Friday 21 January 2011

سفاري الحب

طالي لتوفيتسكي

ترجمة: نائل الطوخي

شعر

إذا صورتكِ

لن أحتاج لأن أحبكِ. ربما

صورة واحدة لكِ في ضوء النهار

غير متعمدة، غير مقصودة، أنت في الجانب، انتقلتِ

بالصدفة، نصف وجهكِ في الظل أو خارج الصورة

أمرر إصبعاً على ورقة الكروم

خط الأنف المستقيم، التجعيدات بجانب الشفتين،

في العينين أزرق غريب

ولن أحتاج لأن أحبكِ

ولن أحتاج لأن أحبكِ

ولن أحتاج للتربص بك، أصابعي مختبئة

محترقة.

*


ليس هناك من حب. فقط هناك

التسلل المتخيل، مثلما في مطر أبيض وأسود،

إلى ما وراء كواليس المدينة

حيث نقبل بعضنا. هاهو الطعام

الذي سيصل الأيام المعتادة

بالتراب البطيء للنقب. بين الخلفيات في حيفا

ها نحن، في سفاري

الحب، الذي كان دوماً خيانة

ننظر إلى الغزلان

بلونها البني الذهبي المحمر،

مثل اللون البني الفائر على منحنى ظهركِ

أقرب كثيراً من اللمس.




قصيدة التشبيه غير السليم

"Funny, each time I fall in love

It’s always you"

Chet Baker


قبل الصباح ينزل المطر

ينزل مثل كلب عجوز

وأعمى يجول بلا

راحة بين الغرف.

يتسبدل حبه البعيد

عني

بالتعثر المتكرر

المفاجئ والأبدي

في الأثاث.


هو لا يشبهكِ أبداً

ولا المطر

يلمس كتفكِ،

لا هذا الكتف الذي في الحلم

ولا هذا النائم بعيداً عن هنا.

وفقط من أجلك، مثلما دائماً،

هو يتوسل إليّ، العنيد.

_____________________________________________________

طالي لتوفيتسكي شاعرة ومحررة وباحثة وتقوم بتدريس الأدب في جامعة بن جوريون. القصائد نشرتها صحيفة يديعوت أحرونوت، وأخذتها من كتابها "جربي كلمات أكثر عمومية" الصادر مؤخراً عن دار نشر "كيشِف لَشيراه"


Friday 14 January 2011

طيران الإوز

الروائي سامي ميخائيل يسكن بحي دانيا في حيفا، على جبل الكرمل. شاهد ميخائيل من قرب الحريق العملاق الذي داهم الجبل مؤخراً وأوشك على مهاجمة بيته. قبل اندلاع النار بأشهر قليلة فحسب، كان قد أكمل كتابة روايته الجديدة، وبطلها هو عامل في الغابة التي اندلعت فيها النار الضخمة بالكرمل. هنا فصل من كتابه "طيران الإوز". الفصل منشور بالعبرية في صحيفة معاريف.

طيران الإوز

سامي ميخائيل

ترجمة: نائل الطوخي

مزودين بالمضارب دخل الثلاثة إلى ما وراء الغابة. حملت الريح نفثات الدخان والرائحة الحادة لأشجار البلوط المزهرة التي تُلقى في الآتون الآن وتذوب. ركن شرجا سيارته الجيب بجانب برج مراقبة وبسرعة قفز على مرتفع الغابة.

شق طريقه بإصرار دؤوب يناسب رجل الغابة نفسه، في أعقاب الاثنين الآخرين الذين ثارا وسيطرا على اللهيب بالمضارب، وكانا كمن يطردان حيوانات متوحشة وجائعة. السلالم الداخلية في البرج الأسمنتي كانت حلزونية. السطح العلوي هدف لمراقبة سواء السياح أو الحراس المطالَبين بالتحذير من الحرائق. أخذت النار في الاقتراب، مثلما في رقصة مسعورة ترتفع على أجنحة الريح العاصفة. بينما يركض على درجات السلالم سمع زمجرة. شرجا كان واثقاً من نفسه.

أبراج المراقبة تُبنى من الخشب، أما هنا فلقد شعر بنفسه محمياً بداخل حوائط الأسمنت المصبوب. برغم هذا، وفيما يخالف المنطق، على قدر ما كان يصعد كانت العتمة تتزايد. الحرارة تشتد والنور يهرب تحت غطاء الدخان. عندما وصل إلى سطح البرج شعر كمن هبط إلى داخل الأتون. تبخرت الجيب بين فكّي النار. إليعازر جونين وموريس ليفسكي اندفعا من غابة الأشجار كمن يطاردان شبحاً هائلاً. "شرجا!" صرخ موريس بصوته الحاد، "شرجا!" بعدها توجه بذراعين سوداوين لإليعازر وبنبرة مريرة شكا، "على ما يبدو أن شرجا قد هرب، تركنا". صرخ إليعازر برعب. أما شرجا فلم يجد الهواء ليصرخ، ولو حتى ليهمس. مذهولَين فر المساعدان بجلدهما وقد اعتقدا أن شرجا قد غدر بهما.


في الوقت القليل الذي تبقى له بأعلى البرج نظر شرجا إلى ما حوله، فحص منظر الغابة الذي عكس بنية الأرض المنبسطة أمواجاً أمواجاً حتى نهاية المدى. كان متأكداً أن الحريق الضخم قد تم التسبب فيه عن عمد. تمكن من أن يعد على الأقل سبعة مراكز للنار في مسافات متساوية تقريباً. إشعال. كان هذا شهر أكتوبر، ذروة الخريف الخرب. الريح الشرقية أشعلت النيران التي اندلعت في فوضى.

بقلب مكتوٍ تذكر شرجا المنشور التاريخي الذي نشر في 1929 على يد منظمة "رجال الأشجار في فلسطين". هدف رجال الأشجار، كما تم الإشارة إليه بلغة هذه الأيام هي "تنمية الإحساس بالأشجار لدى كل مواطن، وتدريب الجميع على الزراعة والحراسة وحب أشجار البلاد، لأن عمل الغابة هو من بين فنون السلام الأقدم والأكثر احتراماً لدى البشر، والانشغال به هو أمر غير أناني وعمل من أعمال البناء. "الوصي الذي بادر بهذا المنشور كان "حضرة سيادة المندوب السامي، لفيتانت كولونيل سير دج ون روبرت تشنسلور". ولكن أهم من هذا كان تسجيل "نواب رؤساء" المنظمة: حضرة سيادة المفتي الأكبر، حضرة رئيس بلدية القدس، حضرت البطريرك اللاتيني للقدس، الوجيه الأمثل أسقف القدس والشرق، مدير الجامعة العبرية.

في الوقت الذي كان يجلس فيه في أعلى البرج، حزيناً ومذهولاً، فكر شرجا في أنه طبيعي أن لا أحد من الناس من ذوي النوايا الطيبة هؤلاء قد تبقى على قيد الحياة. معهم أيضاً ذابت روح التهدئة. عندئذ حلت عليه فكرة أن حياته هي أيضاً في خطر. الفضاء الداخلي للبرج امتلأ بالدخان الكثيف والغاز المسمم.

في الخارج كانت الأشجار التي جلدها اللهب تزأر. اختفى صفاء السماء. هربت العصافير. الحيوانات التي لم تتمكن من الفرار بجلدها احترقت حتى الموت على الأرض المشتعلة. في شيء من هنا ومن هناك، ترددت نواحات و آهات معذبة تحمل بشرى الموت. نظر إلى الأعماق العاصفة من تحته، وللحظة مرت في عقله فكرة مختلفة، قفز وقال لنفسه، إلى ألسنة النار المتوحشة، التي سوف تلتهمه شهيتها المفتوحة. لا، هو لن يتعذب. لن ينتظر الموت البطيء متألماً. ولم يتذكر أي شيء آخر.

فور أن استيقظ اكتشف أنه ممنوع عليه أن يفتح عينيه، لأن الضمادة المصمتة غطت كليهما. خُيل له أن نملاً يعض بطنه. حركة تنفسه تسببت في تشقق صدره أيضاً. كفاه أيضاً كانتا مغطاتين بالضمادة. ينام مستلقياً ووجهه موجه إلى سقف ما، ساقاه ممددتان بعيداً عنه، كأنهما محبوستان في محيط من الحامض الفوار. وبجانب كل هذا فقد شعر أنه غير مغطى بظهره. ساد الصمت، لم يتحرك أي شيء، ولا حتى الهواء، ولكنه شعر كأنه يتزلق في مهبط "زحليقة" بسرعة مدوخة، ولا سيطرة له عليها. على خلاف الآلام الجسمانية فقد كان لامبالياً بخصوص مصيره. ومع هذا، شعر أن عينين تحدقان فيه الآن. تسلل لقلبه فضول واهن. "أين... أنا؟" نطق بلا صوت.

"شرجا! شرجا!" الهتاف المبتهج الذي استوعبته أذناه كأجراس العيد في رحلة من الضياع. استجاب جسمه للهتاف المبتهج حتى قبل وعيه... "ماذا. ماذا يحدث؟" ببطء وبشفتين ثابتتين.

"أنا شيرا، يا أحمق. استيقظت! استيقظت!"


أحس بكف يدها تحلق على وجهه. عطر شعرها يتسلل من وراء غطاء الهباب وذكرى اللهيب. "استنتجت،" نطق بحذر كئيب. فجأة شعر بعائق ما يربض على جفونه، "أوكيه. إذن أفهم أنني أعمى. ماذا أيضاً؟"

"أنت سليم" عادت السعادة لصوتها. "سوف ألمسك حتى تفهم أنك سليم. في الواقع أنا خائفة. لا أريد إيلامك. سأموت وألمسك يا شرجا".

كان هذا إعلاناً بالحب لا تخطئه العين. ولكن ما جدوى الوصول لجنة أحلامك بدون نور العين، كشيء فائض. "أنا أعمى" صوته كان متشككاً.

أصابعها ارتعشت فوق الملاءة التي تغطي كرشه العاري. "أنت لست أعمى"، أسكتته، "أنت محروق كما ينبغي، وقبيح مثل قرد مسلوق، ولكن بالنسبة للعينين، لا تقلق، سوف تكون على ما يرام. أنا أعمل هنا، وليس هناك من سبب في أن يكذبوا عليّ".

شعر بنفسه محبوساً في متاهة مخيفة، بصعوبة تمالك نفسه كي لا ينفجر في البكاء، سواء خوفاً من وخز الألم المتكرر الذي مزق جسمه، أو خوفاً من الارتعاشات التي أغرقت قلبه ولم يعرف ما كنهها. "شيرا، شيرا"، نطق بألم ثاقب.

كل ما أراده الآن هو أن تظل شيرا قريبة منه قدر الإمكان. أن تلمسه شيرا، أن تلمس حتى أعضاءه الصارخة من هول الوجع. عندما تعافى قال لنفسه أنه ليس هناك عدل ولا أخلاق في الطبيعة، لا في البركان، لا الإعصار ولا في عاصفة النار. ولا حتى في الحب. في نفس العام حبّلها.

_____________________________________________

سامي ميخائيل: واحد من أهم الأدباء اليهود من أصل عراقي في إسرائيل. ولد سامي ميخائيل عام 1926 في بغداد باسم صلاح منسى. وأصبح عضوا في الحركة اليسارية العراقية لحقوق الإنسان (الحزب الشيوعي اليهودي العربي) وهو مازال يدرس في الثانوية. عام 1948، وهو يحمل الاسم الذي ولد به، صدر أمر باعتقاله واضطر لتغيير اسمه والهروب إلى إيران وبعد فترة قصيرة، في 1949، هاجر لإسرائيل، في البداية أقام بيافا ثم انتقل للإقامة في حيفا. نشر في البداية مقالات في الصحافة العربية بإسرائيل، وفي عام 1974 نشر رواية الأولى "متساوون ومتساوون أكثر".

لاقي ميخائيل صعوبات في العثور على عمل بإسرائيل لسنوات، بسبب كونه شيوعيا. ولكن برغم هذه المصاعب فلقد تم استعابه في العمل بالخدمة الهيدرولوجية بوزارة الزراعة، حيث عمل هناك لعشرات السنوات. هذه المصاعب موجودة في كتابه شبه الأوتوبيوجرافي "مياه تقبل المياه"، والمنشور عام 2001.

ميخائيل هو أخو نادية، وهي أرملة الجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين والذي تم شنقه في دمشق عام 1965.

من كتب سامي ميخائيل: "متساوون ومتساوون أكثر" (1974)، "حماية" (1977)، "هذه قبائل إسرائيل" (1984)، "فيكتوريا" (1993)، "الجناح الثالث" (2000)، "حمام في ترافلجر" (2005)، "عايدة" (2008).


Friday 7 January 2011

أوري أفنيري: البطل الخالد

ننشر هنا مقالاً كتبه الروائي يورام كانيوك عن الأديب والنشط السياسي أوري أفنيري وعن كتاب السيرة الذاتية الصادر عنه مؤخراً بعنوان "القتل بين الأصدقاء" للكاتب أمنون لورد. المقال تم نشره في صحيفة يديعوت أحرونوت تحت عنوان "البطل الخالد".

البطل الخالد

يورام كانيوك

ترجمة: نائل الطوخي

كتاب أمنون لورد "القتل بين الأصدقاء" هو سيرة ذاتية جذابة لواحد من أبطال الثقافة الإسرائيليين الأكثر بروزاً، أوري أفنيري. الأحداث الكبرى والصغرة منذ إقامة الدولة وحتى اليوم تمتد هنا كثورة يلعب فيها أوري أفنيري، البطل الخالد غير المتوائم مع أي اعتبار سياسي، دوراً مهماً في الحرب الخاسرة التي حاربها. ولكن في نهاية الأمر فإن أفنيري قد فشل. مثلما أن الأشخاص المحقين أكثر مما ينبغي، يفشلون دائماً.

لم يدرك أفنيري أن الشر في العالم يولد عن أفكار سامية. عندما كان في بداية طريقه فكر وفق مصطلحات الأمة العبرية، الحيز السامي، بسبب تأثره بمنظمة "لحي"[1] كما تأثر في نفس الوقت بالأفكار الكنعانية[2]. في كتابه الدقيق والمهم، يفرش لورد مساحة مكتوبة بألم من عاش في نطاق حياة أفنيري، وغير رأيه، وكتب نقداً، كله محبة عميقة للشخص الذي يحاول فهمه.

مغروس في كل ناصية

كل ما حدث هنا في الستين عاماً الماضية يمر كشريط مصور وأفنيري مغروس به، أحياناً ليس في مقدمة الأخداث المهمة، ولكنه دائماً يلامسها. لم يكن أفنيري أبداً شخصاً أحادياً. دوماً كان لديه ما يضيفه، ولكن دوماً كان هناك القليل من القديم في طريقه. ثمة من يقولون إن شخصيته تحوي جوانب مظلمة – كما دأب شريكه شالوم كوهين على أن يصفه بالفوهرر – ولكن ما أنقذه على ما يبدو كانت عقلانيته. الحديث هو عن رجل شخص يجيد حساب الكوارث العظمى والآمال الضخمة.

وقف أفنيري كرأس حربة صراع اليسار في البلاد، ولكنه لم يكن يسارياً. هو يبعد مسافة كبيرة عن اليسار الأيديولوجي أو الحزبي، وهكذا صنع جريدته "هاعولام هازيه"، صحيفة كانت ثورية ولكن تعوزها الملامح. إحدى جوانبها سلام وعدل والجانب الآخر نميمة مخجلة.

لقد عاد من حرب الاستقلال جريحاً بعد أن كتب قصيدة مديح لمحاربي 48، ولكن مع عودته ولدت بداخله الفكرة التي ارتبط بها طول عمره: محو "فصل اليهودية من الألواح الفولاذية للعرق العبراني"، أي، إحداث ثورة ضد هؤلاء الذين أرسلوه للحرب. لقد أراد بداية جديدة. وأراد أن يدير جيل المحاربين الدولة التي أقامها.

في كتابه التوثيقي واللامع، يطرح لورد قضية سنيه الذي انتقل لليسار الراديكالي، لأنه اعتقد أن الغرب قد غرق ولن يقوم ثانية، وقضية كستنر التي عمل أفنيري في أعقابها بقسوة وعدم حرص. أفنيري الذي كان من بين مخترعي "العمل السامي"[3]، ارتبط بحركات كثيرة كرتونية نمت آنذاك، من أجل دعم الفكرة الأساسية التي لازمته على طول حياته الناضجة: إقامة مملكة عبرية في أرض إسرائيل، وطرد جيل الزعماء "المتهودين" الذين أرسلوا الشباب للمعاناة في الحروب الإسرائيلية.

الدولة التي حلم بها لم تكن طائفة دينية وإنما عبرية، إسرائيلية. دولة ترتبط بمحيطها. تقوم بافتداء العرب أيضاً. دولة تكون مثيرة جنسية مثل القسم الخلفي من صحيفة "هاعولام هازيه" أو مثل الطوابير النازية التي انشده بها في طفولته بألمانيا. صحيح أن معركته الشخصية قد فشلت، ولكن سوياً مع هذا فأجيال كثيرة من الشباب قد تأثروا بـ"هاعولام هازيه"، وبطريقة أفنيري، ثم تركوه، بشكل عام لصالح بالونة فارغة أخرى من الخواء السياسي، بل وخائنة.

اليسار غير الأخلاقي

ابتعد اليسار الإسرائيلي عن أفنيري، لأنه من أجل أن تكون يسارياً في العالم، ينبغي أن تكون إنساناً مؤمناً بالأخلاق، وأن تقوم بأفعال غير أخلاقية. ولكن أفنيري ليس يسارياً ولم يكن كذلك، وإنما رجل يؤمن بأن الشيء قد يكون صحيحاً اليوم ولن يكون صحيحاً في الغد.

ما يتيح لورد لقرائه فهمه، هو الشخصية الصبارية[4] التي أعجب بها أفنيري. البروسي العبراني، الموشيه ديان الذي انتهى عهده القديم بداود الملك والذي حارب الأنبياء، وهم أصل اليهودية. هذا "الإليك الذي ولد في البحر"، البطل الذي كتبه موشيه شامير، هذا الشعب الجديد والشاب، المرتبط بالحركات الثورية. مثل الثوريين الجزائريين، أو ثوريي ناصر، أو الثورة الكوبية لكاسترو.

اسم "أوري"، كما يكتب لورد، هو أوري في "إليك الذي عاد من البحر". الذي لم يكن له تاريخ يهودي، الذي عاد لعتاقة أرض إسرائيل، والذي لم يكن لديه استمرار حقيقي. الاسم أوري أيضاً قدسته الشاعرة راحيل[5]، وتزوج أفنيري في نهاية الأمر أيضاً راحيل، ولكن راحيل أخرى. كل ما ميز اليهود لألفي عام هزمه، وفي الواقع هزمنا جميعاً: الهاي تكنولوجي. أو بشكل أكثر صواباً: طريقتك في السير ملتوياً، السفر في ضوء أحمر، أن تتم التضحية بك وأن تخاف.

النجاة كطريقة للحياة على مدار ألفي عام أدت إلى انتصار العباقرة على أبطال البالماح وأبطال الكنعانيين[6]. الانتصار اليهودي على "نمرود"، رمز العبرانية، هو سقطة رهيبة في الطريق التي سار فيها أفنيري بينما كان يخدم لسنوات طويلة بوصفه نبياً. ولكن الانتصار عليه لم يكن متاحاً لو لم يكن اسمه أفنيري، كعامل مساعد لبطل ألماني كنعاني على حصان أبيض. حارب ضد كل المظالم، ولكن بقلبه انضم لكبار القتلة الكبار: ستالين أو ماو، الذين أسالت انتصاراتهم أنهاراً من الدماء، وكانت لهم، كما كانت لأفنيري نفسه، نوع من الروحانية المغضبة.


كشك في شارع 96

أريد إضافة شيء ما شخصي. لقد تعرفت على أفنيري منذ سنوات كثيرة. في الخمسينيات الثائرة لم أكن هنا. ما عرفته عن البلد عرفته من "هاعولام هازيه" التي كانت تباع عندئذ في كشك بشارع 96. بعد عودتي أتيح لي أن ألتقي بأفنيري لمرات غير قليلة. في 68 جلسنا كمجموعة كبيرة في كافيه سلطان بشارع فريشمان، وادعى أفنيري بحماس أنه تقريباً أقنعنا جميعاً، أنه بعد لحظة طفيفة سوف تُخرجنا أمريكا من الأراضي (المحتلة).

أتذكر بهاء المظاهرات في الجليل بالستينيات عندما كنا قلائل، أتذكر خطاباته التي كانت تخترق المدرعة وشجاعة قلبه. ولكنني أتذكر أيضاً الظلم الذي أوقعه بأشخاص في صحيفته. في نهاية الأمر لقد تمت هزيمة أفنيري، لا على يد السلطة التي كان يحتقرها، وإنما على يد اليهود.

قبل شهرين شاركت في مظاهرة ضد العنصرية وصديقي سافي رخفلسكي، الذي نظم المظاهرة أمام متحف تل أبيب القديم، والذي قُرأت فيه لأول مرة وثيقة الاستقلال، دعا أفنير للحديث. على مدار سنوات لم يكن اليسار، أو ما يسمى باليسار، يقوم بدعوة أفنيري لإلقاء خطاب. لقد ظل وحيداً وجميلاً حتى الشيخوخة. وتحدث.

كانت هذه المرة الأول التي أسمعه يلقي خطاباً، وصوته كان يرتعش. كان متأثراً من الموقف الذي اجتمع فيه مائتي شيخ متعب ومئة من الشباب من حركات الصبية، للتظاهر أمام شعب لامبال. انفعل أفنيري على رغم أنه ألقى في الماضي مئات الخطابات التي اقتطعت من الحجارة، وكان حزيناً بعض الشيء ولكنه تحكم في وقفته.

لا يزال يحلم بالعدالة ولكن ليس بالأخلاق. يحلم بالآمال التي ضاعت. قلت له "أوري، أنا متشائم بخصوص ما يحدث هنا"، وقال "دائما كنتَ متشائماً وأنا دوماً ما كنتُ متفائلاً". أي أنه لا يزال في وسط الطريق، حتى الآن، في سن السادسة والثمانين.



[1] حركة سرية يهودية مسلحة كانت تعمل في فلسطين – قبل إعلان دولة إسرائيل – ضد العرب والانتداب البريطاني.

[2] أي مجموعة الأفكار التي نمت في إسرائيل بعد قيام الدولة لتؤكد على استمرارية الوجود العبراني على أرض فلسطين منذ أزمنة العهد القديم وحتى اليوم وتعتبر وجود اليهود في المنفى مجرد انقطاع لهذا التاريخ.

[3] "הפעולה השמית" حركة فكرية كانت تنادي بارتباط دولة إسرائيل بجيرانها العرب. أقامها أوري أفنيري، ناتان يالين مور، وبوعز عفرون.

[4] نسبة إلى الصبار، أو التسبار، اليهودي المولود في فلسطين، والذي يتميز بالوقاحة والوسامة والعمل بيديه في مقابل اليهودي الذي يعيش خارج إسرائيل، والذي يتميز في الصورة النمطية بالخنوع والاستكانة والعمل في الربا والمضاربات.

[5] شاعرة محدثة. ولدت عام 1890 ورحلت عام 1931.

[6] الجملة تشير إلى فشل الطريق الثوري، وانتصار اليهودي التقليدي على العبراني القوي والشجاع المولود في فلسطين.