Saturday 10 September 2011

يارمِه وكايلا


"يارمَه وكايلا" للكاتب اليهودي يتسحاق باشفيس زينجر، هي قصة نشرت مسلسلة في صحيفة ييدشية، ولم تطبع في كتاب سوى هذا العام، بمناسبة مرور عشرين عاما على وفاة الكاتب الييديشي الأشهر والحاصل على نوبل. القصة تحكي عن عاهرة تطمع في حياة أفضل وزوجها، وهو رجل ينتمي للعالم السفلي. بخلاف كتاب يديشيين أمريكيين آخرين من مجايليه، فلقد رفض باشفيس زينجر وصف العالم اليهودي في أوروبا بنبرة أيديولوجية نوستالجية، وأصر على وصفه بكل نقاطه السوداء، بأضوائه وظلاله.

في "يارمه وكايلا" يعرض زينجر مهمشي الطائفة اليهودية، ومحاولاتهم اليائسة للهروب من ماضيهم الذي التصق بهم. يدرس نفسيات أبطاله بشكل إنساني. هكذا تصف صحيفة يديعوت أحرونوت، والمنشور فيها هذا الفصل بالعبرية، القصة.

ولد زينجر في لافنشتاين وعاش في وارسو. هاجر عام 1935 إلى أمريكا. كتب قصصاً وروايات كثيرة، منها "العبد" "محكمة أبي"، "عائلة موشكات"، "الكارهون: قصة حب". وفي عام 1978 حاز على جائزة نوبل للأدب.


يارمِه وكايلا


يتسحاك باشفيس زينجر

ترجمة من الييدشية للعبرية: بلاهاه روبنشتاين

من العبرية للعربية: نائل الطوخي




أ

اسمه الحقيقي كان يرمياهو إليهاز هولتسمان. ولكن في ميدان شارع كروخمالنا لم يكن هناك صبر على الأسماء الطويلة، لهذا فلقد أطلقوا عليه اسم يارمِه، بإضافة لقب "الشوك". التصق هذا اللقب به لأنهم كانوا يطلقونه في وارسو على الكرات الصغيرة الشائكة التي كان الصغار يقذفونها على الناس في التاسع من آب. عندكا كانت تدخل كرة صغيرة كهذه لذقن رجل أو إلى غابة شعر صبية، لم يكن من السهل إخراجها. يارمه استمتع بوخز وطعن أصدقائه الجيدين، وكذلك الإناث اللائي كان له علاقات معهن. اسم زوجته كان كايلا ليئا كوبرمينتس والجميع كانوا ينادونها بكايلا الحمراء، لأن شعرها كان أحمر كالنار.

حتى بلغ اثنين وثلاثين سنة كان يارما الشوك قد أقام لأربع مرات في بافوياك بسبب السرقات. كان عميداً في فك الأقفال. تم حبسه عدة مرات أيضا بسبب سرقة النساء، "البضاعة الحية"، كما يقول القوادون. كايلا الحمراء تمكنت في تسع وعشرين عاماً في حياتها من التناوب على ثلاثة بيوت دعارة: واحد في شارع كروخمالنه، واحد في سموتشا، وواحد آخر في تامكيس. إيتشه الأعمى، هو وليس أحد آخر، كان قوادها الأول. التقى يارمه بكايلا في حانة بشارع كروخمالنا رقم ستة. بعد أن قضى معها يوما وليلة أخذها للمفتي في شارع ستافسكي وتزوجها. المفتي لم يكن يسأل أسئلة كثيرة، أو يفحص الشراشيب في ثياب هؤلاء الذين جاءوا إليه سواء لنصب كوشة أو للطلاق[i]. على خلاف رجال الدين الآخرين، كان يأخذ الروبلات الثلاثة ويستل فوريا عقد زواج، أو يعطي أمرا بالطلاق.

حدث هذا في عام 1911، بعد الثورة الأولى في روسيا بست سنوات تقريباً. المضربون وقاذفو القنابل أخذوا ما يستحقونه، والقيصر نيكولاي الثاني صاغ دستوراً جديداً. ولكن البرلمان الأول انهار، وتم انتخاب برلمان ثان وثالث. في روسيا كان رجال "القرن الأسود" يحرضون الجماهير ويدعونهم لتنظيم مذابح ضد اليهود، والقوميون المتطرفون في بولندا كانوا يطالبون بمقاطعة بضائع اليهود. مئات آلاف الشباب والشابات كانوا يهربون عبر الحدود وينتقلون لبروسيا أو جاليتسيا. من هناك كانوا يخرجون إلى ما وراء البحار، للبحث عن حظهم في أمريكا.

في صحف الييدش كان يتم التكرار أسبوعياً أن شبه الجزيرة البلقانية هي برميل غبار محترق. تنبأت المقالات السياسية باندلاع حرب كبرى: ليس فقط تركيا ضد صربيا، بلغاريا ومونتنجرو، وإنما أيضا بين روسيا وألمانيا. مات د. هرتسل، ولكن الصحف الصهيونية أقامت مؤتمراً في هذا العام، مثل الأعوام السابقة. وزع الاشتراكيون ملصقات مكتوب فيها أن الصهيونية هي خيال فارع، وأنه على العمال اليهود الحرب من أجل الاشتراكية في بلدان موطنهم وليس الحرب من أجل أرض بعيدة، هذه كانت أرضاً قاحلة مسكونة بالعرب، والسلطان عبد الحميد لن يعطيهم أبداً تعهداً.

ولكن في بيوت الدعارة و الحانات بشارع كروخمالنا لم يكن الناس يقرأون الصحف ولا يهتمون بالسياسة. الجميع، في المقابل، كانوا يتذكرون هجوم الاشتراكيين على العالم السفلي: حيث اقتحم الثوار بيوت الدعارة، ضربوا العاهرات، مزقوا الملاءات، قلعوا الأعين، كسروا الأضلع. الجميع كانوا يتذكرون أن بعضاً من المهاجمين قد تم إرسالهم لسيبريا، وأن بعض الحمر تم شنقهم في السجن بالقلعة. تم قتل الكثيرين في هذا الأربعاء الدامي. ولكن كل هذا حدث منذ زمن بعيد.

للحقيقة، فإن يارمه الشوك كان يستطيع قراءة الصحف بالييدشية. لقد عد من لصوص بياسك، ولوقت ما درس أيضاُ في المدرسة الدينية في لوبلين. عندما كان لص من هذه المجموعة يحتاج لكتابة رسالة إلى أبيه أو أمه، أو لبوينس أيرس، كان يأتي إلى يارمه كي يكتبه له. كان يارمه يكتب الرسالة بالييدشية، أما العنوان على المظروف فكان يكتبه بالروسية. كان يشتري الجريدة كل صباح، ولكن لا يقرأ إلا الرواية المسلسلة "المرأة الدموية"، "السيدة الخفية"، وروايات أخرى مثل تلك. في الأغلب كان يقرأ الجزء المطبوع على مسامع كايلا. وأحياناً كان يقرأه بنفسه، وبعدها يحكي لها ماذا حدث في القصة. عينا كايلا الخضراوتان كانتا تلتمتعان عندما تسمع ما ألف الأديب، وكانت تقول:

"ياربي، للأدباء أفكار غريبة. هم يستطيعون ربط كل شيء سوياً، حتى الجدار يربطونه الجدار المقابل".

"كله خيال، كلام فارغ"، كان يارمه يتفق معها. "يجلسون، هرلاء العاطلون، وبيدهم قلم، ويصنعون جلبة كأن هناك معرضا في السماء. هم يستطيعون الخداع ، ولكنهم لا يستطيعون فعل أي شيء، ولا حتى أن يعقدوا ذيل القطة".

"كل شيء يأتي من دراسة التوراه"، تزعم كايلا، "هم يتعلم الجمارا وينظفون عقولهم".

"نعم، صحيح، حزقله شبيجلجلاس كان خبيراً في الحروف الصغيرة. عندما كان أحدنا يأتيه لطلب مشورة، فحزقله كان يعقد جبينه مثل الحاخام، يفكر، ويرد على الموضوع. كان يستهزئ بكل الروس المجسدين في بولندا. كانت له موهبة غير عادية. ذات مرة نشل الساعة الذهبية الخاصة بفائد الشرطة بشحمه ولحمه".

"هل قبضوا عليه؟" توترت كايلا.

"لا، لقد أعاد الساعة من تلقاء نفسه وقال للقائد، بالروسية: "هاهي ساعتك". القائد الأعلى أصيب بجلطة تقريباً.

كان الزوج وزوجته يحبان الحديث. ليس فقط النوم سوياً. كانا يرقدان صاحيين تقريباً طول الليل في شقتهما بشارع كروخمالنه رقم ثمانية، يرقدان ويتحدثان. كايلا الحمراء كانت لديها قصص بلا نهاية، مليون قصة. ويارمه كان كانت لديه عشر قصص على كل قصة تحكيها كايلا.

لم تخرج كايلا خارج وارسو. لم تعبر حاجز المدينة منذ أن جاءوا بها قبل عشرين عاماً من المقاطعة. أبعد مكان وصلت إليه كان براج، أو بلتسوفيزنا. ولكن يارمه كان يسافر دائماً. كانت هناك أوقات تعود فيها على السفر في القطارات واللعب مع المسافرين كل أنواع لعب القمار والكوتشينة.

كان يعرف كيف يمكن ترتيب أمور هؤلاء التنابل.. ذات مرة كان في مدينة ملافه، بجانب الحدود، وقام بتهريب عبر الحدود هؤلاء الذين خرجوا لأمريكا. قام أيضاً بتهريب بضائع بلا جمرك إلى بروسيا، ومن هناك نقلها إلى روسيا. لم يكن ينقص الكثير حتى يرسلوه مع شحنة إناث إلى بوينس آيرس. كان يارمه مرتبطاً بجميع مجموعات القوادين ومقتحمي الخزانات في بولندا. كان لديه تقويم، مسجلة فيه تواريخ وعناوين كل المعارض في شوارع روسيا. كايلا كانت تعود وتكرر:

"يارملا، أنا أسعد أنثى في العالم. لا أريد من الله سوى شيء واحد: ألا تتوقف سعادتي أبداً. أنا دائماً أضع المال في خزانة الصدقة وأطلب من الله أن تكون بصحة جيدة".

"كايلا، لن أستبدلك بأي واحدة، حتى إذا أعطوني وزنك ذهباً"، كان يارمه يعدها.

"حب كحبنا هذا لم يوجد أبداً منذ أن خلق العالم"، كانت كايلا تهمس.

كان الواحد منهما يثق في الآخر، وكانا يتحدثان عن كل شيء بصراحة. اتفق الرجل وامرأته أن يشتهي يارمِه أية أنثى، وأن تشتاق كايلا لأي رجل، لم يكونا في حاجة لتمالك نفسهما، وتمكنا من صنع ما يرغبه قلباهما. ولكن مع شرط واحد: عدم كتمان أي سر، وإنما حكي الحقيقة فورياً بعد الفعل.

لقد التزما بكلامهما. على مدار العامين ونصف من حياتهما معاً سلّك يارمه على الجنب فقط عدة إناث، عندما اتفق له أن يسافر خارج المدينة. في الأسبوع الأخير فعلت كايلا هذا للمرة الأولى، عندما سلمت نفسها لإيتشه الأعمى. كان إيتشه ينام جريحاً في المستشفى، بعد أن طعنه بائع يبيع بضاعة مسروقة بسكين. إيتشه الأعمى كان له أقارب مهمون، وبفضلهم تلقى غرفة مستقلة في المستشفى. جاءت كايلا إليه في زيارة للمرضى ومعها فطيرة بالجبن، وطلب منها إيتشه – باسم الأيام الخوالي الحلوة – أن تسمح له بأن يفعل معها ما يريد. هكذا، مضمداً كله ومحموماً من الحرارة، نام معها في السرير. لم تستمر العملية كلها أكثر من دقيقة، بينما وقفت على الجانب الآخر من الباب الممرضة وأخذت تهمس مع الطبيب المناوب.

في الليل، عندما حكت كايلا ليارمه ما حدث، غطاها بالقبلات وأعلن:

"كايلشي، فعلتِ فعلا صالحا. حظ سعيد"!

"بكيتُ بعدها طول اليوم"، قالت كايلا.

"بكيتِ؟ لماذا؟ أنت لم تعودي طفلة ساذجة، وأيضاً أنا لست راهباً ساذجاً".

"أوه، يا يارملا، أردت أن أكون لك فقط. ولكنه أمسك بي، وقبل أن أعرف من وماذا، كان قد حدث الترارام. بصقت على وجهه".

"لا يجب عليك أن تفعلي هذا. إيتشه الأعمى يمكنه أن يكون أباك بسهولة".

"أنت لست غاضباً، صح"؟

"بالعكس".



[i] الشراشيب بأطراف الملابس تعد دلالة على تدين اليهودي.