Saturday 12 December 2009

ليمونعناع

عن النصوص الإسرائيلية المؤسسة:

غربة الإسرائيلي في "أرضه" التي يحتلها

أورن كاكون

ترجمة: نائل الطوخي


هذا ما كتبه يجئال شفارتس في مقدمة كتابه بعنوان "هل عرف الأرض التي فيها يزهر الليمون": "ولد هذا الكتاب من رحم التزاوج بين الأزمة الوجودية والفضول الثقافي. تكمن جذوره في محاولة فهم كنه وأصول عدم الراحة التي نشعر بها نحن، الإسرائيليين، إزاء هويتنا والمكان الذي نصفه باعتباره بيتنا القومي." ليس أقل. يجئال شفارتس يشعر بعدم راحة وجودية وجماعية ("نحن، الإسرائيليين") ويبحث عن أزمة وجود الإنسان الإسرائيلي الجديد. وهو ما يبدو كحركة متفضلة، فعل ابتعاد. هذه الرحلة تبدأ برواية "محبة صهيون" لمابو، مرورا بيوتوبيا هرتزل والاكتشاف المتجدد لقصص يوسف لويدور المنسية، ومن هناك ينتقل إلى رواية "سار في الحقول" لموشيه شامير وينتهي بمجموعة "الرحل وابن أوى" لعاموس عوز.

لماذا إذن لم يتم تقديم خريطة مختلفة ويتم تضمينها أدباء آخرين، برينر، لنفترض، ساميخ يزهار، بنحاس ساديه، أ. ب. يهوشواع الشاب، سامي ميخائيل؟ ليس لهذه الأصوات وغيرها وجود على صفحات الكتاب المهتم بالتحديد بتحليل طبقات الأدب الذي يصور فترته. تتم الإشارة إلى بعضهم هنا وهناك ولكن بشكل قسري في البحث المغرض، أو يتم إبعادهم لدرجة عدم الإحساس بوجودهم. هكذا على سبيل المثال يستخدم الباحث اقتباسا من بيت واحد لبرينر، وهو أيضا شعار المقدمة، ويفرض على القارئ، مثل باحثين آخرين كثيرين، فهما أحاديا، مغلقا، لهذا الأديب العظيم. البيت يقول: (مبدأ "هنا نقف ومن هنا لن نتزحزح"! ينعدم تماما في كتاب تاريخ هذا الشعب) (ي. ح. برينر "تقدير أنفسنا في المجلدات الثلاثة"). ليس هناك بيت أكثر إيلاما لبرينر من هذا البيت في السياق الذي قيل فيه. هناك في عمل شفارتس شكل من موهبة الاقتطاع من السياق، وهو ما يلائم تحقيقا صحفيا متسرع أكر مما يلائم بحثا أدبيا جادا. لأن برينر، في قصصه ومقالاته التي كتبها في فلسطين، قد احتقر المشروع الصهيوني وأدان بكل طريقة ممكنة التجربة الجمعية اليهودية التي تنبأ بفشلها. ومن لم يجد هذا في كتاباته فهذا فقط لأن عينيه قد تجاهلتا الأساس أو أنه غير مهتم، بكل قوة، بالعثور عليه. لا يجب ضم كل كتابات برينر لليوتوبيا الصهيونية كما يفعل هذا البحث (خاصة لو كانت هذه الصورة قد وجدت كي تتم مناطحتها، أو كي يُشرح للقراء أزماتهم الوجودية)، مثلما لا يمكن ضم كتب ميلان كونديسرا للشيوعية في بلده، أو كتابات بريخت للنازية. وإذا كنت قد فعلت هذا، فمسموح على الأقل بالتحفظ على هذا.



الأديب اليهودي أبراهام مابو

في الخماسية المقدسة التي أمامنا، يتم على أية حال إغفال النقاش الذي أقيم ولا يزال يدور بين الباحثين حول تقسيم الأدب العبري. تم هنا تقديم خريطة للوجود التاريخي لليهود في القرن الأخير عن طريق خمسة نصوص مؤسسة، ولكن ليس هناك ولو حتى تفسير واحد يرضينا لهذه العملية الغريبة. في الواقع فإن هذه النصوص تصبح مساراً تاريخياً مؤسساً فقط لأن شخصا مهما ومؤثرا مثل البروفيسور يجئال شفارتس قرر هذا، استنادا إلى نصوص عادية قرأها على مدار حياته كأستاذ جامعي. هاهو، على سبيل المثال، التفسير وراء اعتباره "محبة صهيون" نصاً مؤسساً: (يهود كثيرون هاجروا لأرض إسرائيل في الهجرات الأولى شهدوا بأن "هذا الكتاب الصغير قد أسر قلبهم وأثار بهم عاصفة من الانفعالات التي قرروا بعدها حزم أغراضهم والخروج في طريق أرض إسرائيل") هنا نلتقى بإحدى المشاكل بهذا البحث وبالملل المنضفر به على امتداده. أمامنا محاولة عنيدة لإثبات أشياء لا يعوزها الإثبات، فأي نص عبري تم نشره في القرن التاسع عشر هو نص مؤسس، لأنه مكتوب بالعبرية. لغة مرتعشة، ميتة تقريبا، تم إحياؤها، هوية وطنية يهودية جديدة بدأت في التبلور، وبجانب هذا معاداة السامية. كل من أطلق يده بالكتابة بالعبرية فقد قام بالتأسيس، لأنه على مدار القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين كانت اللغة هي ما يملكه هذا الشعب. سيحاول شفارتس أيضا في الجزء الأول إثبات أن نص مابو كان ثوريا (وهو سبب آخر ليكون مؤسساً). وليس هناك أي داع للإثبات، وبالتأكيد ليس في هذه المساحة الكبيرة، أن الرواية العبرية الأولى التي ظهرت فيها مشاهد من فلسطين، والتي كانت من بين الروايات الأولى التي دارت أحداثها في فلسطين، حتى لو حدث هذا عن طريق الخيال وبالاستخدام المتكرر للأسلوب التوراتي، هي رواية ثورية.

ترجع أهمية الأدب العبري المكتوب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين فقط إلى كونه مضمونا، أيديولوجيا. هذا على الأقل ما علمه إيانا دارسو أدبنا، والبروفيسور يجئال من بينهم. ولكن لدى دراسة هذه النصوص كنصوص منفردة سوف يتم العثور على نصوص متوسطة كثيرة بينها أو حتى نصوص بلا قيمة. قد تكون رواية "محبة صهيون" هي نقطة تحول مهمة في المسيرة الصهيونية، ولكن مع هذا، يصعب تصديق أن شيئاً ما في حياة الإسرائيليين الجدد، والذين يبحث شفارتس عن سبب قلقهم، كان ليصبح مختلفا لولا أنه مكتوب.

في مناقشته لـ"محبة صهيون"، وفي سائر الإبداعات أيضاً، يمزج شفارتس بين الجغرافيا والأدب. يحلل الحركة الطبوغرافية للشخصيات في الرواية وينزع عنها، على خطى جون كيرتلند رايت، روح الإنسان. الفكرة الأساسية التي يحاول الباحث أن يؤسس عليها ادعاءه في مسألة ثورية مابو يتم التعبير عنها في التقسيم لمنطقتين: "المنطقة المحتضنة" التي تدور بها أحداث خلفية الحبكة (مملكة يهودا عشية النفي) و"المنطقة الأساسية" التي تدور فيها أحداث الحبكة (العالم المتخيل)."المنطقة المحتضنة" تمثل رؤية العالم الأرشيفية، أما "المنطقة المركزية" فتمثل رؤية العالم الحديثة، وهي رؤية الكاتب. في أعقاب هذا التقسيم يتم خلق تقسيم إلى محور جمعي ومحور شخصي. الادعاء هو أنه برغم اللغة التوراتية وبرغم ما يبدو وكأنه سير مابو مع الحبكة التوراتية العليا، فثمة هنا بذرة ثورية تستند إلى ما يدعو إليه مابو، في الإمكانية البيولوجية الإيروتيكية على حساب نظرة العالم الدينية الأخلاقية، أي أن الثنائية تتحقق في الدم اليهودي الطاهر حتى على حساب هجر مدينة القدس والمغادرة إلى القرية. هل هي فعلا بذرة ثورية؟ مكتوب: "لن يأتي عموني وموئابي بين جماعة يهوه حتى الجيل العاشر، لن يأتون بين جماعة إسرائيل حتى الأبد (تثنية، 23،4). العنصر الأكبر في العقيدة اليهودية، وحتى الآن، هو أن الشعب المختار قائم على طهارة العرق. ليس فقط أنه في رؤية مابو ليس هناك بذرة للثورة، ولكن مابو يظهر كشخص أكثر من محافظ، وهذا بالتحديد في إنكاره لمسألة ذوبان اليهود بين الشعوب التي عاشوا بينها: "اختيار راعوث الموئابية"، بصيغة شفارتس، ويحاول خلق عالم فوق عرقي. ما هو غير مفهوم في هذا السياق هو أن البيولوجيا هي الدين. وفي خروج أبطال مابو من أورشليم "الخاطئة" إلى "القرية" ليس هناك أي كفر، وإنما تعاطف كبير مع الرؤية اليهودية الدينية العرقية.

الكتاب عن مابو ينتهي بتنفس الصعداء. الآن يمكن تصويره باعتباره ثورياً. تنفس الصعداء يأتي أيضا لأنه يبدو أحيانا على مدار القراءة أن الباحث مرتبك داخل النموذج المركب (الأدبي - الحيزي) الذي خلقه، لأن الأدب، مجال تخصص شفارتس، يصبح ورطة، والجغرافيا، نقطة ضعف الباحث، تبرز أمام أعين الجميع. لأن ما أسس مابو ليس بالتحديد موهبته الأدبية أو رؤيته الثورية التي يصفها شفارتس، وإنما التاريخ الذي أتي بعدها. فترة كان فيها حفنة من اليهود يبحثون بحماسة صهيونية عن أشخاص مناسبين لأن تتم دراستهم وبحثهم في المؤسسات التعليمية الجديدة وعن أسماء اليهود التي ستحملها الشوارع المبنية في إسرائيل. ما يجعل مابو كتابا مؤسسا في هذه الأيام هو رؤية كاتب هذا البحث فقط.


تيودور هرتزل


بجوار عدة اكتشافات مهمة وذكية وتحليلية حادة تظهر في الباب الثاني الذي يدرس كتاب "ألتنويلاند" لتيودور هرتزل، يتم إغفال المعالجة الأدبية البسيطة التي استعملها هرتزل لأجل خلق حاجز واضح بين القديم والجديد. ونعني هنا صورة فريدريك، وهو شاب مثقف ويائس، ونعني طريقة عمله. فردريك الذي يبلغ ثلاثة وعشرين عاما مصاب بانهيار ويفقد حبيبته. يحاول الانتحار، أو ما يشبه هذا على الأقل، ولكنه في اللحظة الأخيرة يتروى بسبب اقتراح العمل المهم الذي يجده في الصحيفة. ينضم إلى المليونير كينجستكورت، ويعتزلان العالم سويا في جزيرة على مدى عشرين عاما. المال الكثير الذي يتلقاه فريدريك من المليونير، والذي لا يحتاجه أبدا، يتم منحه لعائلة لتباك. يرسيان في إسرائيل قبل الخروج للجزر ويكتشفان مكانا بائسا، مريضا ومهجورا. بعد عشرين عاما، عندما يعودان من الرحلة، سوف يكتشفان نبوءة هرتزل، "المجتمع الجديد" في الجنة على الأرض. في رأي شفارتس ففريدريك يخرج في رحلة رهبنة وبدء لحياته من جديد استمرت عشرين عاما، وفي نهاية الأمر يشفى من مرضه. طبيبه النفسي هو كينجستكورت الذي يكره البشر (124-125). ولكن التحليل الذي عالج به شفارتس الشخصيات متعجل ومغرض أكثر من اللازم.

ينتحر فريدريك فعلا. ينتحر انتحارا مجتمعيا، انتحارا فلسفيا. كلاهما، فريدريك وكينجستكورت، يربط بينهما العداء للتجربة الإنسانية، ويعتزلان العالم. فريدريك لا يمكنه الانتحار فعليا لأنه حينئذ، لن يحظى، ولن نحظى نحن القراء، برؤية البناء المتجدد لإسرائيل. فهو قد ولد لهذا الهدف. هرتزل كان يحتاج لميت – حي، شخص يائس مستعد للتخلي عن حياته لفترة طويلة بشكل كاف حتى يتم الإحساس بجوهر الفارق بين القديم والجديد. عندئذ سيظهر كشحصية بعيدة، من عالم الأموات، وسوف يشاهد ما يحدث. هذا هو أيضا سبب التوقف على شواطئ يافا قبل الخروج للرحلة وسبب التوقف، النهائي هذه المرة، في نهاية الرحلة.

فريدريك هو شخصية سلبية، مثل شبح، كل وظيفته هي التأمل. ما يثير روحه ليس رحلته الطويلة، كما زعم الباحث، وإنما المشهد الجديد لإسرائيل وحبه لمريم. في الواقع فإنه يظهركشخصية سطحية، لم تتغير على مدار عشرين عاماً، ككاميرا متأملة، وكذلك أيضاً كينجستكورت. يصب التغيير، الحب المتجدد للحياة، ضد مصلحتهما بالتحديد بسبب تفاجؤهما من التنظيم الإنساني الجديد الذي لم يكونا مؤمنين به من قبل، والذي لم يلعبا دورا فيه.

ولكن ينبغي القول أن هرتزل، على الأقل من ناحية النتائج، هو شبيه فريدريك، المنفصل، السلبي، المتطفل اجتماعيا والذي لم يحرك إصبعا من أجل تحقيق المشروع الصهيوني. لقد قام هرتزل فعلا بالكثير في المجال السياسي، ولكن شيئا من رؤيته الاجتماعية ليس موجودا في عالمنا. لقد فشل هرتزل. فلا مواقفه فيما يخص العرب أبناء المكان، ولا تقبل الآخر، ولا رؤيته الاجتماعية الاقتصادية، ولا علمانيته، لا شيء من هذا موجود في المجتمع الإسرائيلي ومشكوك في أنه قد وجد يوما ما. بدون أية إشارة لأحلام المتنبئ، هذا المتنبئ. بهذا المفهوم، وبخصوص السؤال عن الأزمة الوجودية للإسرائيلي، فقد بدا أن هذه الأزمة مغروزة بالتحديد في عدم كون "ألتنويلاند" عملا مؤسساً وإنما كونها جزءاً من العمل الشامل للعصر، وبالتحديد لشخص كانت بعض أعماله، السياسية الواقعية بالتحديد وليس الروحية والأدبية، هي أعمال مؤسسة.

الفصل الثالث والأخير في الوحدة الأولى من الكتاب هو الأكثر جاذبية وإثارة للاهتمام. في هذا الباب يناقش شفارتس، بتفضل شديد وبكتابة حساسة، شخصية أجنبية، خاصة، مجهولة وبالتحديد لهذا فهي لا تمثل شيئاً، واسمها يوسف لويدور، وهو مجايل برينر بل وقُتل معه أيضاً. لويدور، على خلاف مابو وهرتزل، عاش في فلسطين ولذا فعلاقته بـ"مكان" (فلسطين الأحلام) و"المكان" (فلسطين الفعلية) تحوز لديه تحليلاً آخر. في أعقاب مقال برينر "الجانر الفلسطيني وأتباعه" وفي أعقاب أستاذه، جرشون شاكيد، زعم شفارتس أن الأدب العبري المكتوب في فلسطين وفي الفترة محل البحث ينقسم لأدب "ساذج"، "جثث من الأعمال، ظاهريا تصف الحياة في فلسطين مفترضة أن الحلم الصهيوني تحول إلى واقع"، وأدب "ساخر"، "جثث من الأعمال التي يتم فيها، ظاهريا أيضا، وصف الحياة في فلسطين، مفترضة أن الحلم الصهيوني لم يتحقق". يضيف قائلا أنه حتى الأدب "الساذج" لم يكن ساذجا لهذه الدرجة. هكذا يظهر من حالة لويدور أنه "لم يعتقد مخلصا أن الحلم الصهيوني هو قابل للتنفيذ."

هاهو، في هذا الفصل تظهر المشكلة، نفس المشكلة، بحدة أكبر. الأدب العبري كُتب ومكتوب (بالتأكيد الكتب الخمسة الواردة هنا) من خلال صلة عميقة بالصهيونية. لقد ولدا سويا، وكتب كل منهما الآخر، وأحيانا كان هذا يحدث بدون القدرة على تمييز أحدهما من الآخر. قلائل هم الأدباء، وبرينر كان أبرزهم، الذين استطاعوا الحفاظ على صوتهم. وقلائل من دارسي الأدب العبري على أجيالهم من تمكنوا من اجتراء كهذا. انهيار بياليك كان قوميا دائما، غضب برينر كان مثاليا صهيونيا. وهكذا أيضا في الكتاب الذي أمامنا يتم اختراع يوسف لويدور ما، يُنفض عنه غبار مجهوليته، ويصعد على عربة الصهيونية، بحيث يصبح أمامنا أبا أوليا آخر، والذي، بطريقته اللطيفة، الخاصة والمختبئة بين الأدوات، لم يؤمن أبدا بالفكرة الصهيونية.

الدافع البنيوي القديم، للإمساك بمبدع منسي وزحزحته إلى المركز، ولمنحه الخلود، وعن طريق هذا يتم خلق "معاً" كبير جدا على منصة التاريخ، هذا الدافع هو الذي يقف أمام عيني الباحث. ولهذا فالأدب "الساذج"، هكذا يصلح شفارتس لأستاذه جرشون شاكيد، هو "ساذج ظاهريا".


هذه النظرة المعقمة، والتي لا تفعل غير أن تشق الطريق في شقها الأول لنظرة أكثر تعقيماً، في الشق الثاني من البحث، القائم، كما قلنا، على "سار في الحقول"، و"الرحل وابن أوى". في كتاب شامير يدرك شفارتس المفارقة الكبرى للثورة الصهيونية، وفي الواقع لكل ثورة من حيث هي ثورة، وهي لحظة تحققها، "انتهاء الطاقة الثورية"، وفق كلماته. في هذه الرواية، أكثر مما هو الأمر في جميع النصوص التي تمت دراستها حتى الآن، يُمنح القارئ الإسرائيلي أحد الشروحات "الكبرى" ليأسه الوجودي. لو كان مابو، هرتزل ولويدور قد حاولوا محو الفارق بين "مكان" و"المكان"، فإن شامير يصوغ أمامهم موقفا أفلاطونيا، وبصيغة عاموس عوز، من جزء يتم استخدامه أيضاً كشعار لهذا الفصل: "الواقع لا يعتبر الحيز الطبيعي للوجود"، وإنما "محاكاة غير كاملة"، تطبيقاً جزئيا ومعيباً لبنية علوية مكتملة." (من "الجنة الضائعة"). لذا فالواقع الذي يصفه شامير هو واقع معيب بالضرورة لأنه واقع مجسد.

ولكن إذا سلمنا بافتراض أن شامير يصف واقعا معيبا، فسوف نضطر حتى في تلك الحالة للسؤال عن المصدر الذي آلت إليه الطاقة الثورية. لا يمكن أن تكون قد اختفت هكذا وانتهى الأمر، فالتوتر بين "مكان" و"المكان" لم يتم حله. سوف تتواجد هذه الطاقة بشكل أساسي في "الرحل وابن آوى" لعاموس عوز، وهناك يتم توجيهها ضد الصهيونية نفسها. لنفترض الآن أن هذا هو الأمر، ولكن هنا، في هذه المرحلة من البحث، وبعد قراءة القسم الخاص بـ"سار في الحقول" آن الأوان للقول: لتذهب جميع هذه النصوص المؤسسة إلى الجحيم، ولتذهب إلى الجحيم عدد النسخ التي باعتها الرواية وعدد العروض التي عرضت للمسرحية. لأنه في المكان الذي يصبح اليأس كبيرا لهذه الدرجة، وفي الكتاب الذي يفتتح بإعلان يهدف لفهم وتحطيم هذا اليأس، كان ينبغي على الأقل الإشارة إلى ساميخ يزهار، مجايل موشيه شامير، والذي كتب أيضا عن هذه الحرب. ولكن هنا تصبح الأولوية للحديث عن انهيارالحلم الصهيوني من وجهة نظر يهودية طاهرة، وتكاد لا تظهر كلمة واحدة عن "العرب"، أبناء المكان الحقيقيين، وعن كارثتهم والتي هي أيضا كارثة اليهود. وما لهذا ولليأس الذي نعيشه نحن الإسرائيليين؟

ما لم يسر على ما يرام في الحلم الصهيوني، في محو الفارق بين "مكان" و"المكان"، هو واقع العربي في البلد. هذا الأمر لم يتم تناوله بجدية أبدا تقريبا. ولا حتى في واقع هذا الكتاب. في هندسة الإنسان وفكر الحيز للمشروع الصهيوني ليس هناك مكان للعرب والذين، لأجل الحقيقة، كان هذا دائما بالنسبة لهم هو "المكان". إحدى ذرى هذا التعقيم المتواجد على طول البحث، قائمة في نهاية هذا الفصل، بالتحديد في الأسطر الأخيرة، والتي تتم فيها الإشارة إلى "الحالة الصبارية". وهي، كما قيل لنا، يمكن العثور عليها متأخرا جدا في قصص عوز. الانجذاب الموصوف في "الرحل وابن آوى"، وهو عمل فج يتم عرضه بعناد مزعج باعتباره عملا مؤسساً، هو بين البطلة، جئولا، وبين رجل بدوي بالتحديد، وليس عربي إسرائيلي، تأكيدا على عنصر الارتحال المشترك بين البدو واليهود.

في مقابل هذا، ففي هذا الفصل تتم الإشارة أيضا إلى رواية "أمام الغابات" لأ. ب. يهوشواع، ولكن لا يدور أي نقاش به ولو حتى عن الاختلافات بينها وبين "الرحل وابن آوى". حتى هنا فالعنصر الأكثر فعالية هو العنصر المغرض. على العكس، يتم إجراء عملية توحيد جيلي بين القصتين، كأنه يتم إلغاء الاختلاف بينهما. صحيح أنه من المريح للباحث أن يرى في هذين الكتابين عجينة واحدة، إسرائيلية يسارية ممثلة، وهذا يحدث اليوم طبعا أكثر مما كان عليه الأمر في أي وقت، ولكن في "أمام الغابات"، العمل المبكر ليهوشواع، ثمة رؤية أخرى، مختلفة تماما، عن تلك الموجودة في "الرحل وابن آوى." البطل في هذه القصة هو شخص مفكك، شاذ، لا يجد مكانه في العالم ويغرق حتى رأسه في الزمن والتاريخ. يعرض يهوشواع فردا يتم الدوس عليه فقط في الغابات، وهي الغابات التي زرعتها خزانة هاكيرين هاكييمت بإسرائيل، أو أنه أكثر صوابا أن نقول، رسمت حدودها. هذا الفرد يكتشف الحقيقة الكبرى، يكتشف القرية العربية المدمرة. في تأمل عميق لصورة المشهد النقية، والمشابهة للغاية لإقامة الدولة اليهودية، فإن البطل، بنظرته الثاقبة والفردية، يرى البشاعة. أما في "الرحل وابن آوى"، التي تفوح منها كلها رائحة الزرائب والتبن، فليس هناك تقريبا للشخصيات حياة خاصة بها. إنها، على الأكثر، تعبر تعبيرات فردية عن رغباتها النفسية والجنسية المكبوتة. الآخر في كتاب يهوشواع هو البطل نفسه، أما لدى عوز فالآخر هو البدوي. وباختصار، في الوقت الذي انشغل فيه عوز بأسئلة الاستيطان والفعل الطليعي، قاس يهوشواع، بنضجه الشديد، المفاجئ، لأديب شاب، الأضرار التاريخية المترتبة على هذا الفعل.

في هذا القسم يتم طرح مفهوم "الهجنة" للنقاش، ولكن هذه الدراسة هي دراسة انتقائية، معقمة، قائمة على طهارة الهجرة الثانية، البيضاء، وأنسالها فحسب، وبعيدة عن أن تعبر، ولو تعبيرا جزئيا، عن الخلطة الهجينة في المجتمع الإسرائيلي. ليس هناك عرب، ليس هناك شرقيون، ليس هناك روسيون أو أثيوبيون، ليس هناك هجينون. الموجودون في هذا القسم، وفي الحقيقة في البحث كله، هم صبارون طليعيون من أبناء الكيبوتس، بدوي مرتبك وعنزة ملقاة على الأرض.

الاستنتاج الحاد الذي يتم طرحه في نهاية هذا البحث الشامل والمتحدي هو أننا "الإسرائيليين"، "مهاجرون في بلدنا". ولكن استنتاجا آخر، لا يقل حدة، ومطلوبا أكثر، كان يمكن أن يتم النطق به في نهاية القراءة: "نحن، الإسرائيليين، لسنا مهاجرين في أرضنا، وإنما، بصيغة أفضل، فنحن نحتل أرضا ليست لنا."

لو كانت المحاولة المتكلفة، البراقة، للبروفيسور شفارتس للبحث عن أزمة الإسرائيلي قد تم إهمالها، كأنما كل شيء موجود في السوسيولوجيا أو الجيو-أدب، لو كانت محاولة إزاحة الذنب عن شخص ما وإسكان البشاعة في المفارقة ("مهاجرون نحن في أرضنا")، كأنها حجة سحرية غير منطقية، قد تم إهمالها، كنا لنعرف شيئا عن الرؤية المحافظة لشفارتس. ولكن لأن هذه المحاولة لم يتم إهمالها فنحن نعرف الكثير عن الرؤية المترددة الشعبوية للباحث الذي يهتم باستخلاص الحكمة المعتادة للجماهير، الحكمة الفعالة فقط من وجهة نظر نفسية، لتقليل ألمهم قليلا، وللتصديق على حياتهم بطريقة: "ليس هناك خيار"، وهي الطريقة عديمة المعنى تقوم بتهدئة الضمير.

سوف أنهي كلامي باقتباس، هو أيضا من "تقييم أنفسنا في المجلدات الثلاثة"، لبرينر، والذي يمنحنا مفهوماً أكثر وضوحاً عن اليأس الوجودي الذي يغرق فيه الإسرائيليون: "شهادتنا الآن بالتحديد تكمن في أن نعرف ونعترف بعدم انتسابنا من الأزل وحتى الآن. تكمن في إلغاء شكلنا، الارتفاع وبدء كل شيء من جديد. نحن غير منتسبين، إخواننا أبناء إسرائيل، آه كم أننا غير منتسبين."

_______________________________________

أورن كاكون، كاتب مقالات، شاعر، وناقد في صحيفة "هاآرتس"، وعضو بلجان تحكيم مسابقاتها الصحفية (36 عاما)، كاتب مستقل، معاد للصهيونية، ويعارض وجود دولة إسرائيل بمضمونها الحالي. هذا المقال - العرض اللامع الذي قام به لكتاب يجئال شفارتس منشور في العدد الأخير من دورية "معيان" الأدبية الإسرائيلية.

No comments:

Post a Comment

comment ya khabibi