ولد ناتان زاخ في 1930 بمدينة برلين، باسم هاري زايتلبج لأب ألماني يهودي وأم إيطالية غير يهودية، هاجر لفلسطين في 1936 وانضم للجيش الإسرائيلي في حرب 1948.
واحد من أهم الشعراء الإسرائيليين، أسس في الخمسينيات مجلة "لكرات" والتي عادت الشعر الإسرائيلي السابق الذي كتبه ناتان ألترمان وغيره، وحررت القصيدة من الاستعارات البلاغية الثقيلة لتجعلها أكثر بساطة.
من دواوينه "قصائد أولى"، 1955، "قصائد مختلفة"، 1960، "كل اللبن والعسل"، 1966، "شمالي شرقي" 1979، "كم أنك رائعة كنت" 2008. وله مسرحية "مدرسة الرقص" التي عرضت على المسرح الكامري عام 1984 وأخرجها شموئيل بونيم. حاز جائزة إسرائيل (1995) وبياليك (1982) وجائزة أكوم عن مسيرة حياته في الأغنية العبرية.
دافيد جروسمان أديب إسرائيلي شهير، واحد من المرشحين الإسرائيليين الدائمين لجائزة نوبل، سويا مع عاموس عوز. ولد في القدس عام 1954، لأب من أصل بولندي وأم مقدسية.
قبل أن يبدأ الكتابة عمل مذيعا في الراديو. وبعد خدمته العسكرية في الوحدة 8200، واصل جروسمان عمله الإذاعي ودرس في الجامعة العبرية فلسفة ومسرحا. نشرت قصصه الأولى في دورية "سيمان كريئاه"، وفي 1979، بعد انتهاء دراسته وقبل أن ينشر مجموعته القصصية الأولى "يجري"، حاز جائزة نويمان على قصته "ياني على الجبل". أما قصته "حمير" فلقد فازت بجائزة هاري الأول عام 1980.
بدأ جروسمان في تقديم نفسه كأديب في الثمانينيات. روايته الأولى "ابتسامة الجدي" تحكي عن الحياة في الضفة الغربية تحت السلطة الإسرائيلية. تحول الكتاب إلى فيلم من إخراج شمعون دوتان. في عام 1984 حاز جروسمان جائزة رئيس الوزراء للإبداع.
واحد من أهم كتبه هو "الزمن الأصفر"، والذي جمع فيه تقاريره عن الضفة الغربية المكتوبة عام 1987 (قبل الانتفاضة الأولى بفترة بسيطة)، وكان قد كتب تلك المقالات بوصفه مراسلا صحفياً، حيث كتب أن "اللاجئين حجولوا أنفسهم إلى قرناء لأناس كانوا في الماضي، في مكان آخر، أناس لا يمسكون في أيديهم سوى بحرفة واحدة: القدرة على الانتظار." في إشارة إلى تشابه بين الهولوكست والوضع الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وإلى التشابه بين الضحيتين.
حاز جروسمان جزءا كبيرا من شهرته لأسباب سياسية، أي لكونه يعرف في إسرائيل بأنه رجل سلام. مات ابنه أوري في الحرب التي أدارتها إسرائيل على لبنان عام 2006، قبل هذا بيومين كان هو، سويا مع عاموس عوز وأ.ب. يهوشواع، ينظمون مؤتمرا صحفيا يدعون فيه لعدم توسيع الحرب ولوقف إطلاق النار. بعد موت ابنه بشهرين، وفي الذكرى الحادية عشر لاغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين وقف جروسمان في ميدان رابين وألقى خطابا شديد اللهجة ضد السياسة الإسرائيلية ودعا الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، للعودة للمفاوضات. في نهاية عام 2007، حاز على جائزة أ.م.ت. التي قدمها لها رئيس الوزراء إيهود أولمرت، غير أن جروسمان رفض مصافحته لكونه هو من أدار الحرب التي قتل فيها ابنه.
يمكن النظر إلى إبداع جروسمان من زوايا سياسية متعددة، فيمكن النظر له باعتباره رجل سلام، كما يبدو ذلك في كتابه "الزمن الأصفر"، أو باعتباره شخصا يكرس لمفهوم الضحية اليهودية الدائمة التي عانت من الهولوكست سابقا ولازالت تعاني من العمليات الانتحارية حاليا، كما يبدو من المقطع المترجم هنا من روايته "امرأة هاربة من البشارة"، وهي آخر رواياته الصادرة عام 2008، وكما يبدو من مقطع الفيديو الوارد هنا، وهو ما دفع الشاعر إسحق لاؤور يوما لاعتباره "كاتبا يكتب على زجزاج".
امرأة هاربة من البشارة
ويوما ما، قبل حوالي سنة، طلبت من السكرتيرة بالعيادة التي كانت تعمل بها،أن تلغي طابور المرضى القادم، مرت بيوم صعب، لم تغمض عينيها طول الليل تقريبا، وعندئذ بدأت المواضيع في البيت، دمدمت واستمع لها إفرام، متوتر قليلا، شيء ما في صوتها، وفكرت هي في القفز لشراء شيء من عيمك رفائيم، وشاح أو نظارة شمس، لكي تنقذ روحها. سارت في شارع يافا، في طريقها للجراج الي تركن فيه سيارتها يوميا. لم يكن الشارع على عادته، صمت من نوع مختلف كان يسوده، الهدوء جعلها تحس بعدم هدوء، رغبت فجأة في الدوران والعودة للعيادة، ولكنها واصلت السير، ولاحظت أن الناس في الشارع يخطون بسرعة وتقريبا لا ينظر الواحد منهم في عين الآخر، وبعد لحظة حتى هي سارت هكذا، تجنت الوجوه الناظرة إلى أسفل وتهربت من أعين هؤلاء الذين يسيرون أمامها، وبرغم هذافلقد صوبت باتجاههم سرا نظرات سريعة، تمشط وتصنف، وبشكل خاص تفحص ما يحملونه في أيديهم، طرد أو ملف كبير، أو أنهم عصبيون بشكل مريب، وكلهم تقريبا يبدون لها مريبين بشكل ما، وفكرت في أنها ربما قد تبدو هكذا في أعينهم حتى، وربما كانت تحتاج أن تومئ لهم بأنه ليس من خطر هناك، وأنه فيما يتصل بها فيمكنهم أن يكونوا هادئين وأن يوفروا على ِأنفسهم ضربات القلب، ومن ناحية أخرى، ربما يكون من الأفضل ألا تسلمهم هنا بسهولة معلومة كتلك.
وشدت كتفيها وأرغمت نفسها على الانتصاب، لتوجيه نظرة إلى العابرين أمامها. عنددما تطلعت إليهم هكذا، رأت أن كل واحد منهم تقريبا يحمل ملمحا يشير إلى إمكانية غامضة متضمنة فيه، إمكانية أن يكون قاتلا أو ضحية، وبشكل عام الاحتمالان سويا أيضاً.
متى تمكنت من دراسة هذه الحركات والنظرات؟ مدى النظرات الإيقاعية، العصبية، إلى ما بعد الكتف، والخطوات التي تبدو وكأنها تقتفي أثرها بعجلة وتقرر لنفسها. أمور جديدة عرفتها عن نفسها، مثل أعراض المرض الذي ينمو بداخلها. خيل إليها أنه حتى الآخرين، الذين يسيرون في المحيط، كلهم، حتى الأطفال، يتقافزون على صوت صفارة لا تستطيع إلا أجسادهم سماعها بينما هم أنفسهم أصماء تجاهها. بدأت في السير بسرعة أكبر، نفسها قصير. فكرت، كيف يخرجون من هذا، كيف يهربون من هنا، وعندما رأت أمامها محطة أوتوبيس توقفت للحظة وجلست على أحد المقاعد البلاستيكية، لسنوات لم تجلس في محطة أوتوبيس، وحتى في هذه الجلسة على البلاستيك الأصفر الناعم كان يكمن اعتراف بهزيمة ما. شدت طولها وببطء عاد لها نفسها. بعد لحظة سوف تقوم وتواصل السير. تذكرت أنه في الفترة الأولى من العمليات الانتحارية ذهب إيلان مرة مع عوفار- آدام كان لا يزال في الجيش – لفحص الطرق الآمنةمن مدرسته بوسط المدينة إلى محطة الأوتوبيس لعين كيريم. ولكن طريقاً واحداً كان يمر قريبا من المكان الذي فجر فيه مخرب ما نفسه بخط 18، مع عشرة ركاب سويا، وعندما اقترح إيلان أن يسير عوفار في شارع بن يهودا المنحدر، ذكره عوفار بالانفجار الثلاثي الذي حدث في الشارع المنحدر، والذي قتل فيه خمسة، وجرح مئة وعشرون، وحاول إيلان رسم طريق أطول قليلا، يحيط من الخلف وينتهي قريباً من سوق محانيه يهودا، وأشار عوفار إلى أنه بالتحديد فلقد حدثت هناك العملية الانتحارية المزدوجة، 15 قتيلا و17 جريحا، وأصلا، أضاف، فكل الأوتوبيسات من المدينة باتجاه عين كيريم، تمر بالمحطة الرئيسية، والذي حدثت بجانبها أيضا عملية انتحارية، في خط 18 مرة أخرى، 25 قتيلا وثلاثة قتلى.
وهكذا جرى كلاهما من شارع إلى شارع، تحكي لأفرام، وبينما كانت تحكي كانت تغرق في فكرة أن عوفار قد يكون يحتفظ في مكان ما بدفتر كوهينور داكن يسجل فيه أسماء القتلى والجرحى. والشوارع والأزقة التي لم تحدث بها عمليات بعد بدت لإيلان مستهدفة وهشة للغاية، حتى أن هذا لدهشته بدا واضحا قبل أن يحدث فيها أي شيء. وفي النهاية، يائسا، توقف في منتصف شارع ما، ولفظ، هل تعرف ماذا، يا عوفريكو؟ ببساطة سوف تسير بأقصى قدر من السرعة. ستجري حتى.
والنظرة التي صوبها عوفار باتجاهه – كما حكى بعدها لأورا – هذه النظرة لن ينساها.
وبينما هي تفكر بهذه الطريقة توقف أوتوبيس في المحطة، وعندما انفتح الباب قامت أورا بأدب ودخلت، عندئذ أدركت أنها لا تعرف كم يبلغ ثمن أجرة الأوتوبيس، ولا بأي خط هي تركب هنا. أخرجت للسائق بتردد ورقة بخمسين، ونهرها طالبا منها أن تعطيه نقودا أقل، نبشت في المحفظة ولم تجد، ولفظ هو مسبة وأخرج لها فكة تتكون كلها من عملات، واستعجلها طالبا منها أن تتقدم إلى الداخل. وقفت ونظرت إلى الركاب، أغلبهم كبار السن منهكو الوجوه، كئيبون، بعضهم على ما يبدو عائد من السوق، سلال ممتلئة مرتكنة بين أرجلهم. كان هناك أيضا تلاميذ الصف الثانوي، هادئين بشكل غريب، نظرت أورا إلى هؤلاء وهؤلاء بذهول وبإشفاق خفي، ورغبت في الدوران والنزول، أنا أصلا لم أكن أنوي الركوب في الأوتوبيس، قالت لأفرام، ولكن واحدة ما صعدت خلفها دفعتها داخلا، دفعتها بيديها، وخطت أورا عدة خطوات أخرى ووقفت، ولأنه لم تكن هناك مقاعد خالية، فلقد قبضت على الأنشوطة العليا، وسندت خدها على ذراعها، ونظرت إلى المدينة التي لاحت من خلال النافذة، وفكرت، ماذا أفعل هنا؟ أنا لا يجب أن أكون هنا. الأوتوبيس انتقل بين المحال المكدسة لشارع يافا، ومر على مطعم سبارو، وبعد ها على ميدان صهيون، والذي انفجرت فيه عام 1975 ثلاجة مفخخة، وبين الكثيرين القتلى كان هناك شاب عرفته في الجيش، إيتشه، ابن الرسام نفتالي بيزيم، وتساءلت أورا إن كان بيزيم قد نجح في الرسم بعد موته ابنه، وفي المحطة المجاورة لجمعية الشباب المسيجي، تم إخلاء عدة أماكن، جلست وقالت لنفسها، في المحطة القادمة سأنزل، وواصلت الركوب مارة على حديقة الجرس، وفي عيمك رفائيم، وعندما مر الأوتوبيس بجانب كافيه هيليل، قالت بنصف صوت، الآن سأنزل وأذهب لشرب القهوة، وواصلت الركوب.
أدهشها كم الهدوء الذي حل بالركاب. أغلبهم ينظرون من الشباك مثلها، كأنهم لا يجرؤون على النظر إلى زملائهم الركاب. وفي كل مرة يتوقف فيها الأوتوبيس في المحطة، كان الجميع يشدون طولهم قليلا ويغرزون نظراتهم في الداخلين، والداخلون أيضا كان يفحصونهم مضيقين أعينهم، كانت تلك نظرات متبادلة سريعة جدا، بسرعة حدقة العين، ولكن أي حرفة متطورة بشكل مذهل من التصنيف والفهرسة واستنتاج الاستنتاجات تتم هنا، وشدت أورا بيديها جلد وجهها وجبهتها، وفكرت مرة أخرى أن عليها النزول والقبض على تاكسي والعودة إلى سيارتها، وواصلت الركوب مرورا على القطمون ووادي ملحا، حتى وصل الأوتوبيس للمحطة الأخيرة، ونظر السائق إليها من خلال المرآة ونادى، مدام، نهاية الخط، وتساءلت أورا إن كان ثمة أوتوبيس يعود إلى المدينة. هاهو هناك، وأشار السائق إلى أوتوبيس خط 18، اجري فقط، لأنه حالا سيتحرك، وسأشير له أنا حتى ينتظرك.
دخلت الأوتوبيس، والذي كان خاويا تماما، وللحظة انكسرت على نظرتها صور ممزقة، منفجرة ونازفة. وتساءلت محتارة عن المكان الأكثر أمانا للجلوس، ولولا خجلها لسألت السائق. حاولت تذكر التقارير الكثيرة التي سمعتها عن العمليات في الأوتوبيس، ولم تنجح في الحكم إن كانت كلها قد حدثت في نفس اللحظة التي صعد فيها المخرب إلى الأوتوبيس، حيث وقع الانفجار بالطبع في الجزء الأمامي، أم أن المخرب دخل، وعندما أصبح بالضبط في مركز الأوتوبيس، محاطا بأغلبية الركاب، صاح الله أكبر وضغط على الزر. وقررت الجلوس في الكنبة الخلفية، ونفضت عن نفسها فكرة أن شظايا المادة المتفجرة وكرات المعدن سوف تتوقف وتنكبح بشكل ما قبل أن تصل إليها. ولكن بعد لحظة شعرت بوحدة بالغة ومتطرفة، وانتقلت للجلوس في المقعد الذي خلفها، وتسائلت إذا كانت الحركةالتافهة لم تحدد بعد لحظات مصيرها، والتقت بالعينين المتفحصتين للسائق في المرآة. وفجأة خطر على بالي، قالت لأفرام، أنه يمكن له أن يفكر في أنني أنا نفسي الانتحارية.
بعد ساعة من الركوب أصبحت مستنزفة، وخافت من التخلي عن يقظتها، أغلقت عينيها وحاربت بكل قواها حتى تسند رأسها على زجاج النافذة وتخطف لحظات نوم خفيف. في الأيام الأخيرة شعرت كأنها طفلة تكتشف، وهو ما ليس في صالحها وبسرعة متزايدة، أسرار الكبار: قبل هذا بأسبوع حكت له أنها جلست في النهار بكافيه "مومنت"، والمكان ليس ممتلئا وليس فارغا، ودخلت امرأة سمينة وقصيرة، تلبس معطفا ثقيلا، احتفظت على كتفها برضيع مغطى ببطانية. كانت امرأة غير شابة، كأنها تبلغ خمسة وأربعين عاما، وقد يكون هذا هو ما أثار الارتياب، حيث فجأة تطايرت همسات في الجو: "هذا ليس رضيعا"، وفي رفة عين انقلب المكان، قفز أناس، قلبوا الكراسي في ركضهم، أوقعوا الصحون والأكواب، صارعوا آخرين في طريقهم إلى الخروج. المرأة ذات المعطف نظرت إلى الجلبة بدهشة، وبدا أنها لم تفهم أبدا أن كل هذه العاصفة حدثت بسببها. بعدها جلست بجانب إحدى الطاولات ووضعت الرضيع على ركبتيها. لم تكن أورا مستعدة للتحرك عن مكانها، وتابعتها منومة مغناطيسياً. المرأة فتحت البطانية، حلت أزرار معطف صغير ومغلق، وابتسمت إلى الوجوه السمينة النعسانة التي تطلعت هناك، وقالت، آه يا قطقوطي.
في اليوم التالي ظهرا، تحكي أورا – في الطريق الذي يصل إلى برج ريش لاكيش يسيرون، يطأون أثار أقدام الحكماء اليهود القدامى، واليوم حار ومضيء. الطريق منبسط هنا ويتدفق بهدوء بين أشجار الخروب والبلوطوالأبقار المتدفقة، في اليوم التالي ظهرا عادت وطلبت من السكرتيرة بالعيادة أن تلغي العملية القريب، وخرجت إلى محطة خط 18، وركبت حتى المحطة الأخيرة له، ولأنه لم يكن وراءها شيء بعد الظهر، ولم تكن ترغب في البقاء بالبيت وحدها، فلقد واصلت الركوب من هناك عائدة إلى المحطة الأولى للخط، على أطراف حي كريات يوفل، وهناك غيرت الأوتوبيس وعادت معه لوسط المدينة، ونزلت وتمشت قليلا، تطلعت في الفتارين، وإلى انعكاس الشارع من خلف ظهرها، فحصت الناس الذين كانوا يمرون هناك، فرضت على نفسها الحركة ببطء.
حتى قبل العملية الأول لها في العيادة، وجدت خط 18 في المحطة المركزية للقدس، وهذه المرة جلست في الجزء الأمامي من الأوتوبيس، وكل ثلاث أو أربع محطات كانت تنزل وتغير الأوتوبيس، وأحيانا أيضا كانت تقطع الشارع وتغير اتجاه السير، وكل مرة كانت تحاول الجلوس في مكان آخر، كأنما جسدها كان جسما في لعبة شطرنج متخيلة. عندما أدركت أنها قد تأخرت على العملية الثالثة، صدمت للحظة وفكرت في زوج مديري العيادة الذين سوف يستدعيانها لتقديم تفسير، وأجلت التفكير عنهما إلى وقت آخر، عندما تكون لديها القوة. متعبة لهذا الحد كانت في تلك الأيام، بحيث كانت إذا جلست، تدع رأسها تميل، وتنعس، ولدقائق طويلة أحيانا. خلال نصف ساعة كانت ترفع من حين لآخر جفنيها وتشاهد الناس من خلال الأوتوبيس كأنما من خلال شاشة دقيقة. أصوات تخللت نومها، أحاديث بين غرباء ومحادثات تليفونية أجراها الركاب. إذا لم يصعد شخص إلى الأوتوبيس، كان ثم ارتياح يسود الأوتوبيس فوراً، وكان الركاب يتوجهون إلى بعضهم البعض بالكلام. عجوز جلس بجانبها في إحدى الركوبات، ثقيل الجسد، مغطى بنياشين الجيش الأحمر، أخرج من سلة المشتريات الخاصة به ظرفا بنيا كبيرا وفيه صورة رنتجتن لزوجته، وأراها لها بإصبعه الإبهام. من خلف الصورة رأت أورا بشكل مضبب شرطيتين إثيوبيتين من حرس الحدود، تفحصان هوية شاب صغير، ربما يكون عربيا وربما لا. كان يرفس الرصيف برجله بلا انقطاع.
يقفون، يتنفسون قليلا، يضعون أيديهم على خصورهم، ماذا حدث لنا حتى بدأنا نركض هكذا، يسأل كل منهم الآخر بنظراته. ولكن شيئا ما يطعن كعوبهم، يخدر أنفاسهم، وهم فقط يصوبون نظراتهم إلى وادي نطوفة الجميل، ويعودون للمسير بسرعة في طريق الماعز، في غابة السنديات والبلطو وأشجار البتولا. أورا صامتة. وجهها إلى الطريق. أفرام يصوب لها نظرات حذرة، فمها مغلق وضيق من خطوة لأخرى. انظر، تهمس، وتشير: على الطريق، عند أقدامهم، مرسوم فجأة خطوط ثرية ومكدسة، نبش متواصل ومتدفق من جميع الأنحاء، حتى يتم تجميعه في عنقود حلزوني على فرع من الأكمة.
في الأسبوع التالي، كان السائقون قد ميزوا وجهها، ولكن لأنه لم يكن بها ما يثير الارتياب، فلقد أسرعوا بإزاحتها عن وعيتهم، كي يستطيعوا التركيز على المهم. هي نفسها بدأت في تمييز عدد من الركاب الثابتين، أصبحت تعرف أين سيصعدون وأين سيهبطون. إذا كانوا يتحدثون في التليفون، أو مع جيرانهم بالأريكة، عرفت أشياء أيضا عن أمراضهم وأسرهم، وارائهم بخصوص الحكومة. زوج من العجائز جذب انتباهها: الرجل طويل ونحيف، المرأة ضئيلة جدا، جلدها متغضن وشفاف تقريباً. عندما كانت تجلس، لم تكن ساقاها تصلان إلى أرضية الأوتوبيس وكانتا تتأرجحان في الهواء. المرأة تسعل بلا انقطاع، سعلات قاسية ومشبعة بالبلغم، وكان الرجل يتناول من يدها المنديل الورقي المستعمل وينظر بقلق إلى محتواه، ويستبدله بآخر جديد. كانت أورا تنتبه قليلا في كل مرة يصعد فيها هذان الاثنان، في المحطة المجاورة للسوق، وهما أيضا، مثلها، كانا يستمران حتى المحطة النهائية، ولدهشتها كانا ينتقلان معها، دائما تقريباـ لأوتوبيس آخر أيضاً، ويهبطان في المحطة التي صعدا فيها، من الجانب الآخر للطريق. لم تستطع تفسير خط مسيرهما.