حاييم بيسَح هو محرر أدبي وناقد ومترجم، ولد وعاش في تل أبيب والتي يعيش فيها حتى اليوم. بدأ في نشر مقالات في موضوع الثقافة الإنجليزية بملحق "تربوت فسفروت" بصحيفة هاآرتس، بينما كان يقيم في إلنجلترا. في نهاية السبعينيات أرسل لصحيفة هاآرتس مقالا عن رواية يعقوب شبتاي "ذكرى الأيام" وسبق فيه جميع النقاد في الإشادة بالقيمة الأدبية للكتاب، والذي يعد اليوم واحدا من الذرى الأدبية في الأدب الإسرائيلي. كما قام بترجمة نماذج من الأدب العبري إلى الإنجليزية.
في بداية الثمانينيات عمل محرراً في دار نشر عام عوفيد، وظل في هذه الوظيفة لخمس سنوات. وانتقل منها إلى دار نشر زمورا بيتان، وأصبح محررا رئيسيا فيها لما يقرب من ستة أعوام. وفي منتصف التسعينيات انتقل إلى دار كيتِر، ثم إلى دار بابل ثم يديعوت سفاريم وغيرها.
من كتبه "القصة الجديدة: مختارات من القصة العبرية 1995 – 1985"، "بنت عام ألفين: أنطولوجيا لقصص المهاجرين الجدد." و"البطل، العفريت والعذراء" له ولعلي ياسيف.
هذه المقالة منشورة في صحيفة يديعوت أحرونوت تحت عنوان "ذات يوم، كان الموت أكثر نجاحاً"، وهي ترجمة سيئة للعنوان العبري "פעם המוות היה להיט"، حيث تعادل كلمة להיט في العبرية كلمة HIT الإنجليزية، والتي تشير إلى الأغاني ذات النجاح المدوي.
للموت لن تكون حكومة
حاييم بيسَح
ترجمة: نائل الطوخي
أحياناً، عندما أقرأ الصحف، أو الكتب الجديدة، أشاهد الإنترنت أو ألعاب ألعاباً إلكترونية، أفكر في نفسي أن الموت لم يعد كما كان. ذات مرة كان أكثر احتراماً وأشبه بالعجائز. وأنا لا أتحدث عن آلهة الموت القدامى بالتحديد، لا عن أنوبيس المصري، تانتوس اليوناني، كالي الهندية ولا عن موت الكنعاني وبالتأكيد ليس عن شيطاننا، الذي يهتم كما هو معروف أكثر بما يحدث للأحياء وهو أقل اهتماماً بهؤلاء الذين لم يعودوا يفكرون.
صحيح أن من يعيش في إسرائيل، بكل أنواع أيام الذكرى فيها، والتي تحل على الأقل مرتين في الأسبوع – ومن المناسب في هذا السياق قراء المقال الممتاز لناتان زاخ "هل كلنا موتى" – سيصعب عليه ملاحظة تدهور مكانة الموت. ولكن حتى هنا، عندما تقرأ في أحد الأيام العادية عن أربعة حوادث قتل، خمسة حوادث سيارات، بينها أربعة أصاب وهرب بجانب ثلاث حالات انتحار – فإن شيئاً ما مع كل هذا يضيع ولا يبقى له أثر. إلى أي حد يمكننا، مع كل الاحترام للشيطان وبدون الاستهانة به أو بمن لن يصبح المسئول عندنا عن هذا الموضوع، إلى أي حد يمكننا الانفعال تأثراً بدستة حوادث موت في اليوم. هناك ابتذال بلا شك.
موت بنكهة طيبة
ليس أن الموضوع هو وقوع حوادث موت أكثر مما كانت دائماً. وهذا يجعلني أتساءل كيف كان كل شيء ذات يوم، عندما كان الموت أقل حميمية وينفجر أمام الجميع، مثل الحمامات العامة والمفتوحة في روما القديمة، والتي كان فيها الرجال والنساء الجالسون جماعة يقضون حاجاتهم أمام الجميع. ذات يوم كان كل موت بمثابة احتفال: عندما كان يتم صلب الناس جماعة (قبل يسوع بكثير، وبالتحديد اشتهر ملك يهودي باسم ألكسندر يناي بهذا) وكانوا يُصعدونهم على البؤرة بمحاكم التفتيش. وكان الناس يحجزون أماكن المشاهدة لأصدقائهم أمام حرق الساحرات أو قطع الرؤوس.
أنا أتحدث عن فترة كان فيها مواطنو باريس المحررون من نير الملكية، يتجولون في الشوارع بدبابيس المقاصل الذهبية على طيات صدور معاطفهم. صحيح أنه حتى اليوم، يمكن للمهتمين مشاهدة عمليات الإعدام في ميادين طهران ودمشق، ولكن هذا لم يعد هو نفس الشيء. ربما يتوقف من يمر هناك بالصدفة للنظر، ولكن أحداً لن يخرج من سيارته ويعرض نفسه للخطر في ساعة الذروة في الطرق كي يرى رجلاً متأرجحاً من حبل. في الصين والولايات المتحدة يكثرون من إصدار أحكام الإعدام، ولكنها دائماً بنكهة جيدة، في تحفظ رأسمالي أو شيوعي، وليس علناً أبداً.
هل يمكن لشاعر يكتب اليوم أن يعطي الموت احترامه، ولو حتى بوصفه معارضاً، كما في الأبيات الخالدة لديلان توماس في قصيدته الرائعة "وللموت لن تكون سيطرة"، التي أقدمها أنا هنا في ترجمة حرة:
برغم أنهم غرقوا في البحر فسوف يعودون للصعود
برغم أنه لم يعد هناك محبوبون فالحب لن يضيع
وللموت لن تكون سيطرة
هل أن هذا الاحتجاج يشير إلى بداية تمرد الصبا على الموت؟ سواء هذا أو ذاك، فقصائد كثيرة تكتب ضد أو دفاعاً عن، وهذا ما يحدث في النثر الأقل أو الأكثر جودة، مثلما الموت المخيف عند إدجار آلان بو، الموت المبتذل عند هارت كراين، الموت المضحك – لا يخطر على بالي الآن، ربما عند شفيك. ولكن، عندما كتب ديلان هذا البيت: "وللموت لن تكون سيطرة"، هل كان يخطر على باله أنه يوماً ما، سوف يكون الخوف من الموت ببساطة موضة قديمة قليلا؟
صحيح أنه في الأدب المكتوب اليوم يظهر الموت من حين لآخر كضيف، وأنه لم يعد يقوم بالدور الرئيسي دائماً. ولكن نبوءة تدهور مكانته جاءت من مكان آخر تماماً، لقد جاءت بالتحديد من اتجاه الحبكات المرسومة. وهنا أعني أي عمل يهتم بالرسم وليس بالكلمات، مثل الكوميكس المرسوم، أفلام الرسوم المتحركة، وألعاب الكمبيوتر والبلايستيشن.
ركلة محترمة إلى الهاوية
إذا لم نأخذ في الحسبان سلسلة رسومات تحكي حبكة، مثلما على سبيل المثال "أعمال عاهرة"، للرسام اتجليزية هاجارت ابن القرن الثامن عشر، فإن الكوميكس المصور (ولا أقصد هنا جنس الكوميكس الجاد) قد ظهر لأول مرة في كراسات "الطفل الأصفر" في الولايات المتحدة بنهاية القرن التاسع عشر.
كذلك ظهر الفيلم المصور الأول في فرنسا بنفس الفترة، وألعاب الكمبيوتر، كما هو معروف، لم تصلنا إلا في النصف الثاني من القرن العشرين. في كل الوسائط الثلاثة هذه- فإن الموت يتم إذلاله حتى الموت. يتحول في الواقع إلى نكتة، وعلى قدر ما يصبح صادماً على قدر ما يصبح مضحكاً. منذ أفلام الأنيماشن الأولى، عندما يضرب الفأر رأس القط، خبطة تؤدي إلى صدمة في المخ، إن لم يكن عجة – الرأس تنسحق فعلاً – ولكنها فوراً تعود وتنتفخ، كأنما لم يحدث شيء.
إذا كان القط مطارداً حتى نهاية الجرف ثم يسقط في الهاوية بركلة محترمة، فلا قلق. فوراً يقوم ويتعافى. باختصار، في الكوميكس والأفلام المصورة، فإن الموت كحادث نهائي يتم محوه ببساطة. وفعلاً، فمن المرغوب أن يشاهد الأطفال في إسرائيل على قدر ما يمكن أفلاماً مصورة، حتى يكون الجيل القادم أقل إدمانا لأيام الذكرى وأكثر إدمانا للحياة.
الفارق بين الكوميكس في المجلات والأفلام المصورة، وبين الألعاب الإلكترونية، يكمن في أن مصير الشخصيات بالاثنين الأولين يتم تقريره على يد المبدعين أنفسهم. هذا مصير قدري مثل الخطيئة الأولى لدى المسيحيين. في ألعاب الكمبيوتر، في مقابل هذا، ثمة عنصر الإرادة الحرة والاختيار.
اللاعب أو اللاعبون هم المسئولون عن "موت" الشخصيات الافتراضية. هم ألهتها، وإذا كانا اثنين، هذا في مقابل ذاك، فنحن نعود للوضع الميثولوجي. يصبحان رمزاً للشيطان أمام الإله. ولا يفرق من منهما ينتصر، ففي اللعبة القادمة سوف تعود كل الشخصيات: الطيبة والشريرة والعرضية –وتقوم للحياة. لذا، فطالما أننا مستمرون في اللعب بالحياة، للموت لن تكون حكومة.