بمناسبة مرور مائة عام على مولد الشاعر الإسائيلي الأشهر "ناتان ألترمان" يكتب المحلل الأدبي اليميني بصحيفة معاريف "مناحم بن" مقالاً عنه، المقال أخذ عنوان "سأموت وسأواصل سيري، مئة عام على ميلاد ناتان ألترمان". ننشر هنا ترجمة نص المقال كاملاً:
__________________________________
مناحم بن
ترجمة: نائل الطوخي
الذكرى السنوية المائة لميلاد ناتان ألترمان، أعظم الشعراء العبريين الحديث وواحد من كبار الشعراء في القصيدة العالمية، تم الاحتفال بها لدينا على نطاق ضيق: تقرير في ملحق ما، إشارات في هذه الصحيفة أو تلك. هنا وهناك يبثون في الإذاعة قصائد مغناة له، ويقولون شيئاً ما. كانت هناك أيضاً أحداث مسرحية، عروض كتلك أو غيرها. هذا على الأكثر.
الإحساس بالعظمة النادرة لألترمان، والذي لم يكن فقط من كبار الشعراء في القرن العشرين (بالمقارنة بإليوت، باوند، ريلكه، من تريدون)، وإنما كان واحداً من المؤسسين الأكثر أهمية للروح الإسرائيلية – لم ينتقل فعلاً للجمهور. ولكن هذا هو الحال في العالم الذي نعيش فيه. الشعب يهتم باليانصيب وبالبورصة، ببرامج التسلية في التليفزيون. أطفال إسرائيل لا يستطيعون النطق بشكل سليم، أو قراءة جملة مشكلة بشكل صحيح (لأنهم لم يدرسوا ولم يتعودوا على علامات التشكيل). أما العهد القديم العبري الإلهي، كتاب كتب العالم، فلا يقف في مركز حياتنا، كما ينبغي أن يكون، ما بنا إذن نشكو من الاحتفاء المتواضع جدا هنا بألترمان؟
نحن نعيش في ما أطلق عليه برتولد بريخت، وهو أيضاً من كبار الشعراء في القرن العشرين، اسم "زمن سيء للقصائد المغناة"، في البلد وفي العالم. زمن سيء بالتأكيد للشعر المقفى الذي فقدت حتى القلة القليلة التي تقرأ الشعر لدينا، صلتها به (لأن الارتباط به يتطلب تأهلا تفتقده). وألترمان كان طوال الوقت يكتب في قواف رائعة، وعلى نقيض شالونسكي، ليئا جولدبرج، راتوش، ألكسندر بن وسائر شعراء القافية من مجايليه، والذين استجابوا لروح العصر، وكتبوا في سنواتهم المتأخرة قصائد تفتقد إلى القافية – فألترمان أبداً لم يخن القافية. واذهب إذن لتشرح من هو ألترمان للجيل الذي لم يعد يستطيع سماع القافية.
ليس هناك شك أنه ليس إلا إصلاح هائل، كاسح، ثوري في كل منظومات حياتنا، وبالأساس في مجال التعليم (وقبل كل شيء، في مجال تدريس العبرية والعهد القديم والشعر)، سوف يتيح لنا فهماً حقيقياً أيضاً لألترمان. وربما ينبغي العودة لمنهج التعليم الذي درسه ألترمان نفسه في الثانوية العبرية "ماجين دافيد" في كيشينيف، وقبله في المدارس العبرية وفي مدارس الحضانة العبرية في وارسو وموسكو وكييف. فأبوه، يتسحاك ألترمان، أسس مدراس حضانة في هذه المدن، وهناك تم تدريس عبرية رائعة. نعم، هناك "في بولندا وريسين"، في وارسو وكييف وكيشينيف وموسكو البعيدة في الزمان والمكان، استطاعوا تدريس العبرية أكثر بكثير مما يستطيعون هذا عندنا في دولة إسرائيل.
من أوكرانيا جاء أغلب العارفين بكتابنا ولغتنا: بياليك، تشرنحوفيسكي، إحاد هعام، جابوتنسكي، وألترمان أيضاً. لا أحد منهم، بسعة ثقافته العبرية، يستطيع أن يكبر في داخل المدرسة الإسرائيلية اليوم، والحد الأقصى لها أن تنشئ بداخلها شخصاً مثل إتجار كيريت، والتي كانت أولى الكلمات العبرية التي تعلمها هي "بمبة" أو "سكتبورد". على أي حال، ينبغي الأمل، من أجلنا كلنا، أنه في الاحتفال ال200 بميلاد ألترمان، سوف يفهم الرئيس ورئيس الوزراء في هذا الزمن، أنه لا يجب الاحتفاء بمحبة كبيرة بمن هو أقل من هرتسل، إليعازر بن يهودا، بن جوريون، وألترمان. ليس لأجله، وإنما لأجلنا نحن أنفسنا.
حتى نتذكر ونذكّر أنفسنا بمذاق حياتنا في أفضل صورة لها في هذه البلد، ألترمان في ذروته الشعرية هو حياتنا في ذروتها، مذاق حياتنا في أفضل صورة لها. من بين الأسباب، لأن ألترمان كان شخصا مفتونا بالعالم، وما أجمل من أن يورثنا ويعدينا بمذاق هذا الحب الكبير للعالم:
لماذا ارتبطت بك، يا أرض.
حاولت تفكيكك عبثا
لماذا انتتظرك ليلا
كتلميذ ينتظر بنتاً في الثانوية
إذن ما الذي يجعل ألترمان أكثر عظمة من بياليك، أعظم من تشرنحوفيسكي ومن أوري تسيفي جرينبرج ومن عميحاي ومن داليا رافيكوفيتش، من زاخ ومن أفيدان؟ وبشكل عام، كيف يتم قياس شاعر؟ كيف تتم مقارنة شاعر بآخر؟ ما الذي يحدد عظمة القصيدة؟ سوف نهتم فيما بعد بالمقارنة بين بياليك وألترمان.
في نفس الوقت فقط قيل أن جزءا من ركائز عظمة ألترمان يكمن أيضاً في القصائد الأكثر تأثيرا والأكثر بساطة، وإنما غير المعتادة في جمالها وإحكامها، الأغاني من جانب "في كل هذا يوجد بها شيء ما"، "و"العمود السابع" من جانب ثاني ("الصينية الفضية"). كل هذا إلى جانب القصائد الأكثر غموضاً، وإنما الأكثر موسيقية، التي لا بشكل عام لا ينبغي فهمها من أجل فهمها. ولذا فهي أيضا بسيطة في جوهرها.
يكفي سماع موسيقى ولون الكلمات: "كصعود موجة مشرقة/ اجتحتيني بمعركة وسطى/ درت خلفك كأعمى/ في شوارع مليئة بالأعين"). سوف نحاول أيضا شرح كيف يتحول هذا الرجل بالتحديد، من صاحب "نجوم في الخارج" و"العمود السابع"، ليس فقط إلى الشارع المحبوب أكثر، والذي – بقصيدته- سحر وفتن جيله والأجيال التالية، وإنما أيضا إلى بوصلة الأمة في السنوات الأكثر حسما لنمو الشعب والدولة، وكيف أتاحت حياته وتاريخ حياته والفترة التي ولد وعاش فيها، خلق المعجزة الأكبر لشعره؟ هذا هو موضوع ذلك التقرير.
في نفس الوقت قيل أن هذا الحب للعالم (لماذا ارتبطت بك، يا أرض") والقدرة على سحب السعادة اللانهائية من العالم، إلى جانب المشاكل الأكبر وإلى جانب الألام الأكبر، هو واحد من مراكز العظمة الأساسية لألترمان. موهبة السعادة، يمكننا أن نطلق عليها هذا الاسم. قلائل جدا من وهبوا بها. في ذراه، يلامس ألترمان فعلياً أقصى جمال العالم. وفي هذه التحليقات، في "قفزة البهلوان" هذه (على اسم واحدة من أجمل قصائده) إلى قمم الواقع، يصل إلى أماكن الحب العائلة حتى لفرع شجرة الجميز. ("هناك جميزة تسقط فرعا علي كالمنديل/ وأسجد لها وأرفع رأسي ")، وحتى للحجر – هاهي، يا ابنتي، أختنا الحجر/ تلك التي لا تبكي أبداً" – من غيره يمكنه أن يطلق على الحجر "أختنا" وأن يقصد هذا من أعماق قلبه؟، ناهيك عن مفاتن العالم الكبرى، القمر وسائر لِعَب الرب الكبرى.
وبشكل عام، من غيره كان محبا هكذا للعالم، لإسرائيل، لأرض إسرائيل، لتل أبيب، للغة العبرية، للمحاربين الإسرائيليين، للنساء، للسوق، لليمينيين، لبن جوريون، لأليعاز بن يهودا، لموشيه ديان، وغيرهم وغيرهم وغيرهم. ليس من نهاية لمحبات ألترمان، والتي تواصلت بشكل ما بعد موته أيضاً، كما وعدنا في "نجوم بالخارج": "لن أتوقف عن النظر، لن أتوقف عن التنفس، وسأموت وسأواصل سيري."
في الأدب والقصيدة التي كان بمعظمها يشكو، يتألم، كان طائراً نادراً. أبداً لم يكتب عن نفسه بمصطلحات التعاسة. وأكثر من هذا: لقد لامس فعليا السعادة السماوية، الصوفية، من النوع الذي لم يكنب معروفا لغالبية البشر، وبالتأكيد لم يكن معروفاً لناتان زاخ، الذي حارب "نجوم في الخارج"، لأنه لم يفهم السعادة التي تحدث عنها ألترمان. بالضبط مثلما أن سامعي النبي يحزظقئيل لم يفهموه عندما قال: "فتحت السماء وسأريكم مشاهد الرب." لم يروا. إذن ما الذي يعرفونه؟
خمسة ومن يعرف
قبل أن نواصل الغوص داخل قصيدته، هاهي بعض الحقائق والحكايات، والتي ربما تعرفونها وربما لا، عن ألترمان. النظام عرضي تقريباً. الكلمات مأخوذة بالأساس من كتاب دان ميرون المهم عن ألترمان "كمعجزة ولاة فراشة من الدودة" (الجامعة المفتوحة)، ومن الكتاب المذهل ليعقوب أورلاند، "ناتان كان يقول" (هاكيبوتس هامؤوحاد)، ومن كتب مناحم دورمان، كاتب السيرة الذاتية شبه الرسمي لألترمان، وناتان زاخ، في كتابه السيري (وكتاباه الأخيران أيضاً، عن دار نشر هاكيبوتس هامؤوحاد).
في نيتنا أن نمسك بشيء ما، ليس أكثر من شيء ما، من شخصيته وطابعه، وكل هذا قبل أن نصل للأساس. والأساس هو جوهر قصائده، حيث فيهم، وليس بالتحديد في حياته نفسها، حدثت المعجزة الحقيقية. وينبغي فهمها هي بالأساس، من داخل القصائد نفسها، إذن إليكم بعض الحقائق في البداية:
1- لدينا تيس. ألترمان، المولود في وارسو عام 1919، صحيح أنه هاجر للبلد فقط في سن الخامسة عشر، ولكنه ولد فعليا بداخل العبرية. أبوه، إسحق ألترمان، كان رجل عبرية من طراز أول. ألف من بين ما ألف، قصيدة الأطفال المعروفة "لدينا تيس، والتيس لديه لحية، وله أربعة أرجل، وذيل صغير أيضاً"، كجزء من أغاني الألعاب العبرية التي اقترحها على أطفال الحضانة في المنفى في إطار نشاطه كمدير الحضانات العبرية في بولندا وروسيا. بالمناسبة، من أدار مع إسحق ألترمان نشاط الحضانات العبرية في المنفى كان هو يحيئيل هلبرين، أبو يوناتان راتوش، والمولود أيضاً في بولندا ولكن المولود فعلياً بداخل العبرية.
بعدها بسنوات قامت معركة شعرية ثاقبة بشكل خاص بخصوص تاج القصيرة والعبرية بين ألترمان وراتوش (عاهرة العبرية، عاهرة")، حكى عنها يعقوب أورلاند في كتابه "ناتان كان يقول". الخلفية اللغوية العبرية لألترمان مهمة من أجل فهم كم أن لغته العبرية كانت ترن بشكل صائب (وكذلك لغة راتوش) على مسمع الأذن الإسرائيلية في مقابل لغة بياليك. اعتاد راتوش القول أنه لم تكن لديه إلا لغة أم واحدة. وكذلك ألترمان.
أبو ألترمان، والذي مات عام 1939، حظى برؤية ابنه في بدايته القوية بعد ظهور "نجوم في الخارج" عام 1938. كتاب لا شبيه له في سحر القراء. وهاهو نوع من العدل الإلهي يكمن في رؤية إسحق ألترمان كل هذا قبل موته، لأن هذا الأب، والذي كان يدير في وارسو أيضا بيتاً أدبياً عبريا مفتوحا وسخيا لا شبيه له (تمت فيه استضافة جنسين بحوليو لأشهر طويلة، من بين من تمت استضافتهم)، كان هو الشخصية العبرية المركزية في حياة ألترمان. وفي رأي كتّاب سيرة ألترمان الذاتية (وبالتحديد مناحم دورمان ودان ميرون)، فلقد كان هو الشخصية الأساسية في حياة الشاعر، بالتأكيد في شبابه.
2- المحسن الكبير. موضوع آخر، ولا يزال جوهرياً للغاية، لاتعرفه إلا القلة عن ألترمان، برغم فقره الأساسي، فلقد كان قديساً خفياً، كان يعطي المال للمئات من المحتاجين، بشكل سري دوماً، وبوساطة شخص ثالث. هاهو ما كتبه عن هذا البروفيسور دان ميرون في "كمعجزة ولادة الفراشة من الدودة": "هذا "الإحسان" من ألترمان، إخلاصه الحقيقي للبؤساء – وصل مع امتداد الزمن، في أيام نشره وتأثيره الكبريين، إلى درجة المبدأ الأخلاقي وإطاعة الأوامر الدينية، التي كان الشاعر مرتبطاً بها بشكل لا يقل عن يهودي حريدي مرتبط بتنفيذ أوامر التوراة." وإلى جانب الكرم الكبير، فألترمان كان يجني، وفق دورمان، أجرا عاليا بشكل خاص مقابل عمله، ولا مرة بدون مساومة (حسنا، قد يكون فقط دورمان الكيبوتسي قد فكر أن الحديث هو عن مبالغ هائلة)، على طريقة روبين هود الذي يمرر المال من الأغنياء للفقراء.
3- ألترمان ينقذ زاخ. دافع ألترمان بجسده فعليا عن ناتان زاخ، عدوه ومهاجمه الأكبر. هذا حدث هكذا: كانت ثمة أمسية كحولية في "كويكي بار" في شارع اللنبي بالستينيات، هنا التقى ألترمان بالصدفة بزاخ، مع بعض العاهرات وقواديهم الذين تعودوا الجلوس هناك. قام ألترمان وتحدث، والعاهرات أيضا كن يهمسن في الحديث، وعندئذ قام زاخ وصرخ بكلمات كان ممنوعا الصراخ بها في بيت دعارة: يا عاهرات! اخرسن! هل تعرفن من يتكلم؟". وردا على هذا، ثار أحد القوادين على زاخ "وبيده سكين وشوكة ويتجه مباشرة لصدري"، كما يحكي زاخ في كتابه السيري. ومن وقف بين زاخ وبين القواد؟ استنتاجكم صائب: "ألترمان، بنفسه، وضع جسمه بين المهاجم وبيني، وربما يكون قد أنقذ حياتي هكذا؟" هكذا يشهد زاخ نفسه. ماذا كنتم لتفعلون في موقف كهذا؟ ما الذي كان ليفعله حاييم هاخت؟
من المفيد أن نتذكر أن ألترمان كان الشاعر الذي عاب عليه زاخ في مقاله الشهير "والضال تماماً، زاخ أبداً لم يفهم ألترمان). أي، ألترمان لم يكن فقط شخصاً سخياً بشكل مذهل، قديس خفي، وإنما كان أيضاً شخصاً شجاعاً من الناحية البدنية، كان مستعداً لتعريض حياته للخطر الحقيقي من أجل إنسان يتعرض للهجوم، حتى إن كان هذا الإنسان هو عدوه الأكبر. بالمناسبة، في موضع آخر يصف زاخ ألترمان بأنه "الرجل الأكثر كاريزمية الذي عرفته في حياتي." هل تفهمون؟ علاقة محبة – كراهية ثقيلة كانت تكمن هنا.
4- عالم زراعي معتمد. مثل الشاعرة راحيل، فألترمان أيضاً درس الزراعة في باريس ببداية الثلاثينيات، وفق الموضة التي كانت سائدة وقتها بين شباب الاستيطان الطليعي، بل وأخذ لقب زراعي معتمد، ولكن عدة أشهر من العمل في المدرسة الزراعية "مكفيه يسرائيل"، كانت كافية كي لا يرغب في العودة للعمل الزراعي أبداً. فضل الأعمال الأدبية والصحفية غير الثابتة، وعاش عليها بعد أن ترك النبات والسماد. في استنتاجي فبيته الفاتن، "سوف يتكرر اللحن الذي هجرته عبثا"، ينشغل بهذا بالضبط: بحقيقة أن ألترمان قد هجر الشعر، اللحن، لفترة معينة، لصالح دراسة الزراعة، حتى عادت قصيدته إليه من جديد، كأنما من تلقاء نفسها: "سوف يعود اللحن."
5- أي سترة كانت تبدو عليه كخرقة. وإليكم بعض مميزات شخصيته: لقد كان صموتا جدا، حتى لو اجتمع أناس محبوبون دوماً حوله. كان يتحدث هنا أو هناك. وبعد الكأس الثالثة أو الرابعة (لأنه كان كحوليا غير بسيط)، كان يميل إلى إهانة من حوله بلغة حادة كالموسى. كانت له طريقة سير نادرة، نوع من القفز، التحليق الجملي. دوما بيده حقيبة بنية، بالية، من حقائب الماضي الجلدية. بشكل عام، لقد كان مناقضا لأية زينة: "أي سترة كانت تبدو عليه لسبب ما وكأنها خرقة، كما شهد عليه أبناء فصله، ودوما ما بدت ملابسه كأنها ليست على مقاسه وكأنها جاءته من يد ثانية وثالثة"، كما كتب ميرون.
إلى هنا قصصنا عليكم بعض القصص من حوله. ولكن كيف يرتبط هذا بشعره؟ هذا مرتبط، مرتبط. لأن سخاءه البالغ، ميله العظيم للصمت، تواضعه الوافر – كل هذا يشرح في الحقيقة ليس فقط جزءا واضحا من طابعه وطابع شعره، وإنما أيضا جوهر الوحي الشعري الذي كان يسيطر عليه، إذا تحدثنا بلغة دينية. ما قال علينا حكماؤنا القدامى: "لا ينزل الوحي إلا على الحكيم، البطل، الغني والفقير." وألترمان، حتى برغم القليل الذي وصفته، كان كل هؤلاء: قبل كل شيء، كان حكيماً للغاية. كما كتب عنه يعقوب أورلاند في "ناتان كان يقول"، عندما وصف تأثيره الهائل في أيام "نجوم في الخارج" و"العمود السابع" على بيئته وفعلياً على الاستيطان العبري كله:
وهذا للمعرفة:
في هذه الأيام لا يوجد ملك لإسرائيل
غير ناتان
لم يفعل شخص الصواب في عينيه إلا بنصيحته ووفق كلامه.
يصعب شرح، نوع من الطريقة الأرية أمام حكمة قلبه المذهلة
أمام ثمار محصول موهبته، والتي رأينا فيها بهاء من رموز الحكمة
طيب، وكل ما يتبقى قلناه فعلاً: متواضع عظيم، صموت، بطل (انظر قصة الدفاع البدني عن زاخ)، وربما غني أيضا (إذا حكمنا وفق السخاء الذي غمر به من حوله). هل من الغريب أن الوحي قد نزل عليه هو بالتحديد واختاره هو بالتحديد؟
قبلة الطباخة
في هذه المرحلة من المفيد إذن أن نتوجه لألترمان الشاعر الصافي (لأن ألترمان نفسه كان يميز بين قصيدته الشعرية وبين القصيدة الغنائية والقصيدة الصحفية)، من "نجوم في الخارج"، ديوانه الأول، وحتى "احتفال صيفي"، ديوانه الأخير، وأنا أحصي برغبة اسمي هذين الديوانين، لأن كليهما يضمان نخبة من أجمل قصائده، نوعا من الحركة من الطهر الأول إلى الصفاء الأخير.
وقتها أعلن دان ميرون، بتأثير من زاخ، أن "فرحة الفقراء" هي ذروة الشعر المبكر لألترمان، ولكن فيما بعد تراجع وتمسك من جديد بـ"نجوم في الخارج". واضح. لأنه في الحقيقة، لا يمكن المقارنة بين الذروتين النفسيتين الفاتنتين، الملونتين، المكتوبتين في قواف مذهلة لديوان "نجوم في الخارج"، وكتاب "أكثر أدبية"، وذو نبرة واحدة، مثل، "فرحة الفقراء"، المتأثر بشكل عام بيوناتان راتوش و"كوشته السوداء."
وإذا كنا قد أشرنا إلى زاخ، فعلينا أن نشرح ما الذي لم يفهمه الناقد الكبير والعدواني لـ"نجوم في الخارج"، وإلى أي مدى أخطأ. قبل كل شيء، ينبغي الإشارة إلى أن ناتان زاخ نفسه قد اعترف، أنه في البداية، ولوقت قصير، قد تعرض هو أيضا للسحر الشعري لديوان "نجوم في الخارج"، حتى تخلص منه. ولكن تخلص زاخ كان كله أخطاء، وكان كله قائماً على عدم الفهم. زاخ زعم مثلا أن "ألترمان يستطيع الصياغة أكثر بكثير مما يستطيع الإحساس". ولكن الادعاء بهذا لا يقدر عليه إلا من لم يشعر بما كان ألترمان يشعر به، ولم يخبر ولو لمرة ذرى الإحساس الألترماني ولم يفهمها أبداً.
ألترمان لم يستطع الإحساس؟! قصائد "نجوم في الخارج" كتبت بأساسها من خلال إحساس هائل لم يعرفه زاخ من تلقاء نفسه ببساطة، امتنان هائل لفتنة العالم والإخوة الهائلة مع العالم: "ولا مرة سجدت، لغابة خضراء، لامرأة ضاحكة، لقمة مبللة بالرموش" انتبهوا لمرتبة المحبوبات: ألترمان فعليا يسجد أمام الأشياء الفاتنة في العالم، الغابة الخضراء، المرأة الضاحكة، قمة مبللة بأوراق الشجر (التي تبدو مثل الرموش والعيون، العالم يتطلع إلينا ونحن نتطلع له). هذه الانحناءة أمام جمال العالم، مثلما في الأعمال الفنية الأكثر روعة، تتكرر:
هناك يلمع قمر مثل قبلة طباخة
هناك سماء ندية تهدر بسعالها
هناك جميزة تسقط فرعا علي كالمنديل
وأسجد لها وأرفع رأسي
تصل هاتيك المحبوبات في العالم إلى واحدة من ذراهن في قصيدة "أشجار في المطر"، والتي يسير فيها الشاعر مع ابنته الصغيرة بعد المطر، ويريها العالم المغسول. السعادة هنا هي على درجة إلهامية مطلقة، لأن ألترمان يتحدث هنا بمحبة هائلة، بأخوة حميمية، كأنه يتحدث عن أقرباء عائلة، حتى عن الحديد والحجر، جمادين نتعامل معهما بشكل عام باغتراب. ولكن لدى ألترمان فالحجر والحديد يثيران به أيضا الحب العظيم، كأنهما أخوان وجوديان في هذا العالم:
هاهو الحديد، الصنم والعبد
حداد الأيام الذي يحمل العالم
هاهي، يا ابنتي، أختنا الحجر
تلك التي لا تبكي أبداً
هنا أيضاً، مثلما في قصائد أخرى، يتم تأنيث الحجر، مثلما تم سابقا تأنيث القمة وشجرة الجميز. كل مواد العالم تلك تتحول لكيانات أنثوية، يمكننا ومسموح لنا أن نحبها بدرجة الحب الأنثوي فعلا. نوع من التوحد مع العالم، وينبغي الفهم: ليس أن ألترمان يكتب عن خبرات السعادة. هو يكتب من داخلها وفي ذروة خبرة السعادة. أي، في أثناء القصيدة والوحي يصل ألترمان لذرى هذه السعادة. القصيدة هي التي تتيحها في الواقع. القصيدة نفسها هي السعادة. القصيدة نفسها هي أداة الإلهام. هذه هي النعمة. هذا هو الوحي.
في شقة ترتسا أَتَر
علي أن أكرر وأن أحكي هنا قصة شخصية مرتبطة بالضبط بهذه القصيدة، "أشجار في المطر"، وبلقاء كان لي مع ابنة ألترمان، الشاعرة الرقيقة والذكية ترتسا أتر، قبل أشهر بالضبط من انتحارها أو سقوطها من نافذة شقتها في بناية تل أبيبية متعددة الطوابق. التقيت بها عندئذ في شقتها (شيء ما كان مرتبطا بعملي كمحرر الملحق الأدبي في جريدة يومية لم تستمر كثيرا لموشيه ديان بعنوان "هايوم هازيه").
أتذكر مظهرها الرقيق والهش والروحاني ، حتى وإن بدا وجهها سيئا تماما من الناحية الصحية، شيء ما نحيل للغاية، خاو للغاية، معذب للغاية. على مدار الحوار، فجأة انفتح باب الشقة، واجتاحت عدة شخصيات صيفية سعيدة عادت من البحر، زوجها والأطفال (لقد أحبتهم للغاية)، وكان هناك بالضبط نوع من التنافر بين مظهرهم الرياضي وبين مظهرها غير الصحي. نعم، واضح أنها كانت معذبة، وإذا لم أكن مخطئاً، فلقد كانت أيضاً تحت تأثير الدواء. سجائر اسكوت في علبة صفراء (دوما ما كرهت هذه السجائر) كانت موضوعة على الطاولة. وترتسا كانت تدخن.
هنا أصل للأساس: سألتها كم كان عمرها عندما كتب لها أبوها قصيدة "أشجار في المطر" ("سأسير اليوم مع ابنتي الضاحكة، بين كل الأشياء التي ولدت من جديد") وفوجئت بأن أسمع منها أنها لم تكن قد ولدت ساعتها أبداً، برغم أن هذا حدث في الوقت الذي كانت فيه أمها، الممثلة راحيل مركوس، حاملاً بها (وبالطبع، لم يكن هناك وقتها أولتراساوند ولم يكونا يعرفان أنهما سيلدان بنتاً، ترتسا). "القصيدة الوحيدة التي كتبها لي أبي فعلا هي "قصيدة حراسة"، حكت ترتسا.
وهذا هو كل الفارق بين ألترمان المبكر وألترمان المتأخر. بين البنت المتخيلة في قصيدة السعادة وبين البنت الفعلية في الحياة الفعلية في القصيدة الرائعة التي تتنبأ بالكارثة "قصيدة حراسة"، بين سعادة العالم وقلق الأب المحموم. كيف كتب مرة ألترمان في قصيدة أخرى بعنوان "الأب": "عالمه الأبدي، القلق/ كم هو عظيم همه ومدرك."
وهنا نصل لحوار كبير، بين الزمنين، من قصيدة "أشجار في المطر"، في ديوانه الأول، "نجوم في الخارج"، إلى "قصيدة حراسة"، تلك القصيدة المصيرية، الرائعة، في ديوان "احتفال صيفي"، ديوانه الأخير. نعم، الموضوع أصبح معروفاً. "قصيدة حراسة" كتبت لترتسا عندما كانت في أزمة ضخمة، وسافر ألترمان إلى الولايات المتحدة من أجل إعادتها للبلد، إعادة ابنته هائلة الحساسية، وعندئذ كتب لها "قصيدة حراسة"، والتي ليست فقط من ذرى القصيدة العبرية والعالمية، وإنما أيضاً القصيدة التي تحولت لتكون سيناريو انتحرت ترتسا وفقه أو سقطت إلى موتها. لا يمكننا قراءة هذه الأسطور بدون رعشة وقشعريرة. بالمناسبة، في هذه الحالة فحتى زاخ قد تفضل بالتأثر بها حتى أعماق روحه:
ها هي الريح ترسل يدها وبلا صخب
فجأة تنفتح نافذة ببطء في الظلام
قولي لماذا تضحكين مثل الخوف
قولي لماذا تتجمدين كالفرح
قولي لماذا العالم لا يزال غريبا هكذا
ونار وماء ينظران إليه من كل جانب
قولي لماذا ترتعش فيه حياتك
مثل عصفورة مرتبكة في كف
قولي لماذا
مثل عصفورة في غرفة تبحث عن كوة
وفعلا، فهذه العصفورة المرتبكة، شديدة الحساسية، الشاعرة ترتسا أتر (والتي كتبت من بين ما كتبت "قصيدة المحروسة"، وهي قصيدة ردت بها على "قصيدة الحراسة" لأبيها، و"الأسد الذي أحب التوت"، الأعلى مبيعا الأبرز للأطفال) اختارت الموت بالضبط وفق سيناريو هذه الأبيات التي كتبها أبوها والانتحار أو السقوط من النافذة "مثل عصفورة في الغرفة تبحث عن كوة".
اللغة السويدية واللاجئون
أحد الفروق الحاسمة بين بياليك وألترمان تكمن في علاقة كل منهما بنفسه: بياليك كان مليئاً بالإشفاق على نفسه ("تحت مطرقة آلامي الكبرى")، أما ألترمان فلقد أراد ألا يزعج أبداً العالم بأموره الذاتية، ولم يكتب عن نفسه كلمة واحدة مباشرة في قصائده. إن كان يشعر بألم (وكان يشعر بالطبع، بجانب السعادة، بعذاب وآلام، مثل البشر ومثل العالم) فلقد كان هذا بدرجة كبيرة ألم العالم، لا ألم نفسه. لقد رأى زاخ عيبا أن كلمة "أنا" تظهر قليلاً جداً في شعر ألترمان، ولم يفهم أن غياب الأنا عند ألترمان هو قبل قبل شيء شهادة على الغياب النادر للأنانية (نادر بشكل خاص بين الشعراء، والذين في معظمهم أنانيون فائقون). حتى عندما يتم ذكر كلمة "أنا" فهي لا تشير لألترمان شخصيا، وإنما الحديث عن شهادة سمعية ما أو شيء كهذا.
من المثير للاهتمام، بالمناسبة، أن شاعرة عملاقة أخرى بالعبرية، يونا فولاخ، قد شهدت عن نفسها أنها لم تكتب مرة واحدة قصيدة حب لشخص ما بعينه، وإنما دوما كانت قصائد الحب لماهيات إلهية أو متخيلة. حتى "الأنا" في قصائدها لم تكن أبدا "الأنا" الغنائية الشعرية، وإنما دوما الأنا في اتصال مع كيانات كونية ("أبدا لن أسمع صوت الرب الحلو"). تي إس إليوت أيضا كان هكذا. عنده أيضاً لا توجد "أنا" بالمعنى الشخصي الصغير الذي قصده زاخ. تقديس العلمانية، الأرضية، الحياة اليومية، يظهر ويعاود الظهور في قصيدة ألترمان، وهو أيضا جزء من نفس الافتتان المتواصل بالواقع. لذا فمن المميز بالنسبة لألترمان أن يقدس بطريقته العلمانية تل أبيب وجمالها وسحرها في نفس القصيدة الساحرة – الواعية – العبقرية: "في كل هذا يوجد بها شيء ما":
يقول رجال القدس:
نعم، تل أبيب، ليست إلا عجلة...
لا يوجد بها بروفيسورات بحجم الزيتونة
والأنبياء غير موجودين فيها إطلاقاً
تاريخ ليس لديها ولو لشبر
لا جدية بها. لا وزن.
صحيح جدا، يا سيدي ويا سيدتي
لا، ليس بها شيء.. لا شيء... لكن...
مع كل هذا يوجد بها شيء ما،
لأنه يوجد بها شيء ما...
أبداً لم يعد موجودا
وهو كله لها موجود
لأنه يوجد بها شرر ما
أبدا ليس مؤذيا هو
وثمة بها سحر ما
بشكل آخر لم يكون موجوداً...
صحيح، الحديث عن أغنية خفيفة، مثل تل أبيب نفسها، "لا جدية بها، لا وزن"، "ليس بها شيء"، ومع كل هذا، ثمة بها "سحر ما". وأكثر من هذا: هو يعبر عن إحساس عميق لا شبيه له، أصيل بشكل فريد ونادر بشكل فريد. إنه تقديس العالم وتقديس العلمانية. هذا الـ"شرر" الرائع والسحر الرائع الذي يعود إليه ألترمان ويحدده في الواقع.
بشكل عام، كان ألترمان هو عدو السنوبية رقم واحد، المليء بالمحبة الهائلة للناس الأرضيين – بدءا من عاملة الفندق و"ابنة النادل" في "كواكب بالخارج"، مرورا بمحبة السوق الكبيرة، الأكثر تورطا في محبة النساء، مثلما في قصيدة "السوق في الشمس" (مثلك أنا أيضا حتى الموت عاشق/ لكل صباياك ذوات الوجنات الحمر")! أو في "ليلة السوق" ("المساء يفقد بصره / وأنت تبلغين العشرين فحسب/سحرك في السوق يطغي/ على بكاء المناشير") مرورا ب"طفل نسيم"، وسائر محبات اليمينيين الكبرى في قصائده ("أين كبرت، يا حبيب؟/ على رصيف أمي تل أبيب/. أين كبرت في العالم؟/ بين مغربي وبين رصيف البحر") وحتى محبات الناس بشكل عام في كل بيوت المدينة ذات الطوابق في "احتفال صيفي": "انظر، كيف أنه في كل الطوابق/ على ضوء الكهرباء يسير/ رجال ونساء، كأنهم/ داخل كتب مفتوحة."
ليس بالصدفة كان ألترمان هو من احتج في قصائد "العمود السابع" على التمييز الذي انتهج في تنفيذ قانون العودة، مثلما في قصيدته الشهيرة عن المهاجر دنينو، والذي لم يتم التصريح إلا لخمسة من بين أطفاله السبعة بالهجرة ("قانون مرتاح وجبان" دعاه ألترمان). بشكل عام، ما يذهلنا اليوم لدى قراءة قصائد "العمود السابع" ليس فقط الشرارة الأسلوبية، الذكاء، القافية المكتملة دوماً، الإيقاعات الكلامية البلاغية الرائعة، وإنما أيضاً شيء أكثر جوهرية: درجة العدل ودرجة التوازن الصائب في كل موضوع تقريباً. من على بعد جيلين أو ثلاثة (مفترضين أن الجيل يمتد لعشرين عاما، وقصائد "العمود السابع" تم الابتداء في كتابتها عام 1943). تسهل رؤية لأي درجة رأى ألترمان الأشياء بوضوح عادل، مراراً وتكراراً.
مئات القصائد، وفي جميعها تقريباً (أو ربما في كلها فعلاً) كان ألترمان يرى بشكل صائب، يرد بشكل صائب، يفسر بشكل صائب، يتنبأ بشكل صائب. بهذا المفهوم، يمكن لأفضل قصائد "العمود السابع" أن تشكل لنا اليوم ميزاناً للتمييز بين المستقيم والملتوي، بين الخير والشر. هاهي على سبيل المثال قصيدة "اللغة السويدية"، التي يمتدح فيها ألترمان ويخلد السويديين الذين فتحوا أبوابهم أمام اللاجئين اليهود على الحدود الدنماركية في الحرب العالمية الثانية، بينما تجاهلتهم سائر الأمم أو أغلقت أبوابها:
ثمة دول في العالم كبيرة جدا
وتضم أماكن كثيرة للإيواء وللمبيت
ولكنها قبل أن تنقذ رجلا يغرق من الماء
تحب دوما النظر في القاموس.
طالما لغة قاموسها مزركشة كالفراشة
فثمة "حدود للقدرة" أو "القدرة على الاستيعاب".
فقط في السويد لا يزال حيا السلوك البربري
الذي يقدم للعابر كوب شاي وسريراً
ولذا فالجدران لا تتحرى
ولا تكثر من قواعد النظام
تكتب ببساطة: "الدخول مسموح"
وليغفر لنا الرب فقر أسلوبنا.
هل فهمت هذا يا إيلي يشاي؟ هل فهمت هذا يا من تطردون أطفال العمال الأجانب واللاجئين؟
وما الأكثر أهمية من قصيدة ألترمان الأخيرة "عندئذ قال الشيطان" التي اكتشفتها ترتسا أتر بعد موته، كنوع من الوصية الروحية، صرخ بها أمام التهديد الداخلي الأخطر على إسرائيل: فقدان الإحساس بالعدالة الذاتية لها في علاقتها بالفلسطينيين وبالعرب بشكل عام. فأي مجنون يسيل مخاطه عندنا يكرر ويشرح لنا كم أن إسرائيل غير عادلة في علاقتها بالعرب، كم أننا ضللنا وكم أننا أجرمنا. ولكن وفق قصيدة ألترمان، فهذه هي تجسيد مكيدة الشيطان لإظلام عقولنا ولكي ينسينا عدالة موقفنا (أمام العدو العربي، الذي لم يتوقف ولا مرة عن إبادتنا)
عندئذ قال الشيطان: هذا المحاصر
كيف سأتمكن منه؟
معه الشجاعة وموهبة الفعل
وأدوات الحرب والحيلة لديه
وقال: لن أنزع قوته
ولن أضع كباحا له ولا لجاماً
والخوف لن أزرعه في داخله
ولن أوهن يديه كما فعلت سابقا
فقط سأفعل هذا: سأظلم عقله
وأنسيه أن الحق معه
وأمام مقاطعة الممثلين وأساتذة الجامعة للمستوطنات، واضح أننا نسينا أن الحق معنا. هل كان ألترمان يتنبأ بهزيمتنا؟ هذا احتمال بالتأكيد. من ناحية ثانية، فألترمان كان يؤمن أن "أبناء الفقراء" سوف ينقذوننا، عندما ينتصر البسطاء "والذين عض كبرياؤهم لحمه"، وهم، وهم فحسب، من سيتم إيكال الإرث الروحي العبري لهم، كي لا يتآكل على يدي عثة النسيان:
من الشعب المضروب والمشقق
والذي ترتعش خوفا أمامه
لدى سماع كلمات الأتقياء
الأفكار واللغة المستنيرة
سيأتي أبناء الفقراء
وباتجاههم ستخرج التوراة
لهم وقوتهم متجددة
وكبرياؤهم عض لحمه
تننتظر، حتى لا تأكلها العثة
فكر الأمة ولغتها.
هؤلاء من سوف يحافظون أيضا على تراث ألترمان، وسينقلونه للأجيال القادمة، سويا مع العهد القديم، فصول الأباء، القصائد الأسبانية، وثيقة الاستقلال وسائر كنوز حياتنا.
___________________________________________________
الصورتان الأولى والثالثة للشاعر ناتان ألترمان، والثانية لابنته الشاعرة ترتسا أَتَر.