ليس
نحن تماماً، لكنه ليس بعيداً جداً
كيف
شاهد الإسرائيليون الأفلام العربية
نائل
الطوخي
كان
التليفزيون الإسرائيلي يعرض في السبعينيات والثمانينيات فيلماً عربياً مساء
الجمعة، اجتمعت العائلات الإسرائيلية وقتها حول التليفزيون لتشاهد وتبكي وتضحك وهي
تستعد لاستقبال السبت.
عن
هذه التجربة المشتركة بين جموع الإسرائيليين عُرض مؤخراً فيلم "فيلم
عربي" فى إسرائيل، كتب الفيلم وأخرجه سارة تسفروني وإيال ساجي بيزاوي، ويقوم
الأخير بدور الراوي في الفيلم أيضاً، كما يدير حوارات مع ضيوف الفيلم، ومنهم أفراد
عائلته المهاجرين من مصر، وأبرزهم أبوه، شلومو ساجي بيزاوي، الذي يهدى الفيلم له.
الحنين
هو العنصر المركزي في الفيلم، بدءاً من حنين اليهود الشرقيين للبلدان العربية التي
هاجروا منها وهم يشاهدون الفيلم، حتى حنين الإسرائيليين الحاليين للأفلام العربية
التي كانت تعرض ليلة السبت في السبعينيات. يبدأ الفيلم بحوار يجريه إيال مع أبيه:
"الفيلم العربي يوم الجمعة كان شيئا مميزا، كأنه كان لقاء أسبوعياً للعائلة.
كانوا يحضرون، يجلسون، يستعدون للفيلم. جدتك، تخيل لو لم نضع لها الفيلم
العربي... لا يمكن (يضحك). كان ذلك كأنك
تعود إلى علاقتك السابقة، مع الوطن الأول".
بعد
هذا اللقاء ينتقل إيال إلى بيت خالته، نرى على الشاشة عبد الحليم حافظ وهو يقود
الدراجة في فيلم "معبودة الجماهير" ويغني، ثم يتكلم الراوي، إيال نفسه:
"إذن بالنسبة لعائلتي، كان الفيلم العربي أشبه بزيارة إلى الوطن. في الخارج
كانت مصر العدو اللدود لإسرائيل. لكنها في بيتنا المصري كانت عبارة عن لغة وفكاهة
وأفلام تخاطب قلب جدتي. كان الفرق بين البيت والخارج بارزا جدا. بحيث تخيلت أن
بيوت خالاتي تقع في مصر والطريق إليها كأنه الطريق من بات يام إلى القاهرة".
يشرب مع خالته القهوة ويتحدث معها عن ذكرياتها منذ مجيئها من مصر لإسرائيل. تشير
إلى أن معظم أطفال اليهود الشرقيين كانوا يخجلون من أصول عائلاتهم، ولكن في بيتها
لم يكن الأمر هكذا. لم يكن في الأمر ما يخجل، تقول. خالته اسمها أفيفا، وكان أبوها
سعد يعقوب ملكي، رئيس تحرير جريدة الشمس اليهودية الصادرة من القاهرة والتي أغلقت
عام 48 وهاجرت العائلة بأعقاب هذا في العام التالي لإسرائيل.
اتفضلوا اتفضلوا، عالدكان وادخلوا
بعد
67، ومع ضم إسرائيل لأراضي الضفة الغربية وغزة، تولدت رغبة لدى إسرائيل في اجتذاب
قطاعات أوسع من العرب الخاضعين للاحتلال، وتزامن هذا مع إقامة التليفزيون في
إسرائيل، بقناته الوحيدة. بدأت القناة في البث بالعربية والعبرية، مع برنامج ثابت
في مساء الجمعة، ليلة السبت، يُعرض فيه فيلم عربي، كما يحكي سليم فتال، مدير
البرامج العربية آنذاك.
هكذا
بدأ الأمر بمحاولة اجتذاب العرب لمشاهدة التليفزيون الإسرائيلي، وانتهى بأن تجربة
مشاهدة الفيلم العربي أصبحت تجربة مشتركة لدى اليهود في إسرائيل، سواء اليهود
الشرقيين القادمين من البلاد العربية، أو الإشكنازيين القادمين من البلاد
الأوروبية، بالإضافة للفلسطينيين بالطبع.
يضيف
فتال: "القرار الأول لحكومة إسرائيل بإقامة تليفزيون كان أن يبث التليفزيون 4
ساعات في اليوم، 3 ساعات منها بالعربية وساعة واحدة بالعبرية. أهم شيء يمكن فعله وقتذاك
كان تجنب الدعاية السياسية. الفيلم العربي و[برنامج] "سامي وسوسو" وكل
هذه المجموعة من البرامج التي كانت تحت إشرافي تناولت موضوع تقريب العرب إلينا،
وليس عرض قضايا سياسية عليهم، فعلوا هذا بالأخبار، ليس عندي". وتقطع الشاشة
على مشاهد من برنامج بالعربية أنتجته إسرائيل بعنوان "حكايات خليل"،
ونرى فيه المغني ينادي على الأطفال ليدخلهم دكانه ويغني لهم: "اتفضلوا
اتفضلوا، عالدكان وادخلوا".
في
البداية كانت الأفلام تُعرض بدون ترجمة للعبرية، وأغضب هذا اليهود الذين أرادوا
ترجمة، وبعد نحو عام وصل إلى منصب مدير عام سلطة الإذاعة شموئيل ألموج الذي اعترض
على وضع الترجمة بالعبرية. كانت وجهة نظره أن الترجمة العبرية للبرامج العربية،
والعربية للبرامج العبرية، سيخلقان دولة ثنائية القومية، وقرر الفصل التام بين العربية
والعبرية. يضيف فتال: "في نهاية الأمر طبعاً تراجع عن رأيه، ليس بسبب ضغطي،
بل لأن الحكومة لم تستطع مواجهة ضغط الجمهور في الكنيست، لم يتمكنوا من مواجهة ضغط
الجمهور وكان واضحا أنه كان قرارا خاطئا منذ البداية (يضحك) يقولون بأن شمعون
بيريس كان واحدا من جماهيرنا الذين شاهدوا الفيلم العربي أيام الجمعة." ويعلق
الراوي: " فيما كانوا يخططون للحرب القادمة مع مصر لم يكن كبار القادة في
الدولة يفوتون الفيلم العربي يوم الجمعة، شمعون بيريس، عيزر فايتسمان، وحتى وزير
الحرب موشيه ديان". كانت النتيجة أن الجميع دخل دكان الأفلام العربية، ليس
الفلسطينيون فحسب، وإنما أيضاً قادة دولة إسرائيل.
في
المشهد التالي نرى لقاء مع آسي ديان، ابن موشيه ديان، يتحدث عن أبيه وقت عرض
الفيلم العربي ليلة السبت: "عندما كان أبي أثناء توليه منصب رئيس الأركان، لا
يهم، وزير الزراعة، وزير الدفاع، كان يصل إلى البيت، يلغي كل شؤون البلاد. في تلك
اللحظة كان الوقت المناسب، لشن حرب يوم الغفران الثانية، كانت تلك المفاجأة
الكبرى. .. يجلس على أريكته ويحركها نحو التلفاز لمسافة كهذه تقريباً، ليرى جيداً،
كانت وظيفتنا الجلوس في صمت وعدم إزعاجه حتى لو وردته مكالمة من جولدا، لا أعرف
ماذا، من شخص ما، (ويقلد صوت جولدا مئير) آسي، أين والدك؟ أبي مشغول في... إنه
يحفر الآن في موقع أثريات ما".
بطاطس السينما
كانت
لدى اليهود الشرقيين أسباب وجيهة، تتعلق بالحنين، لمشاهدة الفيلم العربي، أما
اليهود الإشكنازيين، ويستضيف الفيلم منهما الفنان يائير جربوز وزوجته مرجليت، فلهم
أسبابهم الخاصة. يحلل يائير الأفلام العربية بقوله: "يمكن تسمية هذا النوع،
أفلام بلدات، بلدة عربية، بلدة يهودية، بلدة هندية، أيا كانت، أفلام بلدات، هذا
يعني أن هذه الأشياء هي غذاء الفقراء، أشبه بالبطاطس، إنها بطاطس السينما".
أما
زوجته مرجليت فتحكي بلغة مرتبكة عن أسباب حبها للفيلم العربي: " كان هذا
نوعاً من عالم آخر، لكنه من العالم القريب، أقصد كلا الأمرين، كما تعلم، يتكلمون
العربية، الشرق الأوسط، الموسيقى، كل شيء ليس نحن تماماً، لكنه ليس بعيداً
جداً".
هذا
وأمر آخر، يتصل بالسبب الذي قاله زوجها: "كل شيء كان واضحا، مفهوما، تعرف من
المشهد الأول من الشخصية الجيدة، ومن الشخصية التي لن يكون الحظ حليفها، والتي
ستتلقى المساعدة طول الوقت، والتي ستبكي ولكنها سترقص قليلا أيضا كما تعلم، نوعا
ما، وأن الوسيم سيكون حبيبها.... رهيب، أحداث مؤثرة جدا، كنت تنسجم معها. كنت
تستمتع بالانسجام معها".
ويعلق
الراوي: "في البلاد [إسرائيل] وإن لم يتواصلوا مع الموسيقى إلا أنهم عرفوا
الممثلين المصريين بالوجه ووفقاً للأدوار التي تميزهم، عندما كان حسين فهمي، أو
كما أطلقوا عليه هنا، الوسيم، يمثل في فيلم رومانسي كان واضحاً للجميع أنه سيكون
العاشق الساحر، وعندما كانت فاتن حمامة تمثل، كان الجميع يعرفون بأنها المرأة
الطيبة، معيار أخلاق المجتمع المصري، وعندما يظهر فريد شوقي البلطجي على الشاشة،
نعرف جميعاً، حتى لو بدور الخير أو بدور الشر، أن أحداً ما سينضرب في نهاية
الأمر".
حدود الحنين والسياسة
البكاء
عنصر أساسي في الفيلم، ويرتبط ارتباطا وثيقا بموضوع الحنين وحدوده.
يسأل
المخرج مرجليت إن كانت تبكي في الأفلام فترد بالنفي ثم تشير إلى زوجها الذي لم يبك
حتى عندما توفى والداه، ولكنه أمام الفيلم العربي لا يملك إلا البكاء. تقول هذا
وهي تمسح دمعة، مع مشهد ليائير وهو يمسح دموعه وفي الخلفية ممثل مصري يقول بنبرة
مؤثرة: "كله سلف ودين.. مع السلامة".
وفي
مشهد آخر يحاور إيال خالته أفيفا، التي تسمع "إنت عمري" في التليفزيون
وتبكي. تحكي إنها تبكي في كل مرة تسمع فيها هذه الأغنية.
·بماذا
يذكرك هذا؟
تشير
لصورة ابنها المتوفي، مئير، وتشرح له كلمات الأغنية: "اسمع ماذا تقول، اللي
شفته قبل متشوفك عيني شفته، رأته قبل أن تراها عيناها، أي كان في بطني وبعد ذلك
رأيته. وكل هذه الكلمات كأنها... تصف الوضع تماماً".
·"برغم
أن مئير قتل في سيناء"؟
·لا
أستطيع العيش من دون مشاهدة هذه الأفلام وهذه الأشياء، هذا جزء من حياتي".
الابن
جندي إسرائيلي كان يحارب في سيناء، والخالة هي أمه الثكلى التي تسمع أغنية لأم
كلثوم وتبكي وهي تسمعها لأنها تذكرها بهذا الابن. الأمر مربك للغاية، لأنه يتعلق
بحالة شديدة الخصوصية، يهود وجدوا نفسهم منبوذين من المصريين في فترة التحرر
الوطني فهاجروا لإسرائيل، اختاروا الجانب الإسرائيلي في الشارع، والجانب العربي
وهم في بيوتهم الخاصة عندما لا يراهم أحد.
يقول
بيزاوي جملة دالة في تقرير أعدته القناة الثانية الإسرائيلية عن الفيلم: "كنت
أخاف قليلاً أن نكون عرباً ويكون أبواي قد أخفيا عني هذه الحقيقة عني، وبدأت أسجل
إثباتات من كلامهما على هذا، و كنت أشعر أن هذا الوعي لا يخصني أنا فقط وعلى مدار
العمل في الفيلم اكتشفت أنه فعلاً لا يخصني أنا فقط، أن هناك مجتمعاً كاملاً يخاف
أن يكتشف أنه عربي قليلاً".
***
نفس
الخالة تشاهد لقطات من فيلم "فتاة من إسرائيل"، وفيه يقوم محمود ياسين
ورغدة بدور الأبوين المكلومين بموت ابنهما الجندي في سيناء ويزوره زملاء الابن
ليقدموا له الكفن فتصرخ زوجته رغدة ويغشى عليها. تشاهد الخالة أفيفا هذا المشهد
وتقول: "انظر إليها، كما حدث معي".
·"عند
مشاهدتك لفيلم كهذا هل تشعرين بأنك تسامحينهم [المصريين]؟"
·"نعم،
أنا أفهم الألم، أنا سامحتهم منذ وقت طويل. أنا أتفهم ألمه [الأب] أنا أتفهم. هكذا
كنت تماما. أنا أيضا كنت أفقد وعيي كثيراً. كان يزورنا ضيوف، أصدقاؤه. ما أن
يخرجوا من الباب حتى يغمى عليّ. أتمالك نفسي أثناء وجودهم، خشية ألا يعودوا مرة
أخرى إذا بكيت أو كنت حزينة. وكنت أرغب حقا بمجيء أصدقائه".
·"هل
رأيت مصر كعدو في أي وقت"؟
·"لا
أدري. من الصعب الإجابة على هذا. لا أظن ذلك. أبداً".
·"رغم
أنك تحبين إسرائيل؟"
·"نعم
طبعا، أنا إسرائيلية مئة بالمئة ولكن لا أعرف لماذا أنا أحبهم، لا أعرف... هل تعرف،
في كل فرصة نتواجد فيها لنتحدث مع صديقات، أنا مصرية، أقول لهن. مهما حصل، أنا
مصرية. محتمل أنها ذكرى جميلة من الطفولة لا تزال باقية."
هذا
المشهد يفهمنا شيئاً عن حدود الحنين، كيف يمكن للحنين، حتى لـ"العدو"،
أن يصل لأقصى طاقته، وبرغم هذا يظل مقطوع الصلة بالسياسة وبما هو خارج الذات. أو
بشكل أفضل، كيف يمكن لمساري الذات والسياسة، أو البيت والشارع، أن يسيرا ضد بعض، الحنين أخرس فيما يتعلق بالسياسة،
وكذلك السياسة خرساء فيما يتعلق بالحنين.
ما
زلنا نتحدث عن البكاء. يسأل إيال خالته عن البكاء، هل تُبكيها الأفلام الإسرائيلية
كما تبكيها الأفلام العربية؟ فتجيب بالنفي المطلق. ويفسر الراوي لنا هذا:
"هذه الأفلام بالنسبة لأفيفا لم تكن بطاطس ولم تكن غذاء الفقراء. بل الحياة
بحد ذاتها، كانت تتفاعل مع الفيلم العربي شأنها شأن معظم المشاهدين بفضل العاطفة
التي كان يتضمنها، وكانت العاطفة شحيحة في التليفزيون الإسرائيلي ف ذلك الوقت. كان
التحفظ هو الكلمة الرئيسية . تَلَخص البكاء [في السينما الإسرائيلية] بصورة مقربة
على دمعة تسيل، كانت الفرحة معتدلة والغضب مكتوماً ومهذباً. الفيلم العربي من
ناحية أخرى، جلب الإحساس إلى الوجه وإلى غرفة المعيشة دون خجل ودون اعتذار.
مشاجرات صارخة، ضحكات صاخبة، بكاء مرير، وحب قوي كالموت تجلى بعدد لا يحصى من
الأغاني المؤثرة والمؤلمة"...
قريبة اليهود جميعاً
لم
يغفل الفيلم ليلى مراد، المطربة المصرية اليهودية، يحكي إيال: "عندما سمَعَنا
ابن الجارة نتكلم العربية في البيت سألني إذا كنا عرباً، قلت له ما الأمر، أنت
العربي وكل عائلتك العرب. شعر بالإهانة، وأنا كذلك، وتخاصمنا، ولكن بعد ذلك ظهرت
ليلى مراد في الفيلم العربي، قفزت كل عائلتي لشدة الإثارة، وأخبرتني أمها بأنها من
العائلة... عندما كبرت أدركت أن هذا شعور كل اليهود المصريين، جميعهم أقاربها،
ولكن نحن كنا حقاً أقرباء لها". ويحكي أبوه أنه رآها وهو طفل في أحد الزيارات
العائلية لحي العباسية.
بعدها
ننتقل لليهود المصريين الذين مثلّوا في مصر: "بعيداً عن ليلى مراد كان هناك
يهود آخرون مثلوا في السينما المصرية مثل راقية إبراهيم الأنيقة، إلياس مؤدب
المسلي، نجمة إبراهيم بدور الشريرة، نجوى سالم المغرية، وحتى المخرج اليهودي، توجو
مزراحي، مع بطله شالوم مثير المشاكل. وفي حين كانوا يفتخرون في البلاد [إسرائيل]
بيهودية وودي آلان وبرباره سترايسند، فالممثلون اليهود من مصر لم يكونوا مصدر
فخر."
بالتدريج
تتصاعد النبرة الناقدة للثقافة الإسرائيلية في الفيلم، وبالتحديد لـ"صانعي
الوعي الإسرائيلي"، هؤلاء الذين رفضوا رؤية اليهود المصريين مصدراً
لاعتزازهم، وحولوا الهوية العربية لشتيمة خجل منها فيما بعد أطفال اليهود
الشرقيين.
السينما المصرية ليست محافظة؟
كانت
الرقابة تمارس على الأفلام المصرية. في نهاية الفيلم، وبعد نزول التترات، يُحكى
لنا أن هذا حدث حتى قبل دخول التليفزيون لإسرائيل. في عام 1962 عُرض فيلم لفريد الأطرش
في سينما "أديسون" بالقدس، واختصر مديرو السينما أغاني الفيلم ومارسوا
الرقابة على بعض من مشاهده، فما كان من المشاهدين إلا أن قاموا بخلع الكراسي
وتكسير النوافذ احتجاجاً.
ما
بدأ في السينما تواصل فيما بعد. مورست الرقابة على الأفلام المصرية قبل عرضها في
التليفزيون، وتفسير عامي زينجر، محرر فيديو في التليفزيون الإسرائيلي أن:
"القناة كانت تبث الفيلم العربي الساعة الخامسة . في الساعة الخامسة عصرا
هناك أطفال يشاهدون، لذلك كان يجب اختصاره كي لا يتم عرض قبلة، كان يُسمح بعرض
القبلة لثلاث ثوان، أطول من ذلك ممنوع، أو الجنس، الجنس كان يجب عرضه لبضع
ثوان".
·"ما
تقوله هو أن السينما المصرية ليست محافظة"؟
·"أبداً.
رأيت أشياء ، مشاهد جنس ومشاهد قتل، وقتل عنيف جدا، معظم الأفلام التي أذكرها كانت
على أساس خيانات... وتم تنفيذ معظم الأمور على الجانب الرومانسي، أنا كنت أكثر
انفتاحا، قلت يمكن عرض القبلة لأربع ثوان، لماذا ثلاث؟ ووافقت على أن يكون الدم
أقل ما يمكن، لكن في مشاهد السرير، نرى نساء جميلات، ما المانع من رؤية ذلك، لماذا
يجب شطبها؟"
كيف تصل الأفلام؟
سؤال
عارض من إيال يؤدي إلى مغامرة كبيرة، يسأل زينجر وزميله عن كيفية الحصول على الأفلام
المصرية، فوقتها، قبل اتفاقية كامب ديفيد، لم تكن هناك علاقات مع مصر، ويخبره
الاثنان أن لا أحد يعلم ولا أحد يتكلم ولا أحد سيخبره بحقيقة الأمر. حتى سليم فتال
يرفض الكلام عندما يسأله: "لا أريد التوسع بالكلام بهذا الشأن، لقد تم هذا
الشيء ف ذلك الوقت بسرية، وبهدوء، ولا أظن أنه من الصائب الآن أن نأتي ونقول: هذا
فلان، وهو موجود معنا. هذه الأسماء تفيد من"؟ ولكن عندما يُسأل عن الكيفية
يجيب: "علاقات بين أشخاص، تجد الأشخاص الذين يتعاملون في هذه الأمور وتحاول
إنشاء علاقة من الأخذ والعطاء".
بعدها
نفهم أكثر، فالأفلام كانت تصل من المصريين إلى الفلسطينيين في القدس الشرقية، كي
تُعرض في دور السينما هناك، وقبل إعادة الفيلم للموزع الأصلي في مصر يمرره أحد
أصحاب دور السينما الفلسطينية على التليفزيون الإسرائيلي، يُنسخ على شريط فيديو
ويعرض في التليفزيون. فطن المصريون لهذه الخدعة، فبدأوا يعلّمون الأفلام، يرينا
الفيلم شريط فيديو فيه خدش على هيئة حرف "آر". قام المصريون بخدش شريط
الفيلم ليعرفوا من الذي يسربه للإسرائيليين ومن ثم يوقفون التعامل معه.
يحكي
إيال: "في كل أسبوع كان واحد من أصحاب دور السينما الفلسطينيين ينقل الفيلم
بشكل سري إلى العدو الإسرائيلي، كي نتمكن من استقبال السبت كما ينبغي، معظم موظفي
التليفزيون الإسرائيلي، يرفضون إجراء لقاء حول الموضوع حتى اليوم. في الجانب
الفلسطيني أيضا السرية محفوظة. الوحيد الذي وافق على التحديث إلي طلب تظليل
وجهه".
يقول
موزع الأفلام الفلسطيني ذو الوجه المظلل: "مرة من المرات حضرنا فيلم
عالتليفزيون الإسرائيلي، وبينت خط إيدي المكتوب، طب هادا كيف وصل للتليفزيون؟
بدينا نحقق كيف وصل للتليفزيون، عرفنا انه وصل التليفزيون عن طريق فلان الفلاني،
كان يستأجر الفيلم عأساس إنه بده يعرضه عندهم، فيه زي سينما صغيرة في
المثلث".
·مكنتوش
زعلانين؟
·هادا
الرجال احنا بطلنا نعطيه أفلام، أولا لأنه بتعرف هادي سرقة صارت، أنت تاخذ مني
وتبيع لغيري. ما بيصير، انت بتاخد مني لإلك.
يعود
إيال إلى سليم فتال. يسأله عن عدد الأفلام العربية التي تمكنوا في التليفزيون
الإسرائيلي من جمعها بهذه الطريقة.
· في
رأيي المئات. لم يكن لدينا خيار آخر، لو قالوا لنا... دعونا نجلس، نتناول الجانب
التجاري، وليس جانب العداء، لجلسنا وسوينا المشكلة، لخرجوا راضين ولخرجنا نحن أيضا
راضين، يعني، نحن لسنا لصوصاً محترفين، دعنا نقول هذا.
·لصوص
لكن لستم محترفين.
·لصوص
ولكن لسنا محترفين. أوكي.
على العموم، يشير الموزع الفلسطيني إلى أن عرض الأفلام
العربية في التليفزيون الإسرائيلي توقف بعد الانتفاضة الأولى. يعزو هذا إلى
إسرائيل وحروبها المتكررة ضد جيرانها، اندلعت الانتفاضة وتوقف كل شيء:
"الانتفاضة الأولانية سكّرت على كل إشي اسمه سينما وفيلم سينما... وبطلنا
نشتغل بالمجال بالمرة. يعني مش معقول الناس بتموت بالشوارع واحنا نعرض فيلم سينما
بالسينما، وقفنا الشغل".
الحنين لم يعد أخرس
نصل إلى الجزء الأخير، وينشغل فيه الفيلم بتصنيف
"الأفلام العربية" من حيث قيمتها الفنية.
في عام 1978 بدأ عرض المسلسل الكوميدي الإسرائيلي"
هذا هو"، وفي 1986 عرض موسم منه بعنوان "فيلم عربي"، وكان يقدم
محاكاة ساخرة للأفلام العربية، أناس بأزياء بدوية وقروية يقدمون انفعالات صارخة،
قصص حب تبدأ في لحظة، أب يكتشف ابنه بعد طول غياب فيصرخ بمبالغة مضحكة. يقول حنان
بيليد، أحد مؤلفي المسلسل: "معظم الناس الذين شاهدوا الفيلم العربي كان
يسخرون من أنفسهم في أعماقهم لأنهم يشاهدونه. وعندها كان برنامجنا يتناول هذا
الجانب، حيث يعلم الجميع بأنه فيلم بسيط، سينما غير هادفة، وكل شيء غير
متقن".
ويضيف: "بصراحة فكتابة محاكاة ساخرة أسهل من اختراع
عالم جديد، لأنك تستند على أية حال إلى عالم محدد وتقدمه بشكل مبالغ وتكسر حدوده،
ومن الأسهل القيام بمحاكاة ساخرة لفيلم عربي، لأنك لا تتعامل هنا مع مادة عالية
المستوى".
أما مرجليت جربوز فتقول: "لم نذهب أبداً لمشاهدة فيلم
عربي في السينما، ذهبنا لمشاهدة أفلام جودار، أنت تعرف، بازوليني، أنطونيوني،
تمام؟ ذهبنا لمشاهدة (تشير بيديها إشارة دالة على القيمة) أفلام. لكن لأجل، لا
أعرف كيف، لأجل الجو البيتي كان ذلك [الفيلم العربي] مثالياً".
برغم ولعهم به، يتعامل الإسرائيليون وصانعو الثقافة
الإسرائيلية مع الفيلم العربي وكأنه مادة رخيصة. هنا يضع صانعا الفيلم قناع
الموضوعية جانباً ويبدآن بالتدخل بحسم لقول كلمتهما. يشير صوت الراوي إلى أن منتجي
مسلسل "هذا هو"، المقتنعين بأن كافة المشاهدين كانوا يسخرون من أنفسهم
سراً وهم يشاهدون الأفلام العربية، قاموا بتثبيت الصورة النمطية للفيلم العربي،
بوصفه رخيصاً وقليل القيمة، وهذا صحيح، لأن السينما المصرية، مثلها مثل أي صناعة
سينما في العالم، كانت تجارية في الأساس، ولكن مع هذا كانت هناك أفلام استثنائية.
"كانت هناك مشاهد جريئة ونقد سياسي لاذع، تلميحات إلى المثلية الجنسية (مشهد
من "حمام الملاطيلي")، وتصريحات نسوية (مشهد لسعاد حسني في "خلي
بالك من زوزو" وهي تتحدى الجميع وترقص)، كل هذا غاب عن عيوننا الإسرائيلية،
إلى جانب الأفلام التي أظهرت النساء بصورة مخزية ومهينة تم عرض أفلام عديدة كانت
المرأة فيها، لا سيما الفلاحة، ترمز إلى مصر نفسها. عندما كانت تتعرض للاغتصاب من
قبل رئيسها (فاتن حمامة في فيلم "الحرام" وهي تغتصب في الحقل) غالبا ما
تكون هذه قصة رمزية عن مصر، المستغلة من قبل أصحاب السلطة".
يواصل صوت الراوي: "في أفلام الواقعية الجديدة كان
هناك نقد أشد. في فيلم (زوجة رجل مهم) هناك منى وهشام الذين لم يتمكنا من إنجاب
أطفال، وتتدهور العلاقة بينهما. فيلم عربي كلاسيكي، لكن في الواقع، فالعلاقة
بينهما هي استعارة للعلاقة العقيمة بين نظام الضباط والمصريين، وفقاً للفيلم تنتهي
تلك العلاقة بانتحار النظام، كما حدث فعلاً. في مصر كان ذلك يعد فيلماً سياسياً
تخريبياً. في البلاد [إسرائيل] كان يبدو كأنه ميلودراما مبتذلة أخرى، حتى أفلام
عادل إمام الكوميدية صاحب الوجه الأكثر تميزا لدى الإسرائيليين، حتى أفلامه
الكوميدية كانت مليئة بالنقد السياسي والاجتماعي، في مجتمع أصبح اللحم فيه ترفاً،
قد يكون الكباب سببا وجيها للعصيان. لم تلمس الرقابة المصرية ذلك. لكن لكي نفهم
النقد علينا معرفة الثقافة، ولكي نفهم ونحب ثقافة حقاً، يجب أن نعرف أبناء تلك
الثقافة، رغباتهم، مخاوفهم، المحنة والألم، وقد رفضنا رؤية ذلك عندما يتعلق الأمر
بالشعوب المحيطة بنا".
يلعب "فيلم عربي" على خامة الحنين، وصحيح أن
الحنين خامة ليس لديها ما تقوله سوى أشياء لطيفة عن الذات، ولكن المخرجان يتمكنان
من توجيهها لتتحول من دغدغة للمشاعر إلى سلسلة من القرصات المؤلمة، يتزامن هذا مع
خروج الفيلم من البيوت الإسرائيلية، من مشاهد أبناء العائلة المجتمعين حول الفيلم
العربي، وذكريات الحياة عن البلدان التي تركوها وراءهم، إلى ما هو أكبر، الثقافة
الإسرائيلية السائدة، النظرة للعرب، واختفاء الفلسطينيين من الشوارع في أعقاب
الانتفاضة. في هذا التحول من الذكريات اللطيفة (والحزينة نوعاً) إلى التقريع
المتواصل للذات الإسرائيلية المنتفخة، يكمن سحر الفيلم. هنا بالتحديد لا يصبح الحنين
أخرس فيما يتعلق بالسياسة، وينجح الفيلم في قلب الأمر وإغراء الإسرائيليين بالدخول
لدكانه ليسمعوا أشياء ما كانت لتمر لولا غواية الأفلام العربية.
يختتم الراوي الفيلم بالقول: "مع نشوب الانتفاضة
الأولى، أغلقت النافذة الصغيرة التي فتحت لنا للشرق الأوسط، اختفى الفلسطينيون من
شوارع المدن الإسرائيلية، انتقل المشاهدون الإسرائيليون لقنوات الكوابل، وتم فصل
البرامج العربية عن البرامج العبرية. منحصرين داخل الفيلا التي بنيناها لأنفسنا
داخل الدغل الشرق أوسطي، رفضنا إخراج رؤوسنا لنطل على الحي، وحتى عندنا فتحت لنا
نافذة صغيرة، من الفيلم العربي، شاهدنا ولكن لم نر حقاً، مما يشبه قليلاً منظار
الاستخبارات قبل حرب يوم الغفران، نرى ولا نفهم شيئاً".
_______________________________________________الموضوع منشور بالأصل في جريدة أخبار الأدب، بتاريخ 24- 5- 2015