Friday 30 July 2010

الحالة المثيرة للفضول لبن سمحون



لغز موت ونسيان الشاعرة ميري بن سمحون

إيلي إلياهو

ترجمة: نائل الطوخي

سائق الشاحنة الذي مر متأخرا في المساء على مدخل مستوطنة بتحيا لم يتمكن من ملاحظة امرأة طويلة ترتدي الأسود وتقف في قلب الطريق السريع. لم يعرف أحد من أقارب الشاعرة ميري بن سمحون ما الذي كانت تفعله وحدها في الطريق، بين الرملة والقدس. ولماذا كانت هناك تقف في الظلام، غائبة عن أعين السائقين، حتى صدمتها الشاحنة وأدت لموتها، وهي تبلغ 46 عاما فحسب.

في هذا الوقت كانت تتزايد لدى الشاعرة الهذيانات ونوبات الجنون التي أصابتها منذ أن تم علاجها لأول مرة في مؤسسة للمرضى النفسيين بطلبية وهي تبلغ 28 عاما. قبل الحادثة القاتلة بأسبوع حكت لصديقها دان ألبو، الذي التقاها في شقتها بحي جيلوه بالقدس، أنها تفكر في السفر لنيويورك والزواج من بوب ديلان. إحدى الاستنتاجات التي تم طرحها أنها بسبب تشتت ذهني خاص فلقد ضيعت في هذه الليلة الأخيرة الباص الأخير المتوجه من الرملة إلى القدس. وإذا كانت الأمور قد سارت هكذا، فلا يمكن صياغة هذا الأمر أفضل من بن سمحون نفسها، والتي كتبت في إحدى قصائدها قائلة: "يصعب علي النزول من الغمام/ لأجل التأكد/ من مكان وقوف هذا الباص/ رقم كذا وكذا/ والذي يذهب لمكان كذا" (من كتابها الأول، "مهتمة، غير مهتمة"، دار نشر هاكيبوتس هامئوحاد، 1983).

الغموض يحيط بالموت المأساوي لبن سمحون، ولكن ألبو، وهو شاعر ومؤرخ وباحث في الثقافة، يعتقد أن اللغز الحقيقي يكمن في أن شاعرة خلابة، مجددة وخصبة، تمكنت من كتابة أربعة كتب في خلال حياتها القصيرة والعاصفة، قد تم نسيانها تماماً. في أنطولوجيا سيرية حررها وتصدر الآن عن دار نشر كرمل بعنوان "شعر مريم"، يحاول إصلاح هذا الخطأ. هي مجموعة من المقالات عن بن سمحون، أجزاء من يوميات مبدعين عرفوها، وقصائد لها وقصائد أخرى كُتبت عن ذكراها.


كل شيء بعيدا عن عليزا الفندري

وفق كلام ألبو، فبن سمحون قد تم إقصائها عن الوعي لأن "العالم الأكاديمي لم يكن يكثر من الاهتمام بمبدعين غير معدودين من ضمن العقل الجمعي السائد". يعتبر بن سمحون شاعرة مركزية ومهمة ويحكي أن شعراء كثيرين قد فتنوا وتأثروا بها، ومنهم ناتان زاخ وبنحاس ساديه. "قبل أن يموت دافيد أفيدان اتصل بها وترك لها رسالة على الأنسر ماشين." يحكي، "لقد كانت هي الشخص الذي أراد الحديث معه في لحظاته الأخيرة. ولكن في العالم الأكاديمي فلقد كانت الأمور مختلفة. ولأنها لم تكن تنتمي إلى الوعي الجمعي السائد فلم تتمكن من الدخول إلى الكلاسيكيات الإسرائيلية. عندما أرادت كتسيعا عالون افتتاح كورس للشعر الشرقي، اكتشفت أنه ليست هناك إطلاقا دراسات أكاديمية عن مبدعين من أصول شرقية يمكنها تكوين بنية ببلوجرافية لكورس أكاديمي. حتى الباحثين من أصول شرقية كانوا، إذا أرادوا الترقي في الجامعة، يضطرون للكتابة عن الكلاسيكيات كما قررها حراس الوعي السائد."

يرى ألبو إذن في الكتاب المنشور عن بن سمحون مهمة رسولية ويأمل في أن يؤدي إلى اهتمام بحثي، سواء بشعر سمحون أو بشعر شعراء شرقيين آخرين لم يحظوا بعد بالاعتراف والمجد. د. كتسيعا عالون، وهي رئيسة برنامج دراسات النساء والجندر في معهد بيت بيرل، تشارك أيضا ألبو رأيه، سواء فيما يتعلق بأهمية بن سمحون أو فيما يتعلق بإقصائها وإنسائها. في كتابها عن الشعرية الشرقية المقرر صدوره في دار هاكيبوتس هامئوحاد تخصص فصلا كاملا لبن سمحون. "قصائدها حجر زاوية في الشعر النسوي العبري وأساس ثابت في القصيدة النسوية الشرقية." تقول. "قصائدها معقدة جدا. أحيانا ما تصبح ملغزة، ومع هذا ثمة مرونة كبيرة بها. لقد سبقت زمنها. ليس من شك في أن الحديث هو عن موهبة رهيبة. الأسف على موتها قبل الأوان شديد جدا.

بن سمحون نفسها قالت في حوار مع الأديب يارون أفيتوف تم نشره في "كول هاعير" عام 1985: "ليس لدي أي إحساس طائفي بالظلم، أنا فوق هذه الأشياء. أنا إنسان فردي وعالمي." مع هذا، ففي قصائدها أكثر من الاهتمام بالهوية الشرقية والهوية النسوية. "يمكن رؤية هذا في عنوان قصيدتها التي أعمل عليها في مقال ينشر بالكتاب، "قصيدة شرقية وأوديبية"، تقول عالون، "استخدام كلمة "شرقي" في القصيدة كان شيئاً جديداً. اليوم يبدو أمراً طبيعياً، ولكن وقتها كان من الصعب على المجتمع الإسرائيلي عامة والعالم الأكاديمي خاصة أن يستوعبا أمورا من هذا النوع."

في هذه القصيدة تتفحص بن سمحون أيضا نسويتها، عن طريق الاهتمام بالعلاقات المركبة وغير المحلولة بأبيها البيولوجي. هاجر والداها، حاييم وزهافا، إلى إسرائيل عام 1950، بعد شهرين ونصف من ولادتها بفرنسا، في معسكر متنقل من المغرب إلى إسرائيل. انفصلا عن بعضهما البعض وهي لا تزال رضيعة تبلغ نصف عام وتزوج كل منهما شخصاً آخر. أبوها، وهو عامل بناء، ظل في معبرة تلبيوت وكبرت هي مع أمها المدرسة ومع أخويها في شقة صغيرة بالطابق الأرضي في حي قطمون أ بالقدس. في طفولتها كانت تعبر من حين لآخر خطوط القطار وتذهب لزيارة أبيها في كوخه. كانت تصفه كرجل طويل ووسيم وتعودت على أن تحكي أنه بعد الطلاق لم يرغب في التنازل عن عائلته وكان يزور بيتهم، يقف أمام الشباك وينادي الأم باسمها.

إلى أن بدأت في الدراسة بالمدرسة الثانوية، حيث التقت بطالبات من طبقات اجتماعية مختلفة، لم تكن بن سمحون تعرف شيئا آخر غير واقع المهاجرين المغاربة في الحي. "حتى سن العاشرة كنت واثقة أن الرب مغربي"، قالت ذات مرة. طريقة الحياة في الحي كانت هي خلفية قصيدتها "صبية من القطمون"، المنشورة في كتابها "مهتمة، غير مهتمة". ترسم بن سمحون في القصيدة صورة عليزا ألفندري، وهي "صبية سوداء لها بثور في وجهها." خاضعة لجميع المسَلّمات والقيم الخاصة بصبية من بيت شرقي تقليدي، تخرج لقضاء الوقت مع أخيها حتى "يظل اسمها نقيا"، وكل طموحها هو أن يأتي "شاب لها وتتزوج وتلد أطفالاً."

كانت هذه في الواقع صورة نيجاتيف لبن سمحون نفسها، والتي فعلت كل ما في وسعها كي لا تبدو حياتها مثل حياة عليزا ألفندري. "كانت تحتقر المسَلّمات"، تقول الشاعرة شافي شحوري في حوار منشور في الكتاب، "كل موضوع المسموح والممنوع لم يكن مقبولا لها... ذات مرة جلسنا في مقهي ببيت الصحفيين، وتحدتني قائلة: "دعينا نراك تكشفين صدرك أمام الجميع"، قمت، رميت السوتيان في جزء من الثانية... أعجبها هذا. أعتقد أن موضوع تجاوز الحدود والثورة على المسلمات الاجتماعية كان يجذبها ويحرك سلوكها."

في مساء الحادثة كان من الصعب ملاحظة بن سمحون التي كانت تجول في ظلام الطريق، ولكن ملاحظتها وهي حية لم تكن أمرا صعبا. كانت طويلة القامة كأبيها وكانت معتادة على ارتداء ملابسها بشكل مستفز. كانت تصبغ شعرها بالأحمر وشفتيها بالأحمر الفاقع أيضاً. بعد خدمتها العسكرية تم تجنيدها في الشاباك، كما يكتب ألبو في الكتاب، وهناك على ما يبدو بدأت نفسيتها في التدهور بعد خبرة قاسية مرت بها. بشكل أساسي تعودت على أن تحكي عن تحقيق قاس مع أسير كانت تشهده وترك بها أثرا لا يزول.

بعد إطلاق سراحها بدأت في دراسة الأدب بالجامعة العبرية. في أمسية شعرية أقيمت عام 1977 بتل أبيب تعرفت على الأديب والشاعر شمعون تسيمار. تزوجا وانتقلا للسكنى سويا في غرقة صغيرة على السطح بشارع جابوتنسكي بتل أبيب. تعلمت التمثيل في هذا الوقت ببيت تسيفي وأصبحت موديلا عاريا أمام الفنانين. غار تسيمار عليها بسبب هذا ولكنه يعترف في الكتاب أيضاً قائلا: "لأني في تلك الأيام أردت أن أعيش المغامرة والحياة البوهيمية فلقد كنت فخورا بأن صديقتي موديل للفنانين." بعدها تعارفهما بنصف عام بدات في اتهامه بأنه يسرق أشياء من لا وعيها ويحاول قتلها. لم يمر وقت طويل حتى تم علاجها بالقوة للمرة الأولى. "حاولت عائلتها الإبعاد بيننا." يحكي تسيمار في الكتاب، "لقد نسبوا ما حدث إلى تأثيري السيء، وللحياة في تل أبيب، وللمسرح، للحياة البوهيمية والمخدرات."

برغم الحب الكبير الذي كان يكنه لها، فلم يتمكن تسيمار من تحمل الحياة بجانبها وانفصلا. عادت للقدس وهناك شاركت في ورشة شعر أدارها يهودا عميحاي ومناحيم بن. في الورشة تعرفت على شخصيات أساسية في الشعر، مثل أميرة هاس، دافيد أفيدان وجفريئيل موكيد. هناك التقت لأول مرة أيضا بميئير فيزلتير، والذي كان يعمل أستاذا زائرا، وبدأت تشعر نحوه بشوق قسري. تعودت على أن تترك له رسائل حب في الأنسر ماشين وفي إحدى نوبات جنونها اقتحمت بيته، انتظرته في غرفة النوم ورفضت المغادرة حتى اضطر لاستدعاء الشرطة. لقد آمنت من كل قلبها أن زواجها من فيزلتير أو من بوب ديلان سوف يأتي بنوع جديد من الآلهات.

الإخوتان شافي ودفنا شحوري التقيتاها في أمسية شعرية بالقدس. "سؤالها الأول لنا كان إذا كنا نعرف فيزلتير." تحكي الشاعرة دفنا شحوري، "لقد كانت مهووسة به. أذكر أنها كانت مفتوحة القلب تماما. مكشوفة، هشة، بالضبط كما لو كان جلدها شفافا. أيضا من الناحية البدنية فلقد أثارت إعجابي كثيرا. أذكر أنها كانت تجلس على السرير بارتياح ذكرني بثعبان يلتف حول قدر."

الإخوتان وبن سمحون صرن صديقات، وعن طريقهما تعرفت على أفيدان. "عندما سكنت في القدس كنا نلتقي أيضا بالشاعرتين جفريئيلا إليشاع وشلي إِلكايام"، تحكي شحوري، "وعندما انتقلت إلى تل أبيب، كانت تأتي من حين لآخر وتطلب المبيت عندي. تل أبيب بالنسبة لها كانت منطقة حنين. لم يكن لديها مال كاف لتسكن في المدينة. كانت تختفي بين الزيارات فجأة لفترات طويلة وكنت أفترض أنهم يقومون بعلاجها مجددا. عندما كانت تعود من هذه العلاجات كانت عيناها تصبحان مختلفتين، مثل بركة داكنة وخاوية. كانت تعاني في المستشفى، الإشاعات كانت تردد أن قسم النساء كان عنيفا جدا وأنهم كانوا يضربونها هناك."

لا تعتقد شحوري أن شعر بن سمحون قد تم ظلمه. في رأيها فلقد كانت شاعرة ممتازة ولكنها ليس بقامة داليا رافيكوفيتش أو يونا فولاخ. "مع هذا، فمن المهم القول أن قصائدها لم تصبح قديمة، سواء من ناحية اللغة أو من ناحية المضمون. وعلى نقيض فولاخ التي كانت اضطراباتها النفسية هي وقود قصيدتها، فإن المرض النفسي لبن سمحون قد عطل تطورها كشاعرة. لقد كتبت شعرا يحوي تأملات واعية، ومن أجل هذا ينبغي البقاء متزنا."

علاج بن سمحون كان دائما ما يتم بالقوة، بمبادرة من أخيها وصديقها. بن سمحون نفسها كانت تريدهم أن يدعوها تضل في توهماتها، والتي كانت تعتبرها جزءا من حياتها. رفضت تناول الحبوب لأنها خافت أن تضر بخيالها وبإبداعها. ذات مرة انخلعت ساقها بعد أن قفزت من فوق سور المستشفى وهربت. في تقرير نشر في "كول هاعير" بعد موتها حكت صديقتها، شلي إلكايام، عن إحدى المرات التي زارت فيها بن سمحون في القسم المغلق بطلبية: "قالت لي، تحدثي مع المختصة النفسية وأخرجيني من هنا، وأنا بسذاجتي اقتربت من المختصة النفسية وقلت لها: "لماذا ميري هنا؟ هي شاعرة ممتازة وهي لا تريد البقاء هنا"، المختصة النفسية توجهت لميري بنبرة معلمة بروسية: "ميري أنت تعلمين كذا وكذا"... صوت ميري تغير، أصبح مزقزقا، وأجابتها كأنها طفلة تبلغ أربع سنوات. لقد داهمتها ببساطة نوبة في المكان، أمام عيني. كنت أهرب من هناك طالما أنا حية."

أخذ وضع بن سمحون في التدهور. بين العلاجات عاشت في فقر وعوز في شقتها بجيلوه، في أحيان كثيرة تعيش بلا ماء، كهرباء أو طعام. كانت تفضل دائما شراء السجائر بالمال القليل الذي كان معها. "طفلة الزهور التي رفضت أن تكبر." كما كان يصفها بعض أصدقائها. هاليت يشورون قالت مرة عن يونا فولاخ أنها "انتقلت في العالم مثل شخص ممسوك بالنار"، ويبدو أن نفس الكلمات تسري بقوة أيضا على حياة بن سمحون. يمكننا لأجل هذا اقتباس بن سمحون نفسها، في قصيدتها "عن الوضع النفسي"، من كتابها "ظمأ" (سوفريات بوعاليم، 1990): "عبرت الخطوط الحمراء للنفس/ مثل قط يعبر طريقا مليئاً بصخب الحركة/ كان عاليا، وحشيا، سامياً، غير مفهوم لأحد غيري."

_________________________

التقرير منشور تحت عنوان لغز موت ونسيان الشاعرة ميري بن سمحون في الموقع الإلكتروني "عخبار هاعير".

Friday 23 July 2010

في مديح تل أبيب التي كانت



يورام كانيوك

ترجمة: نائل الطوخي

التل أبيبي الأول

من الأدباء العبريين الذين يعيشون اليوم، حاييم جوري، أول من ولد في تل أبيب، ولكن لأنه قد خاننا مع القدس، فلقد بقيت أنا أول أديب ولد في تل أبيب. في يوم ميلادي كانت هناك في تل أبيب 23.978 غرفة. هايكه بائع الفلافل في شارع لسال كان لم يأت بعد إلى البلد. تم زرع 2.936 شجرة. وبخلافي، فلقد ولد في 1930 2.100 رضيعا، مات 510 يهوديا وشخص من غير اليهود. تزوج 695. وطلق 291 أزواجهم. وقعت 16 حادثة سيارة. و120 حادثة موتوسيكل. تمت الكتابة عن 12 حالة إجهاض. وعن 16 حالة هستيريا وتم تعيين أبي سكرتيرا لديزنجوف[1].

ماذا في تل أبيب مما يدفع الجميع إلى امتداحها هكذا؟ أنا لا أناسبها: لا أحب الشمس. لا أحب الصيف. أنا صبار ولكنني لا أطيق الصبار[2]، أثق كفاية بالنظام ولكنني لا أحتفي به بهذا القدر الكبير، بين جميع الخضروات فأنا أحب بالتحديد السبانخ، وهو ما يثير تقريبا قرف أطفال المدينة. مثل الجميع كنت أقضي الساعات على شاطئ البحر، ولكن أبا أحد أصدقائي - وكان يملك الحق في تأجير كراس مريحة في شاطئ فريشمان، بجانب نادي "تير"، حيث كانوا يطلقون النار في الهواء، ومن تحت كان الجميع يقبلون بعضهم البعض على الرمل في الظلام – كان يعطينا كرسيا مجانيا وأجلس تحت المظلة مثل العجائز.

في السنوات الـ11 التي عشتها بنيويورك كنت كثيرا ما أفكر في تل أبيب، ولكنني كنت أخترعها في عقلي، وقمت بتثبيتها على الحال الذي تركتها عليه وقت سفري، وفعلا، فلقد فضلت نيويورك. أحيانا كنت أتطلع إلى صور قديمة وأفكر أنني ربما لم أولد في هذه المدينة. لماذا إذن أحب السكنى بها اليوم لهذه الدرجة ؟ ليست لديّ فكرة. المدينة لا تُحب، بصعوبة تُحب المرأة أو يُحب الرجل. عندما أسافر إلى مدن جميلة بالخارج، مدن رائعة للغاية، أضع رسم قلبي ويظهر عليه رقم صفر، وأعد الأيام التي ستمر لحين عودتي لتل أبيب.

كنت في حوالي الرابعة عشر في رامات هشارون، ولا أذكر أي شيء من هناك. ولكن تل أبيب تتدفق فيها الدماء. ربما مع كل هذا يوجد بها شيء ما؟ تل أبيب هي المدينة العبرية الأولى قبل لوس أنجلوس. ولكن لأنها عبرية، ولأن الجميع فخورون بها، فأغلب اللافتات في المدينة مكتوبة بكل اللغات التي يعتقد الباعة أنها إنجليزية. ذات يوم كان فيها أسماء مقاه جميلة: مقهى "التاج"، "نهر الجليد"، "الركوة"، "الكأس"[3]. اليوم الاسم العبري الوحيد تقريبا بين المقاهي هو "Cafe Hillel", وهو مكتوب بالإنجليزية، لأن هيليل العجوز هاجر على ما يبدو إلى أمريكا وكان من ضمن محاربي واشنطن رحمهم الرب.

تل أبيب هي المدينة الوحيدة في العالم التي يموت الناس فيها قبل أن يعيشوا فيها. في عام 1901، بعد وباء الكوليرا، لم يسمح الأتراك بالدفن في يافا، وقام العرب بالدفن في المكان الذي يقع به فندق هيلتون، وهو متصل بحديقة الاستقلال، بينما عثر اليهود على ساحة بعيدة عن يافا، واشتروها وبدأوا في الدفن بها. جزء محترم من شوارع المدينة مدفون في هذه المدافن الجميلة. لدرجة أن أصبحت المدافن تاريخا وجغرافيا في نفس الوقت. من ينظم جولات في هذه المدافن، الأجمل في المدينة، بصحبة المدرس، عزيزي سليمان شابا، لن ينسى قصص الحب والكراهية المدفونة هناك. في طرق نورداو بناصية بن يهودا كان يوجد كشك جرين، وهو أخو بن جوريون. ومن يريد إهانة بن جوريون لا يشتري في المكان إلا كازوزة صودا.

كان هناك أيضا كشك برلِه، والذي كان أبي يتوقف بجانبه كل صباح قبل أن يركب دراجته ليدير متحف تل أبيب وكان يطلب كازوزة بلا عصير، وكان ينتظر إلى أن يقول برلِه: "بدون أي عصير، سيد كانيوك؟"، كانت هناك عندئذ أربعة مسارح في تل أبيب. وأوبرا، وفرقة فيلهارمونية، وحفلات كامرية[4] في أيام السبت بالمتحف. كان هناك مجانين ينامون في الشارع. أكبرهم كان شمعون رودي الذي كان يفك سلاسل الحديد بأسنانه على ضوء فانوسي الموتوسيكل وكانت الصبايا متعلقات بعضلاته ويصرخن وكان يلحن صرخاتهن على صوت أكورديون شبيل، والذي لم يكن يعرف إلا أغنية واحدة، ولكنه كان يعرفها جيدا. الأغنية التي كانوا يغنونها وقتها كانت "تل أبيب مدينة الأسقف والسماء وقيئ ماسح الأحذية"، ولكن كان هناك أيضا مبيض النحاس والبائع الجوال بعربة وحصان[5] ويوزع اللبن منادياً "لبن لبن"، وكان يوزع الثلج، وكان هناك شخص يأتي مرة في السنة ومعه آلة تشبه التشيلو المحمول، ذو وتر واحد، وكان ينفخ بطاطين الشتاء التي كانت ترقد في الخزائن طيلة الصيف.

ماذا إذن في هذه المدينة التي أعيش بها وأحب العيش بها? لا أعرف بالتحديد. ستوكهولم أكثر جمالا بكثير، ولكن ستوكهولم، مثل باريس، هي بالنسبة لي كنيسة بدون إله. نيويورك أكبر كثيرا. كوبنهاجن تصبح مملة بعد عدة أيام، ولكنها جميلة كملكة. تل أبيب جميلة؟ نعم ولا. أغلب بيوت تل أبيب اليوم، والتي هاجر إليها عظماء الأمة، المدينة وأغنياؤها، تبدو مثل مدافن عملاقة. مساكن راموت أبيب. حي راموت إمو. إذا نزلنا بساديه دوف فما سنراه هو مدافن رمادية عملاقة ببيوت قبيحة ذات ثماني طوابق تقريبا، مركزا تجاريا ومقهى للنساء وأشجارا تبدو كأوراق شجر صغيرة. تل أبيب القديمة جميلة حقا. جميلة بشكل اصطناعي. قديمة لأنهم قرروا أنها مدينة بيضاء وعاصمة الباوهاوس[6]، كما كانت سابقا فعلا. أنا إذن أحب بشدة العيش في تل أبيب القديمة. هناك أيضا ولدت، عندما كانت تل أبيب حلما عبريا وكانت أمي تحفظ في مدرسة هرتسليا رحمها الله، هناك أيضا كانت تقوم بتدريس كلمات كان بن يهودا[7] يستحدثها في كل يوم. الشوارع الصغيرة في المدينة القديمة لطيفة، شخصية. ثمة حدائق خلف البيوت. ولكن البيوت غالية السكنى جدا، برغم كوني شيخ أدباء المدينة وبرغم أنني حظيت بالشرف الكبير في أن يتم اختياري كعزيز المدينة، فلا يمكنني السكنى بشقة تخصني فيها، وعلي أن أدفع إيجار الشقة.

الشباب دوما كانوا يصنعون المدينة، الآن ويومها. للعجائز ذكريات، للشباب حياة قبل الموت. تل أبيب تفور. ذات يوم كانت تفور كما يفور اليوم المشروب القومي كولا دايت، وذات مرة كان الجميع يشربون شراب العسل، ماذا إذن؟ هناك نهضة في تل أبيب لا توجد في أي مدينة أخرى أعرفها. هناك لطف العابر. هناك استعجال. العاهرات أكثر من المرأة الشرعية، وأطفال بئر سبع يعدون الأيام حتى يتم اعتبارهم تل أبيبيين.

مكان الولادة ليس قصة كبيرة لهذه الدرجة. تم الإتيان بي وأنا أبلغ عدة أيام إلى شقة والديّ بشارع بلفور ناصية طريق روتشيلد، في تلك الأيام وربما بعدها بقليل انتحرت هناك امرأة كانت تصرخ. بعدها جلست في الشرفة، كنت أبلغ ثلاث سنوات ورأيت الشباب يغنون – وعندئذ لم يكن الأغنياء يسكنون في المناطق الفاتنة، في هذه المدافن العملاقة والقبيحة – وإنما بطريق روتشيلد.

بجانب تل أبيب كانت هناك ثمة عدة قرى عربية، جديدة بشكل كاف هناك: صميل وجاموسين، وكان هناك حي شارونة الألمانية، لزمن ما سكنا في كريات ميئير، والتي كانت تعد آنذاك هي الحدود بين تل أبيب والعالم العربي، وابي كان يجول في الليل ويضرب الصفيح لإخراج الثعابين. اليوم تحولت إلى شارع دوفنوف المختبي خلف شارع إيفن جفيرول والذي لم يكن إلا شاعر وقتها. في شارونة كنا نشتري الزبد والسمن، وكانت تقام وقتها مسيرات نازية ينضم إليها عرب صميل.

في الشيخ مونس تورطت ليلة ما عندما حان دوري لمرافقة طفلتين من حركة المعسكرات الصاعدة إلى مدرستهما، ربما كان سمينار الكيبوتسات، وأتيت بهما. هتفت بشعار. ولكن شبابا عربا قرروا الاعتناء بأمري. لا يهم. خرجت من هذا. جُرحت يدي. تلقى واحد من الشباب ضربة قاسية. بعد سنوات في نيويورك أوقفني رجل وقال: "هل تذكرني؟" قلت: "هل كنت في سفينة المهاجرين غير الشرعيين "بان – يورك" بينما كنت أعمل أنا في الإتيان بالمهاجرين؟" وقال: "لا، أنت كسرت لي يدي في صميل وأنا أذكر هذا." احتضننا بعضنا البعض. لا أذكر لماذا. انفجرت صديقة كانت معي في البكاء. توقف شرطي ليسأل إذا كان كلنا بخير وقلت له أننا كبرنا معا في فلسطين. لم يعرف أين هي وسار بعيدا، ملوحا بعصاه.

اليوم لم تعد تل أبيب عاصمة الصهيونية كما كانت، لأن الصهيونية ماتت نهائيا. لذا فتل أبيب التي بدأت كمدافن أصبحت اليوم مدينة مستقلة. لم تعد عاصمة الدولة الحقيقية، العاصمة الآن في الخليل أو في محانيه يهودا، اليوم تل أبيب مدينة–دولة مثلما كانت هناك في العالم مدن–دولة. فلورنسا لم تكن إيطاليا وإنما مدينة-دولة حاربت ضد البندقية. وفي دولة–المدينة هذه ثم مناخ خاص. هناك بهجة للفقراء[8]. ثم شجن يسود من خلال تدمير الدولة.

اليوم أنا عجوز ومريض. في الفقاعة التل أبيبية أستطيع السير لأي مكان على قدمي وفي نفس الوقت يمكنني أن أنام بهدوء، لأن الشوارع الصغيرة للمدينة المتجددة اليوم – ولكن المحافظة على ماضيها القصير – هي شوارع هادئة. وأنت توجد في وسط المدينة بجانب ضجة كل ما يحتاج سفرا بالقطار لعدة ساعات في برلين. أنا غير مستعد لأن أُدفن في مدينتي. سوف أحترق بداخل العالم المفتوح. لأن الإبقاء على نصب فوق خرائب العالم الصهيوني يبدو لي أمرا مفتعلا، وحزينا، ويكسر القلب. ولكن جدي وجدتي مدفونان في ترومبلدور وفي نحالات يتسحاك.

التقيت في مستشفى أيخيلوف امرأة عجوزا تدعي أنها تسكن فوق مدافن نحالات يتسحاك واشترت لها قبراً هناك، ومن شباكها ترى المكان الذي سوف تعيش فيه للأبد. لن يكون هناك أبد لهذه المدينة. تل أبيب كانت تقريبا بداية الصهيونية والعبرانية وسوف تبقى أخرها عندما يصبح كل شيء خربا وخاويا من أولاد الذوات الذين سيهاجرون من هنا إلى لوس أنجلوس. هكذا، لن أكون وحدي الذي سيرى تل أبيب من الجو.

___________________________________

ولد يورام كانيوك عام 1930. ولد ودرس وعاش في مدينة تل أبيب. أبوه مولود في مدينة جاليسيا ببولندا. وكان السكرتير الشخصي لمئير ديزنجوف. خدم كانيوك في كتائب البالماح العسكرية بدءا من سن السابعة عشر، وشارك في معارك حرب 1948 كجندي في الوحدة 4 للكتيبة الرابعة تحت إمرة يوسف تبنكين. ووصف هذا في كتابه "تَشَح.. 1948". بعد انتهاء الحرب عمل في طاقم كانت مهمته تهريب اليهود إلى فلسطين بشكل غير شرعي. درس الرسم في مدرسة بتسلئيل، وواصل دراسته في باريس، وبعدها عمل بحارا على سفينة سافر عليها إلى كندا، ثم الى نيويورك حيث مكث عشر سنوات في الولايات المتحدة الأميركية. كانت له مغامرات أخرى، بحث عن الذهب في المكسيك، وعن الألماس في جواتيمالا. ثم قرر التفرغ للكتابة. في عام 1958 تعرف على ميرندا، وهي ابنة عائلة أرستقراطية أمريكية وعاد معها إلى إسرائيل. وهناك ولدت ابنتاه. في 1980، وبعد السكنى عشر سنوات ي حي رامات هشارون، عاد للسكنى في تل أبيب.

ينتمي كانيوك لجيل "البالماح" وهو الجيل الذي شارك في حرب 48 وشهد إعلان الدولة. أصدر عام 1963 مجموعته القصصية الأولى "الهابط إلى أعلى"، وكان هذا الكتاب قد نشر من قبل بالإنجليزية، من بين رواياته الأخرى الشهيرة "حيمو ملك القدس"، 1966، "آدم ابن كلب، 1968، والذي ترجم إلى العربية ونشر في مكتبة "كل شيء" الحيفاوية"، و"اليهودي الأخير"، 1982.

هذا المقال منشور في صحيفة هاآرتس بعنوان "التل أبيبي الأول".


[1] مئير ديزنجوف، (1861 – 1936) الرئيس الأول لتل أبيب.

[2] صبار الأولى بمعنى المولود في فلسطين. والثانية بمعنى نبات الصبار. وذلك لأنه كانت تقام مسابقات بين الأطفال اليهود المولودين في فلسطين، واليهود المهاجرين حديثا، لجمع نبات الصبار، وكان يفوز بها المولودون في فلسطين، بحكم خبرتهم بالبلد التي تفوق نسبيا نظرائهم المهاجرين حديثا.

[3] أسماؤها بالعبرية على التوالي: "עטרה", "שניר", "קנקן", "כסית", عتارا، شنير، كنكان، كوسيت.

[4] تشكيلة الكامري، هي مجموعة صغيرة من العازفين والمغنين، في الغالب تكون من ثلاثة إلى ثمانية أفراد.

[5] العبارة أصلا يكتبها كانيوك بالييدشية אלטע זכאען، ألتا زخان، وتعني في الييدشية أصلا البضاعة القديمة. تغير معناها ليصبح البائع الجائل مع حصان. ومبيض النحاس في إشارة إلى الباعة - العرب في الغالب - الذين كانوا ينادون على عملهم بالييدشية: הווייסען-קעסעלעך، أي: .فيسان كاسالاخ، نبيض النحاس

[6] بالألمانية Bauhaus، اسم مدرسة معمارية ألمانية حازت نجاحا في إسرائيل. في عام 2003 تم إعلان "المدينة البيضاء" في تل أبيب كأحد المواقع العالمية لهذا الأسلوب المعماري الذي يتخلى عن الزخارف.

[7] بن يهودا محدث اللغة العبرية الأولى.عاش بفترات الاستيطان اليهودي الأولى بفلسطين وقرر تحديث العبرية لتصبح لغة للتخاطب بدلا من أن يتم حبسها في التوراه، وفرض على أهل بيته عدم الحديث سوى بالعبرية.

[8] يلعب على اسم الديوان الشهير للشاعر ناتان ألترمان "بهجة الفقراء".


Friday 16 July 2010

كنت مَلك الموت



آجي مشعول

ترجمة: نائل الطوخي

القتل الرحيم

كنت ملك موت يحمل بيده خطافاً من الحديد

منجله مسلول، يشبه الإنسان

عبرت الكيلومترات

كنت ملك موت يقود سيارة تويوتا ياريس

عندما تدوس حوافري على دواسة البنزين

بالخطاف ترقد الحياة على ظهرها

وتصدر صريرا من بين الشقوق

بالخطاف تتوسل الحياة لأجل نفسها

وتنزف دماً على أغطية المقاعد

غيمة شر

هذا ما كنته عندنا حلقتُ

من فوق ظلام المسافة

حتى السم

عندما وضعت الخطاف بيد

المخدر

عندما أخفيت قروني في القلنسوة

عندما زررت القميص على صدري المشعر

ووزعت الموت.

الأوز

أفشتاين، مدرس الرياضيات،

أراد أن يوقفني على السبورة.

قال أن رأسي لا تصلح إلا لارتداء القبعة.

قال أن عصفورا بعقل كعقلي

كان يطير إلى الخلف.

وأرسلني لرعي الأوز.


الآن، بعد سنوات من هذه المحاكمة،

عندما أجلس تحت النخلة

بإوزاتي الثلاث الجميلة،

أفكر أنه كان بعيد النظر،

مدرس الرياضيات،

وكان الحق معه.


فليس هناك ما يسعدني أكثر

من أن أراها الآن

تنقض على الخبز المفتت،

تهز ذيلها السعيد،

تتجمد للحظ صامتة

تحت قطرات الماء

الذي أرشه عليها

من الخرطوم

تشد رؤوسها وأجسادها،

تنتصب عندئذ كمن يتذكر

البحيرات البعيدة.


منذ مات مدرس الرياضيات

وماتت أيضا معضلاته التي لم أنجح ولا مرة

في حلها

أحب القبعات،

ودوما في المساء

عنما تعود العصافير إلى داخل الشجرة،

أبحث عن تلك التي تطير في الخلف.


صلاة الصباح في طائرة إلعال

فتحوا خزانة الأمتعة، أغلقوا خزانة الأمتعة

وفتحوها مرة ثانية، وطرقوا على خزانة الأمتعة

وطووا ورفعوا وأنزلوا

وفردوا وحزموا وأسقطوا

وجذبوا من فوق رأسي

مجموعات التفيلين

وفردوا أغطية الطاليت[1]

وقبّلوا ولوّحوا

وهزوا سويا

جسمهم وأغلقوا

ولفوا وربطوا شرائط الجبين

ثم جذبوا للخلف

أجنحة المعاطف

وجلسوا ولكنهم أيضا

قاموا

أواه أيها اليهود

لفحص النوافذ

ليروا إذا كانت المياه قد خفت

وفتحوا سفر التثنية

وأغلقوا سفر التثنية

وتحركوا وهاجروا من المدن

في الممرات

وتقوست الأشياء من

ذيل الطائرة إلى

نساء حبالى على الدوام

يهدهدن الأطفال الرضع

ويفتحن خزانة الأمتعة، يغلقن خزانة الأمتعة

ويفتحنها مرة ثانية، ويطرقن على خزانة الأمتعة

ويرقبن كل الاتجاهات

فقط السماء والتابوت

يسمحان بالنوم

يا جنود الرب

مدوا سيقانكم

استريحوا في كراسيكم، روحكم

إلى قدس ربها الآن أقرب


[1] الطاليت والتفيلين من أدوات الصلاة في اليهودية.

______________________________________

ولدت آجي مشعول في المجر لأبوين من الناجين من الهولوكست. ولدت باسم أجنس. هاجرت إلى إسرائيل مع أبويها وهي تبلغ أربعة أعوام. وبدأت في الكتابة في الصف الثانوي. درست الأدب، في البداية بجامعة بن جوريون بالنقب ثم بالجامعة العبرية بالقدس. والتي حصلت منها على الدكتوراه.

أصدرت في السبعينيات ثلاثة دواوين شعرية لم تحظ بردود فعل نقدية جيدة. بدأ اقتحامها لمركز الشعر العبري عام 1986، عندما نشر الباحث الأدبي والمترجم دافيد فاينفيلد، والذي كان يحرر السلسلة الشعرية بدار نشر "كيتِر"، ديوانها "يوميات المزرعة"، وفيما بعد، واصل فاينفيلد دعم مشعول ومساعدتها.

في التسعينيات حظت مشعول بشعبية متزايدة سواء بين القراء العاديين أو النقاد، وفي عام 1995 حصلت أيضا على جائزة رئيس الوزراء. كما حصلت على الجائزة الأولى باسم يهودا عميحاي، وجائزة بلدية حولون. في عام 2002 شاركت الفنانة التشكيلية إيريس كوبليو في إصدار كتاب "كراسة الأحلام" الذي ربط بين الأشعار القصيرة والأعمال الفنية التي تلامس موضوع الحلم.

مشعول تحاضر الآن في معهد "عَلْما" بتل أبيب، وتقوم بتدريس طرق الكتابة بجامعة تل أبيب. وهي عضو هيئة تحرير الدورية الشعرية "هاليكون"، وتدير ورش كتابة في أطر مختلفة.

من كتبها، "جرح القطة"، 1978، "جالوب"، 1980، "حمامة فاكسميليا"، 1991، "انظر هناك"، 1999"، "لحظة"، 2005"، و"زيارة بيتية"، 2009.

القصائد المنشورة هنا، وهي قتل النعمة، الأوز، و صلاة الصباح في طائرة إلعال، منشورة بالأصل في صحيفة هاآرتس.



Friday 9 July 2010

حرب اللغات اليهودية: ييدشية الحنين والييدشية الأخرى



حرب لغات في إسرائيل، تندلع بين الوقت والآخر، محورها هذه المرة: لغة الييدش.

اللغة الييدشية، وهي لغة يهود شرق ووسط أوروبا،[1] لم تصبح مجرد لغة، ولا مجرد ثقافة، وإنما تعدتها لتشير إلى معان سياسية أبعد. يمكننا فهم هذا عن طريق الإحالة التاريخية لفكر الصهاينة الأوائل الذين كانوا ينظرون للييدشية، ولكل ما يتصل بالمنفى، أي بوجود اليهود خارج فلسطين، باحتقار، حيث اعتبروا فترة الييدشية هي فترة انقطاع اليهودي عن هويته الأصلية، هويته العبرية التي تجد جذورها في العهد القديم.

في المنتدى الأدبي الشهري الذي يعقده شمعون بيريز في بيته، وكان موضوعه هذا الشهر "أدب الييدش"، ألقى الرئيس الإسرائيلي كلمة تحدث فيها عن لغة الييدش، قام بمدحها ليعلن موتها. ولكن الشاعر الشاب "موشيه سقال" قام بالرد عليه، وبالدفاع عن الييدشية، وهو الدفاع الذي يلقي أكثر من ضوء على الثقافة الإسرائيلية المعاصرة وصراعاتها ومراكز القوة فيها.

كلمة بيريز منشورة في صحيفة يديعوت أحرونوت تحت عنوان "الييدشية هي حنين"، نقدم هنا فقرات منها وترجمة كاملة لمقال موشيه سقال.

يبدأ بيريز "مديحه" لليديشية بالقول:

"الييدشية اليوم هي حنين أكثر من كونها لغة. هي ظاهرة ثقافية خاصة. من كلاسيكيات شعب جوال، سلبت لب الكثيرين، جمالها لم يذب، رائحتها لم تذبل، خفة ظلها لا تقارن. منذ بداية التيه اليهودي في القرن التاسع إلى مناطق اللغة الألمانية بأوروبا أصبحت الييدشية لغة اليهود، ووسمت هويتهم وحافظت على خصوصيتهم."

"في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت الييدشية أكثر قوة من العبرية. ولكن مصير اللغة يشبه مصير الشعب. كما كتب حاييم جيتلوفسكي: "يجب على كل منهما (الشعب واللغة) أن يثبت كونه حقيقياً. على اليهود إثبات أنهم شعب حقيقي. وعلى الييدشية أن تثبت أنها لغة حقاً." خراب المركز اليهودي، وهو التجمع الأكبر لمتحدثي الييدشية، حدث على يد النازيين."

***

كما يشير بيريز لبعض السمات الخاصة بالييدشية، مفصلا رؤيته لها: "كيان وواقع الحياة اليهودية في البلاد الأجنبية أعطيا الليدشية ألوانا ساحرة من المكر، الغمز، وروح الدعابة. يضاف للحديث تعبيرات الوجه ولغة الجسد. التلونات الصوتية والنبرات، جعلت من اللغة فنا أصلياً. لقد تحول متحدث الييدشية في الواقع إلى ممثل يعرض معنى الكلمات التي يقولها بحركات يديه وتعبيرات وجهه. الييدشية هي لغة عائلية وعالمية. بيتية وإنسانية. ضفيرة من الضحك والدموع، حزينة وهازلة، تغزل البطولات بالنوادر، بالأقوال السيارة، بالأمثال، بالدعابات، بالقصص الشعبية. وأحيانا تسمح للدموع بأن تبلل العيون."

***

ويعود ليخلق أسطورة الشعب اليهودي، الذي غزا العالم كله بإبداعه: "من المثير للاهتمام أن نرى أدباء وشعراء يهوداً احتلوا العالم كله، حتى في بلدان كبيرة وبعيدة مثل الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية. أدباء مثل شالوم عليخم، بشفيس زينجر، شموئيل يوسف عجنون، هينريش هاينه، برودتسكي، يتسحاك بافل، كافكا، وآخرون، ترجع أصولهم إلى فترة الييدشية، وتجول أرواحهم في طرق بعيدة، وتسبح في أنهار سرية على وجه الكرة الأرضية كلها."

"حظيت مرة بأن أرى "عازف كمان على السقف"[2] باللغة اليابانية. عندما تطرح جولدا اليابانية ادعاءاتها أمام رب اليهود، في المسرح الياباني، شعرت كأن كرة الأرض قامت بدورة أخرى تحت الشمس الييدشية. وفكرت أنه في الواقع، فـ"عازف الكمان على السطح"، قد خلق الحلم الأمريكي. خلق هوليود."

"اليهود الذين هاجروا إلى كاليفورنيا أخبوا في حقائب سفرهم الحلم اليهودي، واستغلوا التصريح الأمريكي للبحث عن مكان ملائم له."

________________________________

أما الشاعر الشاب (ولد عام 1976)– من أصول مصرية وسورية – موشيه سقال، فيكتب مقالا في يديعوت أحرونوت يرد فيه على النبرة الأبوية في حديث شمعون بيريز عن الييدشية، ويقدم صورة لواحد من أهم وأطول الصراعات الثقافية في إسرائيل.

هناك ييدشية أخرى

سيدي الرئيس، قرأت باهتمام بالغ كلماتك المتعلقة بالييدشية، وفي هذه المقالة القصيرة سوف أحاول الرد عليها بل وتصويب، بعد إذنك، بعض الأمور. أولا، لأقل بعض الأشياء عن نفسي: لست ييدشستياً، ولدت قبل أربع وثلاثين عاما في تل أبيب لأبوين مولودين في البلد. في سن الثالثة عشر بدأت في دراسة الفرنسية بمدرسة "إليانس"، ومنذ ذلك الحين صرت أتحدث هذه اللغة مع جدتي، المولودة في القاهرة. القاهرة التي نشأتْ بها جدتي كانت مدينة كوزموبوليتانية متعددة اللغات، كانت تغلي وتعصف بها ثقافات كثيرة، ثقافات شرقية وأوروبية على حد سواء. إذن فالييدشية لا تسيل في شرايييني، ولكن علاقة الإسرائيلي المتوجد الآن بالييديشية – مابالك بعلاقة رئيس الدولة – هي في عيني ذات مغزى ثقافي وسياسي بعيد المدى. على أي حال، فعلى نقيض ما يعتقده بعض المعلقين خطأ والذين ردوا على كلماتك، ليس الحديث عن صراع الشرقيين ضد الإشكناز.

في خطابك، سيدي الرئيس، أمطرت الييدشية بالمديح، "الييدشية هي حنين"، كما تدعي وتذكرنا بكلمات بن جوريون، الذي أطلق عليها لغة "غريبة وخادشة"، "الييدشية هي ظاهرة ثقافية خاصة، (...) جمالها لم يذب. رائحتها لم تذبل. خفة ظلها لا تقارن". وفي نفس الجملة تشير إلى أن الحديث هو عن لغة محتضرة، لغة هزمتها العبرية.

يمكن تخيلك وأنت تقول هذه الكلمات بصوتك المعروف، الصوت الذي يحوي أصداء من البولندية – لغتك الأم – وأصداء من الييدشية، والتي تشير بحسم شديد للغاية إلى أمر هزيمتها. تتحدث عن لغة "مشحونة بالذكريات ومشاهد البلدان الغريبة محاطة بدفء البيت. كلها بساطة وسعادة وشجن" يبدو لي أنك انجرفت هنا إلى مناطق الكيتش. أنا نفسي أعرف ييدشية أخرى: ليست مسرحا فظا ولا نكاتاً قبيحة، ليست "هذا يبدو أفضل في الييدشية"، وليست "عازف الكمان على السطح".

تشير، سيدي الرئيس، إلى الييدشية بوصفها بيت. وفعلاً، لن ينكر أحد انتصار العبرية على الييدشية، ولن يشكك أحد في معلومة أن الييدشية قد فشلت فشلا تراجيديا بالنسبة للناس الذين كانت أكثر من لغة لهم: كانت بيتا لهم. بداية الهزيمة، كما هو معروف، في "حرب اللغات" التي دارت هنا قبل ما يقرب من مئة عام – ولكن انتصار العبرية على الييدشية تم حسمه في الهولوكست، وبخلاف ألاف الاختلافات– مع قيام دولة إسرائيل.

انتصار العبرية على الييدشية كان حاسما لدرجة أنه منذ حوالي العام، بادرت عضوة كنيست ما من حزب "إسرائيل بيتنا"، بإقامة جلسة خاصة باكتمال الكنيست للإشارة إلى يوم الثقافة الييدشية. وهكذا قاموا بسحب الييدشية المهزومة من بلعومها إلى المعبد الإسرائيلي – تحت قناع النوستالجيا والإشفاق، ولكن في الواقع فلقد كان هذا بهدف تنفيذ "تأكيد القتل" والإعلان – مجددا – عن أنها لغة ميتة بنسبة مائة في المائة.

بعد سنوات طويلة من الإدانة والسخرية، يبدو أن الثقافة الإسرائيلية تتعامل مع الييدشية اليوم بتسامح نسبي، نوع من التسامح الأبوي الذي يمكن للمنتصرين أن يمدحوا بها (بالمناسبة، هذه كلمة ييدشية أصلية (بارجينان[3]، وتحولت إلى إحدى رموز الهوية الإسرائيلي "الصريحة[4]")، مهزوميهم.

العلاقة المشكوك بها تذكرني بالطائفة اليهودية الصغيرة، التي حرصت تقريبا كل مدينة مسيحية في العصور الوسطى على الاحتفاظ بها بين جنباتها، والجلسة المكتملة الخاصة بالاحتفال بيوم الثقافة الييدشية يذكرني باليوم الذي كانوا يسحبون فيه أغلب الطائفة اليهودية للكنيسة، يجعلونها تسجد على ركبتيها ويشدون أذنها. كان اليهود في نظر المسيحيين "الشعب الشاهد"، كما ترمز الييدشية حتى اليوم، في نظر صباريم[5] كثر، إلى اللغة المحتقرة والمهزومة، التي يجب التعامل معها بأبوية وتسامح.

نكسر أسناننا من أجل سوتسكفر

اسمح لي، سيدي الرئيس، لأن أحكي لك حكاية عائلية صغيرة: قبل سنتين تم تسجيلي في الكورس الصيفي للدراسات الييدشية بجامعة تل أبيب. "مالك والييدش"؟ سألتني جدتي بالفرنسية، الفرنسية القاهرة، التي تتدفق على لسانها. نبرة مستمتعة تسللت إلى كلماتها وهي تتفحصني كما يتم تفحص وجه شخص غريب الأطوار. قلت لها أن دراسة اللغة – أية لغة – هي متعة ضخمة، وأن اللغة الجديدة تعني الإمكانية الجديدة، وأنه ثمة أدباء كباراً في الييدشية، شالوم عليخم، مندلي موخير سفارين، أفراهام سوتسكفر وآخرين.

فقط من أجل هؤلاء الأدباء، قلت لها، من المفيد أن نكسر أسناننا، أن نتعلم مفردات جديدة وأن نتمرن مرة أخرى على هذه اللغة، والتي عودونا دائما أبدا على احتقارها. قلت لها أيضا أن الييدشية هي لغة يهودية معرضة للاختفاء وأنها جزء من جيناتي، برغم الجذور المصرية السورية لعائلتنا، وفي النهاية بشرت جدتي أنني قررت دراسة لغة أخرى بعد اليدشية: العربية.

"العربية"؟ أدارت جدتي عينيها. "العربية" أكدتُ. "مالك والعربية؟" طلبتْ المعرفة. "هي اللغة الأم لأبي"، قلت لها. "أبوك ولد في إسرائيل"، كررت. "صحيح" أجبت، "ولكن أمه ولدت في دمشق وهو يتحدث معها حتى اليوم بالعربية، حتى عندما يتحدث العبرية، فلديه القليل من اللكنة العربية."، "ليست هناك أية لكنة عربية"، ثارت جدتي، "أنت تتخيل فقط."

سيدي الرئيس، تزعم أن "اليوم الييدشية هي حنين أكثر من كونها لغة." ولكنك مخطئ. بهدوء يكبر اليوم جيل من الشباب القادرين، وهم يعودون بالتحديد إلى ما بدا لهم فجأة ثابتاً وذا معنى: ثقافة أبائهم. على النقيض من إسرائيليين كثيرين يأخذون في تنمية عقدة اضطهاد ضد كل العالم، فإن هؤلاء الشباب يعملون على الييدشية من خلال رغبة في إدارة حوار مثمر مع ثقافات العالم المعاصرة. لا يملكون نوستالجيا، وإنما اشتياقا لثقافة أكثر تفتحا، وتلونا.

كل العالم – احتفال بالييدشية

الانشغال الشاب والعاصف اليوم بالييدشية يحدث بعيدا عن جلسة الكنيست وبيت الرئيس: يتم في الجامعات بأنحاء العالم – في تل أبيب، نيويورك، باريس ومدن أخرى، يتم في بيوت خاصة، احتفالات، على الإنترنت، في أي مكان تظهر فيه شهوة حياة غير منغلقة. من هذه الناحية فليس هناك فارق اليوم بينهم وبين الشباب الذين يختارون دراسة العربية، البولندية، الروسية، اللادينو أو الألمانية. جميعهم – بشكل معلن أو غير معلن – يفعلون هذا احتقاراً للقوموية، وانفصالاً عن الاستعلاء الإسرائيلي الحالي. وإذا كان لديهم حنين، فهو حنين للأيام التي كان فيها اليهودي هو "رجل العالم"، ليس "إسرائيل بيتنا" شعارهم، "وإنما "العالم بيتنا."

ربما تمت هزيمة الييدشية في المعركة، ولكنها تنتظر بصبر آخرة أيامها. لأنها ليست معلقة بمنطقة جغرافية، فهي تتيح للقوموية الإسرائيلية أن تقضم نفسها كالمصابة بالجنون. فعلا، هذا ليس موضوع صراع بين الشرقيين والإشكناز، وإنما التقسيم بين المنغلقين والمنفتحين، بين القومويين والكوزموبوليتانيين. وربما هذا بالتحديد، سيدي الرئيس، هو العلامة المشجعة، بل ومصدر التفاؤل الحذر. فماذا أفضل من أن نكون، أخيراً، شعبا ككل الشعوب؟


[1] تتكون من الألمانية والعبرية والأرامية، وتكتب حروفها بالعبرية.

[2] مسرحية غنائية مأخوذة عن كتاب "طوبيا الحلاب"، للكاتب اليهودي الذي يكتب بالييدشية شالوم عليخم.

[3] الكلمة التي تمت ترجمتها (ترجمة غير دقيقة) بـ"يمدحوا" هي بالعبرية "لفارجين.. לפרגן" المأخوذة من "فارجينان.. פארגינען" الييدشية والتي تعود بأصولها إلى firgunen الألمانية. الكلمة الييدشية "فارجينان" تعني أن تنظر بعين الرضا.

[4] الكلمة المستعملة هنا هي كلمة "دوغري" דוגרי، ويضعها الكاتب بين علامتين تنصيص لكونها هي أيضا مأخوذة من لغة أخرى غير العبرية، وهي العربية.

[5] حرفيا، تشير إلى المولودين في فلسطين/ إسرائيل، ولكنها ترمز أيضا إلى من يحتقرون فترة المنفى اليهودي، ويؤمنون بأن الشعب اليهودي لم يولد من جديد إلا في فلسطين.