إيلي إلياهو
ترجمة: نائل الطوخي
سائق الشاحنة الذي مر متأخرا في المساء على مدخل مستوطنة بتحيا لم يتمكن من ملاحظة امرأة طويلة ترتدي الأسود وتقف في قلب الطريق السريع. لم يعرف أحد من أقارب الشاعرة ميري بن سمحون ما الذي كانت تفعله وحدها في الطريق، بين الرملة والقدس. ولماذا كانت هناك تقف في الظلام، غائبة عن أعين السائقين، حتى صدمتها الشاحنة وأدت لموتها، وهي تبلغ 46 عاما فحسب.
في هذا الوقت كانت تتزايد لدى الشاعرة الهذيانات ونوبات الجنون التي أصابتها منذ أن تم علاجها لأول مرة في مؤسسة للمرضى النفسيين بطلبية وهي تبلغ 28 عاما. قبل الحادثة القاتلة بأسبوع حكت لصديقها دان ألبو، الذي التقاها في شقتها بحي جيلوه بالقدس، أنها تفكر في السفر لنيويورك والزواج من بوب ديلان. إحدى الاستنتاجات التي تم طرحها أنها بسبب تشتت ذهني خاص فلقد ضيعت في هذه الليلة الأخيرة الباص الأخير المتوجه من الرملة إلى القدس. وإذا كانت الأمور قد سارت هكذا، فلا يمكن صياغة هذا الأمر أفضل من بن سمحون نفسها، والتي كتبت في إحدى قصائدها قائلة: "يصعب علي النزول من الغمام/ لأجل التأكد/ من مكان وقوف هذا الباص/ رقم كذا وكذا/ والذي يذهب لمكان كذا" (من كتابها الأول، "مهتمة، غير مهتمة"، دار نشر هاكيبوتس هامئوحاد، 1983).
الغموض يحيط بالموت المأساوي لبن سمحون، ولكن ألبو، وهو شاعر ومؤرخ وباحث في الثقافة، يعتقد أن اللغز الحقيقي يكمن في أن شاعرة خلابة، مجددة وخصبة، تمكنت من كتابة أربعة كتب في خلال حياتها القصيرة والعاصفة، قد تم نسيانها تماماً. في أنطولوجيا سيرية حررها وتصدر الآن عن دار نشر كرمل بعنوان "شعر مريم"، يحاول إصلاح هذا الخطأ. هي مجموعة من المقالات عن بن سمحون، أجزاء من يوميات مبدعين عرفوها، وقصائد لها وقصائد أخرى كُتبت عن ذكراها.
كل شيء بعيدا عن عليزا الفندري
وفق كلام ألبو، فبن سمحون قد تم إقصائها عن الوعي لأن "العالم الأكاديمي لم يكن يكثر من الاهتمام بمبدعين غير معدودين من ضمن العقل الجمعي السائد". يعتبر بن سمحون شاعرة مركزية ومهمة ويحكي أن شعراء كثيرين قد فتنوا وتأثروا بها، ومنهم ناتان زاخ وبنحاس ساديه. "قبل أن يموت دافيد أفيدان اتصل بها وترك لها رسالة على الأنسر ماشين." يحكي، "لقد كانت هي الشخص الذي أراد الحديث معه في لحظاته الأخيرة. ولكن في العالم الأكاديمي فلقد كانت الأمور مختلفة. ولأنها لم تكن تنتمي إلى الوعي الجمعي السائد فلم تتمكن من الدخول إلى الكلاسيكيات الإسرائيلية. عندما أرادت كتسيعا عالون افتتاح كورس للشعر الشرقي، اكتشفت أنه ليست هناك إطلاقا دراسات أكاديمية عن مبدعين من أصول شرقية يمكنها تكوين بنية ببلوجرافية لكورس أكاديمي. حتى الباحثين من أصول شرقية كانوا، إذا أرادوا الترقي في الجامعة، يضطرون للكتابة عن الكلاسيكيات كما قررها حراس الوعي السائد."
يرى ألبو إذن في الكتاب المنشور عن بن سمحون مهمة رسولية ويأمل في أن يؤدي إلى اهتمام بحثي، سواء بشعر سمحون أو بشعر شعراء شرقيين آخرين لم يحظوا بعد بالاعتراف والمجد. د. كتسيعا عالون، وهي رئيسة برنامج دراسات النساء والجندر في معهد بيت بيرل، تشارك أيضا ألبو رأيه، سواء فيما يتعلق بأهمية بن سمحون أو فيما يتعلق بإقصائها وإنسائها. في كتابها عن الشعرية الشرقية المقرر صدوره في دار هاكيبوتس هامئوحاد تخصص فصلا كاملا لبن سمحون. "قصائدها حجر زاوية في الشعر النسوي العبري وأساس ثابت في القصيدة النسوية الشرقية." تقول. "قصائدها معقدة جدا. أحيانا ما تصبح ملغزة، ومع هذا ثمة مرونة كبيرة بها. لقد سبقت زمنها. ليس من شك في أن الحديث هو عن موهبة رهيبة. الأسف على موتها قبل الأوان شديد جدا.
بن سمحون نفسها قالت في حوار مع الأديب يارون أفيتوف تم نشره في "كول هاعير" عام 1985: "ليس لدي أي إحساس طائفي بالظلم، أنا فوق هذه الأشياء. أنا إنسان فردي وعالمي." مع هذا، ففي قصائدها أكثر من الاهتمام بالهوية الشرقية والهوية النسوية. "يمكن رؤية هذا في عنوان قصيدتها التي أعمل عليها في مقال ينشر بالكتاب، "قصيدة شرقية وأوديبية"، تقول عالون، "استخدام كلمة "شرقي" في القصيدة كان شيئاً جديداً. اليوم يبدو أمراً طبيعياً، ولكن وقتها كان من الصعب على المجتمع الإسرائيلي عامة والعالم الأكاديمي خاصة أن يستوعبا أمورا من هذا النوع."
في هذه القصيدة تتفحص بن سمحون أيضا نسويتها، عن طريق الاهتمام بالعلاقات المركبة وغير المحلولة بأبيها البيولوجي. هاجر والداها، حاييم وزهافا، إلى إسرائيل عام 1950، بعد شهرين ونصف من ولادتها بفرنسا، في معسكر متنقل من المغرب إلى إسرائيل. انفصلا عن بعضهما البعض وهي لا تزال رضيعة تبلغ نصف عام وتزوج كل منهما شخصاً آخر. أبوها، وهو عامل بناء، ظل في معبرة تلبيوت وكبرت هي مع أمها المدرسة ومع أخويها في شقة صغيرة بالطابق الأرضي في حي قطمون أ بالقدس. في طفولتها كانت تعبر من حين لآخر خطوط القطار وتذهب لزيارة أبيها في كوخه. كانت تصفه كرجل طويل ووسيم وتعودت على أن تحكي أنه بعد الطلاق لم يرغب في التنازل عن عائلته وكان يزور بيتهم، يقف أمام الشباك وينادي الأم باسمها.
إلى أن بدأت في الدراسة بالمدرسة الثانوية، حيث التقت بطالبات من طبقات اجتماعية مختلفة، لم تكن بن سمحون تعرف شيئا آخر غير واقع المهاجرين المغاربة في الحي. "حتى سن العاشرة كنت واثقة أن الرب مغربي"، قالت ذات مرة. طريقة الحياة في الحي كانت هي خلفية قصيدتها "صبية من القطمون"، المنشورة في كتابها "مهتمة، غير مهتمة". ترسم بن سمحون في القصيدة صورة عليزا ألفندري، وهي "صبية سوداء لها بثور في وجهها." خاضعة لجميع المسَلّمات والقيم الخاصة بصبية من بيت شرقي تقليدي، تخرج لقضاء الوقت مع أخيها حتى "يظل اسمها نقيا"، وكل طموحها هو أن يأتي "شاب لها وتتزوج وتلد أطفالاً."
كانت هذه في الواقع صورة نيجاتيف لبن سمحون نفسها، والتي فعلت كل ما في وسعها كي لا تبدو حياتها مثل حياة عليزا ألفندري. "كانت تحتقر المسَلّمات"، تقول الشاعرة شافي شحوري في حوار منشور في الكتاب، "كل موضوع المسموح والممنوع لم يكن مقبولا لها... ذات مرة جلسنا في مقهي ببيت الصحفيين، وتحدتني قائلة: "دعينا نراك تكشفين صدرك أمام الجميع"، قمت، رميت السوتيان في جزء من الثانية... أعجبها هذا. أعتقد أن موضوع تجاوز الحدود والثورة على المسلمات الاجتماعية كان يجذبها ويحرك سلوكها."
في مساء الحادثة كان من الصعب ملاحظة بن سمحون التي كانت تجول في ظلام الطريق، ولكن ملاحظتها وهي حية لم تكن أمرا صعبا. كانت طويلة القامة كأبيها وكانت معتادة على ارتداء ملابسها بشكل مستفز. كانت تصبغ شعرها بالأحمر وشفتيها بالأحمر الفاقع أيضاً. بعد خدمتها العسكرية تم تجنيدها في الشاباك، كما يكتب ألبو في الكتاب، وهناك على ما يبدو بدأت نفسيتها في التدهور بعد خبرة قاسية مرت بها. بشكل أساسي تعودت على أن تحكي عن تحقيق قاس مع أسير كانت تشهده وترك بها أثرا لا يزول.
بعد إطلاق سراحها بدأت في دراسة الأدب بالجامعة العبرية. في أمسية شعرية أقيمت عام 1977 بتل أبيب تعرفت على الأديب والشاعر شمعون تسيمار. تزوجا وانتقلا للسكنى سويا في غرقة صغيرة على السطح بشارع جابوتنسكي بتل أبيب. تعلمت التمثيل في هذا الوقت ببيت تسيفي وأصبحت موديلا عاريا أمام الفنانين. غار تسيمار عليها بسبب هذا ولكنه يعترف في الكتاب أيضاً قائلا: "لأني في تلك الأيام أردت أن أعيش المغامرة والحياة البوهيمية فلقد كنت فخورا بأن صديقتي موديل للفنانين." بعدها تعارفهما بنصف عام بدات في اتهامه بأنه يسرق أشياء من لا وعيها ويحاول قتلها. لم يمر وقت طويل حتى تم علاجها بالقوة للمرة الأولى. "حاولت عائلتها الإبعاد بيننا." يحكي تسيمار في الكتاب، "لقد نسبوا ما حدث إلى تأثيري السيء، وللحياة في تل أبيب، وللمسرح، للحياة البوهيمية والمخدرات."
برغم الحب الكبير الذي كان يكنه لها، فلم يتمكن تسيمار من تحمل الحياة بجانبها وانفصلا. عادت للقدس وهناك شاركت في ورشة شعر أدارها يهودا عميحاي ومناحيم بن. في الورشة تعرفت على شخصيات أساسية في الشعر، مثل أميرة هاس، دافيد أفيدان وجفريئيل موكيد. هناك التقت لأول مرة أيضا بميئير فيزلتير، والذي كان يعمل أستاذا زائرا، وبدأت تشعر نحوه بشوق قسري. تعودت على أن تترك له رسائل حب في الأنسر ماشين وفي إحدى نوبات جنونها اقتحمت بيته، انتظرته في غرفة النوم ورفضت المغادرة حتى اضطر لاستدعاء الشرطة. لقد آمنت من كل قلبها أن زواجها من فيزلتير أو من بوب ديلان سوف يأتي بنوع جديد من الآلهات.
الإخوتان شافي ودفنا شحوري التقيتاها في أمسية شعرية بالقدس. "سؤالها الأول لنا كان إذا كنا نعرف فيزلتير." تحكي الشاعرة دفنا شحوري، "لقد كانت مهووسة به. أذكر أنها كانت مفتوحة القلب تماما. مكشوفة، هشة، بالضبط كما لو كان جلدها شفافا. أيضا من الناحية البدنية فلقد أثارت إعجابي كثيرا. أذكر أنها كانت تجلس على السرير بارتياح ذكرني بثعبان يلتف حول قدر."
الإخوتان وبن سمحون صرن صديقات، وعن طريقهما تعرفت على أفيدان. "عندما سكنت في القدس كنا نلتقي أيضا بالشاعرتين جفريئيلا إليشاع وشلي إِلكايام"، تحكي شحوري، "وعندما انتقلت إلى تل أبيب، كانت تأتي من حين لآخر وتطلب المبيت عندي. تل أبيب بالنسبة لها كانت منطقة حنين. لم يكن لديها مال كاف لتسكن في المدينة. كانت تختفي بين الزيارات فجأة لفترات طويلة وكنت أفترض أنهم يقومون بعلاجها مجددا. عندما كانت تعود من هذه العلاجات كانت عيناها تصبحان مختلفتين، مثل بركة داكنة وخاوية. كانت تعاني في المستشفى، الإشاعات كانت تردد أن قسم النساء كان عنيفا جدا وأنهم كانوا يضربونها هناك."
لا تعتقد شحوري أن شعر بن سمحون قد تم ظلمه. في رأيها فلقد كانت شاعرة ممتازة ولكنها ليس بقامة داليا رافيكوفيتش أو يونا فولاخ. "مع هذا، فمن المهم القول أن قصائدها لم تصبح قديمة، سواء من ناحية اللغة أو من ناحية المضمون. وعلى نقيض فولاخ التي كانت اضطراباتها النفسية هي وقود قصيدتها، فإن المرض النفسي لبن سمحون قد عطل تطورها كشاعرة. لقد كتبت شعرا يحوي تأملات واعية، ومن أجل هذا ينبغي البقاء متزنا."
علاج بن سمحون كان دائما ما يتم بالقوة، بمبادرة من أخيها وصديقها. بن سمحون نفسها كانت تريدهم أن يدعوها تضل في توهماتها، والتي كانت تعتبرها جزءا من حياتها. رفضت تناول الحبوب لأنها خافت أن تضر بخيالها وبإبداعها. ذات مرة انخلعت ساقها بعد أن قفزت من فوق سور المستشفى وهربت. في تقرير نشر في "كول هاعير" بعد موتها حكت صديقتها، شلي إلكايام، عن إحدى المرات التي زارت فيها بن سمحون في القسم المغلق بطلبية: "قالت لي، تحدثي مع المختصة النفسية وأخرجيني من هنا، وأنا بسذاجتي اقتربت من المختصة النفسية وقلت لها: "لماذا ميري هنا؟ هي شاعرة ممتازة وهي لا تريد البقاء هنا"، المختصة النفسية توجهت لميري بنبرة معلمة بروسية: "ميري أنت تعلمين كذا وكذا"... صوت ميري تغير، أصبح مزقزقا، وأجابتها كأنها طفلة تبلغ أربع سنوات. لقد داهمتها ببساطة نوبة في المكان، أمام عيني. كنت أهرب من هناك طالما أنا حية."
أخذ وضع بن سمحون في التدهور. بين العلاجات عاشت في فقر وعوز في شقتها بجيلوه، في أحيان كثيرة تعيش بلا ماء، كهرباء أو طعام. كانت تفضل دائما شراء السجائر بالمال القليل الذي كان معها. "طفلة الزهور التي رفضت أن تكبر." كما كان يصفها بعض أصدقائها. هاليت يشورون قالت مرة عن يونا فولاخ أنها "انتقلت في العالم مثل شخص ممسوك بالنار"، ويبدو أن نفس الكلمات تسري بقوة أيضا على حياة بن سمحون. يمكننا لأجل هذا اقتباس بن سمحون نفسها، في قصيدتها "عن الوضع النفسي"، من كتابها "ظمأ" (سوفريات بوعاليم، 1990): "عبرت الخطوط الحمراء للنفس/ مثل قط يعبر طريقا مليئاً بصخب الحركة/ كان عاليا، وحشيا، سامياً، غير مفهوم لأحد غيري."
_________________________
التقرير منشور تحت عنوان لغز موت ونسيان الشاعرة ميري بن سمحون في الموقع الإلكتروني "عخبار هاعير".