Friday, 30 October 2009

شمعون بلاص: أنا اليهودي العربي الأول

حتى وهو يقترب من سن الثمانين، لم يبد الأديب شمعون بلاص أي علامة على المهادنة. يواصل وصف نفسه بأنه يهودي – عربي، وهو المفهوم الذي صكه هو، يكتب الروايات فقط بالعربية والدراسات فقط بالعربية ويبتعد – بقوة تقريبا – عن التيار المركزي الثقافي. ليس من عجب في أن الجيل الجديد من الكتاب الشرقيين في إسرائيل يراه نوعا من الأب الأول، ويمكن أن تندهشوا، فهو بالتحديد متفائل فيما يتعلق بمصير دولة إسرائيل.

ران ياجيل

ترجمة: نائل الطوخي


شمعون بلاص (79 عاما) هو أديب أصيل، عميق، مولود في العراق ولن يبيع لك بأي شكل كيتش الشرق، وإنما الحياة نفسها. لا توجد في سرده ملامح نمطية رومانسية وإنما بشر. وبخلاف الأديبين المعروفين سامي ميخائيل وإيلي عامير، فشمعون بلاص وسرده، لم يتركزا أبدا باتجاه وعي المؤسسة الصهيونية. مثال جيد على هذا هو روايته "صولو" (سوفريات بوعاليم، 1998) والتي يغوص فيها داخل حياة مسارح القاهرة في نهاية القرن التاسع عشر. جذاب، مجرد وبعيد عن أي من الأحداث الجارية.

أبطال بلاص هم أشخاص أيديولوجيون، أخلاقيون للغاية، يختارون الحفاظ على الاستقلال البالغ داخل الإطار أو السياق الذي يعيشون فيه عن طريق اختيار الحياة في الهامش. على سبيل المثال بطل رواية "وهو آخر" (زمورا – بيتان، 1991) الموصوف على هيئة أحمد نسيم سوسة، اليهودي العراقي الذي أسلم في الثلاثينيات وأصبح إحدى الشخصيات المركزية في مؤسسات السلطة، أو هنري كورييل في رواية "شتاء أخير" (كيتير، 1984)، وهو قائد الحزب الشيوعي في مصر والذي تم حبسه وهاجر في النهاية إلى باريس. حاضر الرواية هو الشتاء الأخير في حياته، عندما قتل على مدخل بيته في 4 مايو 1978 على يد إرهابيين لم يتم الكشف عن هويتهم وهوية من أرسلوهم.

على امتداد سنوات طويلة كان بلاص شيوعياً نشطاً، وترك حزب ماكي في مرحلة متأخرة نسبياً بالستينيات. في الحزب تعرف أيضاً على زوجته جيلا، والتي كانت شيوعية منذ الرضاعة، وهي أستاذة للفن الحديث وتهوي جمعه. عمل كمراسل للشئون العربية في جريدة الحزب "كول هاعام"، وعامل طباعة.

بعد هذا تنقل بين جرائد أخرى وكتب أعمدة شخصية، وكان حريصا على الحرية التامة كي يستطيع الاستمرار في كتابة سرده. بعد 15 كتاب سردي (روايات وقصص قصيرة)، نشر الآن سيرة ذاتية قصيرة، "بالضمير الأول" (هاكيبوتس هامئوحاد، سيمان كريئاه) ركز فيها على سنوات تكونه كأديب ورجل أيديولوجي، بداية من كونه صبياً وشاباً في الحزب الشيوعي بالعراق ثم كإنسان ناضج هنا في إسرائيل.

ترد في "بالضمير الأول" ثلاث صور جذابة عن أشخاص مركزيين في الحزب الشيوعي الإسرائيلي. الزعيم الكاريزمي الذي انضم للحزب من خلال الحركة الصهيونية، موشيه سنيه، السكرتير العام، شموئيل ميكونيس، الذي وصفه سنيه بكلب حراسة الحزب، وبالطبع الشاعر – الثمل الخالد للحزب ألكسندر بن.

في بداية طريقه كأديب لم يكتب شمعون بلاص إلا بالعربية، لأنه كان مؤمنا أن الإنسان لا يمكنه كتابة أدب شخصي قريب لهذه الدرجة من لحمه ودمه إلا بلغته الأم. كتب روايته الأولى "المعبرة"، في البداية بالعربية وبعد هذا فقط أعاد كتابته بالعبرية وصدر عام 1964 عن دار نشر "عام عوفيد". وببطء بدأ في الانتقال لكتابة الأدب بالعبرية، أما العربية فلم تصبح ملزمة.

في واحدة من الفقرات الجميلة من "بالضمير الأول" يكتب:

"وذات ليلة، ، لدى عودتي متأخراً من المطبعة حملت في يدي قبل الصعود للنوم كتابا لطه حسين (كاتب وناقد مصري معروف، ر. يـ) لأجل فحص شيء ما لا أذكره. ولكن بعد أن أطفأت النور هاجمني مدٌ رهيب من الكلمات، والجمل وأبيات الشعر بالعربية، مثل سد انهدم فجأة، أطار النوم من عيني حتى الصباح. كان هذا هو انتقام العربية مني، كما تعودت على أن أقول لنفسي، العقاب المستحق لي على ما يبدو لأنني أدرت ظهري للغتي الأم المحبوبة والحميمية".

مثير للاهتمام أنه مع السنوات حدث انفصام بين اللغتين: العربية بالتحديد يستخدمها بلاص كلغة للبحث الأدبي. هو متخصص كبير في السرد العبري الحديث وبشكل خاص في السرد الفلسطيني، بل وأعد رسالة الدكتوراه عن فترات الصراع العربي الإسرائيلي في الأدب، بالسوربون، ودرس لسنوات في جامعة حيفا. يستخدم العبرية وهي لغته الثانية في الكتابة الإبداعية، أي الأدب الرفيع، القصص والروايات.

الفصل أمر محسوم تماما، طبيعي في الحقيقة، حتى أنه لا يستطيع كتابة سرد بدلا من كتابة دراسة ولا يستطيع كتابة دراسة بدلا من السرد. الدراسات يكتبها في غرفته، ولكن السرد يكتبه لسنوات في البلكونة، وبهذا هذا في كوخ مؤقت على السطح الذي تهدم في النهاية بأوامر بلدية تل أبيب، وفي النهاية فيما يشبه غرفة صغيرة مرتجلة ومغلقة لأجل التركيز.

الأدباء الشرقيون الشباب المهتمون بالمجتمع الذين يتحرك أغلبهم مسرعا نحو مركز الوسط الأدبي يعتبرون بلاص مايشبه أباً أولياً، شخصا فكر في أفكارهم قبل أن يولدوا هم أنفسهم ويوجدوا في العالم. بلاص كان من أوائل المثقفين الذين أصروا على تسمية "يهودي عربي"، بل ودخل في جدالات غير قليلة لهذا مع الوسط الأدبي، وأولهم كان البروفيسور جرشوم شاكيد رحمه الله.

على خلاف الموسيقى الشرقية

التقيت جيلا وشمعون بلاص في بيتهما بشارع بيلو بتل أبيب. وبرغم أنني خططت للمجئ في الميعاد الدقيق، مثل شيوعي جيد يصل لاجتماعات الخلية بغرض النشاط وتجنيد الرفاق، فلقد قمت بتأخير الثورة لربع ساعة. أجلس في الصالون عرقانا كلي، ومرتديا خوذة الموتوسيكل القديم وأطلب كوباً من الماء.

بلاص: "رجاء، اشرب واسأل."

كيف ترى هذا الكتاب، "بالضمير الأول"، على ضوء كتبك السابقة؟

"هذا كتاب ذكريات، يركز على مواضيع معينة في طريقي، على بداية الكتابة، بغداد، الحزب الشيوعي العراقي. كان هو الحزب الوحيد منذئذ الذي عارض بحدة الاحتلال البريطاني وطالب باستقلال العراق. عندما كنت صبياً وجدت على سلالم بيتي إعلانا يقول: "وطن حر وشعب سعيد". ما الذي نريده أكثر من هذا؟ (يبتسم بسخرية). بدأت في محاولة كتابة الأدب منذ الصف الثالث. دخولي للحزب العراقي وأنا أبلغ 16 عاما كان أمراً رومانسيا. شعرت في ضميري أن هذه خطوة صائبة."

"في مقابل هذا، فمن خلال قراءتي للدوريات الفرنسية عرفت كيف تبدو أرض إسرائيل (فلسطين، المترجم) قبل الهجرة. أذكر بدقة الصور الملونة بالأبيض والأسود للمعبرات في البلد قبل الهجرة. وضع الشيوعيين في العراق تزايد خطورة حتى احترق المعبد وقررت الهجرة لإسرائيل. عندما سمعتْ أمي هذا قالت لي: "إما أن نهاجر جميعا أو لا يهاجر أحد". وهذا ما حدث. هاجرنا جميعا باستثناء أبي الذي بقى لأغراض العمل في العراق ولم يهاجر إلا في السبعينيات وهو على فراش المرض، كنت قد أصبحت في باريس، مواظبا على عملي الأكاديمي."

يدعي الكثيرون أنه حدث ازدهار للأدباء الشباب المهمومين بالمجتمع والمنشغلين بالأسئلة عن الشرق والغرب في العقد الأخير. سامي بردوجو، دودو بوسي، ماتي شيمولوف، إيلي إلياهو، يوسي سوكري، يحزكيل رحاميم. هل تعرف أسماء هؤلاء الأدباء، هل قرأت أعمالهم؟

"قرأت القليل، هنا وهناك. ولكن هناك واحدا لم تذكره هو ألموج بهار، والذي كتب كتاب "أنا من اليهود"، حتى عنوان هذا الكتاب مكتوب بالعربية. قرأت هذا الكتاب. هناك فارق بين جيلي وهذا الجيل. الأدباء الذين أحصيتهم هم إسرائيليون. البنية اللغوية لديهم هي عبرية وليست عربية. هذه ليست نفس الخبرة. أفهم رغبتهم في أن ينضموا، ولكن سواء شاءوا أم أبوا فلقد قرأوا ودرسوا بياليك وتشرنحوفسكي. أحياناً لا يكون هذا طبيعياً. مع هذا، فالتوجه والاتجاه للاعتراف بالمحيط العربي هما أمران مرحب بهما وجيدان جدا. ثمة ازدهار وأنا معه."

هل سوف "ينتصر" هذا الأدب، مثلما "انتصرت" في النهاية الموسيقى الشرقية الإسرائيلية؟

"قليلاً جدا ما أسمع الموسيقى الشرقية الإسرائيلية الشعبية. أعرف أن الجمهور يحبها وأن المؤسسة الإسرائيلية تميل اليوم لتقبلها. بخصوص الأدب فأنا متشكك. الأدب الحقيقي، العميق، هو لغة معقدة، هو ليس موسيقى خفيفة. الموسيقى هي لغة عالمية، ولكن الطفل في البيت الإسرائيلي الصهيوني يتحدث العبرية. اللغة هي أمر محلي وهي التي تؤثر على كتابة الأدب."

"عندما بدأت في كتابة الأدب بالعبرية، كنت بالفعل قاسيا تجاهها. منعت نفسي من قراءة الأدب العربي تماماً، حتى الصحف العربية لم أكن أقرأها. هذا لم يكن سهلاً، ولكن هكذا فقط استطعت كتابة رواية "المعبرة" بالعبرية، والتي كانت مكتوبة في أولها بالعربية كلها. الكتابة هي خبرة بصرية للتحرك خلال اللغة. الكتابة عن الطفولة، وفي حالتي طفولتي في العراق، هي ما تبقى في ذاكرتي "الطفولة في الخيال". شيء حميمي. ولكن الموسيقى الشعبية، الخفيفة، قد تسهم في نهاية الأمر في تقارب ما بين اليهود والعرب وهذا بالتأكيد يمكنه العون."

تشعر أنك دفعت ثمنا من الاعتراف الأدبي بسبب أيديولوجيتك؟

"نعم. لم أستجب لتوقعات المؤسسة الأدبية الصهيونية مني كشرقي. لا أقبل كل أوصاف الشرق، الطعام والملابس المبهرجة والنداءات الحسية. أنا أقارب الأمور بشكل آخر. العربي بداخلي. ليس هو الشخص الذي نحن على صراع معه فحسب، وحقيقة أننا عشنا معه في صراع، لا تجعله بأي شكل إنساناً بلا ثقافة. هو إنسان مثل أي إنسان."

"أعتقد أن الثمن الذي دفعته مرتبط بموقفي الانتقادي ضد الصهيونية، لأنني رأيت ولازلت أرى إسرائيل، لا كدولة غربية فقط وإنما قبل كل شيء كجزء من دول الشرق الأوسط. جزء حيوي داخل الصراع والوضع القائم. هكذا فقط تصبح لدينا فرصة للوجود هنا."

"صراعي مع البروفيسور شاكيد نبع من أنه رأى بعض أبطالي يدعون لتدمير إسرائيل بل وحددني، وهذا الأمر لا يحدث بشكل عام في الدراسات الأدبية، باعتباري أنا المؤلف، أدعو لتدمير دولة إسرائيل. الآن، أنا لا أدعو لتدمير إسرائيل، وأكثر من هذا، فأبطال كتبي لا يدعون لتدمير إسرائيل. وقتها أغضبني هذا جداً."

متى أعود لبغداد

عندما حلل شاكيد نثر بلاص كتب قائلا: "الموقف السياسي لبلاص متشائم جداً: هو يتفق مع الفرضيات العربية الأساسية، ولكن في الواقع فهو لا يرى حلا لهذه الفرضيات الأساسية طالما أن دولة إسرائيل لم يتم تدميرها – وهو الافتراض الذي لا يهتم البطل ولا خالقه بقوله على الملأ (أو من الأفضل أن أقول "علنا".)

"هذا الجدل مع شاكيد هو الحدث الواحد الوحيد الذي رددت فيه على تطرق النقد لكتابتي في جريدة "دافار"، في ملحقها الأدبي "ماسا". رددت على التحريض: "عليه بالاعتذار العلني. هذا قذف شخصي وخبيث. أطالب بمحو هذه الفقرة من الكتاب الذي على وشك الصدور، وإذا لم يحدث هذا فسوف أضطر لرفع دعوة عليه." اعتذر شاكيد بنصف اقتناع وانسحب."

كتابك واقعية في الأساس. ألا تؤمن بالأدب الفانتازي؟ فرانز كافكا على سبيل المثال. ما علاقتك بالواقعية في الأدب بشكل عام والأدب الاشتراكي بشكل خاص؟ هل على الكاتب أن يكون مجندا بأي شكل؟

"بالتأكيد قرأت كافكا. ولكن معك حق. كتابتي واقعية. فقط في قصصي القصيرة هناك انحراف عن هذا. صحيح أن الأديب المجند يعبر عن أفكار كبرى. هذا كله كان هو الجدل حول التناقض بين الخط الشيوعي الواقعي الستاليني الصلب والعالم الغربي الذي واصل الدعوة للكتابة الذاتية."

"تفاقم هذا الأمر أكثر مع الكشف عن جرائم سلطة ستالين. في شبابي تأثرت بشكل أساسي بالأدباء الرومانسيين والواقعيين الفرنسيين الذين نعرفهم جميعاً. ولكن في الحقيقة، فلقد عانيت أنا وجيلا من علاقة الحزب بنا لرغبتنا في الفن الحر والمتحرر. كان هذا بؤرة صراعات غير قليلة مع ميكونيس وزوجته، على سبيل المثال، واللذين كانا يناديان بخط ثقافي دوجمائي."

هنا تتدخل جيلا في الحديث: "الاتجاه في الحزب كان أحادياً جداً. واقعية اشتراكية حرفية. شمعون لا يكتب هكذا. الشخصيات الأساسية في كتبه هي شخصيات تفكر وتشعر وليست ذوات آراء محددة لا تتغير أبدا، تتحرك باتجاه الهدف. هناك شكوك وأسئلة، هذا موجود وهذا طبيعي."

يضيف بلاص: "عندما ظهرت روايتي "المعبرة" لم أكن قد انضممت للحزب، ولكنني كنت على صلة بالرفاق"، جريدة "كول هعام"، نشرت نقداً إيجابياً عن الكتاب، ولكنها تحفظت وحكمت بأن العمل يفتقد القائد الشيوعي، وأنه من غير المحتمل أن يتم تنظيم رجال المعبرة وحدهم هكذا عرضاً. العمل يفتقد رجل الحزب الذي عليه أن يأتي من الخارج ويقوم بقيادتهم."

"الشيوعيون لم يكونوا راضين عن الشخصية الساحرة للقائد المحلي، يوسف شابي، والذي تحول في الرواية الثانية لبلاص، "شرق تل أبيب"، إلى معلم ونائب مدير مدرسة في حي هاتكفاه، يدعو إلى أفكار اجتماعية عن المساواة والتعددية الثقافية."

أي الأدباء العرب الذين تنصح القارئ الإسرائيلي بمعرفتهم. ماهي في رأيك فرص إسرائيل للاندماج في محيطها اليوم؟ وهل كنت لتسافر بغداد لو كنت تقدر؟

"أوصي بإلياس خوري، أديب لبناني، وبغسان كنفاني، أديب فلسطيني لدينا معه تاريخ مشحون، وبإدوار الخراط، المصري القبطي. وبالتأكيد كنت لأسافر بغداد اليوم لو استطعت. ليس للسكنى هناك، وإنما فقط للزيارة. أيام الجدل عن موضوع اليهودي العربي دعوني في أمسية لي باتحاد الكتاب وترددت نداءات من جانب الجمهور: "اذهب اذهب، عد للعراق!."

"في الحقيقة، لماذا يمكن أن يكون هناك يهودي أمريكي، أو يهودي فرنسي، ولا يمكن أن يمكن هناك يهودي عربي؟ هل لأن العرب يتم النظر إليهم كأعداء؟ يثيرني أن أرى ما حدث هناك. الكثير جدا مر بهذه المدينة، بغداد، وبهذا البلد، العراق، يثيرني أن أرى ما تبقى من الماضي. كان هناك عندئذ النهر الذي كانت تظهر به الجزر في الصيف. تزورني صور من المقاهي والأزقة وأكواخ الاستحمام على شاطئ دجلة، حيث تركت ملابسي وخرجت للسباحة للضفة الثانية. ربما تندهش لسماع هذا، ولكن بالنسبة لمستقبل إسرائيل في المنطقة فأنا أريد أن أكون متفائلاً."

"قد تكون إسرائيل دولة مستقلة مندمجة في الشرق الأوسط، إذا انسحبت من كل الأراضي المحتلة، ونجحت في التطور داخل حيز البحر المتوسط وأن تتقبله وتتقبل ثقافته. ما يضايقني الآن هو أمر واحد فحسب، أنني على ما يبدو لن أتمكن من رؤية كل هذا يحدث."

عن معاريف

Friday, 23 October 2009

جزائر، عودي للبيت



روني سوميك

ترجمة: نائل الطوخي


ولد روني سوميك في بغداد عام 1951 باسم "روني سوميخ". وهاجر إلى إسرائيل عام 1953. درس الفلسفة اليهودية في جامعة تل أبيب وفي السنوات الأخيرة قام بتدريس الأدب وترأس ورشة للكتابة الإبداعية. نشر عشرة دواوين، منها "صولو" 1970، "منفى"، 1976، "سبعة سطور عن معجزة نهر اليرقون"، "زر الضحك" عام 1998، "حزب الحليب"، 2005، "الجزائر" 2008. قام عام 1997 بتسجيل ألبوم "انتقام الطفل المتعثم"، في نيويورك، و"خط الفقر" في فيينا، مع موسيقار الجاز إليوت شارب. وفي 2001 ظهر الألبوم الثالث "مختصر تاريخ الفودكا".

ترجمت قصائده إلى 39 لغة، منها العربية، حيث قام الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم بترجمة ديوانه "ياسمين"، وصدر عن دار الكرامة.

الفيديو المصاحب للشاعر وهو يغني. والصور بالترتيب من أعلى هي صورة الشاعر، صورة غلاف ديوانه "جزائر"، والسفلى لقصيدته "قمح" مطبوعة بالعبرية.

جزائر





لو كانت لي طفلة أخرى


كنت سأسميها جزائر


وكنتم ستخلعون أمامها القبعات الاستعمارية


وكانوا سيدعونني: "أبو جزائر."


في الصباح، عندما تفتح عينيها الشوكولاتيتين


كنت سأقول: "هاهي أفريقيا تستيقظ".


وكانت ستداعب شقرة رأس أختها


وهي واثقة في أنها وجدت الذهب من جديد


الحبوب على شاطئ البحر هي صندوق الرمال الخاص بها


وفي أثار أقدام الفرنسيين الذين هربوا من هناك


كانت ستخبئ البلح الذي تساقط من الأشجار


جزائر، كنت سأقبض على سور البلكونة وأناديها


جزائر، عودي للبيت، وانظري كيف أنني دهنت الحائط الشرقي

بفرشاة الشمس

الخواجة بياليك

طفلة عربية تغني قصيدة لبياليك*

وظل جناحي الأوتوبيس يسود أشجار الزيتون

في منحنيات وادي عارة.

لا أم. لا أخت، وعيناها تقيسان

من جفن لجفن ارتفاع نجوم

الخواجة بياليك

ذات مرة قرأت أن أول علامة

تبشر بالانطفاء المتقارب لنجم

هي التورم البارز

والاحمرار في الأماكن الخارجية

على جبال شفتيها مدهونة سجادة حمراء

وأطراف القصيدة ضربت دو، ضربت لا

لملايين السنوات يستمر الانهيار حتى تحول النجم إلى كرة مبيضة

تبث فائض الحرارة إلى فراغ

بيت غير منتهي.

الشمس التي تحترق في لهبها تنقط العرق على الفانلات

الزرقاء للعمال

وصوت الصلوات البعيدة للمؤذن يمتد

كحصيرة ممزقة على ظهر حمار

غلب حماره

صورة شخصية من الكوماندو

جريمة القتل الكاملة تحتاج إلى كتلة جليد. ثلجه المسنون

ينزلق بداخل شريان الرقبة

والدم يذيب البصمات

وهكذا، الإصبع المتروك على ورقة تتحول لرقبة منتصبة

قبل أن تقفز الساقان على الأسلاك

للرقص في قلب المعسكر.

في سن الثامنة عشر مضغتُ مسامير

وبصقتُ فأراً

وفقط بسبب النظارة لم يأخذوني للصاعقة.

في عينيْ موظفة التجنيد كان البحر ملوناً

والمراكب البخارية كانت تدور في شواطئ شفتيها

خذ كاميرا، هذا ما أرادت قوله لي، وصور حياتك

سوف تفقدها ذات يوم

وسوف لن تتبقى لديك إلا

النسخة

القيود. قصيدة شارع

وضعوا القيود في يديه لأنه ليس هناك حب في العالم.

وسرق هو رشاشة ماء

حتى يأتي رجال الشرطة ويبحثوا عنه

من أسفل لتحت ويفهّموه

أنه لا يعني شيئاً أن تسرق رشاشة ماء بينما ليس لديك حتى العشب اللازم لها.

أيضا ليس لديه أب. وأمه هي سطر في كراسة

العاملة الاشتراكية.

أي ساقين بيضاوتين لهذه الاشتراكية

مثل الجبن الـ9 في المائة التي يقدمونها يوميا في المؤسسة

قالت له أنه يرسم الغراب جيداً

وفي نفس اليوم ذهب للأرمني في المدينة القديمة

طالبا أن يرسم له هذا وشما على عضلته، كأن يده

جدار في مغارة قديمة.

جمال الجناحين هو ما رأوه هناك

وعينين

ورأس مائلة باتجاه السماء التي كانت

هي سقف الحبس.


قمح


إلى ليئورا وشيرلي



حقل من القمح يرفرف على رأس زوجتي

ورأس ابنتي

كم هو مبتذل أن نصف الشقرة بهذا الوصف


وبرغم هذا، فهنالك ينبت خبز

حياتي



________________________________

* الشاعر الإسرائيلي القومي حاييم نحمان بياليك

Friday, 16 October 2009

يورام كانيوك: رحلة اليهودي الأخير


مايا سيلع

ترجمة: نائل الطوخي

كان يمكن ليورام كانيوك أن يكون الإسرائيلي المطلق، النموذجي. ولد عام 1930 في تل أبيب، كان بياليك هو أباه الروحي. وأبوه، موشيه كانيوك، كان السكرتير الشخصي لمئير ديزنجوف والمدير الأول لمتحف تل أبيب للفنون. مربيته الخاصة كانت زوجة برينر. معلمته في الحضانة كان حفيدة فريشمان. وتشرنيحوفسكي كان طبيبه في المدرسة. كان مقررا له أن يكون الصبار الحقيقي [الصبار هو اليهودي المولود في فلسطين، العبراني، القوي، وفق الصورة الشائعة.. المترجم]، الوسيم وناعم الشعر، وصحيح أنه وسيم وحارب في حرب الاستقلال، ولكنه بدلا من العودة منها يحمل سكينا بين أسنانه فلقد عاد مصدوما وتنتابه الكوابيس. لأن كانيوك لم يرغب بالفعل في أن يكون الإسرائيلي المطلق، لقد أراد دوما أن يكون يهودياً من "هناك".

في هذه الأيام، بعد ثمانية وعشرين عاما من صدوره للمرة الأولى في دار نشر "هاكيبوتس هامئوحاد"، يرى النور كتابه "اليهودي الأخير" عن دار "يديعوت سفاريم. هو كتاب معقد، مركب، مشحون، يتحرك للخلف والأمام ويقف في مكانه. ومثل محجر، معدن أو ألماس، فمن غير الواضح كيف خلق ولا متى، ولا من أي المواد هو مصنوع. أحيانا ما يبدو وكأنه دوما كان هناك.

لم يدخل كانيوك أبدا ضمن كلاسيكيات الأدب الإسرائيلي، لم يكن منتميا أبدا، دوما ما كان غير شائع، وربما وحشياً أكثر من اللازم، خارج القوانين. في السنوات الأخيرة حظت كتابته بحياة جديدة وشباب كثيرون وجدوا بها ما فوته أباؤهم على أنفسهم. يقول كانيوك: "فجأة أكتب بأسلوبهم، ولكنني كتبت هذا منذ أربعين عاماً. أنا لست أديبـ"نا"، وإنما الأديب الخاص "بي". لا أكتب باسم شخص آخر وأنا حاد جدا أحياناً." يذكرني "مرة كتبت عني أنني أديب متشرد ، وهذا أعجبني بالتحديد. لم أسر أبدا بجانب الحائط. لم أجد نفسي."

كتب "اليهودي الأخير" على مدار سنوات طويلة، بالتبادل. عندما رأى الكتاب النور لأول مرة، كان كانيوك قد أصبح أديباً يحقق مبيعات عالية وحظت كتبه "حيمو ملك القدس"، "آدم ابن كلب"، و"حصانخشب"، بنجاح ولكن وفق كلامه، فـ"اليهودي الأخير"، أهم بالنسبة له من سائر رواياته.

في عام 1982 كتب البروفيسور جفريئيل موكيد في "هاآرتس" أن هذه هي "إحدى الإبداعات المذهلة المكتوبة في العقود الأخيرة بالسرد العبري"، وكذلك وصف طابع العمل بقوله: "أمامنا صندوق نفسي ومفاهيمي كثير الأبعاد يحاول مبدعه أن يجمع فيه كل واقع القرن العشرين.. وبشكل خاص الواقع اليهودي الإسرائيلي."

في مقدمة الطبعة الجديدة يكتب عوزي فايل: "اليهودي الأخير"، هو أقل كتاب قرأته في حياتي، والأكثر أيضاً." ويضيف: "اليهودي الأخير يتواصل حتى اليوم. يحدث طول الوقت. الكتاب لا يزال يُكتب." الأديب دفير تسور كتب في كلمة ظهر الغلاف أن كانيوك "وضع في مركز "اليهودي الأخير" الأماكن النائية والمُبعدة للغضب والحزن اليهودي وربطها بشوق لا يتوقف في نهايته تحدث السقطة المؤلمة."

مؤخرا تمت ترجمة الكتاب إلى الفرنسية وفي نقد عن الكتاب منشور في فرنسا مكتوب: "هذا عمل إعجازي للإسرائيلي يورام كانيوك، لم يكن قد ترجم حتى الآن للفرنسية، ليس فقط بسبب القوة الصادمة للمواضيع التي ينشغل بها الكتاب – وهي مواضيع واقعية اليوم حتى أكثر مما كانت عليه قبل عشرين سنة – وإنما على ما يبدو بسبب العمل الكثير الذي تحتاجه الترجمة: يستخدم كانيوك كل مستويات اللغة وأغلب الأشكال الأسلوبية، ولكنه أبدا لا يخرج عن حرفة الكتابة شديدة القوة لديه. إنها متاهة من الذكريات التي تتكوم الواحدة على ظهر الآخر، بدون انحرافات زائدة عن الموضوع وبلا أية ثرثرة."

الأديبة والناقدة الثقافية سوزان سونتاج قالت مرة أنها من بين كل الأدباء المترجمين الذين قرأتهم، فأكثر من تعجب بهم من الأدباء هم جابرييل جارثيا ماركيز، بيتر هندكه ويورام كانيوك. كُتب وقتها في "سيركيس ريفيو" أن الكتاب هو عمل إعجازي ثري، متطلب، ذو منطق فوكنري، أما في "بوكليست" فقد تمت مضاهاة الكتاب بـ"عوليس" لجيمس جويس وبـ"عندما نمت ميتة" لفوكنر. "اليهودي الأخير"، كما هو مكتوب هناك، يطلب من قارئه طلبات صعبة، يضطره للعثور على الصلات والمعاني في الإنجازات المشققة والحيوات الملتوية للشخصيات.

المسيح العبراني

في قلب "اليهودي الأخير" ثمة عائلة تحمل أحداث حياتها الهويتين اليهودية والإسرائيلية، الحرب وفظائعها، ألمانيا والهولوكست وأميركا والتصوف اليهودي، وهناك في الرواية الخلاص والخسارة، الثكل، الفشل واليتم، كما حاول كانيوك أن يضم بين الصفحات كل مصير الشعب اليهودي، الأمل وخيبة الأمل، العجز والقدرة، الحماقة والحكمة، والأسف شديد العمق والقدرة على البقاء وومضة الحياة.

يحكي الفصل الأول من الكتاب عن بوعاز، شاب يتجول في الشوارع بعد عودته من الحرب محطماً تماماً. يمكننا أن نرى فيه كانيوك نفسه. يحكي كانيوك أنه كتب هذا الفصل في 1964، بعد عودته هو وزوجته ميرندا للبلد من الولايات المتحدة. "الصفحات الخمسون هذه عالجت موضوعا كان يزعجني لسنوات طويلة، الإتجار بالمعاناة والإتجار بالموت. طول الوقت كان يأتيني أناس ويطلبون مني أن أكتب كتباً عن أبنائهم، هناك آلاف الكتب التي أنفقت عليها العائلات المال الوفير ولم يقرأها أحد."

بعد أن كتب هذا الفصل، كتب كتباً أخرى. عاد إليه في 1970، عندما انتقل مع عائلته للسكنى في حي موراشاه برامات هاشارون. "بالقرب مني كان يسكن السيد جلبرت وزوجته، كلاهما كان في أوشفيتز ولكنهما لم يتعرفا على بعضهما البعض هناك. كل منهما فقد عائلته. هي فقدت زوجاً وأطفالاً وهو فقد زوجة وأطفالاً. وفق هذه القصص فلقد بقى لسنوات طويلة في أوشفيتز لأنه كان يصنع كل أنواع العلب الصغيرة، والتي كان النازيون يقومون بإهدائها لعائلاتهم في الأعياد. كان يحكي كيف رأى بنتيه تختفيان."

يحكي كانيوك عن علاقته بجاره: "أصبحت أنا المسيح العبراني له. كان يهتم لأمري. كان يخرج مرتديا طاقية صيادين ومعه سكين مطبخ تحسبا لحالة إذا ما صنع له شخص ما، لا قدر الله، أي شيء. كان يدعوني السيد كانيوك. وعندما كان يحكي لي كانت زوجته تخرج من الغرفة. لم يحك الكثير ولكنه حكى لي كيف نجا، وذات مرة قال لي: "لم يكن هناك راديو، ولم تكن هناك أية صلات مع العالم وقلت لنفسي أنني بالتأكيد سوف أكون اليهودي الأخير."

وهكذا ولدت لدى كانيوك فكرة الكتاب. إحدى الشخصيات هي أديب ألماني، أديب يأتي للقاء اليهودي الأخير. هذا الوضع أيضا لم يحدث فقط في العقل المتأجج لكانيوك، وإنما في الواقع المتأجج لدولة إسرائيل. "الأديب هاينريش بُل زار البلد، ولسبب ما أراد الالتقاء بي. أقاموا له وليمة في بيت حانوخ برتوف." قبل أن يذهب للوليمة انهمك كانيوك في حوار مع جاره، جلبرت، حوار لن ينساه أبدا كما يقول: "سألني "سيد كانيوك هل تخرج اليوم؟، قلت له نعم. "إلى أين أنت ذاهب إذا أمكنني السؤال"، أجبته بأنني ذاهب إلى وليمة"، "عند من؟"، عند حانوخ برتوف"، "وعلى شرف من هذه المأدبة؟" قلت أنها على شرف هاينريش بل. قال: "آه. من هو؟" قلت أنه أديب. "أي أديب؟" ألماني. سألني: "هل هو شخص جيد؟" قلت أنني لا أعرف ولكنني أظن أنه شخص جيد. عندئذ توقف للحظة وقال لي: "قل له أن يعيد لي بناتي."

اتصل كانيوك ببرتوف تليفونياً وحاول اختراع مرض. "قلت له أن حرارتي ارتفعت إلى 48 درجة." ولكن برتوف أصر، ومضطرا ذهب كانيوك إلى المأدبة. "كان هناك أناس كثيرون. أدباء وهكذا. وعندئذ رأيت بُل، رجلا ضخما. طول الليلة كنت أتهرب منه، لم أرغب في لقائه، لأن كل كلمة يقولها جلبرت كانت مقدسة بالنسبة لي. لقد كان أحد الأشخاص الذين كنت مرتبطا بهم نفسياً." ولكن هاينريش بل لم يتنازل. اقترب من كانيوك وسأله إن كان يتجاهله لأنه ألماني. "أجبت بالنفي، وقلت له أنني قابلت جونتر جراس عندما كان هنا، وأن هذا غير ذاك." أصر بُل وسأله عن السبب. وقال له كانيوك "اسمع، سوف أضطر لأن أخبرك شيئا ما ليس لطيفا للغاية أن أقوله. ولكن لدي جار اسمه جلبرت، وهو طلب مني شيئا أنا مضطر لفعله. لقد أرادني أن أطلب منك إعادة بناته له". وعندئذ قال لي بل شيئا لطيفا بشكل خاص، قال لي أنه ربما قد يكون جاء لأرض إسرائيل بسبب هذا."

تصادق كانيوك وبل وفي أعقاب هذا تضخمت معرفة كانيوك بالأدب الألماني. "هو أديب ممتاز، ولكن خطرت على بالي فكرة: في الأدب الألماني التالي للحرب والذي كتبه هؤلاء الشجعان، جراس وبل وآخرون، لا يظهر يهودي واحد، بينما هم قد نشأوا مع اليهود. بُل حكى له أن جميع أصدقائه كانوا يهوداً، وجراس حكى لي أنه نشأ في دنتسيج ورأى الأطفال اليهود يؤخذون، وبرغم هذا فلم يظهر اليهود في كتبهم، لم يتمكنوا من مقاربة هذا، وهذا ليس بسبب الخوف، هذا ببساطة لم يكن في عقلهم، هذا لم يؤلمهم. لقد تسبب لهم بالحزن وليس بالألم. لو كان يؤلمك فسوف تكتب عنه، ولن يساعدك أي شيء. جوتة كتب أن الظلم مفضل على الفوضى، إنها جملة مخيفة."

الخصلة هي المهمة

لم يكن لقاء كانيوك بجاره هو لقائه الأول بالناجين من الهولوكست. "عندما كنت أبلغ 17 عاما تركت الصف الثامن وتطوعت للخدمة في السرية البحرية للبالماح، لأجل الإتيان باليهود لأرض إسرائيل، لم أعرف من هم اليهود ولكنني رغبت في الإتيان بهم. في البداية كنت أكرههم، كانوا يبيعون ويشترون ويقومون بكل الصفقات، وفجأة أحببتهم. أحببت قدرتهم على البقاء. كانوا يعيشون في هذه السفينة تحت وطأة ظروف رهيبة، لا يمكن وصفها، 3000 شخصاً كانوا ينامون مثل السردين، كانوا يقفون في طابور للوصول إلى الحمام، وكان الواحد منهم ينادي الآخر. وقفت هناك ورأيت شابة تقف في الطابور، تنتظر لساعتين أن تدخل. أخرجت شيئا مثل مرآة صغيرة بحجم علبة صغيرة، تطلعتْ بها وسوت خصلتها. كان جميلاً جدا أن أرى هذا."

يحكي أنه عندما تم القبض على المهاجرين بشكل غير شرعي وسؤالهم عمن هم، أجابوا كما تم تلقينهم "نحن يهود من أرض إسرائيل". عندئذ بدأ في التفكير أيضا في نفسه باعتباره يهودياً من أرض إسرائيل. "منذ ذلك الحين وصاعدا، عندما سيسألونني من أنا، لن أقول إسرائيل أبدا، لأنني لا أعرف من هو الإسرائيلي."

قبل عدة سنوات عرضت على مسرح جيشير مسرحية "آدم ابن كلب"، المأخوذة من روايته. انضم كانيوك للمسرح عندما سافر لعرضها في بولندا، في لودج. "وضعوا الخيمة أمام الجيتو. لست بولنديا، أبي جاء من أوكرانيا، من جاليتسيا، ولكنني فجأة شعرت كما لو كنت في البيت. كانت أول مرة في حياتي أشعر أنني في البيت. لألف سنة كنا نعيش في أوروبا الشرقية. ماذا تسوى مئة عام من الصهيونية؟ هي لا شيء."

تحدث عن إحساسه بتضييع الفرصة، تضييع فرصة المنفى: "لم أحب أبدا التين الشوكي، لم أحب الكومبوت، في البالماح كنت أبيعهما من أجل صحن حساء. الجميع أرادوا أن يأكلوا الموز أما أنا فأحببت السبانخ، أن يحب إسرائيلي السبانخ فهذا شيء ما حقير جدا. كنت مقلماً هكذا، لم أنجح في طي البنطلون بالشكل السليم. وهكذا لم أنجح في أن أكون صبارا أكثر مما كنت. لم أنجح في أن أكون اليهودي الذي أردت أن أكونه."

يفسر هذا بأنه لم يتحدث لغات أجنبية، وأنه لم يأت هنا بنفس حمولة اليهود إياهم الذين التقاهم: "تدريجياً دخلت في هذه الحمولة ولكن عن طريق أشياء أخرى." أحد الأشياء التي ساعدته على الدخول في وجهه اليهودي كان تعلم القبالاه. "عندما عدت من الحرب كنا نجلس في مقهي "كاسيت"، وهناك عرفت أفراهام حلفي، أحبني وكنا نتنزه سوياً. كانت كوابيس الحرب وقتها تنتابني، وذات يوم قال لي "عليك بتعلم القبالاه" [فرع من فروع التصوف اليهودي.. المترجم]. ذهبت للدراسة عندئذ في القدس في بتسليئيل، وخلال سنة كنت تلميذا حرا لدى جيرشام شالوم. تعلمت الشبتائية، وأثارت اهتمامي. تدريجيا دخلت في هذا بدون معرفة الجمارا، بدون معرفة الأساس اليهودي الحقيقي، وإنما الأساس الحسيدي والقبالي، كل ما لم يكن موجوداً في التلمود."

عجنون الملك

وفقاً لكلامه، فكل ما حدث في حياته وكل ما كتب عنه تم جمعه في كتاب "اليهودي الأخير." "لـ13 عاما كنت أعمل على هذا الكتاب بالتناوب، أنهيت كتابته عام 1980، عندما غادرنا موراشاه. ألكسندر ساند، والذي كان محررا بدار نشر هاكيبوتس هامئوحاد، أحب الكتاب ونشره." ولكن في الأكاديمية لم يكونوا ينتظرون كانيوك بالذات. "هم أصلا لم يستقبلوني أبدا. أنا متشرد ، أليس كذلك؟ المتشردون لا يمكنهم أن يندرجوا في كلاسيكيات الأدب." يقول أنه في البداية شعر بنفسه مهانا ولكنه تعود منذ ذلك الوقت. "حتى تندرج ضمن كلاسيكيات الأدب فعليك السير في مكان آمن بشكل كاف، مكان عجنوني. [ في إشارة لشموئيل يوسف عجنون، الأديب الإسرائيلي الوحيد الحائز على جائزة نوبل بالمناصفة.. المترجم] هناك أدباء ممتازون يقومون بهذا، ولكن الأمر معكوس بالنسبة لي. لماذا؟ لا أعرف."

وفقا له، فكل ما لا يقف في "صف عجنون" تم محوه ببساطة. "قرأت منذ فترة قصيرة كتبا لآشير بيريش والذي تم نسيانه تماما. حاييم هزاز اختفى. أفيجدور هامئيري. يـ. لـ. بيرتس كتب أدبا أكثر حداثة مما يكتبونه اليوم. وهناك أديب آخر شعرت بالقرب منه وهو بشفيس زينجر ولم يتم قبوله هنا. هو لم يكن متوائما مع العجنونية، عجنون كان هو الملك."

يحكي أن الباحث في الأدب جرشون شاكيد لم يكتشفه إلا وهو على حافة الموت. "تطلب الأمر منه عشرين عاما حتى يتصل بي تليفونيا، اتصل بي وقال لي "قرأت اليهودي الأخير. إنه كتاب مذهل. قلت له: "أنت كتبت تاريخ الأدب العبري بدون أن تدرجه فيه. وقال لي: "هذا غير جيد، صحيح." وحاول إصلاح هذا الأمر."

في "الحق في الصراخ"، وهي مقالة نشرها شاكيد عن إبداع كانيوك بدورية "عخشاف" عام 1998، قارن كانيوك ببرينر وكتب: "الخبرة التي يتعامل معها كانيوك هي المصير اليهودي العبثي، وعبثه مضاعف: اليهود قريبون من الثقافة الغربية التي خططت ونفذت إبادتهم. هم أكثر قربا لمن ضحوا بهم، من قربهم للثقافات الأخرى. الدولة التي أقامها اليهود قائمة، عند كانيوك، على التضحية بشعب آخر، وهكذا فالعبث التاريخي هو أن الضحايا تحولوا لجلادين. هذه الظواهر الخارجية تحولت إلى مشاكل داخلية تمزق نفس أبطال كانيوك ونفس مبدعهم إرباً."

يقدم كانيوك شهادة عن كتابه: "هذا نوع من خلط اللغات والكلمات. لا أستطيع كتابة ما يجب كتابته. كتبت عن طريق عدم معرفتي بالكتابة. أنا أكتب عجزي. أغلب الأدباء الإسرائيليين الجيدين يكتبون بحيث يمكنك قراءتهم بسهولة أكثر. بينما عندي يرتبك القراء.ابنتي قالت مرة أن الأدب يهدف لإعطاء الشرعية للعبث. هذا بالنسبة لي سر الكتابة. لهذا فأنا أحب يوجين يونسكو بشدة، وتوماس فينشون."

وفقاً لكلامه، فهو لا يحب من يخترعون القصص. "كثيرون من أصدقائي الأدباء يخترعون القصص. إذا أرادوا الكتابة عن الغيرة، يقومون بالبحث، لأنهم أبداً لم ينيكوا من الخلف ولم يسيروا أبدا في الشوارع الجانبية، كلهم كانوا أطفالا جيدين درسوا الأدب في الجامعة. أنت تقرأهم، بعضهم جيد للغاية، وترى أنهم يخترعون. بالنسبة لي، أرى أن الأديب الذي لم يمر بتجربة قاسية في الحياة سيكون من الصعب عليه أن يخترع تجربة."

يعتقد أنه ليست هناك حاجة للحكم بشأن أي تيار تنتمي له رواية "اليهودي الأخير"، وبأي أسلوب تمت كتابتها، أو كيف تتطور الحبكة. "أنا أقرأ من العهد القديم يوميا على مدار خمسين أو ستين عاماً. أحب القصص العبثية. أبراهام الذي يقدم زوجته مرتين باعتباره أخته، ثم يرسل ابنا لكي يموت في الصحراء ويرسل ابنا آخر لكي يقدمه قرباناً. على ما يبدو فهو لم يحب إلا هاجر، ولكن لا ينبغي الحديث عن هذا. في النهاية هو أبو الأمة. هذا هو جمال الأشياء، صح؟ لا أحد يشرح هذا لأنه لا يجب شرح كل شيء. أنا لا أكتب في علم النفس. أنا لا أفسر."

في غرفة عمله، في شقته المؤجرة بوسط تل أبيب، ثمة صورة كبيرة، متر ونصف في متر، لرودولف فالنتينو الوسيم، هدف إعجاب النساء في وقته، البطل الأخرس للفيلم. يقول كانيوك: "دوماَ ما أحببته. شخص ما جاءني بهذه الصورة منذ فترة طويلة. عندما طلب مني المصور الخاص بكم أن أنظر باتجاهه، فهمت فجأة، للمرة الأولى منذ أربعين عاماً، أنه يشبهني عندما كنت شاباًَ للغاية. لسنوات كنت أظن أنني قبيح وبائس وكنت أنظر إلى رودولف لأجل العثور على بطل. وفي الحقيقة فلقد كنت عندئذ، أو أنني ربما، عميقا في داخل عقلي، رغبت في أن أكونه."

إذا لم تكن الكتب موجودة، ليقرأوا قوائم المطاعم إذن

يورام كانيوك هو واحد من بين قلة من الأدباء وقفوا ضد شبكة "تسومت سفاريم" وعمليات البيع التي تقوم بها، وكان ممن يؤيدون قانون مراجعة أسعار الكتب، والمسمى أيضاً بالقانون الفرنسي، والذي يهتم بتحجيم الخصومات على الكتب في أول سنتين لصدورها. يقول أنه أصيب بخيبة أمل لأن الأدباء الإسرائيليين لم يقفوا بجانبه. "هذا ضايقني. الأدباء المندرجون في كلاسيكيات الأدب يمكنهم السماح لنفسهم بفعل هذا من أجل أدباء يربحون 40 أجوداه على الكتاب. كيف أن أحداً منهم لم يقف بجانبي؟ مم يخافون؟ حتى كتبي يبيعونها في "تسومت سفاريم" وأنا وقفت ضدهم. القانون لن يمر لأنه ليس هناك دعم من قبل الأدباء."

وفق تقرير المبيعات الأخير لكانيوك، فعلى مدار الشهور الخمسة بين أغسطس وديسمبر 2008 بيع 1348 نسخة من كتبه، وربح هو من هذا 7878 شيكلاً. وحتى لو كان قد تلقى السعر الكتالوجي المثبت على الكتاب، كان سيلاقي صعوبات معيشية.

  • ما الذي تعتقد أنه بإمكان الدولة فعله حتى تساعد الأدباء؟
  • "قبل كل شيء، عندما يصدر كتاب جديد لي يبيع عدة آلاف. "عن الحياة وعن الموت" بيع منه 7000 نسخة مثلاً. انظري، أنا لا أؤمن أن الدولة ستفعل شيئاً. ربما تتشاور الحكومة مع وزير الثقافة السوداني من أجل معرفة ما سيفعلون في دولة أخرى متقدمة مثلنا. ليست هناك دولة في العالم الغربي تستثمر أموالا قليلة لهذا الحد مثل إسرائيل. في فترة حزب مباي كانوا يستثمرون، ولكن مباي لم يعد موجودا."

رنا فربين، محررة الأدب الأصلي في دار يديعوت سفاريم، نشرت هذا الأسبوع في "يديعوت أحرونوت" تقريرا عن سعر الكتب في فرانكفورت وقالت فيه أنها اكتشفت أن القانون الفرنسي له عيوب كثيرة. مثلا، حقيقة أن سعر الكتاب في ألمانيا هو 20 يورو. وهو سعر مرتفع للغاية بالنسبة لأغلب السكان، ومعناه أن المعرفة صارت هي النصيب الأساسي لأصحاب الثروات، مثلما في العصور الوسطى بالضبط. وحتى في فرنسا، كما تقول، فأغلب الناس لا يمكنهم السماح لنفسهم بشراء كتاب في السنتين الأوليين لصدوره، كتبت قليلة فحسب هي ما تتبقى على أرفف المكتبات أكثر من سنتين.

يعترف كانيوك أنه من الأفضل للقراء ألا تكون هناك مراجعة وأن تكون هناك خصومات وعروض. "ولكن من سيزودهم بالمادة التي يقرأونها؟ لن يكون هناك أدباء. هناك الكثير من الناس في فرنسا وألمانيا يتحدثون عن هذا القانون باعتباره قانونا رائعاً. أنا أرى هذا أيضا في تقارير المبيعات التي أستلمها من ألمانيا وفرنسا. الوضع أفضل بكثير مما هو هنا."

  • المشكلة هي أن الأدب قد يتحول إلى اهتمام الأثرياء فحسب.
  • "لو كان الأمر هكذا، فسوف يدفع القراء القليل جداً ولكن لن يكون هناك كتاب ومترجمون. ينبغي العثور على الحل الوسط. صحيح أن يمكن العيش بدون كتب يورام كانيوك، ولكن لا يمكن شراء كتب بدون أن تكون هناك كتب، وكيف ستكون هناك كتب لو كان الكاتب لا يمكنه الاسترزاق. أي شيء هذا؟ ليأخذوا قوائم المطاعم المفلسة إذن وسيكون لديهم عندئذ ما يقرأونه."

عن "هاآرتس"

Friday, 9 October 2009

اذهب إلى مدينة القتل، بيروت

يفتاح إشكنازي

ترجمة: نائل الطوخي


يفتاح إشكنازي، كاتب إسرائيلي شاب. ولد عام 1980. له كتابان "قصص موت مدينتي"، 2003، و"بيركناو حبيبتي"، 2007، هاتان القصيدتان مأخوذتان من العدد الرابع من مجلة "معيان الشعرية"، ويرأس تحريرها روعي تشيكي إراد. في إحداهما "اعترافات مراسل عسكري"، يصف الشاعر علاقة مثلية بين الجندي بالجيش الإسرائيلي وبين رفائيل إيتان، رئيس هيئة الأركان بحرب لبنان تموز 2006، وفي الثانية يحاكي الشاعر إصحاحات "اذهب" بسفر التكوين بالتوراة، ولكن بدلا من أمر الرب لإبراهيم بالذهاب إلى فلسطين نجد هنا أمر الجيش الإسرائيلي للجندي بالذهاب إلى لبنان، مدينة القتل، كما يصفها. في القصيدتين يربط الشاعر بين الحرب، وخاصة تلك التي تم شنها على لبنان في 2006، وبين العنف الجسدي المتعلق بالجنس، سواء ما كان منه مثليا أو غيريا، ويربط بين الجيش الإسرائيلي وأسطورته الذكورية عن نفسه.



اعترافات مراسل عسكري

يمكنني تخيل وضع افتراضي أقيم فيه علاقة جنسية (غير كاملة) مع رافول.

برغم أنني في علاقات من هذا النوع، يتوجب عليّ القول،

بأنني بكر.

ولكنني قضيت وقتا مرتين في أندية كتلك، عندما كنت في الخارج.


علاقتنا دارت على ضفتي الليطاني، بين مخربين مستعدين للموت مقابل إقامة معسكرات إبادة.

رافول وأنا نجلس لابسين الزنطات على موتور السيارة الجيب، غارقين في ضحكات صبيانية كلها عذوبة

بؤبؤاي يداعبان بطل إسرائيل الذي هبط بالمظلة في المتلة واستلم شارة حمراء، ولكنه ظل لغزاً.

الأرنوب يضخم نور النجوم، يسهم في الجو الرومانسي، يشجع على الهياج

رافول يسأل عن الوحدة

لفرحتي، يحاول اكتشاف من أنا.


هو يعرف كيف يتصل بالناس، لديه سحر خشن ، حقيقي، أولي،

يداعب زراير بزته العسكرية المحكمة لمنع أي تمزق في المعركة بعقدة مائلة

يحكي نكتة "جنسية" عنن صديقة المظلي وشجرة جولاني

.

بعد هذا، وبرغم أنني لا أهمه

يلمسني بكفه المدربة- الفلاحة

أنا مستعد

طالما ليس هناك شيء ما ملزم، مثل الإدخال من الخلف

.

وسوف يكون الأمر معنا مكتملا ولطيفا:

روعة البطولة،

القنابل المضيئة

مردخاي أنيلفيتش "الذي يتحول إلى شخص من لحم ودم،

طرق الهليكوبتر، قرى تتحول إلى بقايا،

قوات المدرعات، التفافات، سموم الفخر العسكري في الكمائن،

سيطرة الطاقية اليهودية، أسلوب هانيبعل، أطفال الأر بي جيه يتعقبون,

شارة نهاية الخدمة، دبوس زيت البنادق.


فتحنا علبة اللحم

"أريد الذهاب إلى عنبر يفتاح"

وأسير مع رافول، برغم الوضع المضحك.


نحن في العنبر من أجل عد قذائف الهاون

قال للجميع أن لدينا أوامر. سواء أنا أو رافول لم نكن نعرف قواعد اللعبة.

أخلى الطاولة. رمى على الأرض الخرائط المفروشة

"أريد أن أكون الأول" أقول له، مقررا برغم أنفه أن أحاول

أن أجرب، "صعب عليّ"، أعتذر، وهو يبتسم "انتظر".

أجلس على الطاولة، أشتهى أن يقبلني رافول طويلا

بشفتيه الرجوليتين والمشققتين.


نظرة على نطاق قاعدة الاستيعاب، والذي تحول إلى لوح من اليأس بمربعات سوداء،

على الطاقية والتي يمكنها أن تسقط أثناء الممارسة الحميمة، الجماعة يعلنون عن أعواد الثقاب

المشتعل. أبنائنا يطلقون النار وتطلق عليهم النار. رافول غير معتاد على الموقف. يمسك أعصابه.


أحلم بأن أقرص على الجلد الرقيق للصلعة ،

أن أحاول تدليك المخ الذي فكر في خطة الصراصير المسممة

هو يعرف أن العرب لا يفهمون إلا القوة، هو رضع من عربية، هو يفهم.

مدافع تطلق النار للمرة الأخيرة قبل نوم هيئة الأركان. تنفث دخاناً كالعطور.


رغبة تقفز وتتفجر في القول: "سبوتنيك يا غبي،

جدك اغتصب جدتك في أثناء مذبحة لليهود، على ما يبدو."


كل شيء يزدهر ، الآن دوري لأكون رجلاً

في نور أحمر يمحو الجسد العاصف

ولكن رافي خائف، ربما خجلان

يلبس


ذهبت للنوم وحيدا في السرير الفرنسي، وبعد حوار آخر مع جنودي الجيدين المتحمسين،

الذين يعرفون أن إسرائيل تطمح في صنع سلام مع كل جيرانها العرب – الأعداء.

الحرب تستمر، سلسلة طلقات،

هم ليسوا بشرا وإنما حيوانات.

رافول بالضبط قبل الفراق، عندما كنا مخلصين وباردين،

يحذرني أن صبرا وشاتيلا سوف تجر ورائها أكاذيب ضدنا

.

للحادث السابق ثمة درسان سعيدان فحسب

هناك توازن ديمجرافي، ولذا علينا كرجال وكيهود

أن نتوجه فقط للأماكن الصائبة والنظيفة

التي يخرج منها الأطفال.


وأن نثق بقلب جامد في الجنود

الذي يقضون ليلهم كالنهار

لأجل جعل الحياة

محتملة لنا.


(التقيت برافول فقط مرة واحدة بعد الاستقالة في تل عداشيم،

وهو لم يعد يتذكر الأحداث، ولا يتذكرني، ولا يتذكر الآخرين،

وذهبنا نحن الاثنين سويا إلى معصرة الزيتون.)


في مدينة القتل

قم اذهب إلى مدينة القتل في عمق لبنان

الجبال سترقص على شرفك كالأيائل، بعد قصف متواصل.

قم اذهب إلى مدينة القتل، وهناك الكثير من البلدوزرات،

اذهب وانظر إلى دبورة امرأة مغتصبة، عارية ومغطاة.

اذهب إلى الخرائب،

إلى أنقاض البيوت.

انزل إلى صفوف

البلدوزرات

أنت لا تتجول

أنت لاتذهب.

أنت لا تنهار

أنت تركع في حركة عسكرية، قراءة خريطة الرموز،

وهذه يدك التي تلمس مرتعشة الجدران المكهربة الرقيقة.

هذا فمك الذي يقول:

"ممنوع"

هذا أنت المستعد لأن تموت مقابل انتهاء فترة الحاجز العسكري

كل شيء على ما يرام – كل شيء يعمل – كل شيء معروف.

هذا أبي الذي ذهب بي مرة إلى قرية زرعيت،

لكي نرى القصف سوياً.

ولم نجرؤ على النظر خلفنا،

نعم، محبطين سمعنا سويا أصوات الرعد في وحدة الإرشادات

والآلاف من زخات الشظايا اللامعة وجندي يشتعل

من مذراة كبريت، طار في الهواء القاسي،

رائحة الجثث كان أبي يعرفها.

عندئذ

حكا لي عن حروبه

وعن اليوم الذي فقد فيه السمع بإحدى أذنيه،

عندما قصف هبط في حفرة، كأنه لم يحب أن يوضح لي أن هذه هي حربي.

لم يرغب في أن يرى، إلى أي درجة أنا مرعوب

السكين – قم اذبح.

مثل الكلب، لأني أخطأت أخطاء كثيرة،

لأنني قتلت، نعم قتلت، قتلت أناسا.

وفي القرية الخربة في لبنان، التي تم سحقها بالرؤوس المتفجرة وبكاميرات-فوق حمراء

تقف امرأة

يحكم عليها تلبيوت*

تحترق كامرأة اللهب*

هي تلك

التي ركع بين ساقيها

سقط

نام.

اغتصب وطُعن ونام.

بين ركبتيها حفر علامة

وتحرك من عليها محركا حوضه

محاولا التوقف عن التفكير في أخته.

وهي لا تزال راكعة مزروعة منذ زمن

رطبة أمامه.

وفتاة أو فتاتان ثياب مصبوغة*

باهتة في العروق.

صدر عار مكبوس في ثدييها الصافيين

والسوائل تتدفق

بالتناسق مع حركته.

السماء دعت بالرحمة

رب العالمين قرأ التأبين لابسا التفيلين المدنس،

على مدينة القتل

على القتلة.

عليّ،

لأنني ميتاً سأصبح،

لأنني ميتاً أصبحت عندما قتلت أناساً.

___________________________________________________

*برنامج تلبيوت هو برنامج تأهيلي عسكري

*امرأة اللهب هو اسم يطلق على دبورا النبية اليهودية.

*"يقسموا الغنيمة فتاة أو فتاتان لكل رجل ثياب مصبوغة".. من سفر القضاة 30-5