ساسون سوميخ
ترجمة: نائل الطوخي
نقدم هنا ثلاثة فصول من سلسلة مذكرات ساسون سوميخ، الناقد الإسرائيلي ذا الأصل العراقي وأستاذ الأدب العربي بجامعة تل أبيب. الفصول الثلاثة منشورة عام 2003 في صحيفة هاآرتس، وتم نشرها فيما بعد بكتاب يحمل عنوان "بغداد، الأمس". الفصلان الأولان هنا، "نجوم لامعة" و"منظر طبيعي"، تم ترجمتهما للعربية ونشرهما عام 2003 في صحيفة "أخبار الأدب" المصرية.
بغداد: نجوم لامعة
ذكرياتي الأولى كطفل في بغداد، مدينة مولدي، لا ترتبط بنهر دجلة، الذي يقسم المدينة، أو بالشوارع والأبنية التي شكلت المدينة ذاتها. وبشكل عام فليست مرتبطة بأي شيء أرضي. كانت النجوم اللامعة على اتساع السماء وطولها في الأمسيات الصيفية هي ما شكلت ذكرى أيام طفولتي. لأن سكان بغداد، على امتداد أشهر الصيف الحارة والجافة، كانوا يعتلون أسطح البيوت وينامون هناك على أسرتهم لثلاثة أو أربعة أشهر متواصلة.
كنت أعتلي سريري الصيفي المغطى بناموسية بيضاء، ولدقائق أو ساعات كنت أتطلع لعالم النجوم المتلألئة بلا توقف، نجوم صغيرة وكبيرة، نجوم تخلق طرقات وسبلاً سرية. كانت الناموسية دقيقة وتصدر منها رائحة طيبة لصابون الغسيل ولم تمنعني من رؤية الوجود النشط عالياً هناك جيداً. في الليالي التي كان فيها القمر مكتملاً أو يوشك على الاكتمال كنت أتطلع طويلاً في المخلوقات المختلفة على سطح القمر. وعندما سألت عن هذا قيل لي أن ما أراه هو صورة لراعيين يقودان أغنامهما في الجبال باحثين عن مرعى. وهكذا اكتشفت صورة يمكن أن يتم تفسيرها هكذا.
في الفصل الدراسي الثالث أو الرابع تعلمت في المدرسة أن الأمور ليست بسيطة بهذا الشكل. وأن ما نراه هو جبال القمر وصحراءه، وأن هذا ليس إلا كوكباً يشابه الكرة الأرضية غير أنه أصغر منه قليلاً ويدور حوله. درست أيضاً أن النجوم التي تملأ السماء هي ملايين من الكواكب البعيدة جداً وأن البريق الذي يصلنا منها هو نور قديم يعكس واقعاً كان قائماً قبل عشرات الألاف من السنوات. يصلنا النور متأخراً جداً بسبب المسافة الهائلة. لست متأكداً أن معلميَّ قد استخدموا عندئذ تعبيرات مثل "السنوات الضوئية"، وإذا استعملوها فلست متأكداً من أنني قد فهمت (من الجيد أنه في تلك الأيام، أي قبل ستين عاماً، لم يكن مصطلح "الثقوب السوداء" قد وجد بعد، وهو المفهوم الذي لازلت حتى اليوم لا أفهمه كفاية).
من الطبيعي أنه في تلك الليالي، وأنا بداخل الناموسية، قد طرأت على ذهني الصغير أسئلة "وجودية" كثيرة: من خلق كل هذا، متى وكيف؟ بديهي أن ما كان مكتوباً في سفر التكوين (والذي تعرفت عليه للمرة الأولى عندما بدأت في دراسة العهد القديم والذي ترجمته إلى العربية التبشيرية الأمريكية) لم يكن "منطقياً" وبالتأكيد ليس "علمياً". مرة وراء مرة كنت أحلم، في تلك الأمسيات الصيفية، بتعلم علم الفلك عندما "أصير كبيراً"، حلم لم يتحقق إذ أزاحته جانباً أحلام أخرى (لم تتحقق هي الأخرى)، مثل الألعاب الكيميائية أو صناعة السينما أو الكتابة الأدبية.
نجوم أخرى نقشت في ذاكرتي في الأمسيات الصيفية على السطح، وهي نجوم السينما بالتحديد. بعض دور السينما القليلة كانت تعمل على بعد عدة شوارع من بيتنا، وأغلبها كان يملكه يهود. واحدة منها كانت تدعى "سينما ديانا" وكانت تعرض أفلاما هوليودية في الغالب. كانت الأفلام في الأشهر الصيفية تُعرض في الهواء الطلق في ساحة مكشوفة قريبة من المبنى الرئيسي المسقوف. وفي الليالي التي يصبح فيها الهواء رائقاً واتجاه الريح يصبح جنوبياً كنا نسمع شريط الصوت كاملاً محمولاً إلى سطحنا، بالتحديد في العرض الثاني لليلة. ولأن الفيلم- أي فيلم- كان يعرض على امتداد أسبوعين أو ثلاثة بشكل متواصل فكنا نعود ونسمع النص الذي يلقيه الممثلون، أي نجوم عالم السينما. هكذا كنا نحفظ شفوياً نصوص مشاهد كاملة. كانت أغلب الأفلام الأمريكية عندئذ من النوع "الموسيقي" الزاخر بالبهجة والرقص والأغاني. أذكر بشكل خاص فيلماً على هذه الشاكلة اسمه "Moon Over Miamy" حفظنا نصه الكامل شفوياً، حيث عُرض لشهرين متواصلين، إذ كان مصوراً "بالألوان الطبيعية"، كما كانوا يقولون عندئذ، وليس بالأبيض والأسود، كسائر الأفلام. وهكذا تمرنت بشكل مجاني وبلا مقابل على اللغة الإنجليزية الأمريكية المختلفة قليلاً عن الإنجليزية البريطانية التي درسنا قواعدها في المدرسة.
هذا فيما يخص الأمسيات. أما صباحات الأجازة الصيفية فكنت أقضيها داخل البيت. منذ أن تعلمت القراءة (بالعربية، ثم بالإنجليزية) انغمست في متعة قراءة لا تنتهي للكتب. وعندما أقول "متعة" فلا أقصد بالضرورة متعة روحية وفكرية، حيث كانت أغلب الكتب التي قرأتها في طفولتي كتب مغامرات وأحداث خارقة. لم أقرأ كتب أطفال كثيرة، واحد من الأسباب هو قلتها بالعربية، ربما باستثناء الكاتب المصري كامل الكيلاني، والذي كان يكثر من معالجة الأعمال الكلاسيكية من الأدب العالمي (روبنسن كروزر، بيضاء الثلج) بالأسلوب المريح بالنسبة للأطفال. غير أن كتب المغامرات المخصصة لجمهور البالغين أو للشباب الناضج فكانت موجودة بوفرة. كانت صناعة الكتب في القاهرة (والتي أسست بدرجة كبيرة على أكتاف لبنانيين نشطاء هاجروا لمصر في أواخر القرن التاسع عشر) تغرق أرفف الكتب في العالم العربي بكتب كان الـ"أكشن" فيها له الأولوية على كل شيء. وفي أشهر الشتاء والتي كانت تشغلنا فيها الدراسة والواجبات المنزلية، كنت أحلم بالأشهر الصيفية، بأن تحل علينا بشكل جيد، وبكومة الكتب التي كانت ملقاة على طاولة الكتابة بغرفتي.
كان ما يمنح ساعات القراءة في الصيف حلاوة خاصة هو المناخ، أو بصياغة أفضل، الهواء الذي كان يسري في غرفات بيتنا وبيوت كثيرة في بغداد. كان معلقاً على نوافذ غرف النوم، من الخارج، إطار خشبي دقيق في حجم النافذة، والذي كان اتساعه عشرين سنتيمتراً، وكانت مزروعة فيه باقات أشواك من نوع معين يدعي (عاقول)، ويصدر رائحة خضراء مسكرة. كانت الرياح الساخنة التي تصلنا من كل الاتجاهات تندفع إلى الداخل بكل قوة هبوبها. وكنا نسكب من حين لآخر دلاء ماء على الأشواك المؤطرة، لتتحول الريح الداخلة إلى نسمات باردة، فيما يشابه عمل مكيفات اليوم الكهربائية (وحتى إن كانت تلك الأخيرة تصدر ضوضاء ولا تصدر منها روائح عطرية). تعلم صناع تلك الأطر في سنوات بلوغي استخدام أسلوب الرش لأجل تجنب الحاجة للرش اليدوي: كانوا يضعون أنبوبة مطاطية مجوفة على الإطار وكانت القطرات التي تقطر منه تضاعف متعة الجلوس في الغرفة المكيفة. وهكذا لم يكن المكوث في البيت سيئاً إطلاقاً. من كان يعاني هم هؤلاء الذين لم يكن بمقدورهم قضاء أيامهم في غرف كتلك، وبدرجة أكبر هؤلاء الذين كان يضطرون للسير في شوارع المدينة وفي أزقتها للاسترزاق بينما الشمس اللاذعة والعواصف الملتهبة (التي كانت تدعى "هيوف") تصاحبهم لدى خروجهم من بيتهم وأحياناً كذلك داخل بيوتهم. للحظ الطيب لم تكن هبات الريح الحامية ظاهرة مستديمة تجتاح بغداد طوال أيام الصيف، وكان هناك أيضاً أيام بلا "هيوف".
كانت أمي أحياناً ما تنقل لنا قلقها بقولها أن انغماسي في القراءة هو أمر خطر وقد يؤذي عينيّ. ولكن في نفس الوقت فقد كان جلوسي أغلب الوقت في البيت وعدم تجولي في الشوارع يمنحانها إحساساً بالأمن. ولهذا لم يعترض والداي عندما قررت العمل بالكيمياء، وأنا في الفصل الدراسي السابع أو الثامن. إشتريت من مكتبة "ماكنزي" كتاباً إنجليزياً اسمه "كيف تقيم معملاً كيميائياً في بيتك" مخصصاً لمن يبلغون 15 أو 16 عاماً، وبدأت في جمع برطمانات تحوي مواداً كيمياوية، كما هو معروض في الكتاب. وضعت البرطمانات وأنابيب الاختبار على أرفف مؤقتة تم نصبها بالخارج، بالقرب من الحديقة الضيقة المحيطة ببيتنا. كانت "التجارب" الكيميائية تهدف لـ"خلق" سوائل ذات ألوان مختلفة، أو مزيج من المساحيق والسوائل، لأجل فهم العمليات الكيميائية التي كانت تحدث. كان كتابي يرشدني أحياناً لتجارب تبدو نتائجها كالسحر، وكان أصدقائي الذين كانوا يزورون"المعمل" الخاص بي ينفعلون من القدرة "فوق البشرية" للكيميائي الصغير. كانت أمي تساعدني أحياناً بمبالغ تافهة خصصت لشراء المستحضات الكيميائية.
حتى وقع في أحد الأيام، في إحدى التجارب، انفجار صم الآذان. أسرعت أمي راكضة للحديقة مذعورة غير أنها هدأت إذ اتضح لها أن صوت الفرقعة كان جزءاً من اللعبة. ربما كنت محاطاً بالدخان غير أنه لم يحدث ضرر أو كارثة. في أعقاب الانفجار أصر والداي ألا أقوم بتجارب كتلك في البيت، حتى برغم أني لم أصب من الفرقعة. إهتم الجيران – جيران مسيحيون كان بيتهم قبالة "الناصية الكيميائية" الخاصة بي – بمعرفة سبب الانفجار، وفي تلك الأيام، أيام انفجار فندق "كينج ديفيد" في القدس، إن لم أكن مخطئاً، كان ممنوعاً على طفل يهودي العمل في أشياء كتلك، حتى وإن خرج منها سالماً!
منظر طبيعي
أكتب هذه الفصول لكي أصف سلوكيات أو فولكلور بغداد ويهودها. إنما هي ذكريات من أيام الطفولة والصبا. وربما لا أستطيع الحكي عن سنوات نشأتي في عاصمة العراق بدون ذكر بعض المواقع البغدادية البارزة والتي تكونت فيها الخبرة الإنسانية والاجتماعية كذلك. في قلب كل هذا نهر دجلة الكبير بشحمه ولحمه.
يمر دجلة بالمدينة ويكون ضفتين. يتراوح اتساعه في أغلب المواقع من نصف كيلومتر وحتى كيلومتر. هو نهر بلا نهاية، وفي كل الأوقات يعبر ألاف البغداديين بواسطته من ضفة لأخرى على الجسور التي أخذت تتكاثر في طفولتي، أو ملاحةً بوسائل ملاحة مختلفة. مياه دجلة نفسها هي ميدان لعمليات مختلفة ومتنوعة. فيها قوارب صغيرة ومتوسطة مزودة بمجاديف تنقل أناساً وأغراضاً بين الضفتين، فيما يشابه تاكسيات للنهر. يدعى هذا النوع من القوارب اسمه "بَلَم" ويجلس فيه حتى عشرة راكبين. كانت الأسر الموسرة، التي بنت لنفسها بيوتاً عملاقة في الجانب الشرقي (الكرخ)، تحتفظ بقارب كهذا بجوار بيتها وتشغل مراكبياً (بلمجي) يعمل في خدمتها طوال اليوم. كان البلمجي يتلقى أوامر من كبير العائلة وبعد أن ينقل الـ"ريس" في الصباح لعمله في الضفة الغربية (الرصافة) كان يعود شرقاً لنقل أفراد الأسرة الآخرين وفقاً لـ(لجدول العمل) اليومي الذي يستلمه. لدى نهاية اليوم ينتظر البلمظي في الضفة الغربية لأجل إعادة من يعمل لديهم لبيتهم.
برغم المسافة الكبيرة بين ضفة وأخرى فيمكننا رؤية بيوت (الكرخ) بوضوح من شارع (أبو نواس) في الضفة الغربية (والذي سُمي على اسم شاعر عاش في بغداد في القرن الثامن الميلادي، أي في عصر الخليفة هارون الرشيد). أحد تلك البيوت هو البيت الجميل للقاضي داود سمرة، وهو قانوني يهودي عمل لسنوات طويلة نائباً لرئيس محكمة العراق العليا. بشكل عام لم يستعمل سكان بغداد أسماء (الرصافة) و (الكرخ) وإنما تعبير (الضفة الثانية..هذاك الصوب). منحت الحركة المستمرة بين شرق المدينة وغربها انطباعا عن النهر كله بأنه ليس مجرد (منظر طبيعي) جامد وإنما خبرة ديناميكية عاصفة.
مياه دجلة في صباي كانت نظيفة ومناسبة للسباحة. تعلم أغلب سكان المدينة (أو صيغة أفضل: أغلب الرجال)، عندما كانوا أطفالاً، السباحة، وكذلك العبور من جانب لآخر سباحةً. تم إرسالي لمعسكر السباحة في صيف عام 1938، أي وأنا في سن الرابعة أو الخامسة. كنت أستيقظ في الخامسة صباحاً و أسير برفقة شخص ما من أبناء عائلتي باتجاه المعسكر الذي يبعد حوالي كيلومترين من البيت لأجل بدء دروس السباحة مبكراً في الصباح. بدأت أسبح عندما بلغت ست سنوات أو سبعاً مع قافلة السابحين البسيطة المصحوبة بالأغاني والهتافات المبهجة إلى الضفة الشرقية وأعود بعد فترة إلى الضفة الغربية. بعدها صرت أتحلى بالشجاعة وأعبر النهر بنفسي أو برفقة صديق. عندما جئت إلى البلاد (إسرائيل) في عام 1954 اكتشفت لأول مرة البحر وأمواجه الهادرة المختلفة لدرجة كبيرة عن أمواج نهر دجلة في أشهر الصيف. تعودت على البحر بسرعة، فقد كان عندئذ نظيفاً بشكل مذهل وسبحت كثيراً فيه ولكن حقيقة أنني لن أستطيع الوصول لأية (ضفة ثانية)قد أقلقتني.
كانت مياه دجلة ترتفع في فصل الشتاء وتصل إلى أرضية الشاطئ، وحتى أوائل الأربعينيات كان النهر يهدد بغمر المدينة، ومن حين لآخر بالفعل كان يفيض على ضفتيه. كانت السلطات تجند بالقوة الرجال العاملين بالشارع للمساعدة في حمل أجولة الرمل بهدف كبح المياه المتصاعدة (تم حل المشكلة عندما بنت الحكومة سداً أحاط بحواف المدينة حيث أقام عابرو سبيل كثيرون مع عائلاتهم في مساكن مؤقتة).
في مقابل هذا، ففي الصيف كانت مياه النهر تتمدد وفجأة كانت تظهر أسطح كبيرة من (الجزر) الصغيرة أو الكبيرة والتي اعتدنا على إطلاق عليها اسم (الجزرة) (أي:الجزيرة الصغيرة). هذه الأسطح الجافة والنظيفة في وسط النهر كانت تعد أماكن لقضاء الوقت. كانت رائعة وباردة في أمسيات الصيف الساخنة في بغداد. عندما تلوح في بالي بغداد قبل خمسين عاماً أو أكثر، فإن الصورة الأكثر إطراباً التي أتذكرها، هي ليالي السباحة والأكل على الجزرة. كنا نصل بالبَلَم لأحد الزوايا الهادئة على الأرض البكر، وبجانب الأدوات الموسيقية (أو الفاتيفون) للتسلية، فقد كنا نأتي معنا بسمك عملاق، من نوع الشبوطة، والذي كان مفخرة انتاج نهر دجلة. كنا نشعل ناراً من خشب الشجر والذي نكون قد أعددناه مسبقاً. كان (رجل النيران) المتخصص في شي السمك العملاق حول النار، يهيئه على مشواة مفتوحة وهو معلق على أعمدة. بعد ذلك كان ينزل السمك ويتبله بالتوابل (وبالأساس الكاري الهندي) والطماطم المقطعة لشرائح. كنا نضحك ونلعب أثناء انتظارنا للسمك الآخذ في النضج (السمك المشوي بهذه الطريقة كان يدعى مزجوف أو مسقوف). عندما كانت تصل لأنوفنا روائح خلطة التوابل كنا نعرف أن أوان الاحتفال قد حان.
بين الأسر التي اعتادت أسرتي قضاء الوقت معها بالجزرة كانت أسرة التاجر ناتان ساعتشي، صديق أبي، الصغيرة. ولكن لدى انتهاء الحرب العالمية الثانية هاجر ناتان مع أسرته واستقر في لندن. بنى هنالك مع ابنيه إمبراطورية اقتصادية عظيمة كانت في أساسها شركة اتصالات، وهناك من يقول بأنه بفضل شركة ساتشي للاتصالات وصلت مارجرت تاتشر لرئاسة حكومة انجلترا. مات ناتان في عاصمة بريطانيا في شيخوخة هادئة غير أن ابنيه ما زالا نشطين بكامل قوتهما في مجالات عمل مختلفة. من بين أعمالهم الأخرى هناك تجارة اللوحات والأعمال الفنية. في عام 1997 أو 1998، بينما أنا في نيويورك، أقيمَ في متحف بروكلين، أحد أهم وأجمل المتاحف في الولايات المتحدة، معرض لمجموعة خاصة تنتمي لأحد أبناء ناتان ساعتشي. جذب المعرض اهتماماً كبيراً وأثار كذلك عواصف عامة بسبب لوحات فضائحية تضمنها. كنت آمل بلقاء السيد ساعتشي/ساتشي – وهو من أبناء جيلي على الأرجح – في الاحتفال بافتتاح المعرض كي أسأله عما إذا كان مازال يتذكر "ليالي الجزرة"، غير أنه اتضح لي أن الالتقاء بملكة بريطانيا أكثر سهولة من الوصول إلى التاجر اللندني الكبير. أسفت لضياع فرصة اللقاء بالرجل لأنني رغبت في أن أقول له أنه منذ أن تركت عائلته بغداد قبلنا بست سنوات فقد توقفنا عن زيارة الجزرة، ومحتمل أن عائلتي لم تذهب هناك، لأنه بفضل أبويه، محبي الحياة، فحسب وجد أبواي طريقهما للجزرة.
لم أقم بتحليل إلا أقل القليل مما أتذكره عن الحركة المستمرة في نهر دجلة. يلوح لي النهر في سياق "أدبي" كذلك. في عام 1949 على وجه التقريب بدأت في كتابة أشعار وكتابات نقدية، وكما حكيت في موضع آخر، فقد صادقت بعض الشعراء العراقيين الشباب الذين كانوا في بداية طريقهم الأدبي. كنا نلتقي في أشهر الصيف بأحد المقاهي المنتشرة على طول الضفة الغربية. في إحدى الأمسيات أتيح لي أن ألتقي بالكاتب الفلسطيني المنفي جبرا ابراهيم جبرا، وهو مسيحي مولود في بيت لحم، والذي كان قد وصل حينئذ لاجئاً إلى بغداد، وأقام هناك حتى موته في 1996 وكتب هناك أغلب أعماله الأدبية (روايات وأشعار وترجمات من الأدب العالمي). كان خريج جامعة كمبردج ومن أفضل مترجمي شكسبير للعربية. تم استيعابه جيداً في المجتمع الأدبي لبغداد، تزوج ابنة بإحدي العائلات الأرستقراطية البغدادية المسلمة وكان صديقاً حميماً للشاعر بلند الحيدري. غير أنه في سنة 1968، أي بعد مرور عشرين عاماً على التقريب منذ لقائنا لجوار دجلة، وعندما أصبحت باحثاً في جامعة أكسفورد، جاء جبرا هناك من بغداد لإلقاء محاضرة في المعهد الشرقي في زقاق pusey lane . كنت ضمن جمهور مستمعيه ولدى انتهاء المحاضرة قابلني د.مصطفى بدوي، والذي كان يشرف على رسالة الكتوراه الخاصة بي، بجبرا في غرفته بالمعهد. وعندما أشار في أذني الضيف أنني قادم من إسرائيل تراجع جبرا بشكل واضح وحافظ على صمته لدقائق قليلة. في النهاية سألته عن صديقنا المشترك بلند الحيدري والذي بفضله تعرفت على جبرا لأول مرة. عندما سمعني أذكر بلند (وبالتحديد بلكنة بغدادية واضحة) انتبه فجأة وسألني أين عرفت بلند. ذكرته بلقائنا في المقهى بجوار دجلة. قال: أه! أذكر أنه كان هناك صبي يهودي نحيف كان من المعجبين ببلند. هل كان هذا أنت؟ منذ تلك اللحظة ذاب الجليد الذي فصل بيننا.
في أيام حرب الخليج عام 1991 شاهدت في نشرة الأخبار التليفزيونية صوراً مخيفة عن تفجير جسور ومبان في بغداد. ومثل بغداديين كثيرين في إسرائيل (وفي أماكن أخرى) شعرت عندئذ بمشاعر قاسية ومتناقضة. النهر وجسوره والتي شكلت لي مناظر طبيعية للوطن تتلقى ضربات رهيبة ومئات من البشر يلاقون حتفهم. غير أن الطاغية البغدادي (والذي لم يولد في بغداد) يقوم بقتل ألاف الشهداء من أبناء بلاده ومن بلاد أخرى. يرسل صواريخ "سكود" باتجاه إسرائيل وبالتحديد في المناطق التي يسكن فيها الكثيرون من مهاجري العراق. هل يمكن مع كل هذا التوجه إلى ضمائر قادة العالم وأن نطلب منهم إسقاط ضرباتهم بالطاغية مع الامتناع عن المساس بالمدينة الرائعة؟ بتلك الروح ضممت صوتي بوسائل البث البريطاني إلى أصوات يهود وغير يهود من مهاجري بغداد، ولكن كان واضحاً لي أننا نصرخ في الصحراء.
أدوية مستوردة
يوما ما في بداية 1947 عاد أبي من عمله في البنك إلى البيت وعلى لسانه قصة مخيفة. لقد تم إلقاء القبض على اثنين من رجال الأعمال اليهود، وهم صغار السن جداً، في إطار الحملة التي نظمتها أجهزة الحكومة العراقية لاصطياد قياديي الحزب الشيوعي. كان اسم هذين الشابين أبراهام ناجي ويعقوب سحيق. وسيمثلان أمام محكمة أمن الدولة. اتضح أن الاثنين كانا عضوين كبيرين في الحزب غير القانوني (وهناك من يقول بأنهما هما من قاما بتمويل نشاطه) ولهذا فيتوقع لهما عقوبات ثقيلة، وقد يتم الحكم عليهما بالإعدام، كما هو معتاد بالقانون العراقي.
ناجي وسحيق كانا شريكين في شركة يهودية كبيرة (الإخوان جوري) عملت على استيراد الأدوية وبيعها في الصيدليات والمستشفيات. عرفهما أبي وأحبهما كثيراً أيضاً. كان يشير إليهما من حين لآخر بوصفهما (صديقين موهوبين ومستقيمين). أذهلته خبر القبض عليها. كان يؤمن في أعماقه أن كل اهتمامهما يتلخص في استيراد الأدوية، ولم يكن يعتقد أنهما يبحثان عن ترياق لأمراض المجتمع والعدل للعالم كله. في البداية رفض التصديق واعتقد أن المسألة هي تهم باطلة ضد "يهود صالحين"، لكونهم يهوداً فحسب. ولكن عندما اتضح أن الاتهامات قائمة على حقائق شعر كأنهما قد خاناه.
كانت الصحافة العراقية تمتلئ يومياً، ولأسابيع كثيرة، بقصص عن أعمال القياديين الشيوعيين المحبوسين حالياً، وعلى رأسهم زعيمهم، وهو مسيحي يعود أصله إلى جنوب العراق، واسمه يوسف سلمان يوسف، ويدعوه الجميع "فهد". اكتسب فهد مهاراته الشيوعية في مدرسة نشطاء الشرق بالاتحاد السوفيتي الذي تم إرساله إليه. لدى عودته أسس حزباً شيوعياً منضبطاً يخضع لجميع أحكام ستالين.
أبراهام ناجي ويعقوب سحيق كانا من الأصدقاء المقربين لفهد، وفي الواقع فلقد ألقي القبض عليهما مع الزعيم في بيت فهد الرائع. كانت امرأة أبراهام ناجي، واسمها إيلين لبيت درويش، عضوة نشطة كذلك في الحزب، وألقيت على عاتقها مهمات صعبة وخطرة (كأن تكون رسولة بين القادة المحبوسين وبين هؤلاء في الخارج). هي أيضاً كانت تعلم ماذا يعني السجن العراقي.
حكم على أبراهام في البداية بالشنق غير أنه استأنف الحكم وتغيرت العقوبة إلى الحبس لمدة 15 عاماً مع الأشغال الشاقة. أطلق سراح ناجي بعد عشر سنوات على يد نظام عبد الكريم قاسم الثوري (والذي طرد النظام الملكي في يوليو 1958) وانتهى به الأمر بأن انضم إلى زوجته التي كانت قد جاءت إسرائيل في السابق. أقام الزوجان ناجي في رامات جان. كنت ألتقي بهما في ملتقيات واجتماعات سياسية. واصل أبراهام اعتبار نفسه شيوعياً غير أنه لم ينضم، كما أعتقد، للحزب الشيوعي الإسرائيلي. كان يتذكر أبي بالخير وذهل عندما سمع بموته في إسرائيل بعد أزمة قلبية وهو يبلغ ستاً وخمسين عاماً فقط. كانت نهاية أبراهام وإيلين تراجيدية. ماتت هي بمرض خبيث عام 1966 وفي عام 1967 وضع أبراهام حداً لحياته.
عودة لبغداد، بسبب عدم اهتمامي بالسياسة غابت عني بعض الحقائق المتصلة ببيئتي القريبة. فؤاد مثلاً، وهو من أفضل أصدقائي في مدرسة "شيميش"، كان متعاطفاً نشطاً مع الحزب، ولم أعرف أنا هذا حتى اختفائه من المدرسة حينئذ. اضطر في عام 1948، وهو يبلغ 13 أو 14 عاماً، مع عمه يوسف (والذي كان عضواً نشطاً بالحزب) إلى التواري عن أعين الناس لأشهر كثيرة، وبعدها لم يعد للدراسة في مدرستنا. هرب عمه إلى مدينة البصرة، وهنالك ألقي القبض عليه وحكم عليه بالحبس المؤبد وأطلق سراحه أيضاً عام 1958 على يد حكومة قاسم. أما فؤاد نفسه فهرب من الشرطة والتي كانت بالتأكيد مهتمة بإلقاء القبض عليه، ووصل إسرائيل عام 1951. هناك تجددت صداقتنا القوية حتى موته عام 2000. عمل في البلاد صيدلياً بصندوق المرضى، وهي المهنة التي تلقى أسسها في مخازن جوري لاستيراد الأدوية!
كانت لي صلات أخرى، مباشرة أو غير مباشرة، بشيوعيين يهود شباب. غير أن ما أحزنني أكثر من أي شيء حدث عن طريق غير مباشر. أعني شاباً اسمه ساسون ديلائيل تم إعدامه شنقاً عام 1949 بتهمة نشاطه كـ"قيادي أعلى" (أو شبه أعلى) في الحزب الشيوعي. لم ألتق بساسون نفسه، غير أنني عرفت عائلته. كان أخوه الأكبر، عبودي، مدرساً للإنجليزية في المدارس اليهودية، وعمل أيضاً لسنة واحدة مدرساً بديلاً لهذه المادة عندما قضى مدرسنا البريطاني، مستر روجرز، أجازته في وطنه بإنجلترا. كان أخوه الأصغر فتحي تلميذاً بفصلي في مدرسة "شيميش" وكنا صديقين مقربين. في إطار هذه الصداقة اتفق لي لمرة أو مرتين أن أزور بيتهم القريب من بيتنا. لم تبد هناك أية سمة تدل على تسيس ما. بيت عادي لأسرة من الطبقة المتوسطة الموظفة، مثلنا. كان فتحي نفسه بعيداً بعد السماء عن الأرض عن فكرة الشيوعية، وهكذا كان – كما يبدو – سائر أفراد الأسرة.
وبالفعل، فأنا لم أكن أعلم أنه في هذا البيت نشأ أحد القادة الشجعان للشيوعية العراقية. كان ساسون، في رأي كل من عرفه، عبقرياً. اتضحت مواهبه عندما كان تلميذاً في المدرسة، ومنذ تعرفه على نظرية ماركس جعل منها ديناً وأصبح خبيراً بكل أسرار المادية الجدلية. انضم للحزب في شبابه وعمل لفترة ما موظفاً في وزارة حكومية، غير أنه قبيل عام 1948 ترك وزارته وكرس نفسه للنشاط الشيوعي. في عام 1949، بعد حبس وشنق قادة الحزب، حمل على عاتقه المسئولية العليا في الحزب. وعلى مدار شهرين أو ثلاثة حمل لقب "مسئول أول" (سكرتير عام). غير أنه سرعان ما ألقي القبض عليه وحوكم وشنق في الميدان الرئيسي لبغداد (كما شنق من سبقوه - فهد ورفاقه بتهمة القيادة العليا) عشيه شنقه كتب الكلمات التالية: "أدعو الله أن ألا يذهب نضالي عبثاً. لا يمكن لقوى الرجعية أن تسود إلى الأبد. سأموت غداً لأنني آمنت أن للبشر الحق في التحكم في مصيرهم، وهو الديمقراطية والسلام والحياة الكاملة. أنا إنسان حر لأنني أعرف الحقيقة..."
من عرفوه عن قرب (ومنهم صديقي الكاتب سامي ميخائيل) يتحدثون بانفعال عن قدراته وجرأته. غير أنه في نظر شيوعيين عراقيين كثيرين كان يبدو حالة إشكالية للغاية. وصل للقيادة تقريباً بـ"بضربة خاطفة" وحاول إرساء نماذج جهادية متطرفة ومغامراتية في الحزب. بسبب تطلعه للسيطرة على الشارع من جديد، بعد سحق الثورة الشعبية في 1948، حمل لواء الخروج الجماعي لأعضاء الحزب والمتعاطفين معه إلى الشارع. بهذا انكشف أمام أعين الشرطة، كما يزعم المعارضون، سائر الكادر الحزبي، والذي حافظ في الماضي على السرية. يطرح باحث بارز في الشيوعية العراقية، حنا بطاطو، وهو عراقي مسيحي نشر كتاباً ضخماً عن هذا، مزعماً مثيراً للسخرية (وإجرامياً بالتأكيد)، عن كون ديلائيل كانت تحركه دوافع صهيونية وأن هدفه المدرك كان تدمير الحزب الشيوعي، فليرحمنا الله.
عليَّ الإشارة إلى أن ديلائيل لم يكن الشيوعي الوحيد الذي صعد لمرتبة القيادة في الحزب الشيوعي وتم شنقه بسبب هذا في الميدان المركزي لبغداد. سبقه يهودا صديق، والذي، بسبب رؤية القيادة التقليدية في الحزب عمل لفترة قصيرة "مسئولاً أول" حتى أمر القائد فهد وهو في سجنه بتعيين شخص آخر مكانه. وفي كارثة بالنسبة للحزب تم حبس هذا الشخص، واسمه مالك سيف، وانهار أثناء التحقيق معه، قام بالإدلاء بمعلومات عن رفاقه وكان الشاهد الرسمي في محاكماتهم. هكذا نجح النظام العراقي في يوم واحد في شنق أربعة قادة "تاريخيين" كان كل واحد منهم ينتمي لمجموعة دينية مختلفة: فهد (مسيحي) وزكي بسيم (مسلم شيعي) وحسين الشبيبي (مسلم شيعي) ويهودا صديق (يهودي).
هناك من يقول بأن لحاق يهودا بالقادة المشنوقين، برغم عدم انتماء الرجل للقيادة التاريخية، جاء كإشارة تحذيرية للطائفة العراقية. يقال أن نوري السعيد، وهو كبير القادة السياسيين في العراق حينئذ، قد غضب كثيراً على الطائفة اليهودية لأنها قد أخرجت من بينها نشطاء شيوعيين مخلصين. لهذا فلقد ضم نشطاً كان "يمثل" الطائفة اليهودية التي رآها خائنة إلى سائر "ممثلي" الطوائف المختلفة حتى يعتبر من لا يعتبر!
كان شنق ساسون ديلائيل لحظة صادمة في حياتي، أنا الذي كنت أعرف كل أبناء عائلته تقريباً عن قرب. غير أن الفصل الأكثر إدهاشاً لي في قصتي من هذه الناحية لم أقصه بعد: تزوجت بورتونت، وهي ابنة عمي موشيه، والتي هاجرت مع عائلتها للولايات المتحدة وأقامت في لوس أنجلوس، في الخمسينيات من دافيد ديلائل، وهو الأخ الأكبر لساسون. كان دافيد عاملاً اشتراكياً، وفي السبعينيات والثمانينيات كنت ألتقي به مع عائلته أثناء زيارتي للساحل الغربي للولايات المتحدة. كان شخصاً دمثاً، نموذجاً غير سياسي تماماً. غير أنني بعد فترة قرأت كتاب يوسف ميئير (بعنوان "في الحركة السرية بالأساس") أن دافيد كان في بداية الطريق، قبل هجرته للولايات المتحدة، مصدر الإلهام الأيديولوجي لساسون. وهكذا عرفت أنه كتب، عشية شنق ساسون، خطاباً لأخيه دافيد وفيه شرح اعتقاداته ونضالاته وأحلامه. أردت الحديث مع دافيد حول هذا غير أنني لم أجرؤ على فعلها في نهاية الأمر. في المرة الأخيرة جاء البلاد مع زوجته لحضور زفاف ابنه وكان منغمساً تماماً في هذا. مات في أول 2003 بلوس أنجلوس.
ومن موضوع إلى موضوع في نفس الموضوع: دعي ابن بورتونت ودافيد على اسم عمه ساسون. عندما استلمت، عن طريق البريد، الدعوة لحضور حفل الزفاف وقرأت اسم "ساسون ديلائيل" اختلط علي الأمر للحظات. غير أنني فهمت فوراً ما أن اتضح لي أن الزفاف سوف يقام في أحد القاعات الحريدية في بني باراك وأن العريس، الذي يحمل اسم أحد القادة الأسطوريين للحركة الشيوعية العراقية، هو شخص تائب، توراته هي معتقده. من كان هذا الذي قال بأن التاريخ يتكرر مرتين: مرة كمأساة ومرة كمهزلة؟
________________________________________________
كتاب ساسون سوميخ "بغداد، الأمس" منشور بترجمة أخرى عن دار الجمل، كولونيا، ألمانيا، 2008.
No comments:
Post a Comment
comment ya khabibi