك في كيبوتس حولدا بستانية, أو معلمة للفصل الدراسي أ. سوف أدعوها أورنا. كانت مدرسة بالأجر تبلغ خمسا و ثلاثين عاماً, و تسكن عندنا في غرفة أخيرة في أحد الأجنحة القديمة. تسافر كل خميس إلى زوجها و تعود لعملها في حولدا كل أحد في الصباح الباكر. دعتني مرة و معي اثنتين من زميلاتي في الفصل الدراسي إلى غرفتها مساء للحديث عن قصائد ديوان "نجوم بالخارج" و للاستماع معها إلى كونشرتو للكمان و الأوركسترا لمندلسون و للسيمفونية الثامنة لشوبرت.
الجرامافون كان منتصبا على كرسي بامبو بلا ظهر, في زاوية غرفتها, التي اشتملت كذلك على سرير و طاولة و كرسيين و فنجان كهربائي و خزانة ملابس مغطاة بستارة مشجرة وقذيفة على هيئة إصيص زرع, و نبتت منها أشواك بنفسجية. على حيطان غرفتها علقت أورنا لوحتين لجوجان, نساء سمينات و ناعسات, نصف عاريات, و كذلك بعض الخربشات بالقلم الرصاص, رسمتها هي بنفسها, و صنعت لها بيديها بروازاً. ربما بتأثير لوحات جوجان رسمت هي أيضاً صوراً لنساء عاريات, ممتلئات, في أوضاع الاضطجاع أو الاتكاء.
كل هؤلاء النساء, نساء جوجان و نساء أورنا, كن مرويات و كسولات كأنهن بعد فعل اللذة, و مع هذا فلقد بدا من أوضاعهن المرتاحة أنهن مستعدات لغمر من لم يرتو بعد باللذة.
على رف الكتب, فوق سرير أورنا, وجدت "رباعيات" عمر الخيام, و طاعون كامي, بجوارهما انتصب برجنت و هيمنجواي و كافكا, و كذلك أشعار ألترمان و راحيل و شلونسكي و ليئا جولدبرج و حاييم جوري و ناتان يوناتان و زروبابل جلعاد و قصص يزهار و "طريق رجل" ليجئال موسينزون, و قصائد "في الصباح في الصباح" لأمير جلبوع و "أرض الظهيرة" لعين هالال و كذلك "أوراق الصيف" و "موت محب" لرابندراندت طاغور. بعد أسابيع قليلة اشتريت لأورنا, بقروشي, "اليراع" و كتبت لها على صفحتها الأولى إهداء روحياً, كتبت فيه كلمة "نابض".
كانت أورنا امرأة خضراء العينين, نحيلة الرقبة, و لها صوت موسيقي مدغدغ و كفان صغيرتان و أصابع رقيقة, غير أن ثدييها كانتا ممتلئتين و صلبتين و كان فخذاها قويين. في الغالب كان وجهها جادا و هادئا غير أن هذه الملامح كانت تتغير فجأة عندما تبتسم: كانت لها ابتسامة جانبية, ابتسامة عجلى تقريبا, كأنها غمزة سريعة, غاصت في داخلك و رأت هنالك كل الأسرار و سامحتك. كان إبطاها نظيفان من الشعر و لكن نظافتهما لم تكن على نفس الدرجة, كأنما نظفت واحدا منهما بقلمها الرصاص. عندما كانت تقف كانت تريح كل ثقلها دوما على قدمها اليسرى, و بهذا يتقوس عن غير عمد فخذها الأيمن. كانت تحب التعبير عن آرائها بخصوص الفن و الوحي ووجدت في مستمعاً مخلصاً.
بعد أيام قليلة تشجعت, أمسكت بمجلد أشعار "على العشب" لوالت ويتمان ترجمة هيلكين (و كنت قد حدثت أورنا عنه في الليلة الأولى) , و عدت مجدداً و خبطت على باب غرفتها مساء, كنت هذه المرة وحدي. قبل هذا بعشر سنوات كنت أجري هكذا إلى شارع صفنيا, إلى بيت المعلمة زلدا.
أورنا كانت ترتدي فستانا طويلاً مزرراً من الداخل في صف طويل من الأزرار. كان الفستان بلون الكريم, غير أن النور, بفضل غطاء المصباح الملون, منحه لونا مائلاً إلى الاحمرار. عندما وقفت أورنا بيني و بين المصباح ارتسم شكل فخذيها و خطوط كيلوتها من خلف قماش الفستان. وضعت على الجرامافون هذه المرة "بر جينت" لجريج.
جلست بجانبي على السرير المغطى بسجادة شرقية و فسرت لي الأحاسيس التي يعبر عنها كل جزء من العمل. أما أنا فقرأت لها قصائد من "على العشب" و انطلقت في استنتاجاتي حول تأثير والت ويتمان على أشعار عين هالال.
قشرت لي أورنا ثمرة يوسفي و سقتني ماء باردا من إناء فخاري مغطى بشاش. وضعت كفها على ركبتي مشيرة لي أن أتوقف لحظة عن الحديث, و قرأت لي قصيدة حزينة كتبها أوري تسيفي جرينبرج, ربما لم تكن من مجلد "شوارع النهر" و الذي كان أبي يحب إلقاء قصائده بصوت عاصف و إنما من كتاب لم أعرفه, كان له اسم غريب: "أنكراون على قطب الحزن".
بعدها طلبت مني أن أحكي لها قليلا عن نفسي, و لم أعرف ماذا أحكي و تحدثت عن الكثير من الأشياء المختلطة, عن فكرة الجمال, إلى أن عادت ووضعت كفها على قفاي و قالت لي كفى, لنكن هادئين قليلاً؟ في العاشرة و النصف قمت. خرجت للتجوال تحت ضوء النجوم بين المخازن و الزرائب. كنت سعيداً لأن أورنا دعتني للمجيء ثانية, في إحدى الليالي, بعد غد, بل وحتى غداً.
بعد أسبوع أو اثنين دارت شائعة في الكيبوتس. كان هناك من دعوني "العجل الجديد لأورنا". كان لديها معجبون, أو محادثون, عديدون, غير أن أحدا منهم لم يكن بالكاد يبلغ ستة عشر عاما, ولم يكن بإمكان أحدهم أن يستظهر شفويا, مثلي, قصائد ديوان "فرحة الفقراء" أو "برق في النهار".
مرة أو مرتين وقف أحد معجبيها و انتظر في الظلام بين أشجار الأكليبتوس أمام الجناح: انتظر خروجي, من غرفتها, و أنا, في لسعة الغيرة, تلكأت في ظل الجدار, و تمكنت من رؤيته يدخل الغرفة التي كانت أورنا تعد فيها القهوة الثقيلة في الفنجان, و فيها قالت أنني "غير عادي", بل و سمحت لي بتدخين عدة سجائر برغم أنني كنت لا أزال صبيا ثرثاراً في الصف الحادي عشر. لمدة ربع ساعة وقفت هناك, ظلاً بين الظلال, حتى انطفئ النور.
في إحدى المرات, في هذا الخريف, ذهبت في الثامنة مساء إلى غرفة أورنا. لم أجدها, ولكن, و لأن نور مصباحها غمرني في الخارج, نور باهت غامض من خلف الستائر المنسدلة, و لأن الباب لم يكن مغلقاً, فلقد دخلت و ربضت على الحصير منتظرا إياها.
انتظرت لساعات طوال, حتى خفت أصوات الرجال و النساء من الشرفات, علت مكانها أصوات الليل, بكاء ابن آوى و نباح الكلاب و ثغاء الأبقار من بعيد, نقيق أوركسترا الضفادع و الصراصير.
تخبطت فراشتان بين المصباح و بين غطاءه الداكن المائل إلى الحمرة. ألقت الأشواك في المزهرية القذيفة بظل متكسر على الأرض و الحصير.
نساء جوجان على الحيطان, و الخربشات العارية التي رسمتها أورنا بقلمها الرصاص, أثارت بي فجأة نوعا من التخيل الغامض لجسدها بدون ملابس, تحت الدش, كيف تبدو على السرير مساء بعد ذهابي, لا تكون وحدها, بل ربما مع يوئاف, أو مع مندي, برغم أن لها زوجاً في مكان ما, ضابطاً في الجيش النظامي. و بدون أن أقوم من مكمني على الحصير, طويت للحظة الستارة التي غطت خزانة ملابسها و رأيت ملابس داخلية بيضاء و ملونة و قميص نوم واحد من النايلون, شفاف تقريبا, بلون الخوخ.
في النهاية, على العتبة, توقفت, و بدون إخراج أصابعي من الخوخ و كفي من التل فتحت عيني و اكتشفت أن أورنا قد دخلت بدون أن أشعر بها و وقفت حافية متطلعة إلي على طرف الحصيرة, أغلب جسدها مرتكن على قدمها اليسرى, لذا فقد كان الجانب الأيمن من خصرها منحنياً قليلاً. كانت مريحة يدها على هذا الجانب, و بيدها الأخرى داعبت برفق كتفها من تحت شعرها المكشوف.
هكذا وقفت و نظرت لي و ابتسامتها الدافئة الصبية ممتدة على شفتيها و عيناها الخضراوتان تضحكان لي كأنما تقولان: أعرف, أعرف أنك طبعا كنت تريد الآن أن تموت في هذا المكان, و أعرف انك كنت لتصبح أقل ارتباكا لو وقف في مكاني هنا الآن قاتل يوجه إليك رشاشه, و أعرف أنه بسببي فأنت الآن بائس حتى النخاع, و لكن لماذا أنت بائس؟ انظر إلي, هل أنا مرتبكة مما رأيته عندما دخلت الغرفة. كفاك بؤساً.
أغمضت عيني من شدة الخوف و اليأس وتظاهرت بالنوم. لربما تصدق أورنا أن شيئا لم يحدث, و إن كان شيء قد حدث فلقد حدث في الحلم فقط، و إن كان قد حدث في الحلم فأنا آثم و حقير, غير أنني أقل حقارة مما لو كنت قد فعلت هذا في اليقظة. قالت أورنا: "لقد أزعجتك", و لم تضحك عندما قالت هذا و إنما أضافت القول أنها آسفة, أعتذر.
وفجأة, و بنوع من الكسل, حركت خصرها في حركة راقصة معقدة و قالت أن لا, أنا في الحقيقة لا أعتذر, لقد كان لطيفا بالذات أن تنظر لي, لأن وجهك في هذه اللحظات بدا متألما و مضيئا في ذات الوقت. و لم تقل شيئاً آخر لي, و إنما بدأت في حل أزرارها, من الزر الأعلى و حتى الخصر, و وقفت أمامي حتى أواصل التطلع إليها. و لكن كيف يمكن لي أن أفعل هذا؟
أغمضت عيني بالقوة, غمزت بعيني و في ذات الوقت استرقت النظر إليها و توسلت لي ابتسامتها الفرحة ألا أخاف, ماذا هناك؟ وصدرها, الصلب, حتى هو بدا كأنه يتوسل لي. نزلت على ركبتيها, على الحصيرة إلى يميني. أمسكت كفي و أبعدتها عن أكمة بنطلوني ووضعت بدلا منها كفها ثم فتحت و حلت و حررت، وسلسلة من الشرر الحاد كالمطر الثقيل من النيازك مرت على طول جسدي. أغلقت عيني مجدداً. لكني لم أفعل هذا إلا بعد أن رأيتها تنثني و تنحني ثم تقترب مني و تميل و تأخذ و ترشد يدي, هنا وهنا, و تمس شفتاها جبهتي و تمسني في عيني المغمضتين ثم تأخذ يدها و تغطسهما فيّ, في كلي, و في نفس اللحظة تدور في عمق الجسد مثل برق رخو, ثم, بعدها مباشرة, يغمر برق قاطع. كان على أورنا أن تغلق فمي بقوة بسبب الحيطان غير السميكة.
عندما ظنت أورنا أن هذا كاف و رفعت أصابعها لكي تدعني أتنفس ثانية كانت مضطرة لأن تسرع وتغلق شفتيّ بقوة لأنني لم أكتف بعد. ضحكت و داعبتني كأنما تداعب طفلا ثم قبلتني على جبيني و غطت رأسي بشعرها و أنا, دامع العينين, بدأت في رد قبلاتها بقبلات خجلانة و ممتنة, على وجهها على شعرها و على ظهر كفها. أردت أن أقول شيئا ما غير أنها لم تسمح لي, ثم غطت فمي بيدها حتى تنازلت عن الحديث.
بعد ساعة أو اثنتين أيقظتني. كان جسدي يريد المزيد منها. كنت ممتلئا بالخجل والمهانة, و هي لم تبخل بل همست لي كأنما بابتسامة تعال خذ, و همست أنظروا كم أنه وحش صغير, و كانت قدماها محروقتين بلون بني ذهبي و على فخذيها كان هناك زغب ذهبي دقيق يمكن بالكاد رؤيته. بعد أن خنقت مجدداً بكفها سيل صرخاتي أوقفتني و ساعدتني على أن أزرر ملابسي. صبت لي ماء بارداً من الآنية الفخارية المغطاة بقطعة شاش بيضاء, وداعبت رأسي وضمتني إلى صدرها. قبلتني قبلة أخيرة, على طرف أنفي بالضبط, ثم أرسلتني إلى برودة الصمت الثقيل في الثالثة فجرا بليل خريفي.
عندما جئتها صباحا للاعتذار منها, أو للتوسل إليها بأن تنسى المعجزة, قالت: انظروا, هاهو شاحب كالطباشير. ماذا حدث لك؟ تعال اشرب كوبا من الماء. أجلستني على الكرسي و قالت تقريبا هذا: شوف, لم تحدث أية كارثة غير أنه منذ هذه اللحظة أريد أن يكون كل شيء كما كان قبل الأمس, ماشي؟ كان صعبا علي أن أنفذ ما رغبت فيه, وبالتأكيد فلقد أحست أورنا أيضا بهذا.
هكذا بهتت ليالي قراءة الشعر على صوت شوبرت و جريج و برامز المنطلق من الجرامافون. بعد مرة أو اثنتين توقفت, فقط ابتسامتها كانت تحط على وجهي إذ يمر واحد منا بالآخر. كانت ابتسامة مشبعة بالكسل, بالفخر و الحب: ليس كمحسنة يشرق وجهها للصبي المفضل لديها و إنما كرسامة تنظر إلى لوحة رسمتها, و برغم أنها في ذات الوقت تذهب إلى لوحات أخرى فهي لا تزال راضية عن صنعتها و لا تزال فخورة بالتذكر و فرحة بالعودة لرؤيتها من بعيد. منذئذ صرت أحب أن أتواجد بين النساء.
مثلما يهيأ لجدي ألكسندر, و برغم أنني على مر السنوات تعلمت أن أعرف القليل, فلا يزال- مثلما في تلك الليلة في غرفة أورنا – لا يزال يهيأ لي أن مفاتيح السعادة كامنة في يد النساء. يبدو لي تعبير "أعطته من محاسنها" صائبا و ثاقبا أكثر من التعبيرات الأخرى. تثير بي محاسن النساء, بخلاف الرغبة و الإثارة, موجة من الامتنان الطفولي أيضاً, مع رغبة في السجود لها: لكوني أكثر ضآلة من كل هذه الأعاجيب.
ألست ممتنا لك هذه القطرة الوحيدة, مندهشاً و عاجباً, فما بالك بالبحر إذن. و كأنني دوما فقير على الباب: أليست المرأة دوما أكبر وأكثر اتساعا مني و هي فقط ما تملك الاختيار, أن تفيض أو لا تفيض. ربما كمنت هنا أيضا غيرة خفيفة من جنس المرأة, هي الثرية الرقيقة و المعقدة كثيرا, كأفضلية العود على الطبلة. أو من خلال صدى ذكرى أولية لأول أيام حياتي: ثدي أمام سكين.
ألم تكن من انتظرتني على الباب فور مجيئي للعالم امرأة تسببت لها في ألم عظيم, و ردت لي هذا بتفضل رقيق, ردت لي السيئة بالحسنة, و قدمت لي ثديها. الجنس الذكوري, في مقابل هذا, تربص لي في المدخل ممسكا بسكين الختان في يده. كانت أورنا امرأة تبلغ خمسة و ثلاثين, أكثر من ضعف سنواتي في هذه الليلة. و كأنما كانت تنفق نهرا كاملا من الأرجوان و القرمز و الفيروز و سائر الأحجار الكريمة على خنزير صغير لم يعرف ماذا يفعل بها, و إنما خطفها وبلعها بدون مضغ, و اختنق من الشبع.
بعد عدة أشهر تركت أورنا عملها في الكيبوتس. لم أعرف أين راحت. بعد سنوات عرفت أنها طلقت و تزوجت من جديد, و لفترة ما كان لها عمود ثابت في إحدى الجرائد النسائية الأسبوعية. قبل سنتين, في أمريكا, بعد محاضرة و قبل حفل استقبال, و داخل دائرة مزدحمة من السائلين و المناقشين, أومضت لي أورنا بعينيها فجأة, خضراء العينين, مشرقة, و أكبر بقليل مما كانت في أيام صباي, مرتدية فستان بأزرار فاتحة اللون, أضاءت عيناها لي بابتسامتها العارفة بكل الأسرار, ابتسامة الإغواء, العزاء و الإشفاق, ابتسامة الليلة إياها, و أنا, كالمأخوذ بالسحر, لم أكمل جملتي. شققت طريقي إليها, دفعت الواقفين في طريقي, و دفعت جانبا حتى العجوز المشدوهة التي كانت أورنا تدفعها على كرسيها المتحرك, توقفت و احتضنتها و ذكرت لها اسمها مرتين, و قبلتها بدفء على شفتيها. تخلصت مني بحركة رقيقة. لم تحاول أن تغمرني بابتسامة الجميلة التي جعلت وجهي يحمر في صباي. أشارت إلى الكرسي المتحرك و قالت بالإنجليزية: هذه أورنا, أنا الابنة. للأسف, أمي لم تعد تتحدث, و هي أيضاً لم تعد تميز الآن.
رائع جدا
ReplyDeleteخطوة جريئة و شجاعة
هذه هي المرة الاولى التي اطلع فيها على شيء من الادب العبري واتعرف على احد رموزه.. لا شك ان هذا سيشجعني على التعرف على المزيد
ReplyDelete