Saturday, 27 November 2010

للموت لن تكون حكومة

حاييم بيسَح هو محرر أدبي وناقد ومترجم، ولد وعاش في تل أبيب والتي يعيش فيها حتى اليوم. بدأ في نشر مقالات في موضوع الثقافة الإنجليزية بملحق "تربوت فسفروت" بصحيفة هاآرتس، بينما كان يقيم في إلنجلترا. في نهاية السبعينيات أرسل لصحيفة هاآرتس مقالا عن رواية يعقوب شبتاي "ذكرى الأيام" وسبق فيه جميع النقاد في الإشادة بالقيمة الأدبية للكتاب، والذي يعد اليوم واحدا من الذرى الأدبية في الأدب الإسرائيلي. كما قام بترجمة نماذج من الأدب العبري إلى الإنجليزية.

في بداية الثمانينيات عمل محرراً في دار نشر عام عوفيد، وظل في هذه الوظيفة لخمس سنوات. وانتقل منها إلى دار نشر زمورا بيتان، وأصبح محررا رئيسيا فيها لما يقرب من ستة أعوام. وفي منتصف التسعينيات انتقل إلى دار كيتِر، ثم إلى دار بابل ثم يديعوت سفاريم وغيرها.

من كتبه "القصة الجديدة: مختارات من القصة العبرية 1995 – 1985"، "بنت عام ألفين: أنطولوجيا لقصص المهاجرين الجدد." و"البطل، العفريت والعذراء" له ولعلي ياسيف.

هذه المقالة منشورة في صحيفة يديعوت أحرونوت تحت عنوان "ذات يوم، كان الموت أكثر نجاحاً"، وهي ترجمة سيئة للعنوان العبري "פעם המוות היה להיט"، حيث تعادل كلمة להיט في العبرية كلمة HIT الإنجليزية، والتي تشير إلى الأغاني ذات النجاح المدوي.

للموت لن تكون حكومة

حاييم بيسَح

ترجمة: نائل الطوخي

أحياناً، عندما أقرأ الصحف، أو الكتب الجديدة، أشاهد الإنترنت أو ألعاب ألعاباً إلكترونية، أفكر في نفسي أن الموت لم يعد كما كان. ذات مرة كان أكثر احتراماً وأشبه بالعجائز. وأنا لا أتحدث عن آلهة الموت القدامى بالتحديد، لا عن أنوبيس المصري، تانتوس اليوناني، كالي الهندية ولا عن موت الكنعاني وبالتأكيد ليس عن شيطاننا، الذي يهتم كما هو معروف أكثر بما يحدث للأحياء وهو أقل اهتماماً بهؤلاء الذين لم يعودوا يفكرون.

صحيح أن من يعيش في إسرائيل، بكل أنواع أيام الذكرى فيها، والتي تحل على الأقل مرتين في الأسبوع – ومن المناسب في هذا السياق قراء المقال الممتاز لناتان زاخ "هل كلنا موتى" – سيصعب عليه ملاحظة تدهور مكانة الموت. ولكن حتى هنا، عندما تقرأ في أحد الأيام العادية عن أربعة حوادث قتل، خمسة حوادث سيارات، بينها أربعة أصاب وهرب بجانب ثلاث حالات انتحار – فإن شيئاً ما مع كل هذا يضيع ولا يبقى له أثر. إلى أي حد يمكننا، مع كل الاحترام للشيطان وبدون الاستهانة به أو بمن لن يصبح المسئول عندنا عن هذا الموضوع، إلى أي حد يمكننا الانفعال تأثراً بدستة حوادث موت في اليوم. هناك ابتذال بلا شك.

موت بنكهة طيبة

ليس أن الموضوع هو وقوع حوادث موت أكثر مما كانت دائماً. وهذا يجعلني أتساءل كيف كان كل شيء ذات يوم، عندما كان الموت أقل حميمية وينفجر أمام الجميع، مثل الحمامات العامة والمفتوحة في روما القديمة، والتي كان فيها الرجال والنساء الجالسون جماعة يقضون حاجاتهم أمام الجميع. ذات يوم كان كل موت بمثابة احتفال: عندما كان يتم صلب الناس جماعة (قبل يسوع بكثير، وبالتحديد اشتهر ملك يهودي باسم ألكسندر يناي بهذا) وكانوا يُصعدونهم على البؤرة بمحاكم التفتيش. وكان الناس يحجزون أماكن المشاهدة لأصدقائهم أمام حرق الساحرات أو قطع الرؤوس.

أنا أتحدث عن فترة كان فيها مواطنو باريس المحررون من نير الملكية، يتجولون في الشوارع بدبابيس المقاصل الذهبية على طيات صدور معاطفهم. صحيح أنه حتى اليوم، يمكن للمهتمين مشاهدة عمليات الإعدام في ميادين طهران ودمشق، ولكن هذا لم يعد هو نفس الشيء. ربما يتوقف من يمر هناك بالصدفة للنظر، ولكن أحداً لن يخرج من سيارته ويعرض نفسه للخطر في ساعة الذروة في الطرق كي يرى رجلاً متأرجحاً من حبل. في الصين والولايات المتحدة يكثرون من إصدار أحكام الإعدام، ولكنها دائماً بنكهة جيدة، في تحفظ رأسمالي أو شيوعي، وليس علناً أبداً.

هل يمكن لشاعر يكتب اليوم أن يعطي الموت احترامه، ولو حتى بوصفه معارضاً، كما في الأبيات الخالدة لديلان توماس في قصيدته الرائعة "وللموت لن تكون سيطرة"، التي أقدمها أنا هنا في ترجمة حرة:

برغم أنهم غرقوا في البحر فسوف يعودون للصعود

برغم أنه لم يعد هناك محبوبون فالحب لن يضيع

وللموت لن تكون سيطرة

هل أن هذا الاحتجاج يشير إلى بداية تمرد الصبا على الموت؟ سواء هذا أو ذاك، فقصائد كثيرة تكتب ضد أو دفاعاً عن، وهذا ما يحدث في النثر الأقل أو الأكثر جودة، مثلما الموت المخيف عند إدجار آلان بو، الموت المبتذل عند هارت كراين، الموت المضحك – لا يخطر على بالي الآن، ربما عند شفيك. ولكن، عندما كتب ديلان هذا البيت: "وللموت لن تكون سيطرة"، هل كان يخطر على باله أنه يوماً ما، سوف يكون الخوف من الموت ببساطة موضة قديمة قليلا؟ الأكثر جودة مثلما الموت المخيف عند إدجار آلان بو، الموت المبتذل عند هارت كراين، الموت المضحك - لا الرائعة "وللموت

صحيح أنه في الأدب المكتوب اليوم يظهر الموت من حين لآخر كضيف، وأنه لم يعد يقوم بالدور الرئيسي دائماً. ولكن نبوءة تدهور مكانته جاءت من مكان آخر تماماً، لقد جاءت بالتحديد من اتجاه الحبكات المرسومة. وهنا أعني أي عمل يهتم بالرسم وليس بالكلمات، مثل الكوميكس المرسوم، أفلام الرسوم المتحركة، وألعاب الكمبيوتر والبلايستيشن.

ركلة محترمة إلى الهاوية

إذا لم نأخذ في الحسبان سلسلة رسومات تحكي حبكة، مثلما على سبيل المثال "أعمال عاهرة"، للرسام اتجليزية هاجارت ابن القرن الثامن عشر، فإن الكوميكس المصور (ولا أقصد هنا جنس الكوميكس الجاد) قد ظهر لأول مرة في كراسات "الطفل الأصفر" في الولايات المتحدة بنهاية القرن التاسع عشر.

كذلك ظهر الفيلم المصور الأول في فرنسا بنفس الفترة، وألعاب الكمبيوتر، كما هو معروف، لم تصلنا إلا في النصف الثاني من القرن العشرين. في كل الوسائط الثلاثة هذه- فإن الموت يتم إذلاله حتى الموت. يتحول في الواقع إلى نكتة، وعلى قدر ما يصبح صادماً على قدر ما يصبح مضحكاً. منذ أفلام الأنيماشن الأولى، عندما يضرب الفأر رأس القط، خبطة تؤدي إلى صدمة في المخ، إن لم يكن عجة – الرأس تنسحق فعلاً – ولكنها فوراً تعود وتنتفخ، كأنما لم يحدث شيء.

إذا كان القط مطارداً حتى نهاية الجرف ثم يسقط في الهاوية بركلة محترمة، فلا قلق. فوراً يقوم ويتعافى. باختصار، في الكوميكس والأفلام المصورة، فإن الموت كحادث نهائي يتم محوه ببساطة. وفعلاً، فمن المرغوب أن يشاهد الأطفال في إسرائيل على قدر ما يمكن أفلاماً مصورة، حتى يكون الجيل القادم أقل إدمانا لأيام الذكرى وأكثر إدمانا للحياة.

الفارق بين الكوميكس في المجلات والأفلام المصورة، وبين الألعاب الإلكترونية، يكمن في أن مصير الشخصيات بالاثنين الأولين يتم تقريره على يد المبدعين أنفسهم. هذا مصير قدري مثل الخطيئة الأولى لدى المسيحيين. في ألعاب الكمبيوتر، في مقابل هذا، ثمة عنصر الإرادة الحرة والاختيار.

اللاعب أو اللاعبون هم المسئولون عن "موت" الشخصيات الافتراضية. هم ألهتها، وإذا كانا اثنين، هذا في مقابل ذاك، فنحن نعود للوضع الميثولوجي. يصبحان رمزاً للشيطان أمام الإله. ولا يفرق من منهما ينتصر، ففي اللعبة القادمة سوف تعود كل الشخصيات: الطيبة والشريرة والعرضية –وتقوم للحياة. لذا، فطالما أننا مستمرون في اللعب بالحياة، للموت لن تكون حكومة.

Friday, 19 November 2010

رواية للمبتدئين


كلوديا، بطلة "رواية للمبتدئين" لليلاخ سيجان، هي محررة صحفية في الثلاثينات من عمرها، لا تتمكن من فعل شيء من البداية للنهاية، تشتاق لطفل، ولكن كل تجارب الحمل التي تمر بها تنتهي بالإجهاض. تأخذ في الابتعاد عن زوجها الغريب، والذي تشاركه حياة زوجية كابية. ولكن ذات يوم تلتقي بوكيل أدبي يجعلها تستجمع قواها وتغير واقعها. ليلاخ سيجان أديبة وصحفية وكاتبة مقالات، من كتبها السابقة "الحنين لماكس"، و"الآلهة الجدد." هنا فصل من "رواية للمبتدئين"، منشور بالأصل في يديعوت أحرونوت تحت عنوان "سارقة الأحلام".




رواية للمبتدئين



ليلاخ سيجان


ترجمة: نائل الطوخي





وقفت كلوديا أمام طاولت أدوات التجميل في سوبر ماركت مشبير، وجربت أقلام أحمر الشفاه. وحّدت شفتيها في دائرة ودهنتهما ببطء بلون بني بنفسجي. ابتسمت كمن تحاول إغواء نفسها، كشفت عن أسنانها، والتي بدت بجانب أحمر الشفاه الداكن فجأة أكثر بياضاً من المعتاد، نظرت بعينيها الخضراوتين اللتين انعكستا عليها من المرآة الصغيرة، وفهمت فجأة: هي تسرق أكثر من اللازم في الآونة الأخيرة.


لم يمر يوم منذ أسبوعين بدون أن تأخذ شيئاً ما. حسناً، ليس الأمر بالضبط أنها تسرق، قالت لنفسها. ليس فقط أن لون قلم أحمر الشفاه كان درامياً أكثر من اللازم، أحيانا تكون تعريفاتها على هذه الشاكلة. دائماً ما كانت ترغب في أن تسمي هذا كلبتومانيا، لأن هذا الاسم يبدو أكثر أناقة من "سرقة" أو من "اختلاس"، وأكثر رومانسية أيضاً. ولكنها في أعماق أعماقها كانت تعرف جيداًً جداً أن هذا لم يكن كلبتومانيا لا إرادية، مرضية ومهووسة تداهمها. وإنما كان شيئاً ما مختلفاً تماماً. شيئا ما لا يزال يتطلب التعريف.


فيما بينها وبين نفسها كانت تعترف أنها تحب السرقة. لسنوات طويلة لم تخلص لهذه الرغبة، حتى شعرت بالحنين لها قليلاً. وعندئذ، وفجأة، قبل حوالي أسبوعين، حتى بدون أن تشتهى هذا فعلاً، شعرت أنه عليها أن تسحب شيئا صغيراً في السوبر فارم، وكان أول ما وقع في يدها قلم آيلاينر. لم تقم بتحديد عينيها ولا مرة، لأن رموشها الداكنة والطويلة لم تحتج لدعم صناعي. إذن فلماذا في الواقع تحتاج لقلم آيلاينر؟ حتى اليوم لم تشعر بالحاجة لإزعاج نفسها بالعثور على إجابة جيدة لهذا السؤال.


ولكنها انتبهت فجأة الآن إلى أن هذه الرغبة قد تفاقمت على مدار هذين الأسبوعين. داهمتها الرغبة في كل ركن. خلف أي رف في السوبر، في محلات الكتب، وحتى في بقالة شلومو سرقت يوم الثلاثاء الماضي علبة لبان بدون أن تدفع، دفعتها بسرعة إلى جيب الجينز عندما استدار لينزل لها علبة سجائر من الرف المرتفع. ومن شلومو لم تسرق من قبل أبداً.


كانت لديها عدة مبادئ. قبل أي شيء، أن تأخذ فقط الأشياء التي لا تحتاجها، والتي لن تحتاج لها بشكل بديهي. حرصت كذلك على أن تكون صغيرة وليست غالية. لم يخطر على بالها أي شيء يزيد سعره عن الثلاثين شيكل. وبالطبع، فالقاعدة الأكثر أهمية أن تأخذ ممن لن يشعر، ممن له العديد من الأشياء بحيث لا ينتبه لغياب قلم أحمر شفاه درامي واحد. لن يضار أي شخص من هذا في الواقع. هكذا، كانت لصة ذات ضمير.


في هذه الأثناء، لم يتم الإمساك بها أبداً. كانت حريصة للغاية. كانت تجهّز قصصاً تغطي عليها مسبقاً، تحضراً لحالة إذا ما رآها شخص ما مع كل هذا، أو حالة أن تمسكها الكاميرات الخفية التي تتلصص من ثقوب صغيرة وغير مرئية في السقف. حرصت في كل الأحوال أن تُسقط المادة المختارة داخل جيبها أو الدوسيه في شرود، كأنها لم تنتبه، كأنها كانت تفكر فعلاً في شيء ما آخر، وفي نفس الوقت كانت تعد مسبقاً جملتها: "أوه، لا أصدق، لم أنتبه لما أفعل... ياللفضيحة، آسفة فعلاً... أنا حتى لا أحتاج له".


على مدار سنوات تغلبت على هذه الرغبة. حاولت تذكر إذا كانت قد سرقت شيئاً ما منذ عامها الرابع عشر، وتذكرت فجأة المرة إياها مع ليئورا، عندما كانت حاملاً للمرة الأولى وكانت تمتلئ بالسذاجة والاعتقاد بأن أي حمل ينتهي برضيع، وفي إحدى العصريات تغلبت على الخجل ودخلت لأول مرة في حياتها محلاً للمقاسات الكبيرة، نظرت إلى الجانبين لتتأكد أن أحداً لا يراها بخلاف ليئورا.


دخلت كابينة القياس ومعها حوالي عشرة قمصان وفستان أو اثنين منتفخين. قامت بقياس قميص وانتبهت فجأة إلى أنه غير موصل بجهاز إنذار مغناطيسي. نظرت إلى نفسها في المرآة وحاولت لم صدرها المتغير. شعرها البني الطويل كان كثيفا ولامعاً أكثر من المعتاد بسبب هرمونات بداية الحمل، وساقاها اللتان كانتا تطلان من تحت البلوزة الكبيرة لا تزالان تبدوان طويلتين ورفيعتين، ولكن البلوزة بشكل ما لم تكن مناسبة.


كانت كبيرة وواسعة جداً. ومع هذا، فلقد داهمتها الرغبة. كانت تعرف أنها إذا لبست السويتشيرت المتهدل الخاص بها على القميص وحلّقت بخفة إلى خارج المحل، فلن يعرف أي أحد. ولكن سعر البلوزة كان يزيد عن الثلاثين شيكل، والمحل كان خاوياً، وكلوديا لسبب ما حكمت بأن البائعة لها مظهر أم ولدت مرة واحدة، لأنها في اللحظة الأخيرة أخفت الخطة، وبدلا منها اشترت بسعر فاحش فستاناً واسعاً للحوامل بلون باذنجاني.


كانت في نهاية الشهر الثالث فحسب، ولكنها شعرت كأنها ثمرة قرع عسلي تورمت لأبعاد غير طبيعية بعد أن قاموا بسقيها أكثر من اللازم. وبرغم أنها دائماً ما عانت من الشعور بالسمنة، إلا أنها فيما بعد وجدت نفسها تشعر بالحنين لهذا الإحساس.


عندما خرجت اعترفت لليئورا: "تعرفين، تقريباً تعرضت لأغواء أن أسرق تيشيرتاً من هناك"، ابتسمت.


جحظت عينا ليئورا الخضراوتان أمامها، مضفرتين بعروق حمراء. "لا أصدق أن أشياء كهذه تمر على ذهنك أصلاً، الأمر لا يساوي هذا أبداً". قالت في نبرة وعظية غير واضحة.


ندمت كلوديا على أنها قررت أن تحكي لها. ما أهمية القصة؟ في نهاية الأمر اعتقدت أنهما ستقتسمان بينهما لحظة حميمية من لحظات البنات.


"تخيلي لو كانوا قد قبضوا عليك"، واصلت ليئورا بلا شفقة. "أنا أتخيل من الآن العناوين في الجرائد، محررة صحفية كبيرة يتم القبض عليها وهي تسرق بلوزة تريكو بسيطة".


"الحقيقة أن ليس هذا ما ردعني"، عادت كلوديا، "ما أخافني فعلاً هو أن يكون مكتوباً: "محررة صحفية كبيرة يتم القبض عليها وهي تسرق بلوزة تريكو بسيطة في محل للمقاسات الكبيرة". ضحكت كلتاهما ضحكة قصيرة. وبعدها أضافت كلوديا أيضاً أنها لا تعتقد أن شخصاً ما كان ليصفها بالمحررة الصحفية الكبيرة. في نهاية الأمر هي نائبة محرر ملحق نهاية الأسبوع. صحيح أنه ملحق الصحيفة الأولى في الدولة، ولكن مع كل هذا، فهي في نهاية الأمر نائبة. واتس ذي بيج ديل؟


هي بالصدفة وصلت هنا، ومن البديهي أنها في يوم من الأيام سوف تذهب أبعد. لم ترد ليئورا. كلوديا كانت تعرف أن ليئورا تمسك نفسها عن أن تأمرها بالتوقف عن طلب الإطراءات، وهو ما قالته لها كثيراً جداً، حتى انفجرت كلوديا ذات مرة وطاحت في ليئورا قائلة أنها بصفتها صديقتها الأقرب فعليها فهم أن هذا ليس هو الأمر، وأنها في نهاية الأمر تشركها فيما تعتقده. وهكذا، دار الجدال الافتراضي بينهما وحده، تجَوّل ذهاباً وإياباً في رأسيهما وهما تسيران في صمت.



Friday, 12 November 2010

قولوا لحبيبي


إيلي هيرش

ترجمة: نائل الطوخي


حشرة السماوات


الكرة الأرضية تدور حول محورها

حتى ولو بدون شِعر.

هذا مفاجئ. صح؟

لا تحتاج للشعر حتى تدور في السماوات.


أما القمر فقصة أخرى،

أقدم بكثير،

وما يدور فيه يبدو جذاباً

ويحبس الأنفاس أيضاً.


إذن، ما الذي سيحدث بدون شعر،

أتساءل،

ماذا سيحدث بدون الجنون

الذي يمزق قلبي من الداخل


برغم أنني لست قمراً،

على الأقل أعرف هذا،

لست حتى شظية من القمر

على الأكثر أنا حشرة السماوات


الرزق


قصيدة واحدة تبقت لي لأكتبها

أنتهي بها – مؤقتاً:

لا أنوي اجتثاث حنجرتي

والموت (ليحفظني الله)


ولا حتى التوقف عن كتابة الأغاني القصيرة

وأناشيد سفر الجامعة

والأغاني الشعبية المراثي القصائد إلى آخره

وأغاني الحب والبهجة


لكنني تعبت. قلبي وجيبي خاويان

وامرأتي الجميلة عصبية

وليس لدي خيار آخر – سوف أطوي بنطلوني

وأخرج للنبش عن الرزق


النفير


يا أولاد العاهرة هلا بدأتم في الغناء

بدلا من الغمغمة بغمغماتكم الغائمة


يا أولاد العاهرة (ولا يفرق الجنس)

توفقوا أخيرا عن الغمغمة وابدأوا في الغناء


أنتم يا محبي الثقافة

يا من تجتمعون في مساءات السبت

لقراءة أفلاطون أو فرويد

وتدفعون بسهم كيوبيد في أي ثقب


افتحوا الفم الذي تريدون وانفخوا فيه أغنية


وأنتم يا مريدي الضمير

يا من تتمتعون بحدة البصر والخنصر

يا من تخيطون قصائدكم بالأكفان

حتى تتألق في بيوت المعاقين


ارموا الخيط والإبرة وارقصوا


وأنتم يا من ولدتم عجائز

حسناً، ماذا ستصبح نهايتكم

ستصنعون أيديولوجيا من أنه

يصعب عليكم تحرك مؤخراتكم


بينما الإنسان كله هو هذا: أن يحرك


حتى لا تنغرس هناك (بالخطأ)

مكنسة ملك الموت وهي (وهذا معروف)

أقل لطفاً بكثير من العمود (الصدئ)

الذي أخرجته أمنا ليليث من حنجرتها

عندما ماتت


قولوا لحبيبي


حبيبي لا يستمتع بقراءة الشعر

كلامي لا يهزه ولا يضرب قلبه

ليس وحده من يملك أذن قلب بليدة

ولكنه حبيبي


وكتبت له قصيدة "شعر لحبيبي"

ووزنت مقطعاً مع مقطع. حرفاً مع حرف.

كي يعلم كيف احلوّت عذوبة لغته

المغناة في فمي


عاد وقرأ كلمات القصيدة باهتمام

وقال: "جميلة قصيدتك في عيني، جداً جداً"

ولكنني كنت أعرف: قلبه لم يهتز ولم يتحرك

لنبضات قلبي


والآن نفسي حزينة ومريرة جداً

لأن محاسني الوهاجّة والنقية وكلّي له فحسب

ولكن الرقة السارية في أعماق روحي

حبيبي لن يطرب لها


قولوا لحبيبي: محاسنك الجميلة

طاهرة القلب وذهبية البشرة الرقيقة

مروية برقة أغنية لم تعرفها-

وفسدت بهجتها.

___________________________________________________

ولد إيلي هيرش في عام 1962. هو محرر أدبي وناقد ومترجم وشاعر إسرائيلي. من كتبه "صخب، 1986"، "نزهة في الثالثة: قصة رحلة في ست وعشرين سوناتا"، 1997، "موسيقى جديدة"، 2008. يعمل محرراً رئيسياً لدار نشر "مودن"، وبدأ منذ منتصف 2003 في تحرير كتب دار نشر "حرجول". قام بترجمة "بوذا الضواحي" لحنيف قريشي، 1993، "سرقة" لسول بيلو"، 1994، "السيد فرتيجو" لبول أوستر، 1996. عمل ناقدا للكتب في الصحيفة التل أبيبية المحلية "هاعير"، في الأعوام من 1989 – 1994. ومنذ نهاية عام 2003 يكتب عمودا بعنوان "إيلي هيرش يقرأ الشعر"، الذي يظهر في الملحق الأسبوعي من يديعوت أحرونوت. قصيدة قولوا لعمي و"حشرة المزابل" من ديوانه الأخير "موسيقى جديدة، وقصيدة "النفير" و"الرزق" منشورتان في يديعوت أحرونوت

Friday, 5 November 2010

الأيام العشرة الرهيبة


يودا هارخفي، وهو أستاذ تاريخ يدرس تاريخ الشرق القديم، يكتشف ذات يوم أن الحروف العبرية الكنعانية التي كتبها أمس طارت من أوراقه. ويقرر البحث عنها في القدس، في أثناء رحلة البحث المحمومة التي تستمر لعشرة أيام، من رأس السنة العبرية إلى عيد الكيبور، يتطرق لأشياء أخرى ضاعت منه، مثل زوجته الشابة أوسنات. رحلته تغطي عشرة أيام فحسب ولكنها تمر بالثقافات والأزمان، القدس التي سافر بداخلها هي المدينة التي انضم قسماها سوياً بعد حرب الأيام الستة، وتضم بداخلها عرباً ويهوداً، دينيين وعلمانيين، مبشرين مسيحيين وشبابا يحبون الروك اند رول. هنا فصل أول من رواية أهارون ميجد الصادرة مؤخراً "الأيام العشرة الرهيبة".

أهارون ميجد: واحد من أهم الروائيين الإسرائيليين المعاصرين. ولد عام 1920 في لتوانيا وهاجر إلى إسرائيل عام 1926. من كتبه "الحي على الميت"، "الهروب"، "هاينز وابنه والروح الشريرة"، و"كراريس أبيتار". حاز على جائزة إسرائيل الأدبية عام 2003. خدم ملحقا ثقافيا لإسرائيل في لندن في الأعوام من 168 – 71.

الأيام العشرة الرهيبة

الفصل الأول

أهارون ميجِد

ترجمة: نائل الطوخي

سافرت القدس من أجل البحث عن الأحرف المفقودة.

عندما صحوت صباحاً من نوم عميق واصطدمت عيناي بطاولة الكتابة القريبة من سريري أصابني الذهول: الوثيقة الورقية التي ملأتها بالأمس بجمل تذكرتها شفوياً من العهد القديم، كلها في مديح القدس – "اصحي اصحي البسي قوتك، يا صهيون، البسي لباس زينتك.. افرحي جدا يا بنت صهيون، اصخبي يا بنت القدس... على أسوارك يا قدس تركت حراسا طول الليل وطول النهار..." وغيرها وغيرها، والتي كانت مستندة على كتاب ضخم، كانت خاوية! كل الحروف المكتوبة بخط كنعاني عبري قديم، والتي اجتهدت ساعات لكتابتها، بحرص ودقة وبقلم رصاص - من أجل التدريب بالأساس - فملامح هذا الخط وأشكاله تتغير وفق صيغه المختلفة – اختفت ولم تعد موجودة. علبة الحبر، البرجل والأقلام الرصاص، الآلة الكاتبة القديمة رمينجتون، إرث أبي الراحل – كل هذه الأشياء كانت في مكانها، وليس من بقايا لحرف واحد. كان الأمر يتجاوز الفهم الإنساني. أين اختفت؟ كيف محيت بلا أثر خلفها؟ هل "سرقها" شخص ما وأنا "نائم في موقع الحراسة"، كما يقولون اليوم عن أي حادثة للإهمال إجرامي؟ هل حدث عمل سحري هنا مساء وأنا نائم؟ أنا شخص عقلاني، وكباحث، فأنا ألاحظ الظواهر عن طريق العلم، أبداً لم أؤمن بالشعوذة.

ومع كل هذا، فشيء ما غامض قد حدث هنا. وبدون إرادة مني تسللت لرأسي تفسيرات مختلفة غير طبيعية. قبلها بوقت قصير كنت قد قرأت الرسالة عن حنينا بن ترديون، وهو واحد من قتلى الملكوت العشرة[1]. يُحكى هناك أن الرومان، قبل أن يحرقوه، قاموا بلف لفائف كتاب التوراة حول جسمه، وعندما سأله تلاميذه ماذا ترى، قال لهم "لفائف تحترق وحروف تطير". خطرت فكرة مجنونة على بالي الآن، ربما كانت الحروف العبرية – الكنعانية القديمة أيضاً، التي نقشتها على اللفافة تحت يدي، طارت هي أيضاً. حلقت، مثل سرب ذباب، فوق الوثيقة، وهي تجول الآن في فراغ العالم بدون أن ترتاح أو تعرف أين ستذهب.

وربما، لأن الجمل المكتوبة كلها عن موضوع القدس، ربما لهذا طارت، وربما عندما كنت غارقا في النوم حدث صراع بين المصوقيم والإرئيليم[2]، والإله الكنغاني بعل تعقب الإله العبراني يهوه، والحروف كلها هربت إلى المدينة المقدسة، وعثرت الآن على مخبا في الشقوق بين حجارة الحائط أو بين الصخور المنتشرة في الأراضي البور من حول القدس، أو أنقاض خرائب البيوت المدمرة في حرب الأيام الستة، وبرغم أنه مرت ست سنوات منذ ذلك الحين، فحتى الآن لم يتم تفريغ أمعاء بقاياها.

ظاهرة كلها غموض يعادي العقل، وهي تصيب بالجنون – يمكنها أن تسلّل أفكاراً –ولو مختلفة – في عقل إنسان كل عمله على البحوث الأكاديمية.

للحظات طويلة، بعد أن ظهرت أمام عيني الصفحة الصلعاء، وأنا نائم على السرير، دارت برأسي تأملات مخيفة وغير معقولة في محاولة لحل اللغز: هل أن شخصاً ما – من؟ يكرهني؟ هل يوجد لي كارهون؟ - أساء لي ونجح في التسلل للغرفة ليلا، عن طريق النافذة المفتوحة، واستبدال الورقة الملآنة بورقة خاوية؟ وربما... ربما كان هذا هو المجهول الذي "خطف" مني أوسنات – عندما انغرز بي اسمها شعرت بوخزة قوية للغاية في قلبي لدرجة أنني اعتقدت أن شللاً أصابني – أوسنات، التي "اختفت" من حياتي، التي "ضاعت" مني، في اليوم الذي اختفيت فيه من البيت، لأنني كنت يومها في جولة بمغارات قمران.

مغارات قمران، أذكر الهلع الذي أصابتي وأنا أبلغ ثلاثة عشر عاماً، عندما تهت في عمق إحدى تلك المغارات، و"أوشكت على الهلاك"، لأنني لم أجد طريقي للخروج منها.

في طريقي من تل أبيب للقدس للبحث عن الحروف الضائعة، عندما مر الأوتوبيس على كيبوتس شعلَفيم ، ومن بعيد، لأسفل، كان برج لترون يأخذ في الابيضاض، خطر على ذاكرتي الشيء الذي وقع لي، عندما كنت أنا نفسي على وشك الهلاك. سافرت مع فصلي الدراسي في نزهة تاريخية، لكي نرى بأعيننا الأماكن التي جلس فيها الإسيون[3] ووجدت فيها الوثائق المكنوزة. كان يوماً حاراً، وتراب خفيف يعميني، يتطاير على وجه الحيز المهجور. دخلنا إلى أرض أنقاض مدينة قمران: جدران مهدمة و مبتورة، مص أرض أنقاض مدينة قمران: جدران مهدمة و...،عل وجه الحيز المهجور. فيها الحثييت ووجدت فيها الوثائق المكنوزة. لاك"، لأنني لم أجد نوعة من لبنات أحجار غير منحوتة، تفصل بين من كانوا، قبل حوالي ألفي عام، غرف وقاعات، مكان عزلة أبناء طائفة الزهاد الجماعيين، كتبوا على ظهر اللفائف كتب التوراة والأنبياء. سرت بين حطام هذه الجدران، بجوار طاولات حجرية كُتبت عليها اللفائف، الرسائل، قوانين الطائفة، بجانب بقايا خزانات، معاصر، وأعمدة البوابات، وهذه المشاهد، المصحوبة بالشروحات الوافية للمعلم دوري، أصابتني بالملل، مثل الملل المقحط من حولنا. ما حمس خيالي وأثار فضولي كان مشهد البلعوم المفتوح، الأسود، فوق الصخرة المرتفعة عن الوادي الذي وقفنا فيه، والذي أشار إليه المعلم بوصفه فتحة إحدى المغارات التي اكتشف فيها البدو، أبناء الصحراء، بعضاً من اللفائف.

عندما واصل الفصل طريقه باتجاه أنقاض أخرى، على جانبي الوادي اليابس الذي يصل غرباً ويتم ابتلاعه بين الجبال، هربت من الجماعة وتوجهت إلى الصخرة. طريق ضيق وملتو أدى بي إلى البلعوم المفتوح، وصعدت عليه، أضرب قدمي بين الأحجار، أقفز على الصخور، حتى وصولي إلى هدفي. فتحة المغارة كانت مظلمة، ولكن نور الظهيرة القوي، الذي يتسلل للداخل، أضاء أجزاء قليلة على أكتاف حجارة المغارة. كانت واسعة وعميقة، أكثر بكثير مما تخيلتها.

جو من الغموض سيطر علي لدى دخولي بالداخل. صمت رهيب كان يسودها. أرضيتها كانت مغطاة بأمواج من الخفافيش وبرماد الحرائق، ببقايا من جذوات النار، وبين شقفات الفخار المنتشرة فيها هنا وهناك تخيلت أنني ألاحظ عملات قديمة، أوثاناً. واصلت طريقي إلى عمقها، كأنما بقوة سحر غير مرئي. على بعض الجدران كانت منقوشة خطوط قصير وطويلة لدى اتصالحها تخلق أشكالاً مثلثة، مربعة، معينة، وتوقفت أمامها لأحاول معرفة أصلها. خطاً مسمارياً كان، ولكن بأية لغة.أكادية؟ أوجاريتية؟ كنعانية؟ تخيلت ببصري حروف اللغات القديمة في كتاب التاريخ الخاص بي، ولم أتمكن من الحسم. كنت مستلبا أمام الحروف الملغزة، لدرجة أنني لم أشعر بمرور الزمن.

واصلت السير ، قدمي في محاذاة إصبعي، إلى أعماق المغارة، أترقب اكتشاف الخوافي. ربما وقعت في طريقي وثيقة أخرى، مثل ابن رعاة الغنم البدوي الذي اكتشف الأولى. فجأة سمعت من فوقي، كأنما من سقف المغارة المقعرة، صوت نحيب صارخ. توقفت مذهولاً في مكاني. كان صوت طائر ما. بومة جارحة؟ بومة غير جارحة؟ بالتأكيد ليس خفاشاً، الخفاش يصرخ ولا ينتحب. للحظات طويلة لم أستطع التحرك من مكاني، وعندما ساد الصمت مرة ثانية، وارتفعت عيناي للسقف، كان ما يشبه ظلالاً تجول في الظلام الذي يغطيها – من خلف العتمة خيل لي أنني أرى وجه إنسان يتطلع إلي. كان وجه امرأة شابة، شعرها الأسود يحيط بوجهها ونظرات عينيها حزينة، ولكن مثل النار التي تتوقد بداخلها. نظرتها، التي كانت مغروسة في، سحرتني. كنت أخرس. سرت رعشة في جسمي: هل تنوي هذه الصورة أن تقول لي شيئاً ما؟ هل تحذرني من شيء ما؟ وفجأة اختفت. وحتى بعد أن تبخرت ظللت مصعوقا ومرتعشاً من تأثيرها.

فقط بعد مرور الأوتوبيس بمدخل الوادي، في طريقه للقدس، خطرت على بالي فكرة كم أن وجه الشابة الجميلة في سقف المغارة، والتي ظهرت لي وأنا أبلغ ثلاثة عشر عاما، يشبه وجه أوسنات، وسرت رعشة في جسمي. التعبير المستعر في العينين، العمق المظلم بهما... طول الطريق، حتى وصولي للقدس، كانت تلوح لي هذه الصورة التي تضاعفت في صورة أوسنات.

عندما توجهت للخروج من المغارة اكتشفت أنني ضللت طريقي في ممر جانبي يتفرع عن القاعة الرئيسية. أصابني الرعب خوفا ألا أجد طريقي للخارج. حاولت العودة على أعقابي، ولكنني تعثرت بما يشبه المتاهة. من ممر لممر وليس من مخرج. أخذ الرعب يتزايد. تسارعت أنفاسي. صرخت، على أمل يائس أن يسمعني شخص ما. تردد صدى صرخاتي في الفراغ. ناديت على اسم المعلم، دوري! دوري! وعلى أسماء بعض من زملائي في الفصل. لا صوت ولا رد.

عندما خرجت في النهاية من المغارة إلى نور النهار كانت الساعة الواحدة ظهراً. نظرت لأسفل على الوادي ولم أر شخصاً بين الأنقاض أو حولها.

نزلت إلى المكان الذي منه – كما تذكرت – توجه الفصل غرباً واختفى عن عينيّ. دخلت الوادي المهجور، صعدت على طوله، بين جبال منتصبة، وأنا أصرخ بأسماء المعلم والتلاميذ، وخنقت الدموع صوتي. فقط بعد أن يأست من العثور عليهم وحططت على إحدى الصخور، ظهروا أمام عيني من بعيد، منتشرين في كل اتجاه. "يودا! يودا!" سمعت أصواتهم تحملها ريح المكان. لم يتمكن المعلم دوري من التحكم في غضبه. وجهه احمر وهجم علي! وزبد على شفتيه: كنت أنوي استدعاء الشرطة! ظننا أن نمراً افترسك!

قبل اختفاء أوسنات بسنة تقريباً سافرنا سوياً إلى القدس، أنا للقاء البروفيسير ماير، خبير كبير في الميثولوجيا الميزوبوتامية، وهي، التي كانت تدرس الجغرافيا في جامعة حيفا، سافرت للمكتبة القومية في جفعات رام، لكي تدرس خرائط قديمة لأوروبا، من القرنين الخامس والسادس عشر. كانت الساعة العاشرة عندما وصلنا إلى البلدة، اتفقنا على الالتقاء في كافيه طعمون في الساعة الواحدة لتناول الغداء. ولأن لقائي مع البروفيسور ماير تم قطعه في الحادية عشر ونصف- حيث سارع بلقاء ضيوف من الخارج – فلقد قررت السفر لجفعات رام، للقاء أوسنات بالمكتبة، وبعد أن تنتهي من مهمتها، نأكل سوياً في كافيتيريا الجامعة. دخلت المكتبة، مررت على الطاولات في قاعة القراءة، على أمل أن أجدها مستندة على أحد ألبومات الخرائط القديمة، ولم أرها هناك.

مررت بالأقسام الأخرى، أقسام الكتالوجات وأجهزة الطباعة والنسخ، وأيضا هناك لم أجدها. أمين المكتبة كذلك لم يتذكر أن امرأة سألته عن خرائط قديمة. بعد أن خفت من أن تصل لكافيه طعمون ولا تجدني، سارعت بالعودة هناك. جلست وانتظرتها حوالي ساعة ونصف، أقرأ الجرائد، أغرق في تقرير مفصل عن هبوط الإنسان الأول على القمر، وأتأمل الجملة الأسطورية المثيرة للقشعريرة لنيل أرمسترونج، بينما هو معلق بين السماء والأرض: "هذه خطوة صغيرة للإنسان وكبيرة للإنسانية." بعدها قرأت عن الاحتجاج ضد ترديد "أغنية للسلام" لروتبليج وروزنبلوم بواسطة كورس هاناحال، لأن الأغنية تؤذي المشاعر الأخلاقية لجنود جيش الدفاع الإسرائيلي. ولكن من لحظة للحظة كنت أختلس النظر إلى الباب لأرى إن كانت قد دخلت، مندهشاً من تأخرها الشديد، وأقول لنفسي، هي أيضاً قادرة على الطيران للقمر.

في الساعة الثانية دخلت. جلستْ مرعوبة أمامي على الطاولة، غمغمت بكلمات اعتذار مرتبكة. لقد التقت بشخص ما في المكتبة ظنته يعرفها... خيل لها أنه زميل في وفد أركيولوجيين يعمل على الحفائر بجانب موشاف عملا، ليس بعيدا عن قرية ريحانيا... قالت: "بدأنا في الحديث، وعندئذ اتضح لي أنه عالم محيطات جاء لرؤية بقايا السفن التي تم اكتشافها في عمق البحر بجانب قيسارية"... دخلنا في حوار، حكت، عرض عليها تناول الطعام معه في المطعم، وعندما خرجوا من المكتبة أوصلها بسيارته إلى المدينة القديمة. جلسوا في مطعم عربي.

ابتسمت، هو مضحك، سألني إذا كنت صبارية[4]، وعندما أجبته بالإيجاب، بالطبع، قال أنه اعتقدني فارسية... – فارسية؟ لماذا فارسية بالتحديد؟ ابتلعت ابتسامة، بينما أنا أحدق بما يشبه شعلة اندلعت في عينيها عندما تحدثت عن هذا الغريب – واحدة من ليالي ألف ليلة، على ما يبدو، جهدَتْ لتضحك، ربما كنت شهرزاد في عينيه... – ما اسمه؟ سألتُ، ونطقَتْ اسماً ينتهي بـ"سون"،ـ جونرسون أو يورجسون. – وهكذا جلستما وتحدثتما أكثر من ساعتين؟ - أنا آسفة، قالت، أثار فضولي جداً ما حكاه عن المكتشفات في أعماق المياه. تذكرتُ أنك تنتظرني وأنك قلق، رننت لكافيه طعمون وسألت عنك، أردت أن أخبرك بأنني سأتأخر، قالوا أنك كنت موجوداً ثم خرجت. ولكنني لم أتمكن من القيام وتركه هكذا، في وسط...

في الأيام التالية أبعدت عن ذاكرتي هذه الحادثة. فقط عندما كانت أوسنات تتغيب عن البيت عدة ساعات ولا أعرف أين هي، كان يظهر للحظة في رأسي الظل منعدم الأوصاف لغريب ما مجهول ينتهي اسمه بـ"سون"، وفوراً أسارع بطرده من رأسي.


[1] اسم لعشرة حكماء يهود (تنائيم) أعدمتهم السلطات الرومانية في فلسطين ممن أجل إصرارهم على تنفيذ أوامر الشريعة اليهودية.

[2] كناية عن الكئنات الأرضية والقدرة الإلهية. تم ذكر العبارة لدى موت الربي يهودا هاناسي، والذي قيل أن البشر يريدونه بينهم (تلاميذه لم يكونوا يتخيلون الحياة بدونه) والسماء تريده لها. أعلن بر كفرا خبر موته بالقول: "مصوقيم وأرئيليم، مسكوا تابوت العهد، انتصر الأرئيليم على المصوقيم وأُخذ تابوت العهد"

[3] مجموعة يهودية من الزاهدين، المتصوفين، عاشت في أثناء سيطرة المكابيين على فلسطين في فترة الحكم الروماني.

[4] أي يهودية مولودة بفلسطين.