ترجمة: نائل الطوخي
فنان اللغة المهجورة
أريانا ملاميد
مرت أربعون سنة على موت شموئيل يوسف عجنون، وانتظمت الكلمات كأن هذا قد حدث من تلقاء ذاتها، بدون جهد ما، باتجاه التصنيف المطلوب: هو واحد من كبار الأدباء العبريين في العصر الحديث، الحائز على جائزة نوبل، والحائز على جائزة إسرائيل مرتين، الأديب الذي تمت دراسته أكثر من غيره في تاريخ الجامعة المحلية، فنان عملاق للغة المقدسة.
أيضاً هو الأديب الوحيد الذي حظى بكون بلدية القدس وضعت لافتة على الشارع الذي يسكن فيه طالبة من المارة الحفاظ على الهدوء من أجله، الأديب الذي تم تخليده على ورقة مالية من فئة الخمسين شيكل، يمكننا الإطراد أكثر وأكثر، بل ويمكن قول شيء معقول ربما عن حارس العوالم الخربة لليهودية والمبدع كثير التناقضات ورجل الرموز العميقة، ولكن في لحظة ما، قبل أن يتحول سيل الكلمات إلى ضجة غير محتملة، ينبغي التوقف والقول، ببساطة، أنه تقريبا لم يعد لعجنون قراء. وبالتأكيد لم يعد له القراء الذين كان يريدهم في حياته.
الآن يتعين القول أننا أخطأنا. أبناء الأجيال العلمانية الذين جاءوا بعد عجنون ليسوا قادرين على قراءة لغته وفهمها بما يكفي لكي يخلقوا لنفسهم خبرة قرائية متحدية تضم المتعة أيضاً. لغة المشنا، المدراشيم والفتاوى[1] هي لا ترتبط بهم أبداً. وهم لم يدرسونها: إن كل ما تبقى الآن هو تعليق الذنب على رقبة التعليم، والنواح قليلاً وانتظار الذكرى الخمسين لموت كبير الأدباء وهكذا من أجل إثبات أن الوضع قد تفاقم.
هؤلاء الذين مازالوا قادرين على القراءة من خلال فهم عميق للغة – لن يفعلوا هذا: هم سكان العالم الحريدي[2]، وعجنون يتم النظر إليه في أعينهم بوصفه آخر الأدباء العلمانيين، برغم لغته، بل حتى بسببها، وهذا لأنه تجرأ وقام فيها بفعل ثوري: لقد سحبها إلى خارج جدران المدرسة الدينية، وقام بتركيبها على شخصيات ذات هويات وعقائد متخبطة، بل وتتحول إلى شخصيات علمانية تماماً وتقيم علاقات غرامية مع بعضها البعض.
الإنجاز هو العائق
في الواقع فإن اللغة هي واحدة من الإنجازات الكبرى لعجنون، وهي العائق الأعظم أمام قراءته. لا أحد يكتب في الأدب العبري هكذا: في إنكار مطلق لجهود إحياء اللغة العبرية، وبالسير الشجاع ضد التيار: "الجنون العظيم" لأفيجدور هامئيري صدرت في 1929، ولا تشكل لغتها أي عائق أمام القارئ في أيامنا. وهكذا أيضاً "حياة زوجية" لدافيد بوجل، والمولود هو كذلك في 1929. بعدها بعامين رأت النور رواية "دخول العروس" لعجنون، والطريقة الوحيدة التي يمكن للقارئ العلماني – حتى المثقف – التقرب بها إلى هذه الرواية هي التزود مسبقا بكتاب "الدلالات والمصادر" لأفراهام هولتس، وهو طبعة محققة، ومنقحة وتقريبا مترجمة للكتاب.
وهذا بالضبط ما يحتاجه ذاك القارئ المفترض، الذي يرغب بالغوص في بحر القصص والاستطرادات، التلميحات والرموز في إبداع عجنون، في "قصة بسيطة"، "أصبح الملتوي مستويا"، "عيدو وعينام"، "السيدة والبائع الجوال"، وحتى في كتابات مثل "الطبيب وطليقته"، أو "المجد"، حيث اللغة فحسب هي العائق، بينما العالم، هذا ما يبدو، يلامس العصر للدرجة التي تجعله يبيع بشكل تام، ولكن هذا يفشل بسبب اللغة.
"فعلة العنزة"، وهي قصة قصيرة جداً للأطفال، و"شيرا"، وهي الرواية الأخيرة التي لم يكملها عجنون في حياته وصدرت بعد موته، هما من بين النصوص السلسة في إبداعاته، ولكن ينبغي أيضا أثناء قراءتهما الاستعانة من حين لآخر بالقاموس.
هل هذه المشكلة هي شهادة على أن الجيل يأخذ في التناقص، أو أنها شهادة بالتحديد على الحيوية الهائلة للغة العبرية وانفصالها التام عن بلدة شتايتل[3]؟ هل أنه من المفيد في الحقيقة اتهام المنظومة التعليمية، وليس الاعتراف بأن اختيار عجنون للغته الخاصة هو فعل فني ضخم يتوائم مع العالم الذي أراد الحفاظ عليه، ولكنه لا يتوائم مع عالمنا؟
التراث ليس تطوير المباني
لنعترف على الأقل بأننا لا نتميز بذاكرة ثقافية طويلة، وعندما نتحدث عن الحفاظ على التراث فنحن تقصد بالتحديد تطوير المباني. بيت عجنون هو أحد المبانى على هذه الشاكلة، ولكن إبداعه يحتاج لما هو أكثر من لمسة يد المهندسين والمرممين: لأجل البقاء كإبداع حي، ينبغي إقامة مشروع عملاق في أبعاد النشر الإسرائيلي، أي إصدار طبعة محققة لجميع كتبه، ليس فقط لـ"دخول العروس."
صدور مشروع كهذا هو نقلة في قوة دار نشر "شوكن"، وهي البيت الأدبي لعجنون: يجب عليها أن تكون مشروعاً قومياً، بحماية الدولة وتمويل جزئي منها، بالشراكة مع قسم الأدب العبري في الجامعة وبإدارة شخص يشتعل فيه حب عجنون، وعوالم عجنون هي كالكتاب المفتوح أمامه. هناك شخص على هذه الشاكلة في جمهورية الكلمات لدينا، وهو الأديب حاييم بئير، وهو المسئول عن الكتاب الرائع "حبهم وكراهيتهم أيضاً"، وهو كتاب كان يدرس العلاقات بين بياليك وبرينر وعجنون.
إذا قام مشروع كهذا، وإذا نجح في إخراج طبعة مشروحة تترك مساحة أيضاً لخيال القارئ، فسوف يمكن القول أننا قدّرنا، ثمنّا، وطورنا وحافظنا على إبداعه بالقدر الذي يتيح الاستعمال الوحيد المخصص له: أي القراءة. إلى ذلك الحين، فسوف يظل عجنون في الذاكرة العامة كحجة لسيل الكلمات الاحتفائية، كعملة تأخذ قيمتها في التناقص – ولكن ليس كأديب. وبالتأكيد ليس كـ"واحد من كبار الأدباء بالعبرية في العصر الحديث."
شيرا
شموئيل يوسف عجنون
بالقرب من الخادمات أحضر مانفريد هنريتا زوجته للمستشفى. بعد فترة بسيطة ترددت أصوات أقدام ودخل الموظف ألكسندر وهو يتحدث من خلف كتفه مع الخادم أو الخادمة أو كليهما سوياً. بينما هو يتحدث ويسير رفع نظارته إلى جبينه ونظر بذعر، كمن دخل بيته ووجد هناك غريباً.
سأل عن شيء ما وأجاب بشيء ما وحمل دفتره وأعاد نظارته إلى مكانها وكتب شيئاً ما. في النهاية أتى بالسيدة هربست إلى المكتب الذي يتم فيه إجلاسهن مع القابلات حتى يدخلن إلى غرفهن وأسرّتهن. انسحب مانفريد. سار وراء امرأته وصار يروح ويأتي معها.
جلس مانفريد بجانب هنريتا بين نساء أخريات ينتظرن الولادة. فكر في أمرها وأمر حملها الذي لم يكن في صالحهما، حيث انقضت أغلب سنوات حياتها وصوت العقل يجعلها تموت خوفا من الحمل. كيف ستقاوم آلام الولادة وكيف ستحتمل كل الباقي؟ ولكن ما حدث حدث.
والآن ليس أمامنا سوى تقبل هذا الواقع بصرف النظر باعتباره هدية من السماء. مد يده وتحسس ذراعيها المنهكتين ووجنتها الذابلة. نعست وضحكة حزينة على شفتيها المنتفختين. نعس هو أيضاً. أصبح شريكاً لزوجته في حزنها وفرحها.
جاءت ممرضة المستشفى، طويلة، ذكورية، تلبس نظارة قفزت من عينيها بوقاحة وأبرزت النمش في وجنتيها الرماديتين كرؤوس المسامير في جدار قديم. قبل ثلاث أو أربع سنوات رآها مانفريد للمرة الأولى. ولكن هذا اليوم كان ثقيلا في القدس. شاب ابن أكابر قتل على يد شخص غير يهودي، واجتمعت كل المدينة لمرافقته إلى قبره.
أثناء وقوف الجميع حزاني في حالة حداد خرجت هذه المرأة من المستشفى وهي تلبس ملابس خدمتها، وجهها عمودي وسيجارة مشتعلة تبرز من فمها، وكلها وقاحة وصلف. منذ ذلك الحين كلما التقى بها مانفريد هربست كان يحول وجهه عنها لئلا يراها.
وعندما جاءت الآن، ثار بقلبه على المسئولين عن المستشفى الذين جعلوها مراقبة على المرضى. امرأة فظة تتعامل بوقاحة وبصلافة أثناء حداد المدينة، هل يعقل أن توجد رحمة بقلبها على من يحتاجون الرحمة. الآن تأتي لتمد يدها القاسية على نساء ضعيفات، وحتى هنريتا قد تذهب على يدها للحياة أو للموت. عاد يفكر في زوجته التي ستلد، وعاد يتأمل في نفس الأشياء المتوقعة لامرأة أثناء الولادة وبعد الولادة. بينه وبين نفسه بدأت جفونه تتقلص من الإشفاق.
كيف تطور الأمر بي لأن أفكر في بليست ناي؟ سأل هربست نفسه. في الواقع فأنا لم أفكر بها، ولكنني الآن سوف أفكر بها. بمجرد أن تذكرها هبت عليه السكينة، سكينة تمر به لأنه تذكرها. رموش عينييها السوداوين اللذين لا يحتويان ذرة غضب، رسمة وجهها الرقيق، سحر قوامها اللطيف وأطرافها الجميل، كل هذا يشهد بإخلاص على أن قدرة الخليقة على خلق الكائنات الجميلة لم تنفد بعد.
أضاف نسبها وطبائعها، وكذلك مشكلة حياتها مع التقوى الإشكنازية. كل هذا يصنع حاجزاً، وحتى عندما تأخذ أفكاره في التدبير فهي تندفع بعيداً عن قربها. راحت وجاءت الممرضة إياها، والتي أطلق عليها اسم ناديا. ولكن اسمها هو شيرا، وأبوها مدرس عبري من محبي صهيون دعاها شيرا على اسم أمه سارا.
لم تدع شيرا النساء إلى غرفهن، ولكنها جاءت وجلست بينهن، كأنها مريضة أو قابلة. وبينما أغلق هربست عينيه كي لا ينظر إليها، جاء شحاذ أعور وبدأ في التجوال بين النساء. تعجب هربست من المسئولين عن المستشفى الذين يسمحون لهذا الشحاذ السمين بالتجوال في هذه المستشفى بين نساء منهكات اقتربت مواعيد ولادتهن، ويجر إحدى رجليه ويتحسس كل امرأة ويدندن بملل أغنية بلا بداية ولا نهاية وعمامته الحمراء على رأسه تتوهج وتضحك باستهزاء.
فتحت ناديا وهي شيرا وهي نادية علبة سجائر وقالت له بالروسية: حمامتي هل تريد سيجارة؟ لم يعترف الاسطنبولي باللغة الروسية ورد عليها بالتركية وهي لغة لا تعرفها شيرا والتي هي نادية، وأثناء كلامه لمس كتفها. فكر هربست في أن يخبرها بأن هذا الأعمى تركي ولا يعرف لغتها، ولكنه أغلق فمه ولم يقل شيئا، لم يرغب في التحدث معها.
جلست شيرا محبوسة بداخل جسمها الذي بدأ يتوسع حتى أحاطت ذراعيها الممتلئين بالشحاذ السمين، حول هربست عينيه عنهما وفكر، كم أن هذه المرأة وقحة، لا تخجل من الناس، وكم أن ذوقها رديء بحيث تمد ذراعيها لتحتضن شحاذاً أعمى تفوح منه رائحة سيئة.
ثارت النساء ونظرن إلى شيرا والشحاذ. كن يتطلعن إليهما في فضول أكثر مما كن يتطلعن في دهشة. فجأة حدث شيء غريب. بينما هما قريبان من بعضهما البعض بدءا في التضاؤل حتى لم يتبق من شيرا إلا صندلها الأيسر فحسب. هذا غريب. الصندل هو واحد من أدوات الجسد ليس إلا، فكيف تجمع فيه شخصان، أحدها سمين والآخر نصف سمين. هل أنهما لم يختفيا داخل الصندل؟ وإذا كان ذلك كذلك فأين اختفيا؟ أثناء كل تلك الفترة لم يحول عينيه عنهما ولم نر أنهما سارا.
رغما عن أنفنا هما غارقان في داخل الصندل. على أية حال فمن المفيد أن نسأل هنريتا عن حدود الخيال من الواقع هنا. لم يتمكن من سؤالها حتى شعر بيديها وهي تتحسس جبينه بأصابعها الطويلة والدافئة وتقول، حبيبي سوف يأتون لأخذي للسرير وسوف أفارقك.
فتح مانفريد عينيه ورأى زوجته تقف وممرضة ضئيلة في المستشفى تمسك يدها وحقيبتها الصغيرة. فارق زوجته وهي تستند عليه كما استندت عليه عندما كانت موشكة على الولادة، عندما كانت ستلد زهارا وعندما كانت ستلد تمارا. قبلها مانفريد قبلة الفراق، نفس القبلة التي قبلها إياها قبل نصف جيل عندما كانت موشكة على ولادة ابنته الكبرى زهارا وعندما كانت موشكة على ولادة أختها تمارا. بعد أن قبلها عاد وقبلها ثانية وفارقها ذاهباً.
أثناء سيره قال لنفسه، أعرف أنا أن كل هذا كان حلما، وإن كان ذلك كذلك فلماذا أنا محتار ولماذا لا أبعده عن بالي ولماذا لا أسلم في قلبي بأن كل هذا كان حلماً. الآن لأدع جانباً كل هذه الحيرة التي لا تؤدي لشيء ولأرى ما عليّ فعله. فتش في عقله ولم يجد شيئا يتعين عليه فعله، ولا حتى شيء يتعين فعله وليس من ضرورة لفعله فوراً ويمكن تأجيله لما بعد ولادة هنريتا بل وبعد عودتها إلى البيت. وجه خطواته باتجاه بيته وفكر في العشاء الذي سوف يعده لنفسه والكتاب الذي سيقرأ فيه.
بينما هو يتأمل ويسير فحص دفتره ليرى إن كان فيه أي شيء يجب فعله في طريقه للبيت. لم يجد هناك أي شيء عليه فعله في طريقه للبيت، ولكن كانت هناك عناوين وبينها رقم تليفون ليسبت ناي قريبة أستاذه اللامع البروفيسور ناي. تذكر قوله لها بأنه من المؤكد أن يتصل بها يوماً ما. في الحقيقة ليس هذا هو اليوم ولا تلك هي الساعة التي يمكن فيها الاتصال بالفتيات، وليس لديه حتى ما يقوله لها. ولكن، قال هربست، بما أنني وعدتها بالاتصال بها فسوف أنفذ وعدي وأتصل بها. وبمجرد وصوله إلى مكتب اتصالات دخل ليجري اتصالا معها.
[1] كتب دينية يهودية تنتمي للعصور الوسيطة.
[2] اليهود المتدينون.
[3] اسم بلدة صغيرة بجاليتسيا ببولندا. المقصود انفصال العبرية الحديثة عن لغة الجيتو اليهودي القديم والمتدين.
مااقدرش اقولك غيير شكرا جزيلا....موضوعاتك فعلا مميزه و ابداعيه جدا و تحليلاتك للادب رائعه جدا و تدل علي فهم حقيقي و احساس عالي بالادب
ReplyDeleteشكرا لك
تحياتي
ممكن لينك للرواية نفسها؟؟؟
ReplyDelete