كيف تعامل الأدباء العبريون مع مدينة القدس؟ في هذا المقال، الذي كتبه الناقد دان لاؤور بصحيفة هاآرتس، نكشف شيئا عن العلاقة الإشكالية لليهود بمدينة القدس، عن مكانة المدينة في الديانة اليهودية وفي الأدب العبري، ولكن أيضا نكشف عما يتجاوز هذا: عن مكانتها في الفكر الصهيوني، كيف تحولت المحبة التي يكنها الإسرائيليون اليهود للقدس (أورشليم) إلى مبرر لطرد العرب، ولاحتقارهم ولاتخاذ مواقف شديدة اليمينية، خاصة بعد احتلال القدس الشرقية عام 1967، وذلك عن طريق أربعة من رموز الأدب العبري الحديث، الشاعران القوميان ناتان ألترمان وأوري تسيفي جرينبرج، والروائي الحائز على نوبل شموئيل يوسف عجنون، والشاعر الذي ينتمي لتيار ما بعد الصهيونية "ميئير فيزلتير". هؤلاء الأدباء يشيرون في أعمالهم إلى القدس، وبالتحديد المدينة القديمة فيها، وإلى التنافس بينها وبين تل أبيب، المدينة التي يتم تصويرها باعتبارها أكثر علمانية وانفتاحا وتحررا.
دان لاؤور
ترجمة: نائل الطوخي
ناتان ألترمان: القدس ليست عربية!
دعونا نتخيل المشهد الختامي للكوميديا الموسيقية "مستر كيبوتس"، والتي كتبها المسرحي مارتن روست، كما عرضت على مسرح "هامتاتيه" في صيف 1943. بعد أن تبقت مشاكل مختلفة في حبكة المسرحية، تجتاح المنصة مجموعة من أعضاء الكيبوتس في طريقها للعمل. المسيرة مصحوبة بتردد "أغنية العمل" التي كتبها ناتان ألترمان – مؤلف أغاني العرض – ولحنها ناحوم نيردي. الأبيات الافتتاحية للأغنية هي كالتالي:
أزرق بحر المياه
رائعة القدس
أضواء السماء
على النقب والجليل
ثم:
يا شمس، أضيئي لنا، أضيئي
مر باتجاهي أيها المحراث
احرث مستوطنة تيليم وعُد
حتى يظلم الليل
وتنتهي الأغنية بالكلمات التالية:
يا أغنية، يا أغنية
اصعدي!
بالمطارق غني
بالمحراث رنمي
الأغنية لم تنته. لقد بدأت لتوها!
كم يبدو الأمر غريباً، هذه واحدة من الحالات الفردية –تقريبا الحالة الوحيدة المحفورة في الذاكرة – والتي يشير فيها ألترمان، وقد عده موشيه شامير طويلا "شاعرا قوميا"، إلى مدينة القدس. هناك إشارات أخرى، ولكنها تقع على هامش شعره: في ملحق "رجاعيم"، والذي صدر في الثلاثينيات بصحيفة "هاآرتس"، يتم إدراج ثلاثة قصائد، إحداها "عن موضوع مقدسي"، (هذا هو العنوان) هي قصيدة احتجاجية على ارتفاع أسعار الشقق في المدينة، أما الأخريان فهما محاكاة ساخرة لقصائد المديح الصهيونية للقدس، وهذه القصائد الثلاث كتبها ألترمان، بالمناسبة، بعد زياراته القليلة للمدينة.
في واحدة منها "بزقاق مقدسي"، -والمنشورة في 12 مارس 1935 – مكتوب:
على أبواب يافا صمت له رائحة، سور طويل، عناكب نابتة فيه
نجمة داود مسنودة على الرمح
كما علمنا أوري تسيفي جرينبرج
وكذلك:
القدس – غريبة وجميلة، متى سوف نعوّد عليها جِراء نظراتنا؟
ثمة رغبة في الانفجار فجأة في النواح
أو السكوت الأبدي على القهوة والنرجيلة
في هذه القصيدة والقصيدة الثانية، المسماة "القدس"، تبدو القدس كمدينة غريبة، تثير بالكاتب إحساسا بالبعد والاغتراب، سواء بفضل الثقل التاريخي الكامن فيها، أو بسبب طابعها الشرقي –المتوسطي، أو بسبب الشعرية المصاحبة لها، التي لا تسمح باللمس المباشر وغير الوسيط مع الأشياء.
يكثر الشاعر حاييم جوري من الحديث عن جولة قام بها وقتها مع ألترمان في أطراف شارع يافا، بجوار السور الذي كان يفصل عندئذ بين قسمي القدس. كان الوقت مساء، نظر ألترمان إلى الأسوار الأسمنتية بعدم ارتياح، ولدى إشارته باتجاه القدس الشرقية، ومن هناك باتجاه مملكة الأردن، صدر شيء ما مثل: "من هنا وحتى شنجهاي- آسيا. ومن وادي العربة حتى نهر اليرقون – إسرائيل!"
فعلا، فلقد كان ألترمان شاعر تل أبيب، الشاعر بألف لام التعريف لتل أبيب. هاجر إلى إسرائيل مع والديه في 1925، وبالتحديد عندما تحولت تل أبيب إلى مدينة حقيقية، ومن هنا فصاعداً قام بالتعبير بشكل فني عن المكان في الأعمدة والأغاني والقصائد نفسها، في إشارة صريحة أحيانا لاسم المدينة، وبشكل مجرد في أحيان أخرى، لدى حديثه عن "المدينة" أو "الشارع."
في عام 1999، بعد موت الشاعر بعقدين، أصدرت دار هاكيبوتس هامئوحاد ديواناً شعرياً وصوراً في حوالي 140 صفحة بعنوان "سيراندا تل أبيبية": "وفيه تختلط قصائد ألترمان عن تل أبيب، مع صور ألكس ليبك. والأمثلة التي يمكن استخراجها من هذا الكتاب كثيرة، على سبيل المثال بيتان شهيران جدا من قصيدة "ضيف"، والتي تم ضمها في سلسلة "سكتشات تل أبيبية" والمنشورة في الملحق المسائي لصحيفة "دافار" عام 1934:
مدينتي تل أبيب، فقط أنت تعرفين
إلى أي درجة مرحة وجميلة وجيدة أنت!"
هذا التطور في كتابة ألترمان وصل لذروته في سلسلة "قصائد مدينة الحمامة"، والمنشورة في 1957. كانت هذه هي التجربة الوحيدة لشاعر عبري يقوم بتأليف ملحمة عن قيام دولة إسرائيل. هي ملحمة شهيرة، لأنه على طول العمل لا يشار إلى اسم القدس أبداً، ولا حتى في القصيدة المكتوبة عن معارك لطرون. في مقابل هذا فتل أبيب –العلمانية، الحديثة، غير الأسطورية فعليا – هي الحيز الطبيعي والرمزي الأكثر تماهيا مع أرض إسرائيل الجديدة ومع مشروع الإحياء الصهيوني. عندما يتحدث ألترمان في "القصيدة الافتتاحية" عن "الزمن عندما يبني مدينة، ويخلق البلد ولغتها"، فالإشارة بشكل صريح هي للمدينة العبرية الأولى. في مرحلة أكثر تأخرا يكرس ألترمان لتل أبيب فصلا كاملا، يدعوه "مدينة اليهود"، وفيه يوسع النطاق.
يكتب من بين ما يكتب:
مدينة بلا مخبأ ولا ذاكرة، مضروبة بجفاف حبات الرمل
التي تحملها الريح كالسهام. مدينة البائع الجوال والبرجوازي
فقط ليل نيسان يغرقها برائحة الإزهار الثقيلة والرخيصة
وهي أمامها مكشوفة وعلمانية
كهرباءها حادة مثل الشوك والورد البري".
وكذلك:
لم يكبر فيها أدباء جيل الإحياء، قالوا أن الصمت جميل
ولكنهم لا يزالون على بابها يقفون كالفقراء
ومنهم من يديرون لها ظهرها
وهي ألقت ضوضاءها فجأة على شباك لغتهم القديمة
وتحولت إلى نظرة ساحرة على لغة الشارع ولغة الصحافة
أي، بالتحديد الطابع الخفيف، المتحرر، لتل أبيب، كلامها العبري، كونها متحررة من الذاكرة التاريخية وقدرتها على إقامة حياة يومية للعادات اليهودية، بدون ادعاء أو موقف تاريخي، هو ما يعطيها في عينيه الأولوية في حلقات قصة النهضة الصهيونية.
كل هذا تغير تماما بعد حرب الأيام الستة: اكتشف ألترمان عندئذ أرض إسرائيل الكاملة، ومنذ أن اكتشفها اكتشف أيضا جبل الجريزيم وجبل عيبال، والخليل وعناتوت، والأماكن المقدسة، ومغارة المكفيلاه، وقبل كل شيء: القدس والحائط الغربي. في مقالاته التي كانت تنشر أسبوعيا تقريبا بصحيفة "معاريف"، والتي جمعت في كتاب "الخيط المثلث"، جعل ألترمان القدس تقف على رأس أولوياته، وأصبحت الإشارة تتم عرضا فقط إلى تل أبيب من الآن فصاعدا. يتحدث ألترمان بصورة انفعالية تقريبا عن "تجديد الارتباط اليهودي بأزقة القدس العتيقة". ويرفض بعنف أية مطالبة عربية بملكية القدس، ويطالب بالإشارة العلنية والبارزة لـ"يوم تحرير القدس الكاملة وخلاص جبل البيت والحائط الغربي." في نفس المناسبة يشير إلى أن: "قوة موقفنا في موضوع القدس هو أن عليه ألا يكون منفذاً، وإنما واجب إضافي بخصوص ما بخارجها، عليه ألا يكون المبدأ المكتفي بذاته، وإنما أن يكون الفرضية الأساسية وراء التصديق على ضرورة وجودنا وحقنا في الوجود بأرض إسرائيل." على الحائط الغربي، الذي لم يشار إليه أبدا ولو حتى في كتاباته التي سبقت 1948، يكتب ألترمان أن هذا هو "بقية مكان التعبد، بقية كل ما هو سام في الرموز الخصوصية والعقيدة القوية." بل ويطالب الجمهور العلماني بالاعتراف بأن "المضمون الديني هو الذي يقف اليوم أيضا خلف حائطنا، متلصصاً من بين الشقوق." (وفق نشيد الأنشاد، الإصحاح الثاني والتاسع).
أوري تسيفي جرينبرج: القدس عاصمة إسرائيل
حالة أوري تسيفي جرينبرج هي حالة مختلفة تماماً، هو الذي سخر منه ألترمان في القصيدة المذكورة. أكثر من مرة كان جرينبرج يتساءل – مشيراً إلى نفسه – كيف يمكن أن يكون "هذا الجسد المقدسي مولودا في بولندا؟".
منذ هجرته للبلد عام 1923 وحتى يومه الأخير كانت القدس محورا أساسيا – شخصيا وسياسيا وأسطورية وربما ميتافيزيقياً أيضا – في شعر وفكر أوري تسيفي جرينبرج. إحدى كتاباته الأولى في البلد كانت قصيدة "قدس الأسفل"، والتي كان فصل أساسي منها هو "القدس الخاضعة للتحليل"، وكان بمثابة نواح على خراب القدس، ينبع من عمق علاقة الشاعر بالمدينة:
القدس المدينة المقدسة، لملكوت الروح، أو لطين اللحم، أو لصلاة الوحيدين
وأيضا:
لي القدس جثة أمي الخاضعة للتحليل: صخرة صخرة عضو تم بتره أو قطعه
موضوع القدس تم طرحه في سياقات مختلفة في "كتاب التوبيخ والعقيدة"، وهو الديوان الأكثر تسيسا لأوري تسيفي جرينبرج. قيلت في المقدمة المنهجية للكتاب أشياء صريحة تتصل بمكانة مدينة القدس، وتم فيها التطرق للصراع اليهودي العربي الذي أخذ مكانا على جدول اليوم منذ أحداث 1929:
بإحدى يديّ، قيود العرب والطربوش المنتصرين
وباليد الثانية: نجمة داود ودرعه
وتحتها جبل البيت. جيوش إسرائيل المهللة
من هنا وهناك مدن محصنة، غابات، حقول خصبة
طبريا هي الأم
وابنها الذي يتطلع لها
هو الجولان مع بنتيه
والقدس التي تتجدد فيها أغنية النبوءة
حكمنا هو: إما القوة، الشدة، مثل مملكة بيت داود، أو جحيم الذل: المملكة العربية
أي أن القدس، المدينة التي يقع في قلبها جبل البيت والتي تحمل معها ذاكرة بيت داود، يكشف عنها جرينبرج باعتبارها مركز الصراع القومي على أرض إسرائيل، وقصة النهضة الفعلية والرمزية للمدينة هي جزء جوهري ولا ينفصل عن قصة النهضة الصهيونية (بالمناسبة، هذه الأبيات كتبت في نهاية 1936). النبوءة المقدسية لجرينبرج يتم التعبير عنها بشكل قوي في الأبيات الختامية للكتاب، والتي يعلن فيها الشاعر عن هزيمة بريطانيا الكبرى وعن خلاص المدينة والأرض:
وأنا أرى فصيل الشحن الجوي
على وجه جبل البيت يدور في يوم العيد
أرى جبل البيت كسيناء مشتعلة
وفي الأبواق ينفخ
وعلم داود – في برج داود
بين هذا وذاك تظهر في الكتاب قصيدة "حقيقة واحدة وليس إثنان"، والتي أصبحت هي النشيد الخاص بأتباع جرينبرج، وبرغم أن القدس لم تكن "موضوعا" في القصيدة، فالوزن الذي ينسبه لها الشاعر كامن في البيتين اللذين يشكلان قلبها. مقابل حقيقة الصهيونية الاشتراكية يقترح جرينبرج حقيقته الخاصة ("وأنا أقول")، والتي هي، في رأيه، الحقيقة المطلقة وليس هناك غيرها. ولأجل دعمها يقول:
وأنا أقول: حقيقة واحدة وليس اثنتان
كالشمس الواحدة ومثلما أنه ليس هناك قدسان
أي أن القدس هي خبرة تاريخية خاصة، واحدة وليس هناك غيرها، وبهذا المعنى فليس هناك ما يشبهها ولا ما قد يكون بديلا عنها.
يهوشواع هاشل ييفين، وقد كان الحليف السياسي لجرينبرج في "حلف البريين"، وأصبح المحلل شبه الرسمي لكتاباته، نشر في 1938 كتاب "أوري تسيفي جرينبرج الشاعر المشرع." والذي حاول فيه ترجمة "كتاب التوبيخ والعقيدة"، إلى مذهب سياسي منتظم. في الفصل الذي قام فيه بتحليل "المبادئ الإثني عشر لقانون التحرر" كرس ييفين مادة صريحة لموضوع القدس. وكتب أيضاً في المادة الثامنة: "إقامة مملكة إسرائيل معناها – إقامة المملكة بالقدس وكل مقدسات الأمة التاريخية. أي تجاهل للقدس، أي تنازل عن مقدسات الأمة هو خيانة قومية. خيانة الحائط الغربي (بعد أحداث 1936) كانت، وفق الشاعر، أُماً لكل خياناتنا – وسابقة لمصادرة القدس من حيز سلطتنا لزمن كبير.
جرينبرج كرر موضوع القدس في أعقاب حرب الاستقلال [حرب 1948] والتي انتقل فيها القسم الشرقي من القدس والمدينة القديمة كلها إلى مجال المملكة الأردنية، ولفترة ما كانت تل أبيب هي العاصمة الفعلية للدولة الشابة ومركز نشاط مؤسسات السلطة. فقدان القدس القديمة، ونقل مركز الثقل القومي من القدس لتل أبيب، أثارا انتقادات حادة من جانب الشاعر، كان ممزوجاً، بالطبع، بالإنكار المبدئي لفكرة تقسيم البلد. "هذا المركز الحساس يقع دائما في القدس، وحولها نسج جرينبرج حزمة ضخمة من القصائد المليئة بالغضب واللين." كما كتب دان ميرون عن قصائد جرينبرج المنشورة في السنوات من 1948-1951، بصحيفة "حيروت" ومجلة "سولام". وأضاف: "قصائد القدس التي كتبها جرينبرج في هذه الفترة هي قصائد الانشطار النفسي القومي، هي قصائد عن احتياج النفس القومية المنشطرة لأن تعيد توليف قسميها."
في قصيدة "عن فقدان القدس" عبر جرينبرج عن مشاعر الإحباط والعجز بسبب فقدان المدينة القديمة وأعلن: "لقد خنّا القدس وأخطأنا بحقها". بل وأكثر من هذا، فإن الاعتراف بإقامة دولة يهودية مركزها السياسي والروحي ليس القدس وجبل البيت، وإنما تل أبيب وشاطئها، يحدد في رأي جرينبرج واقعا لا يتحمله العقل – كما يكتب في "قصيدة عن القدس":
للقدس لحمي ودمي
أبدلا من القدس تل أبيب؟ (كقول يعقوب لراحيل: "أبدلا من الرب أنا؟"، التكوين، 30، 2).
أي أن استبدال القدس بتل أبيب هو في الواقع خيانة لحلم الخلاص، انفصال خطر عن التسلسل القديم للتاريخ اليهودي المتماهي مع القدس. بل وطالب جرينبرج (في قصيدة "القدس المنتقمة") باحتلال المدينة القديمة ووضعها تحت السيادة الإسرائيلية –
أسرعوا اذهبوا للحرب دفاعا عن أمنا المحاطة بالسور
عالم التشبيهات الموجود في هذه القصائد يتفاقم في الخطاب الأول الذي ألقاه أوري تسيفي جرينبرج (عضوا للكنيست) قبل جلسة الكنيست بتل أبيب في 9 مارس 1949. اتهم جرينبرج القيادة الوطنية بأنها السبب في فقدان القدس القديمة، والتي هي، في رأيه، "القدس الحقيقية"، حيث أن: "قدس الأمة – هي داخل السور، وفيها جبل البيت، والذي يتجاوز الأسوار، هذا هو تلقيح القدس." ولهذا طالب بتغيير الوضع من أساسه: "أعرف فعلا أن ثمة تنازلاً. وليس من الضروري أن أشرح للكنيست، لماذا يكون علينا التنازل عن عاصمتنا الحقيقية؟ ماهي الضرورة، ماهي القوة التي لا يمكن مقاومتها، التي تضطرنا لتسليم القدس"؟ وقال أيضا: "الهدف النهائي هو الدولة اليهودية، محاربة المستعبد البريطاني، وأيضا الحرب الدموية دفاعا عن القدس."
في هذه المناسبة شرح جرينبرج لأعضاء الكنيست نظرته الجغرافية، والتي يحتفظ وفقها للقدس بدور أساسي: "من يتحكم في باريس، يتحكم في بوردو بالتالي، ومن يتحكم في القدس، يتحكم في تل أبيب." بل وحذر أن التنازل عن القدس سوف يؤدي لتأسيس ما أسماه بـ:"فلسطين العربية"، والتي سوف يجد اليهود فيها أنفسهم يعيشون كأنهم بداخل الجيتو. وإذا كان ذلك كذلك – كما تساءل جرينبرج – فلماذا نملك دولة بدون القدس؟"
شموئيل يوسف عجنون: ضد تل أبيب!
حتى شموئيل يوسف عجنون، بطريقته، يلعب في نفس الساحة. في كل ما يتصل التشبيهات العامة والأدبية يتماهي عجنون بشكل قاطع مع القدس، ولكن هذا التماهي هو ابن رحلة شخصية وروحانية استمرت لسنوات. بعد هجرته الأولى إلى البلد في عام 1908، أقام عجنون بحي نفيه تسيديك بيافا، و التحم بالنخبة الثقافية والسياسية للاستيطان المتركزة في هذه المدينة. كان شاهداً أيضاً على تأسيس مدينة تل أبيب، بل وتطرق لهذا الوضع في عدة سياقات. من حين لآخر كان عجنون يقوم بزيارات للقدس وسحرته المدينة بالتأكيد، وفي مرحلة ما اختار السكنى بها لشهور متواصلة. ولكن فقط بعد هجرته الثانية للبلد عام 1924، بعد احتراق بيته بباد هومبورج وأثناء مسيرة "التوبة" التي مر بها بعد الحريق، اتخذ عجنون قرارا واعيا بعدم العودة ليافا (أو، لمزيد من الدقة، لتل أبيب) – والتي كانت عندئذ المسكن الطبيعي لأغلب الأدباء، واختار أن يقيم بيته في القدس بالتحديد.
يكفي أن نتأمل عددا من الرسائل التي أرسلها لزوجته إستر في الأسابيع الأولى خلال إقامته المستأنفة بالبلد، حتى نفهم ما مر به بهذه الأيام. في رسالة بتاريخ 3 ديسمبر 1924 كتب: "وصلت أمس تل أبيب، ضوضاء شديدة ورهيبة. البيوت تلوح بالمئات. أمريكا! كم أحن إلى القدس." في 12 نوفمبر كتب: "قالوا لي بالأمس أن بياليك يتعجب لأنني لم أزره. دوافع زيارتي القدس وليس تل أبيب تشير إلى أفكاري." أو على سبيل المثال، في خطاب بتاريخ 25 نوفمبر: "خلال هذا جاء بياليك، والسيدة بياليك.. وأغرياني بالذهاب معهما لتل أبيب واستأجر بياليك سيارة ومكانا خاليا من أجلي، ولم أستجب لهما. سحبني بياليك بالقوة إلى السيارة وقلت أنا في نفس الوقت: لا! وظللت في القدس، لأنني أحب القدس أكثر من أي مكان بأرض إسرائيل."
يفسر هذا في خطاب بتاريخ 10 ديسمبر: "كما هو معروف فأنا أريد العودة للقدس، برغم أنه ليس لي أي دليل للشقق، وبرغم أن الحياة هناك أكثر صعوبة.. في تل أبيب كان يمكنني العثور على حجرة مع كل التسهيلات. ولكن قلبي كان أكثر انجذابا للقدس. ولكنني سوف أشرح لك الحقيقة، في القدس أنا أكثر من البكاء والذهاب للأماكن المقدسة، ولا أعثر على هذا الإحساس الجميل والقدسي الطاهر الذي يدب بقلبي في أي مكان آخر." وفي نفس الخطاب يكتب: "بالأساس أريد أنا حجرة بالمدينة القديمة، لأن أشواقي للأماكن المقدسة لا تحصى."
بعد هذا بعشرين عاما، في 1945، نشر عجنون رواية "أمس الأول"، والتي تعد هي حساب النفس الأدبي الأكثر شمولا وعمقاً المكتوب عن العصر الصهيوني. يواجه عجنون في هذه الرواية القدس بيافا، ويعرضهما كحيزين جغرافيين وثقافيين مختلفين، وفعليا فهو يعرضهما كنموذجيين لطريقتي حياة مختلفتين للوجود اليهودي الصهيوني بأرض إسرائيل (بين قوسين نشير إلى أن الرواية، والتي تصف واقعا تاريخيا قبل الحرب العالمية الأولى، تنشغل في حقيقتها بيافا، ولكن المدينة التي كمنت في وعي عجنون أثناء كتابة الرواية كانت تل أبيب). كانت هذه إذن قصة المدينتين، الأولى عاصمة الاستيطان الجديد، المدينة المتوسطية الساحرة والجذابة، في مقابل القدس، وهي "مدينة الحالة التي تفوق جميع المدن، والتي لا تغيب السكينة عنها أبداً."
العودة ليافا – تل أبيب تتصل بقصة تفكك وهجر التقاليد التي تؤدي لتشكل حياة بلا مضمون، أما الانتقال للقدس فيتصل برحلة التوبة والارتباط المتجدد بالتسلسل اليهودي التاريخي، وهو بالضبط ما حدث لعجنون نفسه. يرسم عجنون إذن المكانين – المدينة الصخرية الجبلية، في مقابل مدينة الرمال والشواطئ – لأجل ترميز الصراع بين الطابع العلماني والحديث وبين العالم المشبع كله بالتاريخ والتقاليد وذكريات الماضي، بين المكاني والحالي وبين ما بدا وكأنه يتجاوز الزمان، بل وخالد. صحيح أن القدس هي المكان الذي عادت إليه اليهودية الحريدية، والتي لا يتسامح معها المؤلف في الرواية، ولكنها أيضا حيز يحمل شحنة ثقافية وتاريخية تكسبها بعداً من القداسة.
ساء حظ بطل "أمس الأول"، يتسحاك كومار، وهو رجل عادي، وجد نفسه في قلب صراع يهدده بالدمار، وبهذا يكشف المؤلف عن البعد المأساوي لمسيرة الخلاص الصهيونية، وهو البعد الذي يعتبره الحقيقة التاريخية للعصر. بل أن عجنون، مثل جرينبرج، يبدو هو أيضا بوصفه "جسداً مقدسياً" ولد في بولندا، ولهذا فهو يرجّح كفة أغلب قصصه لصالح القدس، فهو، من بين جميع أدباء جيله، أفضل من وصف التنافس بين المدينتين واستخلص بحدة ودقة شديدة المعنى الأيديولوجي والأخلاقي الكامن في هذا الاستقطاب.
ميئير فيزلتير: حيفا تدخل اللعبة
على خلفية هذه الكلمات من المهم أن نقرأ قصيدة ميئير فيزلتير "قصيدة عن القدس" والموجودة في كتابه "مختصر الستينيات"، 1984:
إذا لم تكن القدس، فما الذي سيفعلونه بقصيدة عن القدس؟
إذا لم تكن القدس، فليغنوا الآن في مكان آخر.
إذا لم تكن تل أبيب، فما الذي سيفعلونه بقصيدة عن تل أبيب؟
إذا لم تكن تل أبيب، فليغنوا الآن في حيفا.
وبعد هذا ستعود تل أبيب من جديد، وستزهر القدس من الصخرة
بل وستمتد حيفا على الكرمل كالمعمار عربي.
وسوف تقوم الشمس الكبيرة بتقبيل كل هذه الأماكن، كأنهم أطفال ضلوا ثم عادوا للخير.
وسوف يكون الجو دافئا وهادئا في أماكننا
ظاهرياً، تبدو القصيدة كأنها مقولة ضد - قومية تنفي المكانة الخاصة للقدس في الوعي القومي والصهيوني، والتي حظت بالتمثيل والتعبير من منظورات مختلفة، على سبيل المثال في كتابة أوري تسيفي جرينبرج أو حتى في كتابة عجنون. حيث أن عنوان القصيدة ليس إلا "قصيدة عن القدس"، وهو ما يثير الترقب الذي يؤدي لهذا التفسير. وربما ارتبط بها هذا المعنى بسبب مقال تحريضي عن القدس نشره دان ميرون وجاء الكتاب في أعقابه، وفي كليهما قام باستخدام عنوان قصيدة فيزلتير "إذا لم تكن القدس" 1985.
ولكن بالنسبة للقصيدة محل البحث فهناك تكملة تتوجه إلى تل أبيب: "إذا لم تكن تل أبيب، فما الذي سيفعلونه بقصيدة عن تل أبيب؟" واضح أن فيزلتير لا يقوم فقط بالتقليل من شأن أسطورة القدس، ولكنه أيضاً، وبشكل لا يقل عن هذا، يقوم بالتقليل من شأن أسطورة تل أبيب كرمز للإحياء الصهيوني، كما هو الحال مثلاً في قصيدة ناتان ألترمان. يرسم فيزلتير إذن وضعاً افتراضياً، وضعا تتوقف فيه هاتان المدينتان، ظاهريا، عن التواجد في المعنى والمضمون اللذين أعطتهما لهما الشعرية الصهيونية، والتي تعكس – من وجهة نظره – وعيا كاذباً. أو "وبعد هذا ستعود تل أبيب من جديد، وستزهر القدس من الصخرة"، وحتى حيفا – التي تحظى فجأة بمكانة مشابهة "ستمتد كالمعمار عربي" (وتنبغي الإشارة هنا إلى أن حيفا هي مدينة عربية أصلاً.)
إذا كان هذا هو ما سيحدث فعلا، فلسوف تتجسد نبوءة آخرة الأيام لدى الشاعر: حلم الأرض الهادئة والجيدة، أرض السلام الأبدي، التي ستزهر فيها هذه الأماكن كمواقع طبيعية، بريئة من السياسة ومن تهديد الذاكرة الجمعية: "وسوف تقوم الشمس الكبيرة بتقبيل كل هذه الأماكن.../ وسوف يكون الجو دافئا وهادئا في أماكننا."
هذه الرؤية، التي تعبر بشكل واضح عن مزاج "بعد صهيوني"، تفكك في الواقع الانقسام بين القدس وتل أبيب، إذ تنكر بشكل مسبق المعنى الذي تم إلصاقه لهاتين المدينتين في الفكر الصهيوني وفي قطاعات واسعة من الأدب العبري الحديث. في هذه الحالة يصبح السؤال الاستفزازي والمتحدي لأوري تسيفي جرينبرج "أبدلاً من القدس تل أبيب؟" – والمعبر عن التوترات الروحانية والأخلاقية العميقة التي تقع في قلب الثقافة الصهيونية – سؤالاً لا يتصل بالواقع. هكذا يقترح فيزلتير، في فعل محكم وماكر من تفجير الأبقار المقدسة، بديلا له.
المقال المترجم تم نشره في مجلة الثقافة الجديدة، عدد شهر يناير، 2010.
انهم مخلصين بدرجة كبيرة
ReplyDeleteبتلك الأدبيات المصنوعه
ReplyDeleteيحاولون لى رقبه الحقيقه
كى تكون القدس فى قلب قلب تراثهم حقيقه