Sunday, 23 May 2010

أطفال خطرون


عاميت جورن

ترجمة: نائل الطوخي

مشهد من سيناريو فيلم "أطفال خطرون" لعاميت جورن. الفيلم يوثق لمسيرة علاج رجال عنيفين لتخليصهم من العنف. نجد هنا تفاصيل علاج، حوار بين نشطة اجتماعية وبين أحد الذين يتم علاجهم. المشهد منشور في مجلة "هاكيفون مزراح".




أطفال خطرون

المعالِجة: أنا فعلا لا أعرف ما العمل. لديّ مريض عنيف بلا هوادة. طول الوقت هو عنيف. يده تمتد إلى كل شيء. يتدخل في كل شيء...

المعالَج: أعتقد أن هذا موضوع إيجابي.

المعالجة: فعلا؟ هل تعرف هذا الموضوع؟

المعالج: أعرف هذا الموضوع من الحياة. أشعر أن هناك وجهاً آخر للعملة. أنا كنت عنيفاً. وبلا شك، فلو لم أكن عنيفا كان الوضع ليصبح أفضل كثيرا في حياتي. ولكن المجتمع، لقد تحملته، وضربته، وتجاوزته أيضاً.

المعالجة: وجدت تكنيكا قد يساعدك بشدة في حياتك كي تعيش. ترتب عالمك بشكل واضح جدا – هناك مسموحات، وهناك ممنوعات، هناك قوانين واضحة للغاية. مثلا. لا يصح ضرب المرأة. إذن حتى أضرب زوجتي فيجب عليّ تحويلها لرجل، لأنه ممنوع ضرب المرأة.

المعالج: ممنوع ضرب المرأة.

المعالجة: بالضبط. إذن فكي تتعايش مع هذه الصراعات التي يبدو أنك غير قادر على تحملها، عليك فورا بترتيبها. لأنه ممنوع ضرب المرأة وأنا أضرب المرأة.

المعالج: نعم، نعم...

المعالجة: إذن فكيف يمكنني التعايش مع هذا التوتر؟ سوف أحولها إلى رجل!

المعالج: لأنه يعصبني السماع بأن هناك رجلا عنيفا ضد النساء. أنا لا أريد رفع يدي على المرأة. أنا لا أريد، أنا لا أريد، أنا لا أريد. ورفعتها. أنا أنتمي لمجتمع معين يرفعها. أنا لا أريد أن أكون في هذا المجتمع. أنا أريد أن أكون في مجتمع يكره هذا، يحتقر هذا، يقرفه هذا.

المعالجة: هكذا تنجح في العمل على نفسك، لأنك أيضا لا تريد التنازل عن هذا.

المعالج: لأنني لو انتميت لهذا المجتمع فعلي تقبل زوج أمي الذي يضربني.

المعالجة: صحيح.

المعالج: وأنا لا أستطيع. ليأتوا لي ويقولوا الآن: "زوج أمك مر بأشياء في حياته. "

المعالجة: ما يزعجني هو أنك غير قادر على تجاوز عنفك. لأن زوج أمك في الحقيقة لا يهمني سوى كقشرة الثوم...

المعالج: سوف أجد طريقة...

المعالجة: ... ولا يهمك أيضاً.

المعالج: سوف أجد طريقة.

المعالجة: ولكنك اليوم في هذا المكان. أنت لم تعد الطفل الذي يبلغ السابعة من عمره، أو الثامنة، أو السادسة عشر، والذي يسيئون له. أنت غير قادر على تجاوز كونك ضحية. أنت زوج أبيك. أنت الأب الذي يسيء لابنه الصغير. أنت رجل عنيف.

Friday, 21 May 2010

بين نزار قباني وألموج بيهار

ألموج بيهار

ترجمة: نائل الطوخي



يعمل الشاعر الإسرائيلي – من أصل عراقي - ألموج بيهار على مشروع شعري كامل يترجم فيه بعضاً من قصائد نزار قباني إلى العبرية، ترجمته ليست حرفية تماماً، أو أنها ليست حرفية أبداً. يستغل هذه العملية ليكتب قصيدته هو، المتأثرة بقباني والتي تستمد طاقتها من شعره. بعض القصائد منشورة في العدد الثامن عشر من مجلة "هاكيفون مزراح" (الاتجاه شرقاً). وكتب بهار في تقديمه لها قائلا:

"ملحقة هنا خمسة ترجمات/ معالجات لقصائد نزار قباني (1923-1998)، المولود في دمشق، من كتابه "مئة رسالة حب"، بيروت 1972. هذه القصائد هي جزء من مشروع أكثر اتساعا من الترجمة/ المعالجة التي قمت بها على مختارات من قصائد هذا الديوان. في طريق الترجمة – المعالجة أسير في أعقاب بعض ترجمات العصر الوسيط من العربية إلى العبرية، وعلى رأسها، الحريزي الأسباني الذي ألف "كراسات إيتيئيل" أمام مقامات الحريري العراققي، وكذلك ترجمة مغامرات "الراهب وابن الملك" لأفراهام بن حسداي. الترجمة التي قمت بها هذه هي في حالات قليلة حرفية تماما، "ترجمة" فعلا، وفي حالات قليلة أخرى فهي لا تتصل بقصائد نزار قباني، الذي أستخدمه كاسم شهير فقط أكتب قصائد لولاه لما كنت لأكتبها، في سائر الحالات فالمعالجة هي بين بين، ذات صلة واضحة بقصائده، وكذلك مع انحرافات واضحة."

ننشر هنا بعض القصائد ملحقة بأصلها القباني:






نزار قباني:

ألموج بيهار:

كلما رأيتك..

أيأس من قصائدي.

إنني لا أيأس من قصائدي

إلا حين أكون معك..

جميلة أنت.. إلى درجة أنني

حين أفكر بروعتك.. ألهث..

تلهث لغتي..

وتلهث مفرداتي..

خلصيني من هذا الإشكال

كوني أقل جمالاً..

حتى أسترد شاعريتي

كووني امرأة عادية..

تتكحل.. وتتعطر.. وتحمل.. وتلد

كوني امرأة مثل كل النساء..

حتى أتصالح مع لغتي..

أيأس من احتمال كتابة قصيدة

عندما أفكر في جمالك..

كيف تقدر الكلمات على أن تصف منخارك

ورقبتك وأنفاسي محبوسة

وشفتاي ترتعشان وكل كلماتي خرساء.

أيأس من احتمال كتابة قصيدة

عندما أفكر في الطريقة التي تتكلمين بها

في الطريقة التي تفكرين وتمشين بها

لو تنازلتِ عن نبالتك ستنقذينني

من السكوت. إن أصبحت امرأة تتزين

وترش على رقبتها عطراً وتلد

من رحمها سأقدر أن أكتب عنك شعراً

ولكن إن لم أيأس من احتمال كتابة قصيدة

لن يكون بي هذا الدافع الذي يدفعني

لأحاول مع كل هذا أن أكتب لك قصيدة

لكي أكون جديرا بأن أزين

رقبتك وصدرك ويديك

واسمك

الذي أخاف من ذكره


نزار قباني:

ألموج بيهار:

إنتهتْ معكِ..

مملكةُ شؤوني الصغيرة.

لم يعد لديَّ أشياء أملكها وحدي.

لم يعد عندي زهورٌ أنسّقها وحدي.

لم يعد عندي كُتُبٌ

أقرؤها وحدي..

أنتِ تتدخّلين بين عيني وبين وَرَقتي.

بين فمي ، وبين صوتي.

بين رأسي ، وبين مخدَّتي.

بين أصابعي ، وبين لُفافتي.

مملكة الشئون الصغيرة التي حكمتها

بمتعة بالغة انهارت عندما جئتِ.

لم يعد لديَ أشياء أملكها وحدي،

لم أعد أنسق الزهور وحدي،

لم أعد أقرأ الكتب وحدي.

لم أعد أقرر ما أشتريه

وما أبيعه وحدي.

أنت جئت بين عيني وبين الأوراق،

بين فمي، وبين صوتي،

بين رأسي، وبين المخدات،

بين أصابعي وبين اللفافة،

بين بداية القصيدة وبين منتهاها.


مع الشاعر الفلسطيني مروان مخول في قرية أبو ديس الفلسطينية

نزار قباني:

ألموج بيهار:

طبعاً..

أنا لا أشكو من سُكْناكِ فيّْ..

ومن تدخّلك في حركة يدي..

وحركة جفني.. وحركة أفكاري

فحقولُ القمح لا تشكو من وفرة سنابلها

وأشجارُ التين لا تضيق بعصافيرها

والكؤوس لا تضيق بسكنى النبيذ الأحمر فيها.

كلُّ ما أطلبه منكِ يا سيّدتي

أن لا تتحرّكي في داخل قلبي كثيراً..

حتى لا أتوجّع..

طبعاً، أنا لا أشكو من سكناك فيّ

ومن تدخلك في حركة يدي،

وحركة عيني، وحركة أفكاري،

كما شجرة التين لا تشكو حينما تضيف

على غصونها عصافير كثيرة، كما الكأس

لا تشكو عندما يُصب فيها نبيذ كثير

كما هذه القصيدة لا تشكو عندما تتطفل عليها

أعين كثيرة جداً، أو

أعين قليلة جداً

نزار قباني:

ألموج بيهار:

إنزعي الخنجر المدفون في خاصرتي

واتركيني أعيش ..

إنزعي رائحتك من مسامات جلدي

واتركيني أعيش ..

إمنحيني الفرصة ..

لأتعرف على امرأة جديدة

تشطب اسمك من مفكرتي

وتقطع خصلات شعرك

الملتفة حول عنقي ..

إمنحيني الفرصة ..

لأبحث عن طرق لم أمش عليها معك .

ومقاعد لم أجلس عليها معك ..

ومقاه لا تعرفك كراسيها ..

وأمكنة ..

لا تذكرك ذاكرتها .

إمنحيني الفرصة ..

لأبحث عن عناوين النساء اللواتي

تركتهن من أجلك ..

وقتلتهن من أجلك

فأنا أريد أن أعيش ..

انزعي الخنجر المدفون في خاصرتي

واتركيني أعيش..

انزعي رائحتك التي دفنتيها في جلدي

واتركيني أعيش..

امنحيني الفرصة..

لألتقي امرأة جديدة...

كي تشطب اسمك من مفكرتي

وتقطع ضفائرك

التي تخنق رقبتي...

امنحيني الفرصة

لأبحث عن طرق لم أمش عليها معك

ومقاعد لم أجلس عليها معك...

وأمكنة لا تذكرك

امنحيني الفرصة

لأبحث عن عناوين النساء اللواتي

تركتهن من أجلك..

وقتلتهن من أجلك

كي أستطيع الحياة من جديد.

امنحيني الفرصة

لأن أكتب قصائد جديدة

لنساء جديدات

فكم قصيدة سأستطيع الاستمرار في كتابتها

لك؟...


ولد ألموج بيهار في نتانيا عام 1978. أعد الماجستير في الفلسفة بالجامعة العبرية بالقدس والدكتوراه

في الأدب العربية، يقيم حالياً في القدس. حاز عام 2005 على المركز الأول بمسابقة القصة القصيرة لصحيفة هاآرتس عن قصته "أنا من اليهود" (العنوان مكتوب باللغة العربية، وقد ترجمت القصة إلى العربية على يد محمد عبود، وبعد فوز القصة استطاع نشر عدد من القصص والقصائد في جرائد ومجلات مثل "هاليكون"، "عيتون 77"، "هاكيفون مزراح"،.

أصدر ديوانه الأول "ظمأ الآبار" عام 2008، "وبعدها أصدر مجموعته القصصية "أنا من اليهود" في نفس العام، وديوانه الثاني "خيط يتدلى من اللسان" عام 2009.وقد نشر مقالة في كتاب "أصداء الهوية، الجيل الثالث يكتب باللغة الشرقية"، عام 2007.

يمكن قراءة قصيدة له هنا، ومقال له يحلل فيه الأدب ذو الجذور الشرقية/ العربية في إسرائيل.

وفق كلمات لجنة التحكيم بجائزة رئيس الحكومة باسم ليفي إشكول للأدباء العبريين (يجئال شفارتس، روت ألموج وليئا إيني" عام 2010، فإن: "ألموج بهار شاعر وأديب شاب شجاع ومثير للاهتمام، منذ بداية طريقه برز صوته الأصيل والواعد في الأدب العبري. يكسر في إبداعه المسلمات اللغوية، ينفض عنها الأحكام الاجتماعية والسياسية، يشحذ طيف الهويات الإسرائيلية، بلغاتها الممحوة، ويعيد لنا قيمتها واحترامها. "



Friday, 14 May 2010

امتداح ألم الضحية

كيف يرى القاتل مأساة ضحيته؟

ربما يكون هذا هو السؤال الأساسي للكتاب الصادر في إسرائيل بعنوان مستوحى من العهد القديم "لا تخبروا في جت. النكبة الفلسطينية في الشعر العبري 1948 – 1958". الكتاب، الذي صدر عن دار نشر سدق وحرره أستاذ الأدب العبري حانان حيفر، يتضمن القصائد العبرية المكتوبة من يناير 49 حتى ديسمبر 1958، وتحضر فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، آثار النكبة الفلسطينية، التي تمر غدا ذكراها الثانية والستون. هكذا تمت دراسة وجمع المجموعات الشعرية والصحف العبرية منذ 30 نوفمبر 47 وحتى نهاية 58. وقام بهذه العملية موران بانيت، أيمن سكسك وماتي شموئلوف.

لا يكتفي الكتاب بنشر هذه القصائد وبدراسة مطولة أعدها حيفر عنها (عن كيفية التعاطف مع الألم الفلسطيني، وفي نفس الوقت تجنب أية محاولة لتخفيفه)، وإنما يأتي بشهادات لفلسطينيين وفلسطينيات عاشوا النكبة وشاهدوها بأعينهم، يحكون عن فلسطين ما قبل 48، عن طردهم من أرضهم، عن حياتهم بعدها، وهي الشهادات التي نشرتها مسبقا جمعية "زوخروت – يتذكرن"، هكذا يتجاور الصوت العربي واليهودي في الكتاب، الصوت العربي الذي يعرض المأساة بكامل بشاعتها، والصوت اليهودي الذي يتعاطف مع المأساة، ولكنه لا يفعل شيئا لتخفيفها، بالعكس تقريبا، يعي هو أنه الوحيد المستفيد من هذه المأساة.

الصدمة هي المصطلح الأساسي في دراسة حيفر، النكبة بوصفها صدمة عصبية Traumaلا تروح آثارها، ولكن أيضا الصدمة اليهودية، أي الهولوكست، كيف تعمل الصدمة الأولى مقترنة بالثانية، كأنه ليس للفلسطينيين من ألم يخصهم، أو كأن ألمهم مقترن دائما بالألم اليهودي الذي حدث في المحرقة.

قبيلتنا تغير جلدها

واحد من أشهر الشعراء العبريين هو ناتان ألترمان (1910-1970). وهو الشاعر العبري القومي الأكبر بعد حاييم نحمان بياليك، والمعبر عن التاريخ الإسرائيلي (من وجهة نظر الحزب الذي ينتمي له، مباي، بالطبع). في إحدى قصائده بديوان (مدينة الحمامة) الصادر عام 1957 يكتب ألترمان:

ووجه العجوز يظهر (سعادة هي البذر)

ووجه صبية حاد كحجر صوان،

وقبيلة، ولدت في الطرد والأحكام

تغير جلدها، تستعد للوراثة ولإطلاق الأحكام.

يشرح حيفر القصيدة، والتي يتحدث فيها ألترمان عن قبيلة اليهود التي يتماهى معها الشاعر:

"ألترمان يعرض في قصائده صوتا صهيونيا يهوديا، صحيح أنه يتعاطف مع المعاناة الفلسطينية ولكنه مع هذا لا يستطيع محو حقيقة أنه هو من تسبب في النكبة وهو الذي منع العودة الفلسطينية. الموقف المفارق في الصوت السائد في قصائد "مدينة الحمامة" يتضمن فعلا الصوت اليهودي الصهيوني، الذي يصف من وجهة نظره أحداث الحرب، ولكن صاحب هذا الصوت هو أيضا العامل الأساسي في هروب الفلسطينيين وطردهم. هو من هزمهم في الحرب. بكلمات أخرى، فالصوت السائد في "مدينة الحمامة" هو صوت الشاهد على الصدمة وفي نفس الوقت هو صوت الشخص المسئول عنها."

في قصيدة أخرى له بنفس الديوان يكتب ألترمان:

وقناص ينزل بيننا من السطح

متحسسا يقترب وذراعه ممزقة

وعيناه تنطقان بالخوف، كأنه في الليل

يصارع حيوانا مفترسا وحده

خوف القناص هنا شديد، كما يصوره ألترمان ويفسر حيفر، لدرجة تشبيهه بمن يصارع وحده حيوانا مفترسا. فى نظرة إلى الخلف، يضيف حيفر، نجد ألترمان يسترجع صدمة المحاربين في المعركة وليس صدمة المطرودين، أي صدمة اليهود وليس الفلسطينيين: "تعقيد موقف المتحدث في القصيدة، سويا مع جهده للتنصل من مسئوليته الشخصية عن الصدمة، تضع المتحدث في موقف الشاهد، من يشهد على حدث عاشه أو شاهده. شهادة المتحدث مزدوجة، فهو شاهد على صدمة الفلسطينيين كأنه ينظر من بعيد ، وفي نفس الوقت فهو يشهد أيضا على نفس الحدث بوصفه عاشه. ... هذه الأشياء تصل إلى درجة أنه عندما يصف الصدمة الفلسطينية فهو يصف فوراً الكارثة التي تنتظر اليهود من الفلسطينيين:

وتستعد [الكارثة] لأن تقلب وجهها،

مع أية علامة لاختلاف القدر

وأن تندلع وأن ترمي أحجارها

كالمطر، وتجتاح كالموجة

وعندما يشير ألترمان إلى الاضطرابات التي حدثت في الناصرة عام 1955 فهو يبدو ظاهريا متعاطفا مع الفلسطينيين، ولكنه من ناحية أخرى يبدو مبررا لقيام الحكم العسكري، والذي فرض على الفلسطينيين داخل أراضي 48 منذ 48 وحتى 67:

نعم، عرفنا جيدا: في قلب عرب دولة إسرائيل

ثمة جمرات لن تنجح "أية رياح" في تبريد حرارتها الطبيعية

هناك حرق ذكرى الهزيمة، هناك حرق الحكم الأجنبي وحرق المدينة والتل

اللذان أصبحا من نصيب الآخر. وأي تطوير ورخاء لن ينسياهم هذا.

حيلة أخرى يلجأ إليها ألترمان لكي يدعي بوجود اليهود الأبدي على أرض فلسطين حدثت في وصفه لجنوب تل أبيب، كما يشير حيفر، كما لو أنه مكان عاش فيه اليهود دائماً أبداً. وأكثر من هذا، فلأجل إظهار السيطرة اليهودية على جنوب تل أبيب يضع هناك يهودا من أصول شرقية لكي يخلقوا الاستمرارية بين العرب واليهود، وبهذا يمحو التمييز الحاد بين الأرض العربية والأرض اليهودية.

للفلسطينية صوت

الكارثة الصافية، من وجهة نظر ضحيتها المباشرة، تنقلها لنا غوسطا دكور، من قرية ترشيحا الفلسطينية والمولودة عام 1930، في شهادتها الواردة في الكتاب:

"دخل اليهود في البداية لمعاليا ثم جاءوا إلى ترشيحا. دخلوا لترشيحا بالسيارات. أغلب القرية كانت خالية. قبلها كانوا قد قصفوها من الجو. القصف أصاب المسجد وقتل بالتقريب 18 شخصا. طلب أناس من القرية من أبي أن يأتي للمسجد للمساعدة في دفن الجثث قبل أن تتعفن. هو وآخرون حفروا بئرا ودفنوهم. هرب جيش الإنقاذ من ترشيحا في الثامنة صباحا. جلست مع أبي وشربنا قهوة. انتقل جنود جيش الإنقاذ إلى جوار البيت. قال أبي لهم، إلى أين يا شباب؟ لم يردوا. قال لهم، اذهبوا، الله لا يوفقكم. قال لي كفى، كل شيء انتهى. في الصباح جاءت الطائرات وفجرت ترشيحا."

"جاء اليهود من اتجاه جبل المجاهد. كانت في القرية روسية اسمها دوفي، كانت زوجة أبو إياد. قال الناس أن الجيش الروسي احتل القرية، ودعوا دوفي لكي تتحدث معهم. عندما غادرنا ترشيحا لم نفهم شيئاً. أثناء التفجيرات الأولى للقرية، في الخامسة صباحا، كنت قد أصبحت واعية أنني أريد أن أخبز خبزا للطريق. جلس أبي وشرب قهوة. دخل أبو محمود الهواري. ركض وصرخ وقال، بيتك راح. خرجوا ليروا ماذا جرى، وأنا من خلفهم. كانت له أخت اسمها فوزية. كانت الأولى التي أخرجوها. لم تكن محترقة. ولكن عندما أخرجنا زوجة كمال وابنه، كانا محترقين. الكثير من الناس ماتوا في هذا التفجير، حوالي 18. شابة تبلغ 13 عاما كانت حاملاً، قفزت من النافذة. جاءوا، غطوها ببطانية وأخذوها، لم يتمكنوا من دفن كل الجثث، لأن قصفا آخر بدأ، فكوموا الجثث. فاطمة الهواري أصيبت مرتين، ونجت من الاثنتين. في الأولى أصيبت في ظهرها. أخذوها لبنت جبيل وهناك تعافت. في الثانية دفنت تحت الأنقاض. سمعناها تقول، حركوا الأنقاض قليلا، أنا مدفونة تحت. أثناء القصف الثاني كنا في وادي سوحماتا. مات الناس هناك وهم يحاولون الهروب. الوادي كان يابسا. الطائرة كانت تقصف ونحن مختبئون تحت أشجار الزيتون. أشجار الزيتون كانت سوداء، وخالي قال لنا أن نأكل من الزيتون كي لا نظمأ. سرنا حتى وصلنا لأختي، والتي كانت تسكن في بقيعة. اليهود كانوا يقومون بالتفجير بين وقت والآخر. الرجال ماتوا في الطريق. إخوتي هربوا إلى لبنان. الشباب أساسا هم من كانوا يهربون للبنان. امرأة واحدة، وهي زوجة رفعت، وهي تعيش حتى اليوم، كانت مع زوجها وأطفالها الثلاثة أثناء القصف، ماتوا ونجت هي. كانوا يحتاجون لرفعها. لم تستطع السير. ولكن مع الوقت تعافت، وتزوجت رفعت وأنجبت أطفالا."

اليمين يشارك أيضاً

نموذج آخر من الشعراء الإسرائيليين هو نموذج الشاعر ش. شالوم، الذي يمتدح بلا كوابح الاحتلالات التي قام بها اليهود للأرض العربية، حين يقول:

لقد قامت، لقد أقيمت، نبوءة الشعب!

أجفان يوم جديد تطل على البحر!

من أكتاف الجولان، من وديان دان وإيلان

توقظ نصيب الأجيال المنسية من نومها الثقيل

من الخليل وحتى أرئيل

اليوم نور في دولة إسرائيل

امتداح الاحتلالات التي قامت بها إسرائيل يتم عرضه دوما مع البديهية التي تقول أن إقامة دولة إسرائيل حدثت ردا على الهولوكست، وتنتهى، إذن، بتمثيل ضحايا الهولوكست. هكذا، وحتى إذا كانت القرى قد تم احتلالها وأخذها من أيدي "العدو" الفلسطيني، فإن هذا العدو يتم إبعاده لصالح عدو آخر. هذا هو الإبعاد الذي يجعل الفلسطينيين يحضرون، حتى يمكن إخراجهم، ومن ناحية ثانية يتم إخفاؤهم خلف عنصر بديل، يسهم تضمينه بالرواية الصهيونية في دعم عدالة إقامة دولة إسرائيل، كما يشير حيفر.

حساسية معينة تجاه المصير الفلسطيني، تظهر بالتحديد في قصيدة "القافلة تمر في القرية" للشاعر اليميني يتسحاك شاليف (1957). يتمادى شاليف لدرجة كتابة قصيدة بصوت الجمع العربي. صحيح أن هذا احتكار للمصير الفلسطيني، ولكنه من ناهية ثانية فثمة هنا محاولة لإعطاء الفلسطيني صوتا خاصا به. يختار شاليف البدو الجائلين موضوعاً لقصيدته، وهكذا يستطيع عرض تجوالهم ليس كنتيجة للحرب بالتحديد وإنما كقدر ثابت للبدوي، برغم أنه حتى البدو قد تم طردهم من أراضيهم على شاطئ الساحل وفي النقب. التجوال كقدر أيضا يحضر في قصيدة شموئيل شيتيل "في الطرق الغريبة"

غادروا. غادروا باب بيتهم

أو أنهم إلى باب بيتهم لم يصلوا.

في المساْ، في الظلمة، في الطرق الغريبة-

غادروا وغادروا باب بيتهم

وإلى باب بيتهم لم يصلوا



التفسير الشيوعي للنكبة

ثلاثة شعراء يهود، هم ألكسندر بن ومردخاي آفي شاؤول وحيا كدمون كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، كتب الثلاثة عن النكبة الفلسطينية بطرقهم الخاصة، والتي تجمعها الرؤية الأممية للصراع. ويحلل حيفر نبوءتهم عن السلام الذي سيحل على الشعوب: " التوجه الأممي لألكسندر بن يفسر النكبة وما أتى في أعقابها كحدث ليس المسئول عنه هم البشر وإنما حكومتا الأردن وإسرائيل. الاثنتان معروضتان كعدوتين للشعوب. فعليا، فبواسطة تحرير الشعوب من المسئولية عن الكارثة يعالج بن صدمة 48 ويرممها، أي، كأنه ينهيها، وبهذا يجعلها غائمة، لأن نقل المسئولية من الشعب إلى نظام الدولة ينتج تشابها أممياً بين الجاني والضحية."

الثلاثة من وجهة نظر حيفر مأخوذون بالتفسير الشيوعي للحرب كصراع ضد الإمبريالية، وهم يحافظون في نهاية الأمر على انفصالهم عن الرواية اليهودية من ناحية وعن الرواية الفلسطينية من ناحية أخرى. وبهذا فهم مخلصون للخط السياسي للاتحاد السوفييتي الذي دعا لحل دولتين لشعبين ودعم خطة التقسيم، ولكن بسبب هذا فهم يلاقون صعوبة فعلية في عرض الصدمة الفلسطينية من وجهة نظر يهودية.

عن الأرض والقتل، الناس والطبيعة

واحد من أهم الشعراء الإسرائيلييين هو الشاعر حاييم جوري والمولود عام 1923، وهو كان عضو حركة العمل داخل حزب مبام، يصف في قصيدته "الطريق للبستان، 1950" المشاهد الطبيعية في فلسطين، ويتطرق ولو قليلا إلى ضياع الفلسطينيين كأبناء الأرض، ولكنه – في نهاية الأمر - يسمي أرض فلسطين "أرضي":

وهذا هو الدم في شق شفتي

وملح العرق كالدمع المرير

الجمرات متروكة في باب المغارات

والسرو مضروب في طريق أرضي

يضيف حيفر: "بدلا من الحديث عن الرجال الذين أجبروا على ترك هذا الحيز، فإن جوري يكتب عن الحيز نفسه، ... عن الطريق الترابي المهجور أو عن المشهد الطبيعي المهجور، بدلاً من الحديث عن الفلسطينيين المطرودين، فهو يشير إلى ارتفاع الأشواك في الموقع المتروك والتي وصلت لارتفاع الإنسان، وبدلا من الحديث عن بيوتهم المسروقة، فهو ينشغل بما هو قريب من البيت، أما أشجار التين فهو يصفها كمملكة ضائعة."

لنقارن هذا بشهادة الفلسطيني حسن العجو، الواردة في الكتاب. ولد العجو عام 1930 في اللد: قليل جدا من المشاهد الطبيعية، كثير جدا من القتل:

"رأيت بعيني جثث رجال متورمة في الشارع، عندما تجولنا للبحث عن طعام في البيوت التي هرب منها الناس. رأينا داخل البيوت عجائز متورمين وموتى. أخي أبو معيد ركل بالخطأ بطن شخص ما، عندما كنا نبحث عن طعام. انفجرت البطن. كانت منفوخة ومنفجرة. وفي بير الزبك أيضا في الطريق إلى البيت رأينا الكثير من الجثث. ذهبنا عندئذ إلى عائلة عجو في نهاية اللد. بقينا هناك في الكروم على مدار شهر تقريباً، بلا عمل، بلا قمح أو شعير، بلا أي شيء. عبرنا البيوت التي تم اقتلاع الناس منها لنبحث عن أكل. قطفنا خضروات تركها أصحابها. في أحد الأيام وصلت دورية من الجنود، احتضنتنا أمي ، جاء يهودي وقال أنه يريد إطلاق النار علينا. قال له الضابط، لا تطلق عليهم، أنا أعرف أبو العبد. قال لأبو العبد اسمع، ممنوع عليكم البقاء هنا. إذا جاءت دورية ستطلق عليكم النار. قال أبو العبد له، نريد العودة لمدينتنا اللد. قال له الضابط، لا. هناك معارك في اللد، حدثت مذبحة كبيرة في المسجد، والجيش هناك. إذا ذهبت هناك سيطلقون النار عليك. اذهبوا للرملة. توجهوا. غدا صباحا سأذهب معكم هناك مع الجيش حتى نأخذكم للرملة. في صباح اليوم التالي جاء الجيش. ذهبنا للرملة وبقينا في ساحة الكنيسة هناك. بعد عدة أيام عدنا. بدأوا في توزيع شقق علينا وإحاطتنا بالجدران. حكم عسكري. لا دخول ولا خروج. وجدنا شقة كبيرة وسكنا بها. بعد وقت ما بدأوا في الإعلان عن طريق مكبرات الصوت أن كل السكان عليهم النزول لساحة معينة بأمر المحكمة. تجمعنا هناك كي يعطونا بطاقات هوية. بقينا من الصباح حتى المساء. كان الجو حارا. بقينا. من ظمأ وأراد الشرب مسكين، ليس لديه ماء. من يريد الأكل ليس هناك طعام له. بقينا طول اليوم. بعد الظهر جاء جنود يهود وبدأوا في التسجيل، ابن من أنت، كم تبلغ. قالوا أن من يريد زراعة الأرض فليعثر له على قطعة أرض ويزرعها. الأرض ليست ملكنا، ولكن الحكومة أعطت لكل منا عدة دونمات كي يزرعها. الحاكم العسكري أعطى الإذن بالزراعة والعمل. كانت مكاتب الحكم العسكري تقع محل بنك ديسكونت الذي أغلق وتحول إلى مطعم. أخي أبو إبراهيم كان يذهب هناك كل جمعة في المساء. بعد السادسة كان ممنوعاً علينا الخروج من البيت. من رأونا بعد السادسة في الخارج، كانوا يطلقون النار علينا أو يدخلوننا السجن."

سوف نضرب ذاكرتهم

في واحدة من أكثر الشهادات الفلسطينية تأثيرا يتحدث إسحق الخطيب، والمولود في عين كرم عام 192، عن صدمة زيارة الفلسطينيين لبيوتهم، التي استوطنها اليهود بعد الحرب. يحكي:

"عندما دخلت القرية للمرة الثانية، سكت متألماً. لم أصرخ ولم أبك. تمالكت نفسي أمام بنتي وحفيداتي. طرقنا على الباب. كان الوقت متأخرا، حوالي التاسعة. خرج رجل عجوز. قلت له أننا جئنا للزيارة بدون تنسيق، ولكن هذا بيتي. قلت هاتين الكلمتين وتجولت. لم أدخل البيت. لهذا لا يمكنني تمالك نفسي عندما أتحدث عن عين كرم، حتى الآن."

"هذا سؤال يواجهه الكثير من الإسرائيليين. الكثير من الفلسطينيين يطرقون الباب ويقولون، هذا بيتي. هذه الزيارات تفيدنا. بعد خمسين سنة نقول، هذا بيتي. حتى للجدد الذين لايعرفون القصة، يقولون، اشترينا هذا البيت ولا يهمنا الباقي. أنا مع أن نواصل الزيارات برغم الصعوبة، وبرغم أننا ربما لن نستطيع تحمل العبء الشعوري. هم يعتقدون أن هذه أرضهم منذ ألفي عام. نحن سوف نطرق على الباب ونضرب ذاكرتهم ووعيهم. سنقول لهم أن هذه الأرض التي تقيمون بها هي أرض مسروقة."

نائل الطوخي

المقال منشور في جريدة أخبار الأدب اليوم بتاريخ 15-5-2010