Friday, 31 December 2010

اصرخ يا أحمد

فراس خوري، شاعر ومخرج فلسطيني، يسكن في قرية عيلبون، خريج قسم السينما والتليفزيون بجامعة تل أبيب. يعمل هذه الأيام على إخراج فيلم قصير باسم "سوفير". القصيدة منشورة بالعبرية بمجلة "معيان" الأدبية الدورية، ومنشورة في صحيفة يديعوت أحرونوت أيضاً.



اصرخ يا أحمد

فراس خوري

ترجمة: نائل الطوخي


اصرخ بالعربية، يا أحمد، ولوث آذانهم.

قف في ساحة المنصة واصرخ على صديقك، الموجود في هرتسل، كي يجلب لك المجرفة

ازعج جميع الجالسين في شوارع روتشيلد المشجرة مع كلابهم المدللة،

ازعجهم وهم يتحدثون عن الحفل الذي أقيم بالأمس

عن لعبة فريق مكابي تل أبيب الليلة،

عن الحريديم (العفنين) الذين صعدوا قبل لحظة للأوتوبيس معهم،

عن الحكومة اليمينية التي لا يشكلون جزءاً منها،

وعن العربي الذكي الذي قابلوه مؤخراً.

اصرخ، يا أحمد،

وسخ آذانهم بلغتك

هم لا يحبونها

هم يخافون منها

هم لا يحبون سماع اسم صديقك

هذا يرعبهم، يزعجهم أن يقرأوا الصحيفة اليسارية.

اصرخ، يا أحمد، بكل الصوت الذي منحك إياه الله

اصرخ، لا تخف، اصرخ!

فأنت تحتاج هذه المجرفة. صح؟

أنت تحتاج هذه المجرفة.

اصرخ، لن يلاحظوا وجودك إلى أن تصرخ

بهذه اللغة،

اللغة الممنوعة،

اصرخ وأصم آذانهم-

أنت تحتاج هذه المجرفة يا أحمد،

اصرخ.


ازرع لهم الطريق المشجر يا أحمد

زيّن لهم الطريق المشجر،

ثم اجلس لترتاح، اجلس لترتاح في الطريق المشجر.

أخرج علبة الملوخية والخبز من الكيس الذي أعدته لك أمك.

افتح العلبة، ضعها على الأرض،

أخرج الخبز وضعه على الكيس، على الأرض.

اجلس وامسح يدك.

امسح وازدرد الطعام أمام أعينهم.

امسح بيد تعرف أكثر مما ينبغي في عمرها الصغير.

اجلس بملابس العمل الوسخة وبوجهك المهبب والعرقان

وامسح.

امسح ولوث لهم ما حولهم.

اجلس، امسح واستمتع بطرق روتشيلد المشجرة يا أحمد

سيأتي يوم و...


ملحوظة المؤلف: إذا كنتَ إسرائيلياً فمن البديهي أنك قمت بتفسير الجملة الأخيرة بوصفها تهديداً لوجودك. شيء مثل: "سيأتي يوم وتصبح كل طرق روتشيلد المشجرد ملكك، يا أحمد".

لذا وجب الإشارة إلى أن الجملة الأخيرة تمت كتابتها فقط من أجل مواجهة القارئ الإسرائيلي بالوضع. ليس لدى المؤلف أية نبوءات تتعلق بطرد اليهود من طرق روتشيلد المشجرة، وهو بالتأكيد ليس لديه الوقت للذهاب في الرابعة وعشرين دقيقة عصر يوم الأربعاء للتحقيق لدى الشاباك.

Sunday, 26 December 2010

غمزة للنجوم


أوريت جيدلي بن آري

ترجمة: نائل الطوخي

ولدت أوريت جيدلي عام 1974. لها ديوانا شعر هما "عشرون صبية يمكن الغيرة منهن"، 2004، و"بطانيات"، 2009. تم تحويل ديوانها الأول إلى عرض مسرحي عُرض في مهرجان عكا عام 2006. درست الماجستير في علم النفس بالجامعة العبرية، أما درجة الدكتوراه فقد نالتها من جامعة بن جوريون عن طرق الكتابة. تدير اليوم ورشة كتابة مع الشاعر إشكول نِفو. هذه القصيدة منشورة في صحيفة يديعوت أحرونوت



غمزة للنجوم


تخرج للصالون بعد وقت النوم

تحمل معك – مثل جواز سفر – السؤال البسيط

الذي يبدأ دائما بـ"ما معنى" وينتهي

بـ"هكذا ليست إجابة".



لا أستطيع تقريباً إجابتك على أي شيء، يا طفلي،

لا من يرتب الجدول الدوري

ولا ما يوجد من خلف الفضاء وإذا كان يوجد شيء ما أصلا،

ولكن أمامك أشعر أنه لم يعد لدي الكثير لأتعلمه

بل وربما أكون قد وصلت أيضاً.


وعندما تسحب ساقيك عودة للسرير،

قزم في النظر، عملاق في نظر تلك التي تبصرك،

أعرف أنه يمكنني أن أصمت لسنوات الآن

بدون أن أقول من فضلك،

يمكنني أن أنصت لك من خلف الباب لسنوات

تقرأ ثم تنام.



هناك شيء ما خلف الفضاء، يا طفلي، فقط ليكن في معلومك

وأنا ألامس بسببه النور فوق رأسك،

أطفئه، أشعله، ثم أطفه ثانية،

أغمز للنجوم من داخل البيت.

Friday, 17 December 2010

حاييم نحمان بياليك



ولد حاييم نحمان بياليك عام 1873، ورحل عن عالمنا عام 1934. هو الشاعر المركزي الأول في الأدب العبري الحديث. حظى بلقب "الشاعر القومي". كان واحداً من أبرز المعبرين بأشعاره ومقالاته عن الصهيونية الكلاسيكية.

ولد في شتاتال، القريبة من جيتومتير، بحدود الإمبراطورية الروسية "أوكرانيا اليوم". انتقل في سن السابعة عشر للإقامة في مدرسة فولوجين الدينية، بغرض الحصول على ثقافة عامة. وأصيب بالإحباط عندما اكتشف أنه لا يتم تدريس سوى التلمود في هذه المدرسة، وليس العلوم الدنيوية. وفي النهاية انضم إلى المجتمع "التنويري – المسيكيلي" في المدرسة وأصبحت له شعبية مبيرة بين الطلبة التنويريين. يصف زميله آبا بلوشر شخصية بياليك ومكانته الاجتماعية داخل الجماعة فيقول: "ضيف شائع في هذه الغرفة، سواء في اجتماع أو بدون اجتماع، شاب دعوه في المدرسة باسم "الجيتوميري"، وناداه الآخرون باسم "حاييم نحمان"، لم يُعد من بين المتعلمين المخضرمين وإنما من التنويريين، وصارت له سمعة بوصفه دارساً للتوراة واللغة، منجذبا للقلم وأديب عندما يريد. في ساعة الاجتماع يصبح هو أول المتحدثين، أول المبتدئين وآخر المنتهين، وكان الجميع يصغون لكلماته التي كانت دائما مهمة للغاية". في هذه المدرسة (اليشيفا) كتب قصيدته "إلى العصفور"، كما عد من بين مؤسسي الاتحاد الصهيوني السري "نيتسَح يسرائيل". في عام 1892 التقى بالمفكر اليهودي الصهيوني إحاد هعام، وهو من أثر على أسلوبه كثيراً. في هذه الفترة نشر قصيدته الأولى "إلى العصفور".

عام 1893 تزوج مانيا، وبدأ في العمل بتجارة الأشجار، وكتب قصائده الأشهر ساعتها، ومنها "على عتبة بيت هامدراش"، "موتى الصحراء الأخيرون". كما كتب قصيدته "على عشب الشعب"، والتي اعتبرت قصيدة إدانة، وكتبها على خلفية الأيام التي سبقت انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول ببازل. أقام حتى عام 1921 في أوديسا بالاتحاد السوفييتي. في هذا العام، وفي أعقاب تدخل الأديب الروسي مكسيم جوركي وبأمر خاص من لينين، مُنح بياليك التصريح بمغادرة الاتحاد السوفييتي مع عدة أدباء يهود. انتقل لبرلين، حيث عمل بالنشر باللغة العبرية في دار نشر "دفير". وانتقل إلى بادهمبورج حيث التقى بشموئيل يوسف عجنون وإحاد هعام، وهناك تعرف على الرسامة وكاتبة الأطفال توم زيدمان فرويد، وهي ابنة أخي سيجموند فرويد، وأقاما معاً دار "أوفير"، وهي دار لكتب الأطفال بالعبرية. وتم حل الدار بعد خلاف بينه وبينها.

هاجر بياليك إلى فلسطين عام 1924، وانتقل للإقامة في بيت تم بناؤه من أجله خصيصاً في تل أبيب. بلوغه الستين عام 1933 كان حدثاً هاماً، إذ أقام شموئيل بلوم كتروما مسرح "أوهَل شيم" تكريماً له في ذكرى مولده الستين. كما احتفل الاستيطان الصهيوني في فلسطين بهذا الحدث. وصدرت طبعة خاصة من كتبه كما صدر كتب "قصائد وأغان للأطفال"، برسومات ناحوم جوتمان.

توفى عام 1934 وشارك في جنازته حوالي مئة ألف شخص. ودوماً تم لوحق بتهمة العداء لليهود الشرقيين والعرب.

من كتبه: "قصائد" 1901، "قصائد" 1908"، "الدجاجات والثعلب" 1918، "كل كتابات حاييم نحمان بياليك" 1923،

قصائده المنشورة هنا "إلى العصفور"، "بعد موتي"، و"اطويني تحت جناحك"، هي من أهم قصائده. بالتحديد قصيدة "إلى العصفور"، التي يعبر بها عن حنينه كشاعر يهودي إلى فلسطين "أرض إسرائيل.. إريتس يسرائيل".


حاييم نَحمان بياليك

ترجمة: نائل الطوخي


إلى العصفور

حمداً على سلامتك، يا عصفورتي اللطيفة

في عودتك من البلاد الحارة إلى شباكي-

إلى صوتك الذي طالما تاقت روحي إليه

في الشتاء، عندما هجرتِ حصني


‏‏غني، احكي، يا عصفورتي الغالية

عن البلاد البعيدة الرائعة،

هل سترنمين، هناك أيضاً في الأرض الحارة، الجميلة

بالأخبار السيئة والمعاناة؟


‏‏هل حملتِ لي سلاماً من إخوتي بصهيون،

من إخوتي البعيدين والقريبين؟

السعداء! هل يعرفون

أني أعاني، أعاني الآلام؟


هل يعرفون كم هم كثيرون أعدائي،

وما أكثر من يقومون ضدي، ما أكثرهم؟

غني، يا عصفورتي، عن عجائب وطن

الربيع به يثمر العالم.


هل حملت لي سلاماً من ثمار الوطن،

من الوهاد، من الوديان، من رؤوس الجبال؟

هل أشفق الرب على صهيون، رحمها،

أم أنها لا تزال متروكة للقبور؟


ووادي الشارون وتل اللبونا-

هل أعطيا مرَّهما وناردينهما؟

هل أيقظ العائد في الغابات

جبل لبنان النائم النعسان من نومه؟


هل نزل الندى على جبل حرمون كالجواهر،

أم سال وسقط كالدموع؟

وما أخبار الأردن ومياهه النقية؟

وأخبار كل الجبال والتلال؟


‏‏هل انزاح من عليها السحاب الثقيل،

الذي يغطيها بالظلام والعتمة؟

غني يا عصفورتي، عن بلاد وجد بها

أجدادي الحياة، والموت!


ألم تذبل بعد الزهور التي زرعتها

عندما ذبلت أنا نفسي؟

أذكر أياماً كنت مزهراً مثلها،

ولكنني الآن شخت، وهنت قوتي.


‏‏احكي يا عصفورتي، أسرار كل فروع الشجر،

وما همسَتْ لك به أوراقها؟

هل بشرَتْ بالعزاء وبالأمل في أيام،

ستأتي وتثمر كجبل لبنان؟


وما الذي أحكيه لك أنا يا عصفورتي اللطيفة؟

ما الذي تريدين سماعه من فمي؟

من الأرض الباردة لن تسمعي أغنيات،

إلا أغنيات الحداد، والنواح المرير.


هل أحكي عن المعاناة، المعروفة

في البلاد ويسمع بها الجميع؟

ها، من يَعُدُ المصائب التي مرت

والمصائب التي ستأتي ونحسها؟


طيري يا عصفورتي، إلى جبلك وصحرائك!

من حظك أنك تركت خيمتي،

لو سكنتِ معي، كنت أنت أيضاً، يا جناح الأغنيات،

ستبكين، ستبكين بمرارة على مصيري.


ولكن لا البكاء ولاالدموع سيشفيانني

ولن يخففان وجعي،

لقد ذبلت عيناي، دموعي ملأت قربة

قلبي الآن كعشب مقطوع .


لقد انتهت الدموع، انتهت الأشواك

ولم توضع النهاية على حزني.

مرحبا بعودتك يا عصفورتي الغالي

افرحي وغني ورنمي!


بعد موتي


بعد موتي قوموا بتأبيني:

"كان هناك رجل، وانظروا – هاهو لم يعد موجوداً

قبل زمنه مات هذا الرجل،

وأغنية حياته توقفت في منتصفها،

وللأسف! فقط مزمور واحد كان لديه-

وها هو ضاع هذا المزمور للأبد،

ضاع للأبد!


وللأسف الشديد! كانت لديه قيثارة–

روح حية تتكلم

والشاعر دوماً ما كانت كلمته بها

كل أسرار قلبه أخبرها بها،

وكل النغمات تحدثت بها أنامله

ولكن سراً وحيداً في قلبه أنكره،

تدور تدور أصابعه عليها وتتواثب

نغمة واحدة ظلت خرساء

خرساء ظلت حتى اليوم!


وللأسف الشديد، الشديد!

طول أيامها ترتعش هذه النغمة،

ترتعش بصمت، ترتجف بصمت،

حنيناً لمزمورها، وهو أبوها مخلصها،

تاقت، ظمأت،حنت، اشتاقت،

كما يحن القلب لمن ينتظره،

وإن تأخر، فهي تنتظره في كل يوم،

وفي زئير تختفي استغاثته

والمزمور يتلكأ ولا يجيء

لا يجيء أبداً!


وعظيم جداً، جداً الألم!

كان هناك رجل، وانظروا – ها هو لم يعد موجوداً

قبل زمنه مات هذا الرجل،

وأغنية حياته توقفت في منتصفها،

وللأسف! فقط مزمور واحد كان لديه-

وهاهو ضاع هذا المزمور للأبد،

ضاع للأبد!"

.....................................

نشرت قصيدة "بعد موتي" لأول مرة عام 1904 في صحيفة "هاتسوفيه" التي كانت تصدر بوارسو. والصيغة الأصلية للقصيدة كانت تحمل عنوان "في ذكرى ف." والتفسير الشائع لهذا أن القصيدة تم إهدائها لذكرى الأديب مردخاي زئيف فايربرج، المجايل لبياليك، والذي كانت قد مرت وقتها خمس سنوات على رحيله. وعندما قام بياليك بنشر قصيدة في طبعة ديوانه عام 1908، غير العنوان إلى "في ذكرى م"، ويقال إن هذا كان المقصود به اسمه هو، "نحمان".


اطويني تحت جناحك


اطويني تحت جناحكِ

وكوني لي أماً وأختاً،

وليكن حضنك مأوى رأسي،

عشاً لصلواتي البعيدة.


وفي وقت الرحمة، في الغسق

اِنحني لأكشف لك سر ألمي:

يقولون: ثمة صبا في العالم –

أين صباي؟


باق سرٌ واحدٌ أعترف لك به:

روحي تحترق لهيباً

يقولون: ثمة محبة في العالم –

ما هي المحبة؟


خدعتني النجوم،

كان هناك حلم – ولكنه أيضاً ماضِ

الآن لا أملك شيئاً في العالم –

ليس لديّ شيء.


اطويني تحت جناحكِ

وكوني لي أماً وأختاً،

وليكن حضنك مأوى رأسي،

عشاً لصلواتي البعيدة.

Friday, 10 December 2010

أن ترسم بيتاً مقدسياً

"أختي عروس والحديقة مغلقة" هو عنوان رواية جاليت دهان كارليباخ، تصف الرواية ما يدور في بيت مقدسي، تحلق عليه لعنة عائلة قديمة، نساء البيت يعشن وفق قوانين طبيعية أخرى، حتى تدمر إحداهن هذا التجانس عندما تعلن بشكل دراماتيكي عن أنها ستتزوج. في البيت المقدسي تسكن أربعة نساء، التوأمتان طالوش القبيحة وآفي الفاتنة، أمهما الممثلة وجدتهما. ينعزلن عن الرجال بسبب لعنة قديمة، وفي قلب المدينة الحديثة ينصعن لأوامر المواسم والطبيعة، ولا يستجبن لرغبات الرجال. ولدت جاليت دهان كارليباخ في مستوطنة شديروت عام 1981. هنا الفصل الأول من روايتها المنشور في جريدة يديعوت أحرونوت تحت عنوان "تعالي يا عروس".




أختي عروس والحديقة مغلقة

جاليت دهان كارليباخ

ترجمة: نائل الطوخي


لا نحتاج الكثير حتى نبدأ في سرد قصة تدور أحداثها في القدس: خذوا المدينة، اغرسوا بها بيتاً قديماً، غطوها – بسخاء – بالغرانيوم الزاحف، شقوا على جانبيها زقاقاً ضيقاً، أضيفوا أشعة شمس مكسورة على حجر بلون الجسم، وهكذا يكون نصف العمل على الأقل تم إنجازه.

حتى تكون هناك قصة، يقول قائل، ينبغي أن يكون هناك شيء ما ليس على ما يرام، شيء ما يزلزل الأرض من تحت الأقدام، وإذا احتجنا لزلزلة الأرض، فمن المجدي على الأقل أن تكون تلك أرضاً صلبة، مقدسية، أرضاً جيدة للبيع، وسادة رائعة وخصبة لمدافن الأغنياء الآتين من الخارج للسكنى بها وللحصول على القليل من الدودات الصهيونية، أرضاً تتقبل بتسامح لا نهائي كل ضلالات المعماريين، الذين سيعلنون حربا عالمية على ماهية الدائرة الحجرية التي تم الكشف عنها بالأمس في سلوان.

ليست ضرورية هنا الإجابة الحاسمة بخصوص مجال استخدام هذه الأرض – سواء كانت هي المؤسسة الخدمية الأقدم في العالم أو أنها كانت تنتمي لبيدر من أيام اليبوسيين – ليست ضرورية أبداً عندما تكون هناك درجة من الزركشة، ومن فوقها مبسوطة عريشة عنب. نحتاج مكاناً – مساحة ذات بواكي – يمكن فيه الارتياح والتنهد على وسادتين أو ثلاث واحتساء من حين لآخر قهوة سوداء تم غليها في الفنجان.

على هذه الأرض، في هذا البيت العتيق، نحن الأربع مغروسات جيداً. نقول: "بيت مقدسي"، وفوراً تنتصب بالأمر ثلاث أشجار سرو، ترتعش ظلالها برقة وتميل فوق بيت مغطى بالأحجار. عندما نرسم صورة مناخ مقدسي، فإن القلب الأحمق يقوم على الفور بتسيير قوافل من الحجاج، وثيران من ذوي القرون المذهبة التي تحرك آذانها في إيقاع متناغم. نساء من كل العالم يتم تصويرهن على أبواب بيت المقدس، ومن أسفلهن دخان ذهبي يطرد الرائحة الرهيبة للأضحيات.

جوقات من الأطفال المزيفين من جميع أنحاء البلد يحجون لـ"القدس الذهبية"، يشحنون التاريخ على أكتافهم الدقيقة و يزقزقون مراراً وتكراراً في الهواء الرائق كالنبيذ. الهواء. ما الذي يمكن إضافته عن الهواء الطيب للمدينة؟ عن الهواء المنعش الذي يطوف على ظهر الريح الطيبة، والتي تغير أحياناً توجهها وتجلب معها عطراً صحراويأ؟ نعم. عندما نتحدث عن القدس، من المهم أن يكون هناك ثمة "عطراً"، ومن المرغوب أن يكون "رائقاً".

عندما نعمل على الإكليشيهات فينبغي لنا التصرف كما لو كنا في معمل، ينبغي ارتداء قفازات معقمة، لأنه لا يمكن معرفة ما الذي سينفجر، أو أية زجاجة سوف تحرر أسراراً مظلمة. من المهم أن ندرس بحرص شديد: هل الهواء فعلاً رائق لهذه الدرجة؟ في أي جزء من المدينة؟ وبشكل عام، عن أي نوع من النبيذ بالضبط نتحدث؟ هكذا ينبغي العمل بحرص. من المناسب أن نلتقط الروائح بأنف مفتوح. وألا نتسمم أبداً، أبداً، لا من الأنبياء الذين يتجولون على أبواب يافا، ولا من شجرة الغرانيوم أو القبار. كم هو صعب أن نكتب عن القدس. كم هو صعب أن نفعل هذا بدون التباكي على صخرة وجودنا إياها، وعلى الضوء الذي في آخر النفق إياه. صعب أن نفعل هذا بدون أن تخترق مؤخراتنا عشرات من أشواك الصنوبر ذات الرائحة الطبية النفاذة.

إذن، فمما أو من أين نبدأ؟

ربما من هاتيك الأيام، أيام ما قبل التاريخ الخاص بنا، عندما لم يكن بعد "بيع الأراضي يدق الباب"، كما غرّد بعذوبة أحد المقاولين مرة وتلقى صفعة من جدتي. ربما من تلك الأيام التي لم تكن تجذب فيها رائحة الفرن المرشدين السياحيين. ربما عندئذ، عندما كنا عائلة غريبة – ليس إكزوتيكية. عندما كانت أحجار البيت تدافع عنا، ولم تكن "تعيد النور الرقيق للقدس". عندئذ، بينما كنا نسير، ولم نكن "نتجول في الأزقة".

كان ياما كان، منذ قديم الأزل، كان هناك بيت ضربت الطحالب جذورها فيه. أشجار القبار تلوت على حوائطه وأخذت تعض الأيدي. أشجار التين العجوز كانت تنزف الحلوى في الفناء. وفي البيت: أب وأم وتوأمتان، متشابهتان جداً أو مختلفتان جداً. وجدة عجوز كانت تأتي في الصباح للزيارة مرة في الشهر، من مدينة بعيدة كل البعد.

ببطء ببطء، بمنخارين واسعين ورطبين. ينبغي التعامل مع الكليشيه بحذر ومكر، ينبغي الانتظار حتى يذوب.

بيتنا الشرقي – لكي نشعل خيالكم: سجاجيد حمراء، خدم بسراويل علاء الدين، طاسة نحاسية مليئة بالكؤوس الزجاجية الصغيرة. في الفرن تنضج فطائر المعمول، ورائحة ماء الورد المتصاعدة منها تدلل البيت – بيتنا الشرقي هذا ليس بيتاً نموذجياً.

هكذا، لا يرحب البيت بأي شخص. ولا حتى بيهوديت، الجارة الهندية التي تحاول مداواة الجدة بفطائر من نبتة سانت جون، ولكنها تجعل الوضع يسوء فحسب. ربما نبدأ من المنظومة الدفاعية للبيت. الجدة لا تؤمن بالطبيعة الخيرة للإنسان، ولذا فبيتنا مبني على هيئة قلعة صليبية.

ثمة مذراة معلقة على عمود المدخل، تلوح تجاه السماء كشيطان غضبان. معلقة عليها باقات من اللافندر اليابس، ينبغي أن نعرف الآن، قبل الغوص بداخل البيت، فمثلما أن الأم تكره الجرانيوم، فإن الجدة تحب اللافندر، اللافندر من جميع الأنواع، عندما يكون بلغارياً، فرنسياً، إنجليزياً، ليكن طحلبياً، شائكاً، شهيراً، صحراوياً، مشعراً، ليكن ناردوس، من أباء أباء نبات الناردين، من عطريات البخور. البيت لدينا مصنوع كله من اللافندر، ومليء به.

أمام الضيف تهبط درجات سلم حتى باب المدخل، الثقيل والأحمر، المصنوع من خشب خشن. أحيانا ما تفرش الجدة أمامه سجاجيد السيارة – مقلوبة – وتسكب عليها زيتاً.

عند نهاية السلالم يمكن التوجه يميناً حتى حديقة المفاجآت. نحن لا نطلق عليها هذا الاسم في الحقيقة. عندما يطلق شخص على حديقته هذا الاسم، فإن هذا يدل على شعوره بالملل منها. آخر شيء يمكن قوله عنا أننا نحتاج المفاجآت. في وسط الحديقة تنمو شجرة بن، سربتها لنا يهوديت من الجمرك عندما عادت مرة من زيارة لجذورها في الهند. تلقت أمي تحذيرات من جميع أنواع العلماء الذين مروا في المحيط: الشجرة لن تصمد في القدس، هي تحتاج الدفء، والبن الجيد – يمكن شراؤه من السوق، وهذا مرغوب. اقترح العلماء: قوموا بتربية أشجار الزيتون. أشجار التين. وماذا عن الغرانيوم؟

رداً على هذا فإن الشجرة تثمر حبات البن الأفضل في البلد، وعندما نطحنها في مطحنة أمي ببطء وبشكل مكتمل، فإن ليالي بيضاء تكون بانتظارنا. النبات الأقدم في حديقتنا هو الأرغن الذي أتت به جدتي من المغرب. قبل أن يتم تسجيله بوصفه براءة استيراد في البلد بثلاثين عاماً، كانت الشجرة عندنا، مغروسة عميقاً في الأرض.

نجا الأرغن من السفينة، من مبيد الدي دي تي ومن استغراب الموظفين. زيت الأرغن يشبه زيت الزيتون في مذاقه، ولكنه أكثر رقة ودغدغة. من تحته تمتد حديقة الفاصوليا الخاصة بأمي. أمي هي البستانية الوحيدة في حديقتنا، ولكنها تحب الفاصوليا أكثر من أي شيء آخر. الفاصوليا – السيئة والملتفة – تلتوى عندها على جدار ليس مبنياً من الحجر المقدسي، وإنما من صبار عنيف بالتحديد.

على الجانب الأيسر من السلالم يقف خيال مآتة ذو تعبير غاضب. خيال المآتة لا يخيف العصافير، ولا هو مخصص لهذا الغرض. خيال المآتة هو جزء من المنظومة الدفاعية للبيت. جدتي تحتفظ به بشكل ثابت: تضع اللافندر في رأسه، تغير له أقنعة عيد البوريم ذات المرأى المرعب، تغرس سكاكين في يده وتضع جمجمة على كتفه. اللص، إن لم يكن قد التقط بعد الرسالة المضمرة في العفريت الواهن، سوف ينزلق بهدوء نسبي ويتوقف بجانب الباب الخشبي الخشن هناك، وسوف يرى الأحمق النسيج الخشبي، وفي هذا الوقت سوف تنغرس آلاف الشظايا الخشبية الصغيرة في كف يده.

الجدة تفرك يديها. هذا الموضوع نافع بشكل ممتاز. بل إنها حتى لا تعرض على فئران تجاربها هؤلاء أن يدخلوا ويهدأوا مع شاي جيد أو بعض العالول المغربي الذي تربيه أمي في صوبة صغيرة من أجل "شللوف للمشروبات". العالول ليس إلا نوعاً من القنب، المفيد جداً في علاقات المقايضة. وهي العمل الوحيد الذي لم تستطع ضرائب الدخل أن تضع يدها عليها. نحن لا نخاف الشرطة. إذا نجح شخص ما غير مرغوب في زيارتنا، فسوف يكون هذا بعد أن ينزلق ويتم وخزه، أو بعد أن يرتعب حتى الموت. في حالة كتلك – فلا يمكن لأي شخص أن يفتح ملفنا.

للانتقال للحديقة ثمة قبو ينتمي مبدئياً ليهوديت الساكنة، ولكنه فعلياً ينتمي لنا. هناك في القبو تقوم جدتي بشكل عملي مع ليليت بعمليات سد الناقص.

نصف القبو مليء بأكياس القمح والأرز والسكر. "أبداً"، تقول الجدة، "أبداً لا يمكن معرفة ما سيحدث." وعندما تقول هذا، فهي تقصد سنوات الضيق التي عرفتها في المغرب، والتي استطاع اليهود الأذكياء الصمود أمامها بشكل جيد، سمينين وصحيين كان اليهود يتجولون في القرية ويطلّعون عين المسلمين. لا يحوي القبو فقط الاحتياجات الأساسية، وإنما يتزين أيضاً بالمشروبات الحريفة.

في حرب الخليج كانت جدتي تتمشى وهي ثملة تماماً، فخورة بخدمتنا الاحتياطية. بفضلها نحن نشرب هذا الخير، تقول، ولن تجرؤ أية واحدة على الاقتراب إليها بهذا القناع، تصاب بالزغطة.

في ما قبل التاريخ الخاص بنا – قبل أن تتحول كتب الدليل السياحي إلى موضة، عندما لم يكن السياح المتحمسون يضايقوننا بعد – فإن نحالات أوشِر، وهو الحي الذي لم يكن إلا زقاقاً، كان يعيش لنفسه.

Friday, 3 December 2010

السادات يزور بئر سبع


هتاف للديمقراطية


إلياهو نافي

ترجمة: نائل الطوخي


بعد النطق بالحكم في قضية التحكيم الدولية بين إسرائيل ومصر، والتي قررت أن منطقة طابا على شاطئ البحر الأحمر تنتمي لمصر، لم يتبق خلاف فيما يتعلق بخطوط الحدود بين الدولتين. في أحد الأيام خرج طاقم المسّاحين الإسرائيليين والمصريين، بصحبة ممثلي الأمم المتحدة، لوضع الحدود بشكل نهائي، عبروا بجانب الخط، في رمال رفح، نصبوا الأوتاد كعلامات، ثم جاء العمال الذين نصبوا الجدار السلكي.

في الأرض الواقعة جنوب رفح كانت تتجول بالحقل عدة حيوانات لم يعرف أحد لمن تنتمي، وتم طرح السؤال عن أي جانب من الحدود ينبغي وضعهم فيه. لم يكن ثمة شخص يمكن سؤاله في المحيط القريب، فقرر ممثلو الأمم المتحدة أنه يمكن للحيوانات نفسها اختيار في أي جانب من الحدود تحب الحياة.

في البداية سألوا الدجاجات، والتي أجابت كلها بنفس واحد: "مصر!"

"لماذا مصر بالتحديد؟" شعر ممثل إسرائيل بالإهانة.

"لأنه ما الذي لدينا لنفعله في إسرائيل؟ إنهم يحتفظون بنا في الحظائر، ويضيئون الحظائر بنور كهربائي يبهر أبصارنا كي لا نميز الليل من النهار، ولا يكون علينا إلا أن نضع لهم المزيد من البيض، والبيض الذي نضعه لا نحظى برؤيته، لأنه في اللحظة التي يخرج فيها عن جسمنا يتم وضعه على سير متحرك. الدجاجة، منذ خروجها من الحضّانة وحتى وصولها للمذبح لا تقابل ديكاً ذكراً ذا عُرف، أما هنا، في مصر، فنحن نرقد على البيض، نتجول مع الكتاكيت وننبش في الأعشاب بحثاً عن دود، ومن أي تل ينادينا ديك وهو يهز جناحيه، وتريد منا بعد ذلك البقاء في إسرائيل؟"

قاموا بنقل الدجاجات للجانب المصري وتوجهوا للأبقار التي كانت ترعى في المروج. "مصر!" أجابت الأبقار بلا تردد. "ما السيء في إسرائيل؟" تساءل الممثل الإسرائيلي.

"في إسرائيل؟" احتجت الأبقار، "في إسرائيل يتم الاحتفاظ بنا في الزريبة، وهي ليست إلا معتقل، بينما رأسنا معلقة بآداة تعذيب حديدية مربوطة في سلسلة بالسقف، يطعموننا خليطاً بلا طعم لا يعرف أحد مما يتكون سوى الرب الطيب والكيمياويون، يحلبوننا بمضخات كهربائية ثلاث مرات في اليوم، وعندما نتهيج، نتلقى حصصاً من التعشير الصناعي بحقنة بلاستيكية بدون أن نرى في حياتنا ثوراً ولو لمرة واحدة. لا نرضع عجولنا ولا نحظى بلحس جلدها بعد ولادتها. هنا نتجول في الحقل ونلحس العشب الأخضر، تتقافز العجول على سطح التلال بين رضعة ورضعة ونحن أحرار في نفسنا. هذه هي مصر، أرض الحرية، وهنا نريد الحياة!"

في الحقل تبقى بهيمان، جمل وبغل، ولدى سؤالهما عن أي من جانبي الحدود يفضلان أجاب البهيمان بإجابة حاسمة: "إسرائيل بالطبع."

"ما الجيد كل هذه الدرجة في إسرائيل؟" سأل الممثل المصري.

"في إسرائيل ثمة ديمقراطية"، أجابا.

"ديمقراطية؟"، سأل المصري بسخرية، "ومالكم، يا بهائم، بالديمقراطية؟"

"الديمقراطية في إسرائيل للجميع"، أجاب البهيمان. "هل تتخيل أن تكون في مصر ثمة فرصة للبهائم في أن يتم انتخابها في البرلمان؟"



زيارة الرئيس المصري لبئر سبع


في مايو 1979 عندما كنت رئيس بلدية بئر سبع، زار مدينتنا الرئيس المصري محمد أنور السادات. تفقد في ساحة البلدة طابوراً احتفالياً من القوات البرية، البرية والجوية لجيش الدفاع الإسرائيلي. بعد الطابور دعوت الضيف إلى منصة الشرف مع نائبه محمد حسني مبارك، والذي أصبح فيما بعد رئيس مصر، والرئيس نافون، ورئيس الحكومة بيجن ووزير الخارجية الأمريكية سيروس فانس. ألقوا خطابات أشارت إلى نهاية الحرب، "نو مور وور"، وبداية عصر السلام. ساحة جراج البلدة تم ترميمها ونصبت فيها كراس للمدعوين ولعائلة الضيف، بينما من حولنا، في ساحة ياد لفانيم وبيت ياد لفانيم، تجمع آلاف من سكان المدينة لمشاهدة الحدث التاريخي.

عند انتهاء الخُطب دُعي جميع ضيوف الشرف لاستقبال تم تنظيمه في مكتبي. تحدث الضيوف في الغرفة بالإنجليزية، بينما جلس إيلان نافون، السادات وأنا جانباً وتحدثنا بالعربية. حديث أصدقاء متدفق بدون قلق، لأن كل من حاول الانضمام لم يفهم كلمة وسارع بالخروج. عبّر الرئيس السادات عن انطباعه الجيد من زيارته لإسرائيل: "لم تحدث مفاجآت لي. عرفتُ كل شيء عن إسرائيل، المجتمع، الاقتصاد، السياسة، السلطة، وكذلك الطريق الذي اجتزته من العريش لبئر سبع رأيته في صور من الجو، ولكن شيئاً واحداً فاجئني اليوم: اللغة العربية السليمة التي ألقيتما بها خطبكما. خطب لا تخجل قائلها لو ألقاها في مؤتمرات رؤساء وقادة الدول العربية".

"ما العجب"، ابتسم نافون، "كلانا، رئيس البلدية وأنا، كبرنا في الشيخ بدر، وهو حي يهودي عربي بالقدس واللغة العربية كانت لغتنا الأم"، "إذا كان هذا صحيحاً"، تساءل السادات، "إذا كنتما قد رضعتما اللغة العربية من نفس المصدر، فكيف أن عربيتك قريبة للهجة المصرية أما عربية الـ"عمدة"، رئيس البلدية، قريبة للسورية الفلسطينية؟"

"هذا بسيط"، أجاب نافون. "أنا كبرت في القدس كطفل يرتدي نظارة، "أبو أربعة". طفل ذو نظارة لا يلقي الأحجار ولا يضرب، ولا يلعب كرة القدم، لا يقفز على الجدران لسرقة الفاكهة.. تعلمت العربية من الكتب، أما "العمدة"، رئيس البلدية، فلقد تلقى العربية من الأرض، من "الزعران"، متشردي الحي."

كان هذا هو اللقاء الأهم في حياتي وكان من المناسب أن يتم كتابة مضمون الحوار بتفاصيله، بشكل خاص عندما تنبأ الرئيس المصري أنه لن يموت ميتة طبيعية: "أنا أرسلت الجنود للموت من أجل فكرة، وأنا لست أفضل منهم."

كشف السادات عن معرفته بتطور بئر سبع، بل وأشار إلى أن واحداً من أعضاء مجلس البلدية مولود في مصر. عبر عن أسفه لأن يهود الشرق، بمن فيهم يهود مصر، لا يحبون العرب. "أنا واع أن الثلاثين عاماً الأخيرة في حياة يهود مصر كانت قاسية، ولكن هل كانت كافية لمحو ذكرى ثلاثة ألاف عام تمتع فيها اليهود بالحقوق المتساوية بل وأسهموا بدور في تطوير ثقافة مصر واقتصادها، وفي فترة محددة كذلك أسهموا بدور في الدفاع عن حدودها؟" ثم توجه لي بسؤال: "هل نبع اختيارك لرئاسة البلدية من كون جذور أغلب سكان بئر سبع ترجع للبلدان الإسلامية؟ ماهي نسبة أبناء طائفة الشرق في بئر سبع مقابل الإشكناز؟"

"هذا سؤال يصعب الرد عليه"، أجبت.

"يارب"، هتف السادات بذهول، "كل شيء عندكم سري؟ هل سألتك كم قنبلة نووية عندكم؟ أين قواعدكم الاستخباراتية والتجسسية في مصر؟ سألت عن عدد الإشكناز مقابل السفاراد. هل هذا سر حربي أيضاً؟"

بالتحديد في هذه اللحظة دخل الغرفة صهري الذي كان يحمل لي بطاقة من بروريا. "هل ترى هذا الرجل؟" أجبت، "هذا الرجل صهري. ولد في إسرائيل، أبوه جاء من المغرب، شمال أفريقيا، وأمه مولودة في فيينا. هو زوج ابنتي المولودة في إسرائيل أيضاً، أمها مولودة في ألمانيا، وأنا، أبوها، ولدت في العراق. بنتي الآن حامل، كيف إذن ستصف الجنين في بطنها، هل هو إشكنازي أم سفارادي؟"

"هذا يحتاج لأكبر كمبيوتر في القاهرة"، أجاب السادات بابتسامة.

________________________

ولد إلياهو نافي، عام 1920 في البصرة بالعراق. هاجر لفلسطين عام 1926، وكبر في القدس. هو مستشرق متخصص في الواقع العربي، والرئيس اليهودي الثالث لبلدية بئر سبع، قام بهذه الوظيفة في الأعوام من 1963-1986، وهي فترة الخدمة الأطول في تاريخ هذه المدينة. كما عمل مذيعاً في الإذاعة باسم "داود الناطور"، وهو الاسم الذي يوقع به قصصه أيضاً. بدأ عمله في الإذاعة العربية عام 1947 في إطار محطة "صوت الهاجاناه". حيث كان يقدم فقراته في برنامج "أكتواليا" بالعربية العامية ويتحدث باستخدام أمثال وأقوال مأثورة عربية. استمر عمله في هذا البرنامج حتى بعد إعلان قيام دولة إسرائيل، في إطار "صوت إسرائيل بالعربية"، وذلك حتى عام 1957 حيث عمل قاضياً.

له مجموعتان قصصيتان. الأولى هي "قصص العرب"، 1972، والثانية "قصص الشرق الأوسط القديم"، 2010.

القصص المترجمة هنا مأخوذة من كتابه "قصص الشرق الأوسط القديم"، وهو كتاب يجمع عدة قصص مضحكة عن العلاقة بين إسرائيل والعرب. وقامت صحيفة معاريف بنشرها في هذا الرابط.

كلمات "العمدة، أبو أربعة، الزعران" مكتوبة في الأصل بالعربية بحروف عبرية.

Saturday, 27 November 2010

للموت لن تكون حكومة

حاييم بيسَح هو محرر أدبي وناقد ومترجم، ولد وعاش في تل أبيب والتي يعيش فيها حتى اليوم. بدأ في نشر مقالات في موضوع الثقافة الإنجليزية بملحق "تربوت فسفروت" بصحيفة هاآرتس، بينما كان يقيم في إلنجلترا. في نهاية السبعينيات أرسل لصحيفة هاآرتس مقالا عن رواية يعقوب شبتاي "ذكرى الأيام" وسبق فيه جميع النقاد في الإشادة بالقيمة الأدبية للكتاب، والذي يعد اليوم واحدا من الذرى الأدبية في الأدب الإسرائيلي. كما قام بترجمة نماذج من الأدب العبري إلى الإنجليزية.

في بداية الثمانينيات عمل محرراً في دار نشر عام عوفيد، وظل في هذه الوظيفة لخمس سنوات. وانتقل منها إلى دار نشر زمورا بيتان، وأصبح محررا رئيسيا فيها لما يقرب من ستة أعوام. وفي منتصف التسعينيات انتقل إلى دار كيتِر، ثم إلى دار بابل ثم يديعوت سفاريم وغيرها.

من كتبه "القصة الجديدة: مختارات من القصة العبرية 1995 – 1985"، "بنت عام ألفين: أنطولوجيا لقصص المهاجرين الجدد." و"البطل، العفريت والعذراء" له ولعلي ياسيف.

هذه المقالة منشورة في صحيفة يديعوت أحرونوت تحت عنوان "ذات يوم، كان الموت أكثر نجاحاً"، وهي ترجمة سيئة للعنوان العبري "פעם המוות היה להיט"، حيث تعادل كلمة להיט في العبرية كلمة HIT الإنجليزية، والتي تشير إلى الأغاني ذات النجاح المدوي.

للموت لن تكون حكومة

حاييم بيسَح

ترجمة: نائل الطوخي

أحياناً، عندما أقرأ الصحف، أو الكتب الجديدة، أشاهد الإنترنت أو ألعاب ألعاباً إلكترونية، أفكر في نفسي أن الموت لم يعد كما كان. ذات مرة كان أكثر احتراماً وأشبه بالعجائز. وأنا لا أتحدث عن آلهة الموت القدامى بالتحديد، لا عن أنوبيس المصري، تانتوس اليوناني، كالي الهندية ولا عن موت الكنعاني وبالتأكيد ليس عن شيطاننا، الذي يهتم كما هو معروف أكثر بما يحدث للأحياء وهو أقل اهتماماً بهؤلاء الذين لم يعودوا يفكرون.

صحيح أن من يعيش في إسرائيل، بكل أنواع أيام الذكرى فيها، والتي تحل على الأقل مرتين في الأسبوع – ومن المناسب في هذا السياق قراء المقال الممتاز لناتان زاخ "هل كلنا موتى" – سيصعب عليه ملاحظة تدهور مكانة الموت. ولكن حتى هنا، عندما تقرأ في أحد الأيام العادية عن أربعة حوادث قتل، خمسة حوادث سيارات، بينها أربعة أصاب وهرب بجانب ثلاث حالات انتحار – فإن شيئاً ما مع كل هذا يضيع ولا يبقى له أثر. إلى أي حد يمكننا، مع كل الاحترام للشيطان وبدون الاستهانة به أو بمن لن يصبح المسئول عندنا عن هذا الموضوع، إلى أي حد يمكننا الانفعال تأثراً بدستة حوادث موت في اليوم. هناك ابتذال بلا شك.

موت بنكهة طيبة

ليس أن الموضوع هو وقوع حوادث موت أكثر مما كانت دائماً. وهذا يجعلني أتساءل كيف كان كل شيء ذات يوم، عندما كان الموت أقل حميمية وينفجر أمام الجميع، مثل الحمامات العامة والمفتوحة في روما القديمة، والتي كان فيها الرجال والنساء الجالسون جماعة يقضون حاجاتهم أمام الجميع. ذات يوم كان كل موت بمثابة احتفال: عندما كان يتم صلب الناس جماعة (قبل يسوع بكثير، وبالتحديد اشتهر ملك يهودي باسم ألكسندر يناي بهذا) وكانوا يُصعدونهم على البؤرة بمحاكم التفتيش. وكان الناس يحجزون أماكن المشاهدة لأصدقائهم أمام حرق الساحرات أو قطع الرؤوس.

أنا أتحدث عن فترة كان فيها مواطنو باريس المحررون من نير الملكية، يتجولون في الشوارع بدبابيس المقاصل الذهبية على طيات صدور معاطفهم. صحيح أنه حتى اليوم، يمكن للمهتمين مشاهدة عمليات الإعدام في ميادين طهران ودمشق، ولكن هذا لم يعد هو نفس الشيء. ربما يتوقف من يمر هناك بالصدفة للنظر، ولكن أحداً لن يخرج من سيارته ويعرض نفسه للخطر في ساعة الذروة في الطرق كي يرى رجلاً متأرجحاً من حبل. في الصين والولايات المتحدة يكثرون من إصدار أحكام الإعدام، ولكنها دائماً بنكهة جيدة، في تحفظ رأسمالي أو شيوعي، وليس علناً أبداً.

هل يمكن لشاعر يكتب اليوم أن يعطي الموت احترامه، ولو حتى بوصفه معارضاً، كما في الأبيات الخالدة لديلان توماس في قصيدته الرائعة "وللموت لن تكون سيطرة"، التي أقدمها أنا هنا في ترجمة حرة:

برغم أنهم غرقوا في البحر فسوف يعودون للصعود

برغم أنه لم يعد هناك محبوبون فالحب لن يضيع

وللموت لن تكون سيطرة

هل أن هذا الاحتجاج يشير إلى بداية تمرد الصبا على الموت؟ سواء هذا أو ذاك، فقصائد كثيرة تكتب ضد أو دفاعاً عن، وهذا ما يحدث في النثر الأقل أو الأكثر جودة، مثلما الموت المخيف عند إدجار آلان بو، الموت المبتذل عند هارت كراين، الموت المضحك – لا يخطر على بالي الآن، ربما عند شفيك. ولكن، عندما كتب ديلان هذا البيت: "وللموت لن تكون سيطرة"، هل كان يخطر على باله أنه يوماً ما، سوف يكون الخوف من الموت ببساطة موضة قديمة قليلا؟ الأكثر جودة مثلما الموت المخيف عند إدجار آلان بو، الموت المبتذل عند هارت كراين، الموت المضحك - لا الرائعة "وللموت

صحيح أنه في الأدب المكتوب اليوم يظهر الموت من حين لآخر كضيف، وأنه لم يعد يقوم بالدور الرئيسي دائماً. ولكن نبوءة تدهور مكانته جاءت من مكان آخر تماماً، لقد جاءت بالتحديد من اتجاه الحبكات المرسومة. وهنا أعني أي عمل يهتم بالرسم وليس بالكلمات، مثل الكوميكس المرسوم، أفلام الرسوم المتحركة، وألعاب الكمبيوتر والبلايستيشن.

ركلة محترمة إلى الهاوية

إذا لم نأخذ في الحسبان سلسلة رسومات تحكي حبكة، مثلما على سبيل المثال "أعمال عاهرة"، للرسام اتجليزية هاجارت ابن القرن الثامن عشر، فإن الكوميكس المصور (ولا أقصد هنا جنس الكوميكس الجاد) قد ظهر لأول مرة في كراسات "الطفل الأصفر" في الولايات المتحدة بنهاية القرن التاسع عشر.

كذلك ظهر الفيلم المصور الأول في فرنسا بنفس الفترة، وألعاب الكمبيوتر، كما هو معروف، لم تصلنا إلا في النصف الثاني من القرن العشرين. في كل الوسائط الثلاثة هذه- فإن الموت يتم إذلاله حتى الموت. يتحول في الواقع إلى نكتة، وعلى قدر ما يصبح صادماً على قدر ما يصبح مضحكاً. منذ أفلام الأنيماشن الأولى، عندما يضرب الفأر رأس القط، خبطة تؤدي إلى صدمة في المخ، إن لم يكن عجة – الرأس تنسحق فعلاً – ولكنها فوراً تعود وتنتفخ، كأنما لم يحدث شيء.

إذا كان القط مطارداً حتى نهاية الجرف ثم يسقط في الهاوية بركلة محترمة، فلا قلق. فوراً يقوم ويتعافى. باختصار، في الكوميكس والأفلام المصورة، فإن الموت كحادث نهائي يتم محوه ببساطة. وفعلاً، فمن المرغوب أن يشاهد الأطفال في إسرائيل على قدر ما يمكن أفلاماً مصورة، حتى يكون الجيل القادم أقل إدمانا لأيام الذكرى وأكثر إدمانا للحياة.

الفارق بين الكوميكس في المجلات والأفلام المصورة، وبين الألعاب الإلكترونية، يكمن في أن مصير الشخصيات بالاثنين الأولين يتم تقريره على يد المبدعين أنفسهم. هذا مصير قدري مثل الخطيئة الأولى لدى المسيحيين. في ألعاب الكمبيوتر، في مقابل هذا، ثمة عنصر الإرادة الحرة والاختيار.

اللاعب أو اللاعبون هم المسئولون عن "موت" الشخصيات الافتراضية. هم ألهتها، وإذا كانا اثنين، هذا في مقابل ذاك، فنحن نعود للوضع الميثولوجي. يصبحان رمزاً للشيطان أمام الإله. ولا يفرق من منهما ينتصر، ففي اللعبة القادمة سوف تعود كل الشخصيات: الطيبة والشريرة والعرضية –وتقوم للحياة. لذا، فطالما أننا مستمرون في اللعب بالحياة، للموت لن تكون حكومة.