Friday 23 July 2010

في مديح تل أبيب التي كانت



يورام كانيوك

ترجمة: نائل الطوخي

التل أبيبي الأول

من الأدباء العبريين الذين يعيشون اليوم، حاييم جوري، أول من ولد في تل أبيب، ولكن لأنه قد خاننا مع القدس، فلقد بقيت أنا أول أديب ولد في تل أبيب. في يوم ميلادي كانت هناك في تل أبيب 23.978 غرفة. هايكه بائع الفلافل في شارع لسال كان لم يأت بعد إلى البلد. تم زرع 2.936 شجرة. وبخلافي، فلقد ولد في 1930 2.100 رضيعا، مات 510 يهوديا وشخص من غير اليهود. تزوج 695. وطلق 291 أزواجهم. وقعت 16 حادثة سيارة. و120 حادثة موتوسيكل. تمت الكتابة عن 12 حالة إجهاض. وعن 16 حالة هستيريا وتم تعيين أبي سكرتيرا لديزنجوف[1].

ماذا في تل أبيب مما يدفع الجميع إلى امتداحها هكذا؟ أنا لا أناسبها: لا أحب الشمس. لا أحب الصيف. أنا صبار ولكنني لا أطيق الصبار[2]، أثق كفاية بالنظام ولكنني لا أحتفي به بهذا القدر الكبير، بين جميع الخضروات فأنا أحب بالتحديد السبانخ، وهو ما يثير تقريبا قرف أطفال المدينة. مثل الجميع كنت أقضي الساعات على شاطئ البحر، ولكن أبا أحد أصدقائي - وكان يملك الحق في تأجير كراس مريحة في شاطئ فريشمان، بجانب نادي "تير"، حيث كانوا يطلقون النار في الهواء، ومن تحت كان الجميع يقبلون بعضهم البعض على الرمل في الظلام – كان يعطينا كرسيا مجانيا وأجلس تحت المظلة مثل العجائز.

في السنوات الـ11 التي عشتها بنيويورك كنت كثيرا ما أفكر في تل أبيب، ولكنني كنت أخترعها في عقلي، وقمت بتثبيتها على الحال الذي تركتها عليه وقت سفري، وفعلا، فلقد فضلت نيويورك. أحيانا كنت أتطلع إلى صور قديمة وأفكر أنني ربما لم أولد في هذه المدينة. لماذا إذن أحب السكنى بها اليوم لهذه الدرجة ؟ ليست لديّ فكرة. المدينة لا تُحب، بصعوبة تُحب المرأة أو يُحب الرجل. عندما أسافر إلى مدن جميلة بالخارج، مدن رائعة للغاية، أضع رسم قلبي ويظهر عليه رقم صفر، وأعد الأيام التي ستمر لحين عودتي لتل أبيب.

كنت في حوالي الرابعة عشر في رامات هشارون، ولا أذكر أي شيء من هناك. ولكن تل أبيب تتدفق فيها الدماء. ربما مع كل هذا يوجد بها شيء ما؟ تل أبيب هي المدينة العبرية الأولى قبل لوس أنجلوس. ولكن لأنها عبرية، ولأن الجميع فخورون بها، فأغلب اللافتات في المدينة مكتوبة بكل اللغات التي يعتقد الباعة أنها إنجليزية. ذات يوم كان فيها أسماء مقاه جميلة: مقهى "التاج"، "نهر الجليد"، "الركوة"، "الكأس"[3]. اليوم الاسم العبري الوحيد تقريبا بين المقاهي هو "Cafe Hillel", وهو مكتوب بالإنجليزية، لأن هيليل العجوز هاجر على ما يبدو إلى أمريكا وكان من ضمن محاربي واشنطن رحمهم الرب.

تل أبيب هي المدينة الوحيدة في العالم التي يموت الناس فيها قبل أن يعيشوا فيها. في عام 1901، بعد وباء الكوليرا، لم يسمح الأتراك بالدفن في يافا، وقام العرب بالدفن في المكان الذي يقع به فندق هيلتون، وهو متصل بحديقة الاستقلال، بينما عثر اليهود على ساحة بعيدة عن يافا، واشتروها وبدأوا في الدفن بها. جزء محترم من شوارع المدينة مدفون في هذه المدافن الجميلة. لدرجة أن أصبحت المدافن تاريخا وجغرافيا في نفس الوقت. من ينظم جولات في هذه المدافن، الأجمل في المدينة، بصحبة المدرس، عزيزي سليمان شابا، لن ينسى قصص الحب والكراهية المدفونة هناك. في طرق نورداو بناصية بن يهودا كان يوجد كشك جرين، وهو أخو بن جوريون. ومن يريد إهانة بن جوريون لا يشتري في المكان إلا كازوزة صودا.

كان هناك أيضا كشك برلِه، والذي كان أبي يتوقف بجانبه كل صباح قبل أن يركب دراجته ليدير متحف تل أبيب وكان يطلب كازوزة بلا عصير، وكان ينتظر إلى أن يقول برلِه: "بدون أي عصير، سيد كانيوك؟"، كانت هناك عندئذ أربعة مسارح في تل أبيب. وأوبرا، وفرقة فيلهارمونية، وحفلات كامرية[4] في أيام السبت بالمتحف. كان هناك مجانين ينامون في الشارع. أكبرهم كان شمعون رودي الذي كان يفك سلاسل الحديد بأسنانه على ضوء فانوسي الموتوسيكل وكانت الصبايا متعلقات بعضلاته ويصرخن وكان يلحن صرخاتهن على صوت أكورديون شبيل، والذي لم يكن يعرف إلا أغنية واحدة، ولكنه كان يعرفها جيدا. الأغنية التي كانوا يغنونها وقتها كانت "تل أبيب مدينة الأسقف والسماء وقيئ ماسح الأحذية"، ولكن كان هناك أيضا مبيض النحاس والبائع الجوال بعربة وحصان[5] ويوزع اللبن منادياً "لبن لبن"، وكان يوزع الثلج، وكان هناك شخص يأتي مرة في السنة ومعه آلة تشبه التشيلو المحمول، ذو وتر واحد، وكان ينفخ بطاطين الشتاء التي كانت ترقد في الخزائن طيلة الصيف.

ماذا إذن في هذه المدينة التي أعيش بها وأحب العيش بها? لا أعرف بالتحديد. ستوكهولم أكثر جمالا بكثير، ولكن ستوكهولم، مثل باريس، هي بالنسبة لي كنيسة بدون إله. نيويورك أكبر كثيرا. كوبنهاجن تصبح مملة بعد عدة أيام، ولكنها جميلة كملكة. تل أبيب جميلة؟ نعم ولا. أغلب بيوت تل أبيب اليوم، والتي هاجر إليها عظماء الأمة، المدينة وأغنياؤها، تبدو مثل مدافن عملاقة. مساكن راموت أبيب. حي راموت إمو. إذا نزلنا بساديه دوف فما سنراه هو مدافن رمادية عملاقة ببيوت قبيحة ذات ثماني طوابق تقريبا، مركزا تجاريا ومقهى للنساء وأشجارا تبدو كأوراق شجر صغيرة. تل أبيب القديمة جميلة حقا. جميلة بشكل اصطناعي. قديمة لأنهم قرروا أنها مدينة بيضاء وعاصمة الباوهاوس[6]، كما كانت سابقا فعلا. أنا إذن أحب بشدة العيش في تل أبيب القديمة. هناك أيضا ولدت، عندما كانت تل أبيب حلما عبريا وكانت أمي تحفظ في مدرسة هرتسليا رحمها الله، هناك أيضا كانت تقوم بتدريس كلمات كان بن يهودا[7] يستحدثها في كل يوم. الشوارع الصغيرة في المدينة القديمة لطيفة، شخصية. ثمة حدائق خلف البيوت. ولكن البيوت غالية السكنى جدا، برغم كوني شيخ أدباء المدينة وبرغم أنني حظيت بالشرف الكبير في أن يتم اختياري كعزيز المدينة، فلا يمكنني السكنى بشقة تخصني فيها، وعلي أن أدفع إيجار الشقة.

الشباب دوما كانوا يصنعون المدينة، الآن ويومها. للعجائز ذكريات، للشباب حياة قبل الموت. تل أبيب تفور. ذات يوم كانت تفور كما يفور اليوم المشروب القومي كولا دايت، وذات مرة كان الجميع يشربون شراب العسل، ماذا إذن؟ هناك نهضة في تل أبيب لا توجد في أي مدينة أخرى أعرفها. هناك لطف العابر. هناك استعجال. العاهرات أكثر من المرأة الشرعية، وأطفال بئر سبع يعدون الأيام حتى يتم اعتبارهم تل أبيبيين.

مكان الولادة ليس قصة كبيرة لهذه الدرجة. تم الإتيان بي وأنا أبلغ عدة أيام إلى شقة والديّ بشارع بلفور ناصية طريق روتشيلد، في تلك الأيام وربما بعدها بقليل انتحرت هناك امرأة كانت تصرخ. بعدها جلست في الشرفة، كنت أبلغ ثلاث سنوات ورأيت الشباب يغنون – وعندئذ لم يكن الأغنياء يسكنون في المناطق الفاتنة، في هذه المدافن العملاقة والقبيحة – وإنما بطريق روتشيلد.

بجانب تل أبيب كانت هناك ثمة عدة قرى عربية، جديدة بشكل كاف هناك: صميل وجاموسين، وكان هناك حي شارونة الألمانية، لزمن ما سكنا في كريات ميئير، والتي كانت تعد آنذاك هي الحدود بين تل أبيب والعالم العربي، وابي كان يجول في الليل ويضرب الصفيح لإخراج الثعابين. اليوم تحولت إلى شارع دوفنوف المختبي خلف شارع إيفن جفيرول والذي لم يكن إلا شاعر وقتها. في شارونة كنا نشتري الزبد والسمن، وكانت تقام وقتها مسيرات نازية ينضم إليها عرب صميل.

في الشيخ مونس تورطت ليلة ما عندما حان دوري لمرافقة طفلتين من حركة المعسكرات الصاعدة إلى مدرستهما، ربما كان سمينار الكيبوتسات، وأتيت بهما. هتفت بشعار. ولكن شبابا عربا قرروا الاعتناء بأمري. لا يهم. خرجت من هذا. جُرحت يدي. تلقى واحد من الشباب ضربة قاسية. بعد سنوات في نيويورك أوقفني رجل وقال: "هل تذكرني؟" قلت: "هل كنت في سفينة المهاجرين غير الشرعيين "بان – يورك" بينما كنت أعمل أنا في الإتيان بالمهاجرين؟" وقال: "لا، أنت كسرت لي يدي في صميل وأنا أذكر هذا." احتضننا بعضنا البعض. لا أذكر لماذا. انفجرت صديقة كانت معي في البكاء. توقف شرطي ليسأل إذا كان كلنا بخير وقلت له أننا كبرنا معا في فلسطين. لم يعرف أين هي وسار بعيدا، ملوحا بعصاه.

اليوم لم تعد تل أبيب عاصمة الصهيونية كما كانت، لأن الصهيونية ماتت نهائيا. لذا فتل أبيب التي بدأت كمدافن أصبحت اليوم مدينة مستقلة. لم تعد عاصمة الدولة الحقيقية، العاصمة الآن في الخليل أو في محانيه يهودا، اليوم تل أبيب مدينة–دولة مثلما كانت هناك في العالم مدن–دولة. فلورنسا لم تكن إيطاليا وإنما مدينة-دولة حاربت ضد البندقية. وفي دولة–المدينة هذه ثم مناخ خاص. هناك بهجة للفقراء[8]. ثم شجن يسود من خلال تدمير الدولة.

اليوم أنا عجوز ومريض. في الفقاعة التل أبيبية أستطيع السير لأي مكان على قدمي وفي نفس الوقت يمكنني أن أنام بهدوء، لأن الشوارع الصغيرة للمدينة المتجددة اليوم – ولكن المحافظة على ماضيها القصير – هي شوارع هادئة. وأنت توجد في وسط المدينة بجانب ضجة كل ما يحتاج سفرا بالقطار لعدة ساعات في برلين. أنا غير مستعد لأن أُدفن في مدينتي. سوف أحترق بداخل العالم المفتوح. لأن الإبقاء على نصب فوق خرائب العالم الصهيوني يبدو لي أمرا مفتعلا، وحزينا، ويكسر القلب. ولكن جدي وجدتي مدفونان في ترومبلدور وفي نحالات يتسحاك.

التقيت في مستشفى أيخيلوف امرأة عجوزا تدعي أنها تسكن فوق مدافن نحالات يتسحاك واشترت لها قبراً هناك، ومن شباكها ترى المكان الذي سوف تعيش فيه للأبد. لن يكون هناك أبد لهذه المدينة. تل أبيب كانت تقريبا بداية الصهيونية والعبرانية وسوف تبقى أخرها عندما يصبح كل شيء خربا وخاويا من أولاد الذوات الذين سيهاجرون من هنا إلى لوس أنجلوس. هكذا، لن أكون وحدي الذي سيرى تل أبيب من الجو.

___________________________________

ولد يورام كانيوك عام 1930. ولد ودرس وعاش في مدينة تل أبيب. أبوه مولود في مدينة جاليسيا ببولندا. وكان السكرتير الشخصي لمئير ديزنجوف. خدم كانيوك في كتائب البالماح العسكرية بدءا من سن السابعة عشر، وشارك في معارك حرب 1948 كجندي في الوحدة 4 للكتيبة الرابعة تحت إمرة يوسف تبنكين. ووصف هذا في كتابه "تَشَح.. 1948". بعد انتهاء الحرب عمل في طاقم كانت مهمته تهريب اليهود إلى فلسطين بشكل غير شرعي. درس الرسم في مدرسة بتسلئيل، وواصل دراسته في باريس، وبعدها عمل بحارا على سفينة سافر عليها إلى كندا، ثم الى نيويورك حيث مكث عشر سنوات في الولايات المتحدة الأميركية. كانت له مغامرات أخرى، بحث عن الذهب في المكسيك، وعن الألماس في جواتيمالا. ثم قرر التفرغ للكتابة. في عام 1958 تعرف على ميرندا، وهي ابنة عائلة أرستقراطية أمريكية وعاد معها إلى إسرائيل. وهناك ولدت ابنتاه. في 1980، وبعد السكنى عشر سنوات ي حي رامات هشارون، عاد للسكنى في تل أبيب.

ينتمي كانيوك لجيل "البالماح" وهو الجيل الذي شارك في حرب 48 وشهد إعلان الدولة. أصدر عام 1963 مجموعته القصصية الأولى "الهابط إلى أعلى"، وكان هذا الكتاب قد نشر من قبل بالإنجليزية، من بين رواياته الأخرى الشهيرة "حيمو ملك القدس"، 1966، "آدم ابن كلب، 1968، والذي ترجم إلى العربية ونشر في مكتبة "كل شيء" الحيفاوية"، و"اليهودي الأخير"، 1982.

هذا المقال منشور في صحيفة هاآرتس بعنوان "التل أبيبي الأول".


[1] مئير ديزنجوف، (1861 – 1936) الرئيس الأول لتل أبيب.

[2] صبار الأولى بمعنى المولود في فلسطين. والثانية بمعنى نبات الصبار. وذلك لأنه كانت تقام مسابقات بين الأطفال اليهود المولودين في فلسطين، واليهود المهاجرين حديثا، لجمع نبات الصبار، وكان يفوز بها المولودون في فلسطين، بحكم خبرتهم بالبلد التي تفوق نسبيا نظرائهم المهاجرين حديثا.

[3] أسماؤها بالعبرية على التوالي: "עטרה", "שניר", "קנקן", "כסית", عتارا، شنير، كنكان، كوسيت.

[4] تشكيلة الكامري، هي مجموعة صغيرة من العازفين والمغنين، في الغالب تكون من ثلاثة إلى ثمانية أفراد.

[5] العبارة أصلا يكتبها كانيوك بالييدشية אלטע זכאען، ألتا زخان، وتعني في الييدشية أصلا البضاعة القديمة. تغير معناها ليصبح البائع الجائل مع حصان. ومبيض النحاس في إشارة إلى الباعة - العرب في الغالب - الذين كانوا ينادون على عملهم بالييدشية: הווייסען-קעסעלעך، أي: .فيسان كاسالاخ، نبيض النحاس

[6] بالألمانية Bauhaus، اسم مدرسة معمارية ألمانية حازت نجاحا في إسرائيل. في عام 2003 تم إعلان "المدينة البيضاء" في تل أبيب كأحد المواقع العالمية لهذا الأسلوب المعماري الذي يتخلى عن الزخارف.

[7] بن يهودا محدث اللغة العبرية الأولى.عاش بفترات الاستيطان اليهودي الأولى بفلسطين وقرر تحديث العبرية لتصبح لغة للتخاطب بدلا من أن يتم حبسها في التوراه، وفرض على أهل بيته عدم الحديث سوى بالعبرية.

[8] يلعب على اسم الديوان الشهير للشاعر ناتان ألترمان "بهجة الفقراء".


No comments:

Post a Comment

comment ya khabibi