Friday 26 February 2010

ثلاث قصص قصيرة جدا عن الحب

إشكول نفو

ترجمة: نائل الطوخي

فهم

ذهبت لطبيب نفسي، ثم لطبيب نفسي آخر، وقالوا جميعاً أنها بخير تماماً، وغيرت التسريحة، وصبغت لون شعرها بالبني، ثم عادت إلى الأسود، وطلبت من رئيسها أن يغير لها وظيفتها، وبدأت في الدايت، وهبط وزنها ثلاثة كيلو، وبدأت في تعلم النحت، في مجموعة صغيرة بيافا، وغازلت أستاذتها، ولكن ليس أكثر من هذا، جربت اليوجا أيضاً، للمبتدئين، والرايكي، ودرساً مجانياً للتعرف، وسافرت وحدها إلى نيويورك، وسافرت مع صديقها إلى لندن، ولمرة في الشهر صارت تذهب للتسوق، قريباً من البيت، واشترت فستاناً جديداً، أقصر، وفي اليوم التالي حظت بعبارات المديح في المكتب، وسجلت اسمها في سلسلة لقاءات عن موضوع الفلسفة في السينما، محاضرة ثم فيلم، واشترت كتاباً في الطبخ لشولا مودن، وأعدت باستخدامه طيوراً بالبرتقال، وكتبت لنفسها كل يوم، في نهاية اليوم، جملاً في يومياتها، ووخزت نفسها عمداً بالدبوس، ولحست الدم، وتنفست من خلال بطنها، ومارست العادة السرية من حين لآخر في الحمام، واتصلت من حين لآخر بأصدقاء الطفولة، فقط لكي تسأل عن أخبارهم، واقتنت قطة جريحة في البيت، واعتنت بها، ورتبت البيت، وصبغت أحد الحوائط بالنفسجي، ومصّت له مرة في الشهر، وتحدثت كل ليلة مع أختها، بصوت منخفض، كي لا يسمعها، واشتركت في حمام سباحة الجامعة، مرتين في الأسبوع، عشرين حماماً، واشتركت في الشات على الإنترنت، باسم متخيل، ومرضت بالأنفلونزا، والتي تطورت لتصبح التهاباً رئوياً، وتعافت بعد أسبوعين، وشربت حتى سكرت كل ليلة سبت، لترين متواصلين، وتقيأت على أرض المطبخ، وجففت القيئ بخرقة مثقوبة، ورمت جميع الجرائد، وقرأت الكتاب الجديد للأديبة المفضلة لديها، وعادت لقراءة الكتاب الأول، الأكثر صفاء، لنفس الأديبة، وحاولت أن تقرأ الشعر، وأن تدخن المخدرات، وحاولت فعل الاثنين سوياً، وتشاجرت مع أمها، نفس الشجار القديم، وقامت بتحليله مع الطبيب النفسي، وزارت قبر أبيها بشكل عرضي، في يوم أجازة، وسافرت في أيام السبت لكي ترى البيوت في الموشافات، واشترت في الصباح كرواسون بالشوكولاتة والحلويات، وابتلعت حبة مهدئة، ثم حبة مهدئة أخرى، كل أنواع الحبوب المهدئة، ولكن هذا كله، كـ-لـ-ـه، لم يحرك فيها شيئاً، هذا كله مر من خلفها ومن جانبها ومن أمامها، ولكنه لم يمر بداخلها، حتى أحد الأيام، وهي تتزين استعداداً لعيد زواجها الثالث، نظرت في عينيها المطفئتين في عينيها المطفئتين، بزغت المعرفةفجأة بداخلها، بطيئة ولكن واثقة بنفسها، فوراء كل حيرتها، والكلام عن الإحساس بالخواء، وعبثية الوجود، وعدم السعادة، تختفي حقيقة بسيطة جدا جدا: هي لم تعد تحب زوجها.

تغيير

عندما عادت إليه – ظهرت فجأة على بابه – بعد سنتين، كان قد حدث بها شيء ما آخر. لعدة أيام يدور حولها بلا راحة، ويتطلع لصورتها في محاولة للإمساك بالتغير. شعرها لا يزال طويلاً وأسود. وهي لا تزال تنقله من جانب لجانب بطريقتها. عظام ترقوتها لا تزال هي الأجمل في العالم. وهي لا تزال حتى الآن تلبس القمصان التي اكتشفاها. تصدر منها نفس الرائحة اللطيفة، تلك البديلة عن العطور. قصصها الصغيرة، اليومية، تميل لمبالغات صغيرة، مثلما كانت سابقاً. تلبس تنانير قصيرة جداً، وتجذبها طول الوقت باتجاه الركبة، كما كانت سابقاً. ومع كل هذا، فهو يشعر، بأن شيئا ما قد حل بها. أحيانا كان يخيل له أن أركان جسدها قد تحددت قليلاً. أحياناَ كان يهيأ له أن الشامات على كتفها، والتي كانت غير ظاهرة قبل سنتين، أصبحت أكثر وضوحاً. ولكن هذا لم يرضه. كان واضحاً له أن ثمة شيئاً ما يتجاوز هذا، شيئاً ما يتهرب منه مثل الصابون في اليد المبتلة. وأزعجه هذا جداً. أزعجه أكثر من إخلاء ثلاثة أرباع خزانة ملابسه مجدداً من أجل فساتينها، بل وأكثر من اختفاء أغراضه الشخصية من مكانها المحدد وظهورها فجأة في أماكن جديدة، أكثر موائمة من وجهة نظرها. أزعجه لدرجة الشعور بالحكة في كتفه اليمنى وجعلها ملحوظة للغاية. ولكن عندما كانا ينامان مع بعضهما- أهدابها كانت ترتعش عندما تنتهي، ولكن بشكل آخر – فقد كان يبحث عن الاختلافات بدلا من الاستمتاع.

إلى أن حدث في عشاء ما، بعد عودتها بأسبوع – كانت تعد البطاطس وهو السلطة، كالعادة – كسرت الصمت القصير الذي يسود بعد توجه كل منهما لطبقه للقضاء على جوعه - رفعت إليه عينيها اللامعتين، أمسكت بيده وقالت:

"منذ عودتي وأنا أريد أن أقول لك شيئا وأنسى كل مرة: تعرف! شكلك رائع جدا بالنظارة."

أخيراً

على مدار السنوات، عندما كان يصل برفقة امرأة – كل مرة امرأة مختلفة – إلى واحد من الأماكن المسماة "رومانسية"، كان ينبه نفسه لأن يتذكر جيداً الطريق المؤدي إلى ذلك المكان، حتى يتمكن يوماً ما – بعد عدة سنوات، أو أسابيع – من العودة هناك برفقة امرأة يحبها فعلاً، ومن أن يعثر في النهاية على الإحساس الرائع، الغامض، الذي يفتقده في نزهاته مع كل هؤلاء النساء الجزئيات. عندما وجد أخيراً – وهو يبلغ الواحدة والسبعين – المرأة التي يتمناها، كانت ذاكرته قد وهنت، وعندما كان يحاول تذكر ولو واحد من تلك الأماكن التي عاهد نفسه على العودة إليها، كانت رأسه ترتطم بجدار أسود، مجصص باعتناء. وحدث أنه وحبيبته بيضاء الشعر قد اضطرا للاكتفاء بأريكة صغيرة بجانب دار مسنين، أريكة تقشر طلاؤها ولا تطل على البحر أو الغابة، وإنما فقط على دار مسنين أخرى، قريبة.

ومع كل هذا، عندما كانت تضع رأسها على كتفه، وتقول له كلمات قليلة – ولكنها صحيحة – والشمس كانت تدفئ عظامهما الباردة، كان هذا لطيفاً بالنسبة له. بل كان لطيفاً جداً أيضاً.

________________________________________________

ولد إشكول نفو في القدس عام 1971. أقام في طفولته مع عائلته بالولايات المتحدة. ثم خدم في سلاح المخابرات بالجيش الإسرائيلي، وبعدها درس علم النفس في جامعة تل أبيب والكتابة الإبداعية بجامعة بن جوريون. نفو هو حفيد رئيس الوزراء الثالث لإسرائيل، ليفي إشكول، ومسمى على اسمه. من كتبه:

افترقنا طراخ، دليل المفترق المبتدئ، 2002، أربعة بيوت وحنين، 2004، أمنية واحدة إلى اليمين، 2007.

Friday 19 February 2010

صاحب نوبل الذي لا يقرأه أحد


ترجمة: نائل الطوخي

منذ أربعين عاما توفى الأديب الإسرائيلي شموئيل يوسف عجنون، وهو الأديب الإسرائيلي الوحيد الحائز على جائزة نوبل، عام 1966 مع الكاتبة السويدية نللي زاكس .ننشر هنا في المدونة مقالا عن عجنون كتبته الناقدة أريانا ملاميد بصحيفة يديعوت أحرونوت، تحلل السبب الذي لأجله لا يقرأ أحد من الشباب كتبه اليوم. كما ننشر فصلاً من روايته "شيرا" الصادرة عام 1971، أي بعد وفاته بعام عن دار نشر "شوكن"، وتدور حبكتها في القدس بالثلاثينيات والأربعينيات، أيام الثورة العربية وبداية الحرب العالمية الثانية. في قلب الرواية يقف مانفريد هربست، وهو محاضر للتاريخ في الجامعة، الذي يتمزق بين حبه وعواطفه المخلصة لزوجته وبين شوقه للممرضة شيرا.



فنان اللغة المهجورة

أريانا ملاميد

مرت أربعون سنة على موت شموئيل يوسف عجنون، وانتظمت الكلمات كأن هذا قد حدث من تلقاء ذاتها، بدون جهد ما، باتجاه التصنيف المطلوب: هو واحد من كبار الأدباء العبريين في العصر الحديث، الحائز على جائزة نوبل، والحائز على جائزة إسرائيل مرتين، الأديب الذي تمت دراسته أكثر من غيره في تاريخ الجامعة المحلية، فنان عملاق للغة المقدسة.

أيضاً هو الأديب الوحيد الذي حظى بكون بلدية القدس وضعت لافتة على الشارع الذي يسكن فيه طالبة من المارة الحفاظ على الهدوء من أجله، الأديب الذي تم تخليده على ورقة مالية من فئة الخمسين شيكل، يمكننا الإطراد أكثر وأكثر، بل ويمكن قول شيء معقول ربما عن حارس العوالم الخربة لليهودية والمبدع كثير التناقضات ورجل الرموز العميقة، ولكن في لحظة ما، قبل أن يتحول سيل الكلمات إلى ضجة غير محتملة، ينبغي التوقف والقول، ببساطة، أنه تقريبا لم يعد لعجنون قراء. وبالتأكيد لم يعد له القراء الذين كان يريدهم في حياته.

الآن يتعين القول أننا أخطأنا. أبناء الأجيال العلمانية الذين جاءوا بعد عجنون ليسوا قادرين على قراءة لغته وفهمها بما يكفي لكي يخلقوا لنفسهم خبرة قرائية متحدية تضم المتعة أيضاً. لغة المشنا، المدراشيم والفتاوى[1] هي لا ترتبط بهم أبداً. وهم لم يدرسونها: إن كل ما تبقى الآن هو تعليق الذنب على رقبة التعليم، والنواح قليلاً وانتظار الذكرى الخمسين لموت كبير الأدباء وهكذا من أجل إثبات أن الوضع قد تفاقم.

هؤلاء الذين مازالوا قادرين على القراءة من خلال فهم عميق للغة – لن يفعلوا هذا: هم سكان العالم الحريدي[2]، وعجنون يتم النظر إليه في أعينهم بوصفه آخر الأدباء العلمانيين، برغم لغته، بل حتى بسببها، وهذا لأنه تجرأ وقام فيها بفعل ثوري: لقد سحبها إلى خارج جدران المدرسة الدينية، وقام بتركيبها على شخصيات ذات هويات وعقائد متخبطة، بل وتتحول إلى شخصيات علمانية تماماً وتقيم علاقات غرامية مع بعضها البعض.

الإنجاز هو العائق

في الواقع فإن اللغة هي واحدة من الإنجازات الكبرى لعجنون، وهي العائق الأعظم أمام قراءته. لا أحد يكتب في الأدب العبري هكذا: في إنكار مطلق لجهود إحياء اللغة العبرية، وبالسير الشجاع ضد التيار: "الجنون العظيم" لأفيجدور هامئيري صدرت في 1929، ولا تشكل لغتها أي عائق أمام القارئ في أيامنا. وهكذا أيضاً "حياة زوجية" لدافيد بوجل، والمولود هو كذلك في 1929. بعدها بعامين رأت النور رواية "دخول العروس" لعجنون، والطريقة الوحيدة التي يمكن للقارئ العلماني – حتى المثقف – التقرب بها إلى هذه الرواية هي التزود مسبقا بكتاب "الدلالات والمصادر" لأفراهام هولتس، وهو طبعة محققة، ومنقحة وتقريبا مترجمة للكتاب.

وهذا بالضبط ما يحتاجه ذاك القارئ المفترض، الذي يرغب بالغوص في بحر القصص والاستطرادات، التلميحات والرموز في إبداع عجنون، في "قصة بسيطة"، "أصبح الملتوي مستويا"، "عيدو وعينام"، "السيدة والبائع الجوال"، وحتى في كتابات مثل "الطبيب وطليقته"، أو "المجد"، حيث اللغة فحسب هي العائق، بينما العالم، هذا ما يبدو، يلامس العصر للدرجة التي تجعله يبيع بشكل تام، ولكن هذا يفشل بسبب اللغة.

"فعلة العنزة"، وهي قصة قصيرة جداً للأطفال، و"شيرا"، وهي الرواية الأخيرة التي لم يكملها عجنون في حياته وصدرت بعد موته، هما من بين النصوص السلسة في إبداعاته، ولكن ينبغي أيضا أثناء قراءتهما الاستعانة من حين لآخر بالقاموس.

هل هذه المشكلة هي شهادة على أن الجيل يأخذ في التناقص، أو أنها شهادة بالتحديد على الحيوية الهائلة للغة العبرية وانفصالها التام عن بلدة شتايتل[3]؟ هل أنه من المفيد في الحقيقة اتهام المنظومة التعليمية، وليس الاعتراف بأن اختيار عجنون للغته الخاصة هو فعل فني ضخم يتوائم مع العالم الذي أراد الحفاظ عليه، ولكنه لا يتوائم مع عالمنا؟

التراث ليس تطوير المباني

لنعترف على الأقل بأننا لا نتميز بذاكرة ثقافية طويلة، وعندما نتحدث عن الحفاظ على التراث فنحن تقصد بالتحديد تطوير المباني. بيت عجنون هو أحد المبانى على هذه الشاكلة، ولكن إبداعه يحتاج لما هو أكثر من لمسة يد المهندسين والمرممين: لأجل البقاء كإبداع حي، ينبغي إقامة مشروع عملاق في أبعاد النشر الإسرائيلي، أي إصدار طبعة محققة لجميع كتبه، ليس فقط لـ"دخول العروس."

صدور مشروع كهذا هو نقلة في قوة دار نشر "شوكن"، وهي البيت الأدبي لعجنون: يجب عليها أن تكون مشروعاً قومياً، بحماية الدولة وتمويل جزئي منها، بالشراكة مع قسم الأدب العبري في الجامعة وبإدارة شخص يشتعل فيه حب عجنون، وعوالم عجنون هي كالكتاب المفتوح أمامه. هناك شخص على هذه الشاكلة في جمهورية الكلمات لدينا، وهو الأديب حاييم بئير، وهو المسئول عن الكتاب الرائع "حبهم وكراهيتهم أيضاً"، وهو كتاب كان يدرس العلاقات بين بياليك وبرينر وعجنون.

إذا قام مشروع كهذا، وإذا نجح في إخراج طبعة مشروحة تترك مساحة أيضاً لخيال القارئ، فسوف يمكن القول أننا قدّرنا، ثمنّا، وطورنا وحافظنا على إبداعه بالقدر الذي يتيح الاستعمال الوحيد المخصص له: أي القراءة. إلى ذلك الحين، فسوف يظل عجنون في الذاكرة العامة كحجة لسيل الكلمات الاحتفائية، كعملة تأخذ قيمتها في التناقص – ولكن ليس كأديب. وبالتأكيد ليس كـ"واحد من كبار الأدباء بالعبرية في العصر الحديث."

عجنون مع جونتر جراس في شبابه


شيرا

شموئيل يوسف عجنون

بالقرب من الخادمات أحضر مانفريد هنريتا زوجته للمستشفى. بعد فترة بسيطة ترددت أصوات أقدام ودخل الموظف ألكسندر وهو يتحدث من خلف كتفه مع الخادم أو الخادمة أو كليهما سوياً. بينما هو يتحدث ويسير رفع نظارته إلى جبينه ونظر بذعر، كمن دخل بيته ووجد هناك غريباً.

سأل عن شيء ما وأجاب بشيء ما وحمل دفتره وأعاد نظارته إلى مكانها وكتب شيئاً ما. في النهاية أتى بالسيدة هربست إلى المكتب الذي يتم فيه إجلاسهن مع القابلات حتى يدخلن إلى غرفهن وأسرّتهن. انسحب مانفريد. سار وراء امرأته وصار يروح ويأتي معها.

جلس مانفريد بجانب هنريتا بين نساء أخريات ينتظرن الولادة. فكر في أمرها وأمر حملها الذي لم يكن في صالحهما، حيث انقضت أغلب سنوات حياتها وصوت العقل يجعلها تموت خوفا من الحمل. كيف ستقاوم آلام الولادة وكيف ستحتمل كل الباقي؟ ولكن ما حدث حدث.

والآن ليس أمامنا سوى تقبل هذا الواقع بصرف النظر باعتباره هدية من السماء. مد يده وتحسس ذراعيها المنهكتين ووجنتها الذابلة. نعست وضحكة حزينة على شفتيها المنتفختين. نعس هو أيضاً. أصبح شريكاً لزوجته في حزنها وفرحها.

جاءت ممرضة المستشفى، طويلة، ذكورية، تلبس نظارة قفزت من عينيها بوقاحة وأبرزت النمش في وجنتيها الرماديتين كرؤوس المسامير في جدار قديم. قبل ثلاث أو أربع سنوات رآها مانفريد للمرة الأولى. ولكن هذا اليوم كان ثقيلا في القدس. شاب ابن أكابر قتل على يد شخص غير يهودي، واجتمعت كل المدينة لمرافقته إلى قبره.

أثناء وقوف الجميع حزاني في حالة حداد خرجت هذه المرأة من المستشفى وهي تلبس ملابس خدمتها، وجهها عمودي وسيجارة مشتعلة تبرز من فمها، وكلها وقاحة وصلف. منذ ذلك الحين كلما التقى بها مانفريد هربست كان يحول وجهه عنها لئلا يراها.

وعندما جاءت الآن، ثار بقلبه على المسئولين عن المستشفى الذين جعلوها مراقبة على المرضى. امرأة فظة تتعامل بوقاحة وبصلافة أثناء حداد المدينة، هل يعقل أن توجد رحمة بقلبها على من يحتاجون الرحمة. الآن تأتي لتمد يدها القاسية على نساء ضعيفات، وحتى هنريتا قد تذهب على يدها للحياة أو للموت. عاد يفكر في زوجته التي ستلد، وعاد يتأمل في نفس الأشياء المتوقعة لامرأة أثناء الولادة وبعد الولادة. بينه وبين نفسه بدأت جفونه تتقلص من الإشفاق.

كيف تطور الأمر بي لأن أفكر في بليست ناي؟ سأل هربست نفسه. في الواقع فأنا لم أفكر بها، ولكنني الآن سوف أفكر بها. بمجرد أن تذكرها هبت عليه السكينة، سكينة تمر به لأنه تذكرها. رموش عينييها السوداوين اللذين لا يحتويان ذرة غضب، رسمة وجهها الرقيق، سحر قوامها اللطيف وأطرافها الجميل، كل هذا يشهد بإخلاص على أن قدرة الخليقة على خلق الكائنات الجميلة لم تنفد بعد.

أضاف نسبها وطبائعها، وكذلك مشكلة حياتها مع التقوى الإشكنازية. كل هذا يصنع حاجزاً، وحتى عندما تأخذ أفكاره في التدبير فهي تندفع بعيداً عن قربها. راحت وجاءت الممرضة إياها، والتي أطلق عليها اسم ناديا. ولكن اسمها هو شيرا، وأبوها مدرس عبري من محبي صهيون دعاها شيرا على اسم أمه سارا.


لم تدع شيرا النساء إلى غرفهن، ولكنها جاءت وجلست بينهن، كأنها مريضة أو قابلة. وبينما أغلق هربست عينيه كي لا ينظر إليها، جاء شحاذ أعور وبدأ في التجوال بين النساء. تعجب هربست من المسئولين عن المستشفى الذين يسمحون لهذا الشحاذ السمين بالتجوال في هذه المستشفى بين نساء منهكات اقتربت مواعيد ولادتهن، ويجر إحدى رجليه ويتحسس كل امرأة ويدندن بملل أغنية بلا بداية ولا نهاية وعمامته الحمراء على رأسه تتوهج وتضحك باستهزاء.

فتحت ناديا وهي شيرا وهي نادية علبة سجائر وقالت له بالروسية: حمامتي هل تريد سيجارة؟ لم يعترف الاسطنبولي باللغة الروسية ورد عليها بالتركية وهي لغة لا تعرفها شيرا والتي هي نادية، وأثناء كلامه لمس كتفها. فكر هربست في أن يخبرها بأن هذا الأعمى تركي ولا يعرف لغتها، ولكنه أغلق فمه ولم يقل شيئا، لم يرغب في التحدث معها.

جلست شيرا محبوسة بداخل جسمها الذي بدأ يتوسع حتى أحاطت ذراعيها الممتلئين بالشحاذ السمين، حول هربست عينيه عنهما وفكر، كم أن هذه المرأة وقحة، لا تخجل من الناس، وكم أن ذوقها رديء بحيث تمد ذراعيها لتحتضن شحاذاً أعمى تفوح منه رائحة سيئة.

ثارت النساء ونظرن إلى شيرا والشحاذ. كن يتطلعن إليهما في فضول أكثر مما كن يتطلعن في دهشة. فجأة حدث شيء غريب. بينما هما قريبان من بعضهما البعض بدءا في التضاؤل حتى لم يتبق من شيرا إلا صندلها الأيسر فحسب. هذا غريب. الصندل هو واحد من أدوات الجسد ليس إلا، فكيف تجمع فيه شخصان، أحدها سمين والآخر نصف سمين. هل أنهما لم يختفيا داخل الصندل؟ وإذا كان ذلك كذلك فأين اختفيا؟ أثناء كل تلك الفترة لم يحول عينيه عنهما ولم نر أنهما سارا.

رغما عن أنفنا هما غارقان في داخل الصندل. على أية حال فمن المفيد أن نسأل هنريتا عن حدود الخيال من الواقع هنا. لم يتمكن من سؤالها حتى شعر بيديها وهي تتحسس جبينه بأصابعها الطويلة والدافئة وتقول، حبيبي سوف يأتون لأخذي للسرير وسوف أفارقك.

فتح مانفريد عينيه ورأى زوجته تقف وممرضة ضئيلة في المستشفى تمسك يدها وحقيبتها الصغيرة. فارق زوجته وهي تستند عليه كما استندت عليه عندما كانت موشكة على الولادة، عندما كانت ستلد زهارا وعندما كانت ستلد تمارا. قبلها مانفريد قبلة الفراق، نفس القبلة التي قبلها إياها قبل نصف جيل عندما كانت موشكة على ولادة ابنته الكبرى زهارا وعندما كانت موشكة على ولادة أختها تمارا. بعد أن قبلها عاد وقبلها ثانية وفارقها ذاهباً.

أثناء سيره قال لنفسه، أعرف أنا أن كل هذا كان حلما، وإن كان ذلك كذلك فلماذا أنا محتار ولماذا لا أبعده عن بالي ولماذا لا أسلم في قلبي بأن كل هذا كان حلماً. الآن لأدع جانباً كل هذه الحيرة التي لا تؤدي لشيء ولأرى ما عليّ فعله. فتش في عقله ولم يجد شيئا يتعين عليه فعله، ولا حتى شيء يتعين فعله وليس من ضرورة لفعله فوراً ويمكن تأجيله لما بعد ولادة هنريتا بل وبعد عودتها إلى البيت. وجه خطواته باتجاه بيته وفكر في العشاء الذي سوف يعده لنفسه والكتاب الذي سيقرأ فيه.

بينما هو يتأمل ويسير فحص دفتره ليرى إن كان فيه أي شيء يجب فعله في طريقه للبيت. لم يجد هناك أي شيء عليه فعله في طريقه للبيت، ولكن كانت هناك عناوين وبينها رقم تليفون ليسبت ناي قريبة أستاذه اللامع البروفيسور ناي. تذكر قوله لها بأنه من المؤكد أن يتصل بها يوماً ما. في الحقيقة ليس هذا هو اليوم ولا تلك هي الساعة التي يمكن فيها الاتصال بالفتيات، وليس لديه حتى ما يقوله لها. ولكن، قال هربست، بما أنني وعدتها بالاتصال بها فسوف أنفذ وعدي وأتصل بها. وبمجرد وصوله إلى مكتب اتصالات دخل ليجري اتصالا معها.



[1] كتب دينية يهودية تنتمي للعصور الوسيطة.

[2] اليهود المتدينون.

[3] اسم بلدة صغيرة بجاليتسيا ببولندا. المقصود انفصال العبرية الحديثة عن لغة الجيتو اليهودي القديم والمتدين.

Friday 12 February 2010

امرأة مجنونة بقميص نوم مجنون


إفرات صادقة ميشوري

ترجمة: نائل الطوخي


بلاداه لخمسة زهور وحصان ميت (1)

امرأة مرتبكة بقميص نوم مرتبك عبرت نهراً مرتبكاً باتجاه ضفة مرتبكة. ومن الضفة المقابلة للضفة المرتبكة انتظرتها، بارتباك،

امرأة مجنونة.


امرأة مجنونة بقميص نوم مجنون أمسكت في يدها المجنونة بظرف مجنون. وعندما فتحت المرأة المجنونة بقميص النوم المجنون الظرف المجنون بيدها المجنونة، انتظرها، بجنون،

رجل مثير للشفقة.


رجل مثير للشفقة بشارب مثير للشفقة قطع طريقاً مثيراً للشفقة بخطوات مثيرة للشفقة، ومن الجانب المقابل للطريق المثير للشفقة، انتظره، بشكل مثير للشفقة،

طفل حيوي.


طفل حيوي بابتسامة حيوية وجبهة حيوية وجبين حيوي أخفي بشكل حيوي من خلف صندوق حيوي برطمانا حيوياً. وعندما فتح الطفل الحيوي بابتسامته الحيوية وجبينه الحيوي الصندوق الحيوي بشكل حيوي، سقط عليه، بحيوية،

مسخ منهك.


مسخ منهك بسيجارة منهَكة وتكريعة منهكة عَبرَ ممراً منهكاً في طريقه لحمامٍ منهكٍ. وهناك، داخل الكبانيه المنهك بالحمام المنهك، انتظرتْه، منهكة تماماً،

نهايةٌ مفتوحةٌ


الجدار إياه

شيئ بداخلي يبكي من الجدار إياه

أتحسسه من الجدار إياه

أعرفه من الجدار إياه

أتسلق عليه من الجدار إياه

أسقط من عليه إلى الجدار إياه


شيء بداخلي يبكي من الجدار إياه

أخمشه من الجدار إياه

أنقشه من الجدار إياه

أبكي أمامه من الجدار إياه

أدعوه للمجيء من الجدار إياه


شيء بداخلي يبكي من الجدار إياه

يطلق صرخة من الجدار إياه

ومن الجهة الأخرى للجدار إياه

أتحدث مع


هذا الجدار


البحر

البحر أخفى نفسه في الماء.

الماء اختبأ بين أمواجه

البحر تخفّى بلون شفاف

وغطت السماء عليه.

البحر غرق في البحر.

البحر انقلب وضرب بأمواجه.

البحر جاء من نفسه إلى نفسه.

والزبد غطى وجهه.


لسنوات يتحرك ثائراً

بلا ماض ولا مستقبل

يقدم لنا ملامحه المتقلبة

والتي تيبست أعماقها وأصبحت مياها.


ينغمس في الصمت الأزرق لرائحته اليقظة

البحر غير قادر على قراءة نفسه

فقط يخلق نفسه:

يَلدُ الأمواج

من المزيد من الأمواج

ويخلق الهدوءَ


من عدم الهدوءِ


أقوم

أقوم إلى العالم

عيناي مفتوحتان باتجاه عينيه المغمضتين

لا يزال نائماً.


هو نائم وأنا

لم أعد أبكي.

أنا رضيعة سعيدة عينها مفتوحة.


ألعبُ، هذا ما أريد.

معه، هذا ما أريد.

الآن، هذا ما أريد.


ولكن بينما وجهي الرضيع، الذي لم يعد يبكي،

يستدير إلى العالم بعينه السعيدة

فإن وجهه يستدير إلى الجدار.


هو لا يزال نائماً


لدى الريح

قمتُ نهارا إلى ألمي

ولدى الريح، التي لم تهب

كان ثمة ما تحكيه لي


انتقلتُ للراحة بين ذراعي امرأة جيدة،

ولدى الريح، التي لم تهب

كان ثمة ما تحكيه لي


قمر أشرق في الليل، طيفيا ومنطفئاً

ولدى الريح، التي لم تهب

كان ثمة ما تحكيه لي


ورقة شجر وحيدة ألقت بنفسها وآملت،

ولدى الريح، التي لم تهب

كان ثمة ما تحكيه لي


_________________________________________________________

إفرات ميشوري، شاعرة وأستاذة للأدب العبري، أعدت رسالة الدكتوراه عن الشاعر الإسرائيلي آفوت شورون وحضور مدينة تل أبيب في شعره. ولدت في طبرية عام 1964، وانتقلت لتل ابيب وهي تبلغ سبع سنوات. والدها كان يقوم بتدريس علم اللغة بطبرية ثم في جامعة تل أبيب.حصلت على عدة جوائز مثل جائزة رون إدلر للكتاب الأول (1994)، وجائزة كيرين يهوشواع رافينوفيتش للشعر (2000)، وجائزة الإبداع للأدباء العبريين التي يمنحها صندوق رئيس الوزراء (2001)، كما فازت قصتها "معرفة القارة"، في مسابقة القصة القصيرة التي أقامتها صحيفة "هاآرتس" عام 2004. نشرت عددا من الدواوين مثل "قصائد"، 1994، "من على بعد إفرات"، 1996، "عضة السمكات الصغيرة"، 1999، "الفم الفيزي"، 2002، "تنهيدة وقطاع رأسي".


البلاداه هي نوع من القصائد يفترض أن يحكي قصة. الكلمة إيطالية الأصل وتعني أغنية راقصة ذات إيقاع.

Monday 8 February 2010

صورة الشرق في السينما الإسرائيلية


إيلا شوحاط، واحدة من أهم الناقدات الثقافيات الإسرائيليات اليوم. ولدت عام 1959 وأعدت رسالة الماجستير في جامعة بر إيلان بإسرائيل، أما الدكتوراه فقد حصلت عليها عام 1986 من جامعة نيويورك التي تقوم بالتدريس فيها الآن. عملت شوحاط على نظرية إدوارد سعيد حول الاستشراق وقامت بتطبيقها على العلاقات الثقافية بين "اليهود/ العرب"، "اليهود الشرقيون/ الغربيون"، وإجمالا حول التمثيلات الثقافية بين الشرق والغرب، وذلك من خلال السينما الإسرائيلية. تعتقد شوحاط التي جاءت من أصل عراقي أن الصهيونية خلقت نوعا مزدوجا من القمع: ضد الفلسطينيين وضد اليهود الشرقيين، وتحاول في كتبها عرض الكيفية التي حاولت بها الصهيونية تقديم هوية موحدة موائمة قائمة على الثقافة الإشكنازية الغربية ومحو الهوية الشرقية.

من كتبها: "السينما الإسرائيلية: تاريخ وأيديولوجيا"، 1991، "الثورة الشرقية: ثلاث مقالات عن الصهيونية والشرقيين" ، 1999، "ذكريات ممنوعة: من أجل فكر تعددي"، مجموعة مقالات، 2001، "السينما الإسرائيلية: الشرق/ الغرب وسياسة التمثيل"، 2005.

الدراسة المنشورة هنا من كتابها الأول، وتدور حول تمثيل اليهود الشرقيين في أفلام "البوريكاس"، التي سبق تناولها في المدونة هنا من خلال الباحث نفتالي شيم توف.



من فيلم "ثمانية ضد واحد"

البوريكاس[1] وتمثيل الشرقيين

إيلا شوحاط

ترجمة: نائل الطوخي

حتى الآن لم أكن قد تطرقت إلى هذه النقطة إلا لماماً، وهذا في موضوع أبدأه حاليا بشكل أكثر اكتمالاً - وهو التمثيل السينمائي للشرقيين/يات. برغم عدة محاولات عرضية – في أفلام مثل "نور من المشاع" (1973)، "البيت الكائن بشارع ثلاثة" (1973)، و" مندوب الملح" (1979)، لحاييم شيران، لتقديم بديل للأنماط المتفق عليها للشرقيين/ يات، فلقد ارتبطت السينما الإسرائيلية، في أغلبها، بالأساطير الشائعة في إسرائيل، والتي يتم نشرها في أحيان متقاربة بوسائل الإعلام خارج إسرائيل. وفق هذا الخطاب الأسطوري، فإن الصهيونية الأوروبية قد "أنقذت" يهود الشرق من الأيدي القاسية لـ"حابسيهم" العرب. لقد خلصتهم من "الظروف البدائية"، ظروف الفقر والعقائد التافهة ورافقتهم برقة في انتقالهم إلى المجتمع الغربي الحديث، الذي يتسم بـ"القيم الإنسانية"، وهي القيم التي لم يعرفوها إلا بشكل غامض نتيجة للـ"محيط الشرقي الليفانتي[2]"، الذي جاؤوا منه. لقد عانوا في إسرائيل، بالبداهة، من مشكلة "الفجوة"، ليس فقط الفجوة بين مستوى حياتهم وبين مستوى حياة اليهود الأوروبيين، وإنما أيضا من الفجوة التي وجدت بسبب "اندماجهم غير الكامل" في الليبرالية والرفاهية الإسرائيليين، وذلك بسبب القيود التي تفرضها التكوين الشرقي، الجاهل، المستبد، الجنساني، وفي الغالب ما قبل الحديث الذي تلقوه في الأراضي التي خرجوا منها، مثلما أيضا بسبب ميلهم الطبيعي لإقامة عائلات كبيرة.

المؤسسة السياسية، مؤسسات الرفاهية والمنظومة التعليمية، بالتنسيق مع هذا الخطاب، قامت بكل ما في وسعها "لتقليص الفجوة" بواسطة إيراث أساليب "الحضارة الحديثة" لليهود الشرقيين. في نفس الوقت، هكذا تم الزعم، فإن الزواج ما بين الطوائف ساد بسرعة وحظى الشرقيون/يات بإعادة التقدير بفضل "القيم الثقافية التقليدية" التي يحملونها، والموسيقى الفولكلورية الخاصة بهم، والمطبخ الثري والضيافة الدافئة. مع هذا، فوفق هذا الخطاب، كانت لا تزال هناك مشكلة جادة واحدة موجودة. نتيجة للتعليم المعيب الذي تلقوه و"عدم خبرتهم بالحياة الديمقراطية"، يميل يهود أسيا وأفريقيا لأن يكونوا محافظين بشكل متطرف، بل ورجعيين حتى، ومتعصبين دينيا، وهذا على النقيض من اليهود الأوروبيين المثقفين، العلمانيين والليبراليين. ولكونهم معادين للاشتراكية، فهم يشكلون أساس دعم الأحزاب اليمينية. وبالإضافة لهذا، فنتيجة لـ"خبرتهم المريرة في البلدان العربية، هكذا تم الزعم، فهم يميلون لأن يكونوا "كارهين للعرب"، وبهذا المفهوم فهم يشكلون "عقبة أمام السلام" ويحبطون جهود "معسكر السلام" للوصول إلى "اتفاق معقول" مع العرب.

ما أهدف إليه في هذه المرحلة ليس هو الاهتمام بالتشوه المبدئي في هذا الخطاب، في كل واحدة تقريبا من نقاطه. بدلا من هذا، فأنا مهتمة بشكل أساسي بتوجيه الاهتمام إلى الانتشار الواسع لهذا الخطاب، المشترك بين "اليمين" و"اليسار"، وله صيغ مبكرة ومتأخرة مثلما أن له صياغات دينية وعلمانية. الأيديولوجيا التي تتهم الشرقيين (والبلدان التي جاءوا منها، بلدان العالم الثالث) تطورت تفاصيلها بواسطة النخبة الإسرائيلية وعبر عنها سياسيون وباحثون في علم الاجتماع، ومعلمون وأدباء، وسينمائيون بالطبع. هذه الأيديولوجيا تسود بفضل نسق معقد من أشكال الخطاب ذات الآراء المسبقة التي تقدم نبرة استعمارية خفية، وهي ثمرة ما يسميه أنور عبد الملك[3] "سيادة الأقليات الحاكمة" hegemonism of possesing minorities . مواقف العالم الأول إزاء يخص العالم الثالث يتم استنساخها في العلاقة ما بين الإشكناز/ الشرقيين، يحدث هذا أحياناً بشكل صريح لدرجة تشبيه اليهود الشرقيين بالعرب والسود. لدى حديثه عن الشرقيين كتب آرييه جلبلوم في "هاآرتس" عام 1948 أن "هجرة عرق، لم نعرف مثله في البلاد"، "بدائيته في القمة"، و"مستوى تعليمه محدود بالجهل المطلق، وما هو أكثر خطورة هو عدم أهليته لاستيعاب أي شيء روحاني". هؤلاء المهاجرون، يواصل جلبلوم، "لا يرتقون عن المستوى العام للسكان العرب إلا قليلا، الزنوج والبربر المقيمين في بلدانهم، وعلى أية حال فهي درجة بسيطة حتى مما نعرف لدى عرب أرض إسرائيل سابقا.[4]" "هؤلاء اليهود"، يواصل، "ليست لهم أصول كذلك في اليهودية. في مقابل هذا فهم خاضعون تماما للعبة الغرائز البدائية والمتوحشة". وهم أيضا يبدون بحسب كلامه "كسلاً مزمناً وكراهية للعمل"، و"هذا العنصر غير الاجتماعي ليس هناك شيء مضمون أمامه... مؤسسة "هجرة الشبيبة" وهي المؤسسة الرسمية ترفض استقبال أطفال مغربيين والكيبوتسات لا تريد السماع عن استيعاب هؤلاء بينهم!"

فيما يشابه هذا وصف بن جوريون المهاجرين الشرقيين كأنهم "جاؤونا بدون معرفة الألف والباء، بدون أي دليل على التعليم اليهودي أو الإنساني." وعبر مرارا وتكرارا عن احتقاره لثقافة يهود الشرق: "لا أريد للإسرائيليين أن يتحولوا إلى عرب. من واجبنا الحرب ضد روح الشرق الليفانتي، والتي تفسد الفردية والجماعية، والحفاظ على القيم اليهودية الأصيلة كما تبلورت في المنفى." على مدار السنوات دعم القادة هذه الآراء المسبقة وأعطوها الشرعية. بالنسبة لآبا إيبان فإن "الهدف ينبغي أن يكون هو إدخال الروح الغربية، بدلا من تمكينهم من سحبنا إلى هوية شرقية غير طبيعية." أو، مرة أخرى: "أحد المخاوف التي تضايقنا.. هو أن خطر التفوق العددي للمهاجرين من أصول شرقية سوف يضطر إسرائيل لأن تتشبه من ناحية مستواها الثقافي بالعالم المجاور." وصفت جولدا مائير الشرقيين – في أسلوب استعماري نموذجي – بمن يأتون من زمن آخر، أقل تطورا – القرن السادس عشر – في عينيها (وفي أعين الآخرين، بمثابة "عصور وسطى" غير محددة). تساءلت: "هل سنكون قادرين على أن نقوم بإعلاء هؤلاء المهاجرين إلى مستوى ثقافي مناسب؟"

بن جوريون، في جلسة للجنة للتشريع والقانون والقضاء بالكنيست أطلق على يهود المغرب اسم "المتوحشين"، وشبه الشرقيين (بشكل كان يشهد لدرجة ما بوظيفته الاجتماعية) بالسود الذين تم جلبهم إلى الولايات المتحدة كعبيد، بل وسار خطوة أبعد أحيانا لدرجة أنه تشكك في أهليتهم الروحية بل وفي جوهر يهودية الشرقيين. (يمكننا، بالطبع، قلب لذوعة التشبيه والإشارة إلى تطابق بنيوي معين بين قمع السود في "العالم الجديد" وبين وضع الشرقيين في إسرائيل. وإذا كان بالإمكان اعتبار الفلسطينيين "هنودا"، بوصفهم سكانا أصليين، وفق الخطاب السائد، فالشرقيون يمثلون في إطار نفس الخطاب "السود"). بالإضافة لهذا، فكتابات وخطب صهيونية تستبق في أحيان متقاربة الفكرة، المشكوك فيها من ناحية تأريخية، بأن يهود الشرق، قبل أن يصلوا إلى "مجمع المنافي" في إسرائيل، كانوا يعيشون بشكل ما "خارج التاريخ". هكذا كانت تلك الكتابات، بشكل ساخر، صدى لتقييمات تنتمي للقرن التاسع عشر، مثل تلك الخاصة بهيجل، والتي تقول بأن اليهود، مثلهم مثل السود، يعيشون خارج مسيرة تطور الحضارة الغربية. الصهيونيون الأوروبيون يشابهون، في هذا المفهوم، الاستعماري الذي وصفه فرانز فانون، والذي دائما ما "يصنع التاريخ"، وحياته هي "العصر" و"الأوديسا"، وفي مقابله فأبناء البلد يشكلون "خلفية غير مندمجة عضويا تقريبا." سيهدئنا قليلا التفكير في أن هذه التوجهات قد اختفت في الخمسينيات، ولكن حتى في عام 1983، فإن "هاآرتس" التي يتم تعريفها بوصفها تنتمي لليمين الليبرالي الذي يفضله الأكاديميون الإشكناز والمعروف بالمعايير الصحافية المرتفعة، قد نشرت مقالا كتبه أمنون دنكنر "اليساري"، يشبه الشرقيين بـ"قرود البابون "، وأدانت شولاميت آلوني "الليبرالية" عام 1983 المتظاهرين الشرقيين باعتبارهم "قوى قبلية بربرية"، "تم اقتيادهم كالقطيع على دقات طبول الطمطم"، وكانوا يغنون مثل "قبلية متوحشة". المجاز المتضمن، الذي يشبه الشرقيين بالأفارقة السود، يذكرنا، بشكل ساخر، بأحد الإكليشيهات الأساسية في معاداة السامية الأوروبية، ذلك الخاص بـ"اليهودي الأسود."

مع هذا، فليس دائما مايكون الخطاب العنصري لدى تطرقه لليهود الشرقيين غاضباً أو عنيفاً، في أماكن أخرى يرتدي شكلا "إنسانيا" و"فاضلاً" بشكل نسبي. اقرأوا، مثلا، كتاب د. دبورا والحاخام مناحم هاكوهين "شعب واحد: قصة يهود الشرق"، وهو نص "دافئ وينبض بالحب"، مشبع تماما بآراء مسبقة تنتمي للمركزية الأوروبية. في مقدمته، يتحدث آبا إيبان عن "الطابع الساحر" للطوائف اليهودية والتي تعيش "في الهوامش الخارجية للعالم اليهودي". النص نفسه والصور المرافقة له تعكس أجندة أيديولوجية بوضوح. التشديد، على طول الطريق، موضوع على "اللباس الوطني التقليدي"، "عادات وأساليب الحياة الساحرة"، "قوموية" قبل حداثية، إسكافيين وجواهرجية، ونساء "يغزلن على أنوال بدائية". مرة تلو الأخرى تتم الإشارة إلى عدد من اليهود الآتين من شمال أفريقيا يسكنون في المغارات (نجح مثقفون مثل ألبير ميمي وجاك دريرا على ما يبدو في التخلص من هذا الوضع)، وتم تخصيص فصل كامل لـ"اليهود من سكان المغارات" (التوثيق التاريخي الفعلي، على أي حال، يرينا أن اليهود الشرقيين كانوا من أبناء المدن في أغلبيتهم الساحقة). في الكلمات الواردة أعلاه يبرز نوع من "الحنين البدائية"، وهي أيديولوجيا دونية تشعر بضرورة تصوير الشرقيين كأنهم أبرياء من التكنولوجيا والحداثة. الصور الشرقية البائسة تتواجه بعد هذا مع الأوجه البراقة للشرقيين في إسرائيل، الذين يتعلمون القراءة ويتحكمون في التكنولوجيا الحديثة الخاصة بالجرارات وماكينات الحصاد. الكتاب يشكل جزءا من صناعة التصدير الوطني الواسع لـ"فولكلور" شرقي، لمنتجات (تمت مصادرتها من أصحابها، في أحيان كثيرة)، مثل الملابس والجواهر، وأدوات طقوسية، وكتب وصور وأفلام، يتم توزيعها في مؤسسات يهودية غربية تلهث وراء السحر اليهودي.

فيما يشبه هذا، فالتقارير السوسيولوجية البارزة عن "المشكلة الطائفية" في إسرائيل لا تنسب الوضع المتدني لليهود الشرقيين إلى الطابع الطبقي للمجتمع الإسرائيلي وإنما لحقيقة أصولهم التي تنتمي لمجتمعات "قبل حداثية"، "متخلفة من الناحية الثقافية". استعار شموئيل أيزنشتات بتوسع من مخزون الذخيرة الثقافية للباحثين "الوظيفيين" الأمريكيين عن التطور والتحديث، ومنح مريدوه الكثر من علماء الاجتماع هذه المكيدة الأيديولوجية هالة من العقلانية العلمية. هذا الدور للنظرية "الحداثية" نبع من التوائم التام مع احتياجات النظام. استعار أيزنشتات من "الوظيفية البنيوية" الأمريكية لتالكوتا بارسونس الرؤية الغائية والقائلة بوجود مسيرة من "التقدم" من مرتبة المجتمع "التقليدي"، ببنياته الاجتماعة الأقل تركيبا، إلى درجة "التحديث" و"التطور". ولأن البنية الاجتماعية الإسرائيلية عُدت هي الكيان الذي تم إيجاده بشكل جمعي في فترة الاستيطان، فلقد تم النظر إلى المهاجرين باعتبارهم قد امتزجوا بنسق كامل وديناميكي قائم مسبقا لمجتمع حديث متماسك وفق التصور الغربي. "استيعاب" المهاجرين الشرقيين في المجتمع الإسرائيلي كان مرتبطا بتقبلهم للوعي السلطوي للمجتمع "المضيف" وبهجرهم للتقاليد "قبل الحداثية". وبينما لم يطالب المهاجرون الأوروبيون سوى بـ"الاندماج"، فالمهاجرون من أفريقيا وأسيا قد طولبوا "بالاندماج عن طريق التحديث". وفق التقاليد الأيزنشتاتية، كان على اليهود الشرقيين المرور بمسيرة من "النقض المجتمعي"، أي، محو تراثهم الثقافي – و"إعادة الاندماج"، أي، هضم أسلوب الحياة الإشكنازي. هكذا، فالفروق الثقافية تم عرضها بوصفها عاملا وراء عدم التكيف. (كان من الصعب على هذه النظرية شرح سبب عدم معاناة شرقيين آخرين، جاؤوا من نفس بلدان "قبل الحداثة"، وأحيانا من نفس العائلات، من مشاكل التكيف في عواصم "بعد حداثية" مثل باريس، لندن، نيويورك ومونتريال."

على كل المستويات - سياسة الهجرة، التطوير المديني، سياسات العمل، الدعم الحكومي- تتكرر بنية التمييز التي تتصل بجميع التفاصيل اليومية. عمليات التمييز تلك، والتي تشكلت في الفترة المبكرة أكثر للصهيونية، يتم نسخها يوميا وعلى جميع المستويات، وتصل حتى إلى الأركان النائية للمنظومة الاجتماعية الإسرائيلية. ونتيجة لهذا، فهناك لدى الشرقيين، على رغم مكانتهم كأغلبية، تمثيل ضعيف في مراكز القوة الوطنية، - في الحكومة والكنيست، والدرجات العليا للجيش، والسلك الدبلوماسي، ووسائل الإعلام والعالم الأكاديمي، ويتم عرضهم أكثر من اللازم في المناطق الهامشية، الموصومة، للحياة المهنية والاجتماعية. أما الإشكناز، في مقابل هذا، فقد اختبأوا خلف المصطلح الذي يبدو متفضلا، "المجتمع الإسرائيلي"، وهو كيان يفترض أن يكون تجسيدا لقيم الحداثة، الصناعة، العلم والديمقراطية. كما يشير شلومو سبيرسكي، فإن هذا الوصف قام بالتمويه على التطورات التاريخية الفعلية، حيث شوش على عدة حقائق: قبل كل شيء، أن الإشكناز، مثلهم كمثل الشرقيين، جاؤوا هم أيضا من بلاد كانت على هامش المنظومة الرأسمالية العالمية، وهي بلاد شاركت في مسيرة التطور الصناعي والتكنولوجي/ العلمي، أقل أو أكثر في نفس الوقت الذي فعلت فيه هذا البلاد التي خرج منها الشرقيون. ثانيا، أن المجتمع في فترة الاستيطان بفلسطين الخارجية، هو أيضا لم يصل لدرجة تطور يمكن مقارنتها بتلك المجتمعات التي "في المركز"، وثالثا، لأن "التحديث" الإشكنازي أصبح ممكنا بفضل قوة العمل الرخيص التي أتاحتها الهجرة الجماعية الشرقية. الأساس الطائفي لهذه العملية غاب في أحيان كثيرة حتى عن التحليلات الأكثر ماركسية، التي تتحدث بشكل عام عن "العمال اليهود" – وهو التجريد المقابل، في القيمة، للنقاش حول استغلال العمال "الأمريكيين" في مزارع القطن بالدول التي تقع جنوب الولايات المتحدة.



من فيلم رحلة المحفة

التمثيل الإشكالي للشرقيين/ يات

ينبغي مشاهدة الأفلام الإسرائيلي التي تهتم بمواضيع شرقية، إن كان الحال هكذا، كجزء من سلسلة كبيرة للغاية من البني والأيديولوجيا. النقاش حول صورة الشرقيين والشرقيات في السينما الإسرائيلية يتم تحديده في أحيان متقاربة بظهورهم أو ظهورهن في أفلام "البوريكاس" من الستينيات والسبعينيات. ولكن علينا تذكر أن شخصيات شرقية كانت تظهر في أفلام الأطفال في الخمسينيات والستينيات، أفلام مثل "دان كيشوت وسعديا بانشا"، (1956)، لناتان إكسلرود، و"ثمانية وراء واحد" (1964) لمناحيم جولان. التقسيم الطائفي/ الطبقي معروض في هذه الأفلام وكأنه طبيعي وحتمي. مخبرو التحري والمحققون، "العقول المفكرة"، هم صباريم إشكناز[5]، بينما يقوم بدور الخدم أطفال يمنيون. ليس هناك ما يجمع بين "دون كيشوت وسعديا بانشا"، و"دون كيشوت وسانشو بانسا"، لسرفانتس، تقريبا غير علاقة السيد - الخادم السائدة بين الشخصيتين الرئيسيتين. دان هو من بيت جيد ومحترم- حركة البان pan التي تقوم بها الكاميرا على كتبه تبرز وضعه كـ"رجل كتاب". سعديا، في مقابل هذا، غامض في كل ما يخص السياق الأسري والثقافي، ويتم وصفه بأنه ماسح أحذية، طفل شوارع مشرد. عالمه، مثل عالم دان، يتم تقديمه كأنه عالم بديهي، لا يستحق الاهتمام السردي إلا قليلا. يتمتع دان بمكانة أكثر علوا في الحبكة، والصياغة الأسلوبية للفيلم تمدنا بتفاصيل تعطينا أبعادا موثوقة لوصف خلفيته. مثلما في فيلمه السابق "عوديد الجوال"، فإن إكسلرود يجعل شخصيته الرئيسية، الصبار الشاب، يقوم بنشاط ثقافي بجانب النشاط الجسدي. في إحدى التتابعات الأولى، بالمدرسة الداخلية الزراعية، يحاول دان القراءة أثناء الحراثة، ولكنه سريعا ما يهمل الحراثة ويستغرق في القراءة. بعد هذا يقطع الفيلم على سعديا، والذي نراه يتكيف بشكل فوري وبحماس على عمله الجديد كراعي غنم، سعيدا بمنصبه الذي أعطته إياه المؤسسة بسخاء. في تتابع آخر يبدو دان وهو يرسم الأهداف بينما سعديا يحفر في الأرض. دان، الذي يرتبط بسعديا بسبب حبهما المشترك للخيال، يعمل كـ"شرطي تحريات كبير"، ويفحص صلاحيات سعديا. الكاميرا، سويا مع التحرير، يؤكدان على التقسيم الواضح للوظائف. هذا التقسيم الذي يبدو فصاميا، بين الجسد والروح، يشكل الأساس العقلاني المركزي لأشكال الخطاب الاستعمارية والطبقية. في ثقافة وسينما الـ mainstreamالإسرائيلية، فإن التقسيم الإثني بين "الجسد" و"الروح" يتواصل في أفلام الأطفال منذ السبعينيات، مثل "حسمبا" (1971)، القائم على سلسلة من الكتب الشعبية التي كتبها يجئال موسينزون. الصباريم الشباب، المتأثرون ببطولة الوحدات المختارة للكبار، ليس فقط أنهم شجعان، وإنما قادرون أيضا على الإدارة المبدعة للتكنولوجية الذكية، ويستخدمونها – بشكل عقلاني – ضد رمز الشر الشرقي، العدو الشرقي، رجل العالم السفلي (الذي يقوم بدوره زئيف روفيح)، والذي، برغم سنه الأكبر نسبيا، يتم عرضه بوصفه ذا أساليب بدائية. في أفلام الأطفال تلك (مثلما هو الحال أيضا في أدب الأطفال) فإن الأنماط الشرقية واضحة. التناقض المطلق في الرواية – دان المثقف أمام سعديا العامل في "دان كيشوت وسعديا بانشا"، على سبيل المثال، يستنسخ بدقة التقسيم الطائفي لسوق العمل كما تخلقه المدرسة الإسرائيلية يوميا. المنظومة التعليمية – وهي التي لا تقوم بالمساواة وتميز بين كل من الجماعات السكانية، توجه بشكل ثابت التلاميذ الإشكناز إلى المهن النخبوية، وهي مهن الياقات البيضاء التي تتطلب إعدادا بحثيا عميقا، أما التلاميذ الشرقيون فهي توجههم إلى الأعمال المتدنية، أعمال الياقات الزرقاء. تعمل المنظومة التعليمية، بصياغة شلومو سبيرسكي، كـ"جهاز عملاق يقوم بالتقسيم السلبي والذي، من بين ما يفعله، يؤدي إلى خفض منجزات وتطلعات الأطفال الشرقيين وآبائهم."

في "دان كيشوت وسعديا بانشا"، فإن الحرب هي التي تعيد الأطفال للواقع، والآن يحاولون استغلال مواهبهم شبه التحرية، من أجل مساعدة الكبار ضد العرب. يتيح دان لسعديا بالانضمام إليه في مهمته بسبب إجادته للغة العربية، وهو ما يمكنه إفادة دان. سعديا، مثل يحي في "ثمانية وراء واحد"، يضطر لإثبات لجيبور بن "إسرائيل الأولى" أنه يستحق اسم "إسرائيلي". في "ثمانية وراء واحد"، يتشكك الصباريم أبناء الكيبوتس في التقرير المتلعثم ليحي بفضل الجاسوس الألماني (الذي يعمل لصالح العرب) ويرفضونه باعتباره هذيانا غير معقول. هذا الرفض يدفعه للعمل الشخصي الهادف إلى إثبات أنه يقول الحقيقة ويستحق الانضمام إلى الصباريم. تجسد مجموعة الصباريم أبناء الكيبوتس من البداية الكود السائد للمجتمع الإسرائيلي، الذي يتم التعبير عنه في أغنية الفيلم: "...كلنا سويا/ لا نخاف/ إلى الأمام وبشجاعة/ نهزم الأعداء." تقبُل الطفل الشرقي داخل جماعة الصباريم مشروط بعمل بطولي يقوم به ضد العرب ("دان كيشوت وسعديا بانشا") أو ضد الجواسيس ("ثمانية وراء واحد"). في توائم مع الأسطورية التي تسيطر على هذه الأفلام، لا يمكن للشرقي – اليهودي – العربي أن يتطلع إلى المساواة إلا بعد تحمل جزء من نير الحرب.

التماثل بين الحضور الهامشي للشرقيين في الرواية وبين الوضع الهامشي للأغلبية الشرقية بالنسبة لمراكز قوة المجتمع الإسرائيلي يواصل تمييز الأفلام التي تم إنتاجها في السنوات الأخيرة. في أفلام الـ"جفيلتا فيش" (أفلام "البوريكاس الإشكنازية")، التي تهتم بشكل متوسع بواقع الجيتو، مثل "لوبو في نيويورك" (1976)، "كوني لمال في تل أبيب" (1976)، و"كوني لمال في القاهرة" (1983)، نقابل شخصية نموذجية character type)، وهي الخادم اليمني. في "كوني لمال في القاهرة"، يتم تقديم شخصية عوفديا، وهو يمني متدين يعمل كبواب في قرية القديسين. يجسد عوفديا شخصية نموذجية لـ"اليمني طيب القلب"، كالشرقي غير العقلاني. وعندما يطالب بتوجيه الحاخام كوني لمال، يمده عوفديا بتوجيهات غير مفهومة بلكنة يمنية موسيقية، مصاحبة بإشارات مبالغ فيها. يكرر "التوجيه" عدة مرات، وعندما لا تفهم الإسرائيلية، التي ترتدي ثياب قديس أمريكي، ومعها المشاهدون، يقول عوفديا: "طيب، إذن سيروا إلى الأمام مباشرة وستصلون." فيما يشبه التقسيم البنيوي القائم في الأفلام الإنسانية–الصهيونية بالفترة السابقة بين "العرب الجيدين" و"العرب السيئين"، هنا أيضا يتم تقديم عوفديا "الجيد"، المتدين، بجانب نقيضه – "الشرقيين السيئين"، رجال العالم السفلي، والذين ينتصر عليهم، في نهاية الأمر، أبطال الفيلم، القديسون الإشكناز (سويا مع قريبهم العلماني، موني لمال). ينجح القديسون في استعادة الهدية المسروقة، وهي الهدية التي منحتها إياهم الطائفة اليهودية في القاهرة (خواتم قديمة من فترة الهيكل الثاني، تساوي مليون دولار)، ويحتفلون بانتصارهم بأغنية "هذه هي التوراة وهذه هي الجائزة"، بأسلوب يذكرنا بالارتباط، الشائع جدا في الأيديولوجيا البرجوازية، بين بركة الرب والمقابل المالي. شرعية التحكم في ممتلكات اليهود العرب ليست ممنوحة إذن لليهود العرب في إسرائيل.

الخادم المخلص، على نقيض رجال العالم السفلي، يحظى بالحب الأبوى من الحاخام كوني لمال، الذي يتلخص في عبارات نمطية مشبعة ظاهريا بالحب مثل: "اليمني العنيد هو أكثر عندا من الحمار العنيد". وعندما يتشاور عجائز القرية سرا في الغرف المغلقة، يقترب شيخ الطائفة، الحاخام شلومو، من الباب، ويفتحه. نرى في لونج شوت الخادم المطيع من خلف الباب يسقط مباشرة داخل الغرفة. نتفحصه بأعين التلاميذ الشباب عند الحاخامات، ونسمع كيف يشبهه الحاخام شلومو بالحيوان: "القديس يعرف روح بهيمته". الفيلم، على امتداده، يخلق لدى المشاهد إحساسا بالاستعلاء الكوميدي فيما يتصل بـ"العامل البسيط". (الفيلم، الذي صور بعض منه في القاهرة، أثار غضب المصريين لكونه يصف العرب – مثل اليمني – بأنهم غير أذكياء.)

نمط الشرقي بوصفه رجل العالم السفلي يتسلل أحيانا أيضا إلى "الأفلام الجيدة"، أو السينما الذاتية، المتأخرة أكثر. برغم أن هذه الأفلام تميل إلى التركيز على "إسرائيل الأولى" يظهر بها من حين لآخر شرقيون بوصفهم شخصيات هامشية، تميل، في أحيان متقاربة، للعنف. في فيلم يهودا (جاد) نئمان، "رحلة المحفة" (1977)، فإن الفحل الشرقي (موتي شيران) هو الذي يسيء معاملة الجندي الأكثر حساسية، فايتسمان (موني موشونوف). الفيلم، والذي يعرض على المستوى الذاتي بشكل مقنع عملية نزع الإنسانية التي تحدث على مدار الخدمة العسكرية، يعتمد، على المستوى الثانوي، على صورة نمطية عن الشرقي ككائن عنيف. هذه العدوانية، سواء كانت موجهة للإمتاع (في جزء الاستحمام) أو للانتقام (في الجزء العنيف بعد أن تتم معاقبة الجنود بشكل جماعي)، تُفاقم الضغوط التي يتم توجيهها بالأساس ضد فايتسمان من قائده (جيدي جوف)، وبهذا يتم تشكيل عنصر يدفع إلى انتحاره. كون الحكي في النصف الأول من الفيلم يتم من وجهة نظر فايتسمان، والذي يخلق الفيلم لدى المشاهد تعاطفا عميقا معه، وفي النصف الثاني يتم من وجهة نظر القائد الصبار المسكون بالشعور بالذنب، فإن هذا يقوى صورة الشرقي كشخص بريء من أي إحساس إنساني، كأنه طائر متوحش يطير لكي يختطف لنفسه الطرد الذي أرسلته أم فايتسمان.

في فيلم إيتان جرين "حتى نهاية الليل" (1986)، يجتاح عدة رجال شرقيون العالم المنهار للشخصية الرئيسية، الصبار (آساف ديان)، ويعملون كمحفز على العنف. رجال العالم السفلي (الشرقيون) يندفعون إلى بئر البطل ويطالبون بالمال نظير حمايتهم له. البطل، وهو ضابط احتياط (تتم الإشارة إلى مشاركته في وحدة مختارة)، يقوم بمفاجأة لـ"العالم السفلي" (وللمشاهد): عندما يهدده الشرقي بالسكين، يستل زملاؤه في الجيش أسلحتهم ويرضون المشاهد برد فعلهم السريع وبالكشف عن تضامنهم. الإخوة العسكرية لا يتم التعبير عنها فقط في ساحة القتال، وإنما في الحياة المدنية أيضا، ضد "العدو" الشرقي. وأكثر من هذا، فشخصية الشرقي تجسد في هذا الفيلم النمط الجديد أيضا، والذي قام "اليسار" الليبرالي الإسرائيلي بتنميته، وهو نمط الشرقي "كاره العرب": الشرقي في الفيلم يضرب العامل العربي في البئر، كـ"رسالة" يقدمها إلى رئيسه في العمل. فيلم "حتى نهاية الليلة"، والذي يسلّم بصورة العالم السفلي الشرقي كـ"بديهية" اجتماعية، يتعامل ببداهة مع صورة العامل العربي، فالبطل، صاحب البئر، يقف في المقدمة، بمطبخ البئر (وهو مكان عمل العربي) وتتحرك الكاميرا في حركة بان مع البطل فقط، عندما يبتعد عن العامل العربي الصامت. حركة الكاميرا تنبع، إذن، من الصبار الذي يحتمي بظله الفلسطيني السلبي. وفي النهاية، فأبو البطل، الطبيب النمساوي المسيحي (والذي تهود)، الرجل الفاضل العذب، هو الذي يعالج بإخلاص العربي الذي ضربه الشرقي، وهو الذي يتحول، في نهاية الفيلم، إلى الضحية البائسة للعنف الشرقي، الموجه ضد ابنه الملوث. مقتله يطلق سراح دموع البطل- ويشكل السم المطهر في الفيلم. الشرقي هنا يهاجم الغرب بشكل رمزي، إنه يجتاح من "اللا مكان" ويهدد وجود الأخر. يعرض الفيلم هنا المخاوف الكامنة، الخفية، من تسلل "غريب" شرقي إلى الواقع المغلق في ذاته.

في فيلم عوديد كوتلر، "قصة حب مستمرة" (1985)، والذي تدور أحداثه في 1977، قبل اعتلاء الليكود للسلطة، فإن البطل، الصبار (والذي يقوم بدوره توفول)، هو محامي ناجح مقرب من حزب العمل. يتم حكي الفيلم من وجهة نظر خضوع المحامي اليومي للعدوان الشرقي (والذي تمتد جذوره للسياسة والعِرْق على السواء)، وهو ما يسبب له كوابيس، تهدده فيها مجموعة من البلطجية الشرقيين، وسكاكينهم في أيديهم، في الأزقة المظلمة. هذه التجسدات الحلمية((oneiric incarnations للبارانويا المعادية للسفارديم تترجم بصورة بصرية الخوف الخفي من سيطرة الشرقيين، التي يتم تخيلها كمسيرة عنيفة يتحول فيها الآخذون بمقاليد القوة إلى ضحايا. صحيح أن الفيلم يعرض فساد قادة حزب العمل الصباريم كتيمة مركزية، ولكنه ينمي لدى المشاهد تعاطفا معهم، بواسطة رفع "طهارتهم" في الماضي إلى درجة مثالية. الشخصيات الشرقية، في مقابل هذا، تمر بعملية شيطنة، وهي ترمز في الفيلم إلى فقدان بكارة الدولة. يمكن الزعم أن الشرقي يهدد في نهاية الأمر مكانة الطبقة العليا، وصورتها عن نفسها، أكثر مما يفعل الفلسطيني، حيث أنه بينما أمكن عرض سنوات المواجهة الإسرائيلية/ الفلسطينية بوصفها مواجهة حتمية بين شعبين، فإن أي اعتراف باستغلال الشرقيين/ يات وسلب الثقافة عنهم، في دولة يهودية تعتبر نفسها تحقق المساواة، كان يشكل وثيقة اتهام للمنظومة السياسية – الاجتماعية الإسرائيلية نفسها بوصفها هي من تقود القمع ضد كل شعوب/ أناس الشرق، سواء كانوا يهودا أو عرباً.

الأفلام الذاتية الأخرى تعرض النساء الشرقيات اللائي يجسدن، مثلما هو الحال في الأدب العبري، شخصيات الخادمات. فيلم "ألف قبلة صغيرة" (1982) على سبيل المثال، ينمي التعاطف مع الأرملة الإشكنازية البرجوازية، الأنيقة والمنضبطة، التي تواجه أزمة في حياتها. بواسطة عرض المشاكل المحكمة والـ"ملطفة" من ناحية بصرية، وبواسطة حركة كاميرا معقدة، وهو ما يجعل المشاهد يتعاطف مع العالم "المعقد" للأرملة. عالم الخادمة المادية الحقيرة، والتي تتدخل في كل شيء، والأمر الوحيد الذي يهمها هو أخذ الطعام والملابس من سيدتها، هو عالم ضيق: هي أيضا يتم عرضها وكأنه تنقصها الحساسية تجاه الوضع النفسي للأرملة. وأكثر من هذا: الشرقيون (غير الخادمة) يخلقون في "ألف قبلة صغيرة" "غياب البناء" (structuring absence: الفيلم، والذي تم تصويره في حي شرقي، يحافظ بشكل ثابت على جو معقم وواع بذاته من الجمال الفني، ويستغل المعمار الأصلي القديم للحي، ولكنه يمحو تقريبا أي أثر لسكانه.

من فيلم احتفال بالسنوكر

من "الاستشراق" إلى "البوريكاس"

ثمة أهمية خاصة لمناقشة التوتر الإشكنازي/ الشرقي في السينما الإسرائيلية، وذلك على ضوء حقيقة أن هذا التوتر يتسلل إلى أغلب أفلام "البوريكاس"، والتي خلقت جنسا بارزا في صناعة السينما الإسرائيلية. منذ نجاحها الأول، في السنوات المبكرة من الستينيات، أسهمت أفلام "البوريكاس" بشكل هام في تطور هذه الصناعة، وكان المبادرhن الأولhن هما مناحم جولان وإفرايم كيشون. مفهوم "البوريكاس" أصبح شائعا بين نقاد السينما حول عام 1972، وبشكل تدريجي سيطر على جموع الجمهور. يزعم بوعاز دافيدزون، وهو أحد المخرجين الرئيسيين لأفلام "البوريكاس" ("تشارلي ونصف"، 1974، "سنوكر"، 1975، و"عائلة تسنعاني"، 1976)، أنه هو من سك المصطلح. منذ 1967 وحتى 1977 سيطرت أفلام "البوريكاس" بشكل مطلق على صناعة السينما. في السنوات المتأخرة من السبعينيات مر هذا الجنس بعملية تحول، وتحول من سينما إثنية فولكلورية إلى ما يشبه البورنو الناعم، وبشكل خاص ما عرف فيما بعد بسلسلة أفلام "إسكيمو ليمون" لدافيدزون (مخرجا) وجولان –جلوبوس (منتجين)، وهي سلسلة تم إلغاؤها فيما بعد بوصفها "بوريكاس" – وهي في هذه الحالة كلمة مرادفة لـ"سيء".

ولكن أفلام "البوريكاس" ذات المواضيع الطائفية والتي تقف على رأسها المواجهة بين الغني و الفقير لم تختف تماما. عدد من صانعي الأفلام، مثل زئيف روفيح، واصلوا إنتاجها. وكانت هناك أيضا عروض متكررة للأفلام القديمة. أفلام الستينيات، مثل "صالح شبتاي" (1964) لإفرايم كيشون، "بورتونا" (1966) لجولان، "ميوشيه فينتلتور" (1966) لأوري زوهار، "999 عليزا مزراحي" (1967) لجولان، "حينا" (1968) لأوري زوهار و"ملكة الطريق" لجولان، تم تصنيفها في السبعينيات، بأثر رجعي، بوصفها أفلام "بوريكاس". في المقابل، فمجموعة أكثر هامشية من أفلام "البوريكاس"، والتي اهتمت بواقع الجيتو وعرضت الإشكناز كأبطال رئيسيين، أطلق عليها "بوريكاس للإشكناز"، أو أفلام "جفيلتا فيش". تضمنت أفلام هذه المجموعة "كوني لمال" ليسرائيل بيكير (1968) و"لوفو" لجولان (1970)، ولكن بشكل خاص تضمنت الأفلام الأكثر حداثة "كوني لمال في تل أبيب" (1976) ليوئيل زيلبرج، "لوفو في نيويورك" (1976) لدافيدزون، "هرشلا" (1977) لزيلبرج، "الزواج على طريقة تل أبيب" (1980) لزيلبرج، وحتى فيلم أفراهام هافنر "العمة كلارا" (1977). تم إنتاج وإخراج أفلام الـ"جفيلتا فيش"، على يد نفس الأشخاص الذين صنعوا أفلام "البوريكاس" للشرقيين.

منذ السنوات المبكرة من السبعينيات تحولت أفلام "البوريكاس" بدرجة كبيرة إلى مبادرة صناعية لمنتجين/ موزعين مثل مناحم جولان، سمحاه زبولوني وباروخ إيلاه (بدأ الأخيران طريقهما بتوزيع وبامتلاك دورالسينما). احتفى سينمائيو الـ"بوريكاس" ومنتجوه بهذا الجنس. دافع بوعاز دافيدزون، على سبيل المثال، على صفحات الجرائد، عن هذا الجنس ضد نقاد السينما وسينمائيو الأفلام "الجيدة": "أفلام البوريكاس هي جنس سينمائي. جنس لم يكن هناك مهرب منه. في هذه البلد، الجمهور المفترض الذي يأتي لرؤية لأفلام مكون من طبقة تأتي من جميع البلدان. كل شخص يأتي من ثقافة مختلفة، بتقاليد مختلفة، بلغة خاصة وبقيم تخصه... من أجل الوصول إلى كل هذا الجمهور.... عليك الوصول إلى عنصر ما مشترك، لأجل جذبه للسينما... الأفلام التي قدمتها اهتمت بهؤلاء الناس وتحدثت إلى هذا الجمهور. إنها أفلام محلية تماما، وإن كان بعضها قد نجح بشكل جيد للغاية بالخارج... "أفلام البوريكاس" هي أفلام تهتم بالفولكلور المحلي الخاص بنا بكل أطيافه. سوف يقولون، أن فيلما طائفيا يعني فيلما سيئا. لماذا هو سيء؟ لماذا يكون الانشغال بالطوائف وبالطائفية أمرا سيئا؟ نحن مكونون من إشكناز وإفرنج[6] وهؤلاء لا يحبون هؤلاء. نقطة. هذه حقيقة قائمة وليس لدينا ما نفعله حيال هذا."

الاعتبار الأساسي لقياس نجاح فيلم "بوريكاس"، من وجهة نظر صناع ومنتجين مثل دافيدزون، جولان، ويورام جلوبوس، هو شعبيته بين الجمهور، وليس إعجاب النقاد. نقاد سينمائيون مثل زئيف رف نوف (صحيفة دافار)، يوسف ساريك (هاآرتس)، شلومو شمجار (يديعوت أحرونوت)، أهرون دولاف وموشيه ناتان (معاريف وبمحانيه)، والذين كانوا بشكل عام يدعمون الأفلام "الجيدة"، وكذلك صناع الأفلام الشخصية نفسهم، مثل يجئال بورشتاين (في حوار في "كولنواع")، يهودا نئمان (في مقاله "درجة صفر في السينما" في "كولنواع") ونسيم ديان ("من البوريكاس وعودة إلى ثقافة الجيتو" في "كولنواع")، جميعهم هاجموا سواء أفلام "البوريكاس" نفسها أو "الدعم" الحكومي الممنوح لها. برغم أن مصطلح "دعم" كان يستعمل من حين لآخر، فإنه ينبغي الإشارة إلى أفلام "البوريكاس" لم يتم دعمها أبدا بواسطة أموال الدولة، تم منحها رسوما جزئية عل كل تذكرة تم شراؤها (وهي الرسوم الممنوحة لكل الأفلام الإسرائيلية التي تم تقديمها في تلك الفترة). ساعد جمهور المشاهدين، فعليا، على الدفع من أجل إنتاجها. (الدعم الحكومي الفعلي الوحيد، بالمفهوم الشائع، يتم منحه اليوم بواسطة الخزانة لتشجيع الأفلام الجيدة الأصلية). نقاد الـ mainstreamاستخدموا مصطلح "بوريكاس" كاسم مستقل (وفيما بعد كصفة) ذي دلالة سلبية، وفي نفس الوقت عبروا عن غضب جمالي وأخلاقي بلهجة تقييمية وتحكيمية، وأدانوا الأفلام "التجارية"، "الفجة"، "الرخيصة"، "الغبية"، "الشرقية"، " الشرقية اللفانتية"، "وحتى "ضد السينمائية". الميلودرامات والكوميديات في أفلام "البوريكاس" (الأغلبية الساحقة هي الكوميديا)، عانت من الاستخفاف والاستهانة بها أيضا بسبب "الشخصيات النمطية" التي تقدمها، والتي كان من "السهل جدا التماهي معها" تقريبا (نئمان)، بسبب "سطحيتها"، وبسبب "تهريجها الفج" و"الحبكات المتوقعة مسبقا" (ديان) والتي عرضت في "الكوميديا والميلودراما، صورا كلاسيكية للسينما" (نئمان) – كأن الشخصيات النمطية والحبكات المتوقعة مسبقا، الكوميديا والدراما، هي بالضرورة صفات سلبية.

منذ أن عرضت أفلام الـ"جفيلتا فيش"، مثل "لوفو في نيو يورك"، و"كوني لمال في تل أبيب" أضاف نسيم ديان لهجومه على أفلام "البوريكاس" نقدا مهما، مال لعزو الصفات السلبية في أفلام "البوريكاس" إلى الشرق (بشكل خاص للأفلام المصرية والتركية والإيرانية والهندية واليونانية). أشار ديان إلى جذور هذا "السوء" في الثقافات الهندو أوروبية. ولكنه بعد أن استطاع تمييز نص داخلي مهم في أفلام "البوريكاس" بثقافة شرق أوروبا، واصل ديان وهاجم هذه التقاليد "الدنيئة" من موقف نخبوي واضح: "الزعيق، التهريج الفج، الإيماءات المسرحية الثقيلة، الشخصيات الشعبية والحمقاء والحبكة الجوفاء والمتوقعة مسبقا – كل تلك هي صفات تقوي هذا الزعم، بشكل خاص عندما يتدرب الممثلون على الحديث بلكنة شرقية ثقيلة. نسينا أن صناع الأفلام هم مناحيم جولان، شتاينهردت، دافيدزون، زيلبرج[7] (انتبهوا للأسماء)، وكررنا واحتقرنا الجدار الشرقي. والآن يقف أمامنا هذا العام نموذجان إشكنازيان نقيان – لوفو وكوني لمال – المستندان بثقة وبحنين إلى ثقافة الجيتو اليهودي في شرق أوروبا، والحبكة في كليهما منسوجة وفق محتوى مسرحيات وودبيل بالييدشية، والتي يمكن رؤية مثلها أيضا هنا وهناك في إسرائيل. وعندئذ يتضح لي، بما يتجاوز أي شك، أن آباء السينما الإسرائيلية ليسوا نسل جوخة، وإنما أحفاد هرشلاه." هؤلاء الذين يمدوننا بالبوريكاس والحميندوس، "يضيف ديام، "يأكلون في بيوتهم سرا الجفيلتا فيش[8]".

ولكن، في رفضهم المعمم لهذا الجنس، تجاهل النقاد الاعتبارات الكرنفالية لأفلام "البوريكاس"، وأحياناً، تجاهلوا حتى نوعا انعكاسيا من المحاكاة الساخرة ومحاكاة الذات الساخرة، والتي كانت تسحر الجمهور بدرجة معينة. النص الداخلي لأفلام "البوريكاس" كان، أحيانا، أكثر تركيبا بكثير مما يشير النقد. هذا النص الداخلي يتضمن، مثلا، المسرحية الغنائية الهوليودية "قصة الضواحي"والتي أثرت بوضوح على "كازبلان" (جولان)، الميلوفارس الإيطالي "أغواها وتركها" لبييتروا جرمي الذي ألهم "بورتونا" (جولان)، وبشكل أكثر تعميما، فلقد تم تجاهل مسيرة "ملهاة أخطاء"، الهوية والارتباكات الكوميدية، التي تتضح في أفلام مثل "كتاب النساء" (1983)، "من يسرق اللص بريء" (1977) لزئيف روفيح، "كوني لمال في تل أبيب" و"المليونير المأزوم" (1978)، ليوئيل زيلبرج و"أريانا" (1971)، "مسلية منتصف الليل" (1978)، و"العمة من الأرجنتين" (1983) لجورج عوفديا. هذه التأثيرات منضفرة في الأفكار المعروفة، المستعارة من المسرح والسينما الييديشيين، مثلما هي مستعارة من السينما الشرق أوسطية. في السينما والمسرح الييدشيين أيضا لا نعثر على ميلودرامات عائلية تركز على دمار العالم الأسري الدافئ بواسطة عالم علماني جديد، مرتبط بشكل عام بفكرة "الأمركة"، وهي المسيرة المصحوبة برثاء شديد وبإشارات كبرى، وكلها في إطار بناء غائي يؤدي إلى "النهاية العظيمة"، يأتي فيها الزواج والتئام شمل العائلة لأجل الإشارة إلى تواصل الشعب اليهودي. لهذه البنى الرئيسية، الميلودرامية والكوميدية، تضاف أيضا الموتيفات الخفيفة الموضوعية الشائعة في السينما الشعبية المصرية، الإيرانية، التركية والهندية، مثل الأبطال الذين يأتون من الهامش الاجتماعي، التناقض بين الغني والفقير ونموذج انتصار الحب على العوائق الاجتماعية، التي يتم عرضها غالبا على خلفية من الجريمة أو الفولكلور "الساحر".

الارتباط بين أفلام "البوريكاس" والسينما الشرقية لا ينبع فقط من حقيقة أن إسرائيليين كثيرين هاجروا من بلدان تقوم بإنتاج هذه الأفلام، وإنما أيضا من العرض المتكرر لها في التليفزيون الإسرائيلي (وكذلك في التليفزيون الأردني، والذي يتم التقاط بثه في أغلب مناطق إسرائيل)، على سبيل المثال، الأفلام المصرية التي يتم عرضها كل سبت، والتي تستهدف بالضبط نفس الجمهور المعجب بأفلام "البوريكاس". في أفلام جورج عوفديا - والذي عمل في صناعة السينما العراقية والإيرانية – تسود موتيفة الغني/ الفقير، أما التوترات بين الشرقيين/ الإشكناز، فلا تتم الإشارة لها إلا بصعوبة (ولا تصبح موضوعاً واسعاً إلا في فيلمه "مسلية منتصف الليل") ولكن مع هذا فهي موجودة بشكل عام في الوعي الجمعي للمشاهدين.

فيلم دافيدزون "تشارلي ونصف" بدأ بمبادرة من مهاجرين إيرانيين، وجميعهم منتجو أفلام سابقون في إيران. كأصحاب معاهد سينما في إيران، فلقد بدأوا، مع مجيئهم إلى إسرائيل، في استيراد أفلام أجنبية. في مرحلة متأخرة أكثر قرروا إنتاج فيلم إسرائيلي يكون قائما على قصة كتبها لهم أديب – سيناريست إيراني. القصة كانت تتحدث عن بطل محلي من الحي، مرتبط بالعالم السفلي – ويصاحبه دائما طفل (هو ذلك "النصف" الوارد في العنوان) يحب بنت عائلة غنية. طولب سيناريست "تشارلي ونصف" ، إيلي تفور، بكتابة سيناريو قائم على خلاصة هذه الحبكة وجعله مناسبا للمجتمع الإسرائيلي. ولأن بنية الغني والفقير في إسرائيل توازي، في حد ذاتها، بنية الإشكناز والشرقيين، فلقد تمت صياغة شخصية تشارلي (يهودا بركان) كشرقي من حي فقير، بينما المرأة الغنية هي فاتنة إشكنازية (تقوم بدورها حيا كاتسير، ملكة جمال وموديل). موضوع التكيف مع "العالم الجديد" – وهو الشائع، كما هو معروف، في التقاليد الثقافية الييدشية– تم نقله هنا إلى السياق الجديد، سياق الأشكنزة، والتي تم فيها تشكيل الحي الشرقي الفقير كمواز للجيتو الشرق أوروبي، بينما "العالم الجديد" هو عالم المجتمع الإشكنازي الإسرائيلي. اللكنة الييدشية للمهاجر تتحول إلى لكنة شرقية، أما الييدش فيمر بالمجاز ويصبح هو اللغة السائدة – وهو الموتيف المتكرر في أفلام "بوريكاس" كثيرة. (في "كازابلان"، مثلا، يقول البطل الشرقي غاضبا للموظف الذي يتحدث الييدشية والموشك على تصفية الحي: " هنا لا أحد يتحدث الييديش!"

في بعض أفلام "البوريكاس" (بشكل خاص تلك التي تم إنتاجها في فترة انتفاضة حركة "الفهود السود" وأزمة حرب 1973)، فإن اندماج الشرقيين مع الإشكناز عن طريق الزواج لا يعود كافيا، وتحل الهجرة من البلد مكانه كحل. تم تقديم الولايات المتحدة كمصدر الأمل "الحقيقي". في "تشارلي ونصف"، مثلا، يتزوج تشارلي نفسه المرأة الغنية، أما "نصفـ"ه، الطفل ميكو، فيطير للولايات المتحدة مع أخته. الانفصال بين تشارلي وميكو هو حلو – مر وليس حزينا تماما، لأنه أناس الهامش الآن ينضمون للمركز، واحد عن طريق الزواج بإشكنازية والثاني عن طريق المستقبل الباهر في الولايات المتحدة. هذه الخدعة تلعب على مشاعر الكثيرين – خاصة بين جماعات الهامش الشرقية – والتي لا يمكنها العثور على فرصة مناسبة إلا في الولايات المتحدة، لا في إسرائيل. سفر الطفل إلى الولايات المتحدة يمثل الحلم الأكثر أهمية للشرقي – الهرب من الواقع المحلي القامع والطيران إلى مستقبل مضمون أكثر للجيل الجديد.

في البداية يتخيل دافيدزون – بل ويصور – نهاية مختلفة. في النهاية الأصلية، كان مقررا لميكو الصعود على الطائرة تاركا خلفه تشارلي اليائس. عندما يدخل تشارلي للسيارة لأجل مغادرة المطار، كان مقررا أن تظهر طائرة تحلق في الأفق. في نفس اللحظة كان مقررا أن تتردد صرخة الطفل: "تشارلي!" يلتفت تشارلي ويرى الطفل، الذي، هذا ما يتضح، لم يصعد إلى الطائرة. يركض الواحد منهما باتجاه الآخر وفي الخلفية تبارك موسيقى عاطفية اتحادهما المتجدد. ولكن دافيدزون تخلى في نهاية الأمر عن هذه النهاية لصالح نهاية سعيدة من نوع آخر، بسبب ملاحظات عامل النظافة في المعهد، من بين الأسباب الأخرى. يحكي دافيدزون أن عامل النظافة أتاه وقال له: "انظر، هذا الفيلم أعجبني، ولكن لماذا يعود الطفل؟ يمكنه السفر لأمريكا، وأن يصبح إنسانا... لماذا تعيده؟... أنا سعدت جدا أنه سافر، وفجأة وجدته يعود."

نتيجة لهذا، قام دافيدزون بتغيير نهاية الفيلم إلى "نهاية أكثر سعادة أيضا"، معناها عدم الذوبان في الكود الإشكنازي التقليدي وإنما في كود جديد بما يكفي. ملاحظة عامل النظافة تعكس شوقا جمعيا. بالنسبة للفرد الشرقي، فإن التقدم - بعد قمع الصراعات الجماعية – لا يعتبر إنجازا كبيرا إلا في "العالم الجديد". العودة لإسرائيل هي رمز للسير في المكان.

يمكن أن نضيف للنص الداخلي لـ"البوريكاس" توجهات شعبية أخرى، بشكل خاص تلك الخاصة بالمسرح الشعبي التجاري، والذي أصبح موضة بشكل خاص بين 1967 و1973، فترة الازدهار الاقتصادي. السنوات التي تلت حرب 1967 جاءت بدرجة معينة من الحركة الاقتصادية للشرقيين (والتي سوندت جزئيا بوجود قوة عمل عربية رخيصة من الضفة الغربية وغزة)، ولكنها أيضا قامت بتعميق الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين المجموعتين الطائفيتين اليهوديتين الرئيسيتين. في نفس الوقت، فالغياب النسبي لتهديد خارجي واضح – وهو التهديد الذي دائما ما كان يعمل، ويتم استغلاله، كعنصر يقوم بلم الشمل – مكن التوترات الداخلية من الصعود على السطح بقوة أشد. كانت هذه هي الفترة التي ظهر فيها تعبير سياسي قوي عن التشدد الشرقي، وبشكل خاص ظهور "الفهود السود"، وهي حركة احتجاجية قام بها الجيل الثاني من المهاجرين من البلدان العربية والإسلامية. عرفت أيضا تلك السنوات ازدهار المسرح الشعبي وأفلام "البوريكاس" التي عالجت تلك المواضيع الحيوية. مالت أفلام "البوريكاس" لاستخدام أسس مشابهة لتلك المستخدمة في المسرح التجاري، مثل الأنماط الإثنية واللهجات الطائفية الثقيلة: في مشاهد تذكرنا بالمسرحيات القصيرة في "المتحسس الشاحب" والقائمة بشكل أساسي على الدعابة اللفظية. وهكذا، فلشخصيات الربرتوار والأوضاع النمطية لأفلام "البوريكاس" ثمة صلة قرابة بتقاليد الكوميديا ديلارتا[9]، والتي بدأت كفن شعبي قبل أن يتم ترويضها وتتحول إلى منتج برجوازي. قام ممثلون شعبيون كثيرون من المسرح الشرقي (وبجانبهم مغنون مشهورون أيضا) بالتمثيل في أفلام "البوريكاس". تم بناء هذه الأفلام أحيانا كسلسلة من المسرحيات القصيرة الشعبية، مثلما هو الحال في "حينا" لأوري زوهار، أو في "شلجار" (1979) لآسي ديان، واستخدمت ثلاثية "المتحسس الشاحب". في حالة "أمي الجنرالة" (1979)، تمت معالجة العرض المسرحي الناجح بشكل كامل لكي يصبح فيلما سينمائياً. تم منح الأدوار الرئيسية لمؤدين معروفين (على سبيل المثال، يهودا بركان وشيشي كيشيت في الأدوار الذكورية، وإفرات لافي ويونا إليان في الأدوار الأنثوية)، أما الأدوار الثانوية فلقد تم منحها مرارا وتكرارا إلى نفس الأشخاص (على سبيل المثال، جاك كوهين وجابي عمراني في أدوار الشرقيين ويهودا عفروني ولي كانيج في أدوار الإشكناز).

كثير من أفلام "البوريكاس" عرضت أيضا أسسا من تقاليد السينرواية الشعبية – والتي كانت نساء كثيرات تقرأها – بإيقاعها السريع وزادحام الأحداث، وهما الأمران الممكنان بسبب معرفة الجمهور المتلقي بالمبادئ المتفق عليها. ومثلما في السينرواية، ففي أفلام "البوريكاس" أيضا، الحب ليس أبدا مسيرة تدريجية متطورة: وإنما يتفتح فجأة بشكل تلقائي، "من النظرة الأولى". وسائط سينمائية مثل موسيقى الخلفية المفسرة والاستخدام الواسع لحركات الجسد التي تعكس الأحاسيس بوضوح مبالغ فيه. أفلام "البوريكاس"، التي تستعمل النماذج العامة وليس الشخصيات المرسومة، لا تتوجه لعلم النفس، وبهذا المفهوم فهي لا تعمل على التغيرات النفسية الطفيفة في العالم الداخلي للشخصية. الكلوز أب لا يهدف للإشارة إلى حركة نفسية داخلية وإنما الكشف عن إشارات خارجية محسوسة، مثل الدموع أو الضحك المجلجل. إظهار المشاعر بواسطة التعبير والحركات يتاخم الكاريكاتير في أحيان متقاربة ، وأحيانا (بشكل خاص في أفلام روفيح) يتحول إلى محاكاة ساخرة. مثلما في السينرواية، ففي أفلام البوريكاس أيضا تمحو العلاقات المتبادلة بين الشخصيات الذاتية الجانب الشخصي وتوائم النموذج الاجتماعي.

أغلب أفلام "البوريكاس" تربط بعضا من صور الستوديو بالصور الخارجية في الأماكن الواقعية، وفي أحيان متقاربة يكون هذا في الأحياء الفقيرة، وبشكل خاص في جنوب تل أبيب وفي يافا. وبرغم هذا، فهي تميل لتقليص تشغيل الممثلين غير المحترفين واستخدام الخلفية إلى أقصى درجة، وهما ما يتم الحفاظ عليهما لسياق السوق، مثلما في "المقنع" (1973)، و"مسلية منتصف الليل". شوارع الحي تعمل كخلفية لأقبية السيارات مثلما في "الشرطي أزولاي" (1973). الصور الداخلية لبيوت الشخصيات الشرقية تؤكد على الفقر مثلما تؤكد على الروح الجماعية: أناس كثيرون يتكدسون في غرفة واحدة، والفوضى تسيطر على الصورة وعلى شريط الصوت على حد سواء. الألوان، مع هذا، ساخنة ومبتهجة، توائم صورة الشرقيين كأناس ساخنين، عائليين، ثائرين، جديرين بالثقة وممتلئين بالإحساس. صور بيوت الإشكناز الأغنياء، في المقابل، تلفت الانتباه إلى الفراغات الهائلة التي يسكنها أناس قلائل: المناخ هادئ، الألوان اكثر برودة واللعبة أكثر اتزاناً – وكل هذا يرمز لعالم بارد ومغترب، ينضم، في أحيان متقاربة إلى الشخصيات الإشكنازية السنوبية، الأنانية والمنافقة. هذه التشبيهات المتناقضة توائم، بالطبع، الأنماط السائدة في البلد عن الإشكناز والشرقيين.

تعرض أفلام "البوريكاس" حلا هروبيا للطبقة الهامشية ولمكانة العمال الشرقية، وفي أحيان أكثر تباعدا للبرجوازية الصغيرة الشرقية. هروبية أفلام "البوريكاس" تنبع من التوق الذي يكاد يكون يوتوبيا للتجسير على الفجوات في المجتمع الإسرائيلي، ومن خلال هذا يمكن تقديم صورة عن المساواة الطائفية الطبقية، التسامح، التعددية، والتضامن. ولأن الجمهور المتلقي هو الجمهور الشرقي، فالأفلام مشبعة بالضرورة بالتوترات الاجتماعية والطائفية. في عالم الخاضع، فإن السيد يكون له حضور (تاريخي) متواصل، يمكن الذوبان فيه أو الثورة عليه. أفلام "البوريكاس" بهذا المفهوم، تتميز بما أطلق عليه ميخائيل باختين الدعابة "الكرنفالية" carnivalesque، أناس الهامش يسخرون بعدم احترام من أشخاص يبدون في أعين الجميع الشرقي وكأنهم يمثلون الطبقة القامعة. نتيجة لهذا، فإن هذه الأفلام كثيرا ما تعرض أوضاعا يكون فيها البطل الشرقي – في الغالب يكون متوحشا فظا ولكنه صاحب قلب ذهبي (كازابلان"، "هيا نكسر مليونا")، أو شلوموئيل ذا حس الدعابة الذي يسخر من نفسه ويبتهج بالحياة ("اليوم فقط"، "خمسمائة ألف أسود" – يسيء، بواسطة أصدقائه، معاملة العدو الإشكنازي. الشرقي يدبر مكيدة للإشكنازي، سواء كان فردا (المفتش المديني عديم حس الدعابة والطبيب في "فقط اليوم") أو مؤسسة (البنك الإسرائيلي في "هيا نكسر مليونا"، والشرطة في "أرابينكا"، و"الشرطي أزولاي") أو يكون، بشكل غير مباشر أكثر، المنظومة في كليتها، مثلما يحدث بواسطة أشكنزة اسم العائلة بهدف النجاح في العمل (" خمس مائة ألف أسود")

في فيلم زئيف روفيح، "فقط اليوم"، على سبيل المثال، يكاد ساسون "زئيف روفيح"، وهو بائع طماطم من سوق محانيه يهودا، أن تغتصبه امرأة إشكنازية من حي رحافيا البرجوازي. يستقبل محاولاتها لمغازلته بسعادة ويصرخ "فقط اليوم!" – وهو نداء يعني أن البضاعة رخيصة فقط اليوم، ويأخذ معنى أخر، معنى الفرصة الاجتماعية/ الجنسية غير المتوقعة. وهكذا يقوم بإشباع جوعين، جوع للطماطم وجوع للجنس. عندما يعود زوج المرأة الطبيب – في ساعة غير مريحة لهما – للغداء، تقوم بإخفاء ساسون، والذي نرى الأحداث من خلاله ونتماهى مع رؤيته. في فعل واحد، يمكر رجل الهامش برجل المركز الاجتماعي عدة مرات: يحظى بزبونة متحمسة للطماطم التي يبيعها، تحبه المرأة التي يخدمها ( وهي ممثلة للنخبة الاجتماعية التي لا يقيم معها البائع في السوق علاقة اجتماعية) ويحظى من زوجها بعلاج طبي مجاني من أجل صديقه المريض (جاك كوهين). في هذا القلب المؤقت لمنظومة السيطرة في المجتمع، يحدث تسييس كوميدي للإيروتيكي، عندما يتم الحصول على الجنسانية الأوديبية – بمفهوم أن الطاقة الشهوانية تتوجه ضد الممثل الرمزي لطبقة اجتماعية أعلى - سويا مع الارتياح المالي والتضامن الاجتماعي، كل هذا رغما عن أنف الإشكنازي، والذي برغم أنه يتم تقديمه هنا بوصفه فردا غير مؤذي، إلا أنه مع هذا مرتبط بالمؤسسة من خلال وضعه الاجتماعي. رجل الهامش، العاجز سياسيا، ينجح، ولا يفتقد الأمر محاكاة ساخرة للذات، في الانتصار على السرير، بـ"المنطق" الكرنفالي لعملية "القلب"، ينجح في الاستحواذ على القوة والقدرة الرمزيين. مشاهدة هذه الأفلام تتحول، إن كان الحال هكذا، إلى علاج يضحك أثناءه مهمشو المجتمع ليس فقط على ضعفهم، وإنما على محدودية قوة المركز – يضحكون ضحكا جمعيا محرراً.

في أغلب أفلام "البوريكاس" يتم حل جميع التوترات والمواجهات الطائفية/ طبقية في نهاية سعيدة تتحقق فيها المساواة والوحدة بواسطة توحيد المحبين المتورطين. التكامل الاجتماعي يتم تخيله بواسطة الإيروتيكا، والزواج، الذي يقوم "بالتجسير على الفجوات"، يبارك هذا التناغم الأسري، الذي يتم التعبير عنه جيدا في أغنية "كازابلان"، "كلنا يهود"، أو في أغنية فيلم "سلومونيكو" (1973)، "البركة لهذا الشعب". في بعض من أفلام البوريكاس، فإن الإحساس بالقومية يسمو transcends، بشكل أسطوري ، على التمييز الطائفي والطبقي. وهكذا، فأغلب أفلام "البوريكاس" تعبر عن المنهج الحاكم في التحليلات الاجتماعية بإسرائيل، ووفقها فالفروق الاجتماعية والتمايزات الطبقية سوف يتم تصفيتها بواسطة الجيل الشاب، وبشكل خاص عن طريق الزواج، مثلما على سبيل المثال، في زواج أولاد وكلاء التأمين الأغنياء في "كاتس وكارسو" (1971)، أو في الزواج بين ابنة الحمال اليافاوي وابن الطبيب الذي يعيش في شمال تل أبيب في "سلومونيكو".

في "كاتس وكارسو" يتحول الأثرياء الجدد الشرقيون القلائل الذين أثروا بعد 1967 إلى ممثلين لعموم الشرقيين. ابنا كارسو يتزوجان بنتي كاتس، والجميع صباريم مع الاختلافات الثقافية الثانوية بينهم (على نقيض آبائهم). مع هذا، فهناك سعادة رمزية في الاستمرارية الشرقية، بواسطة الأبناء، والذين سوف يقومون بتوريث الاسم الشرقي الآن. كل ما يتبقى لهم في النهاية هو الاعتزاز الرمزي بأسمائهم، بينما هم يذوبون فعليا في الكود السلطوي للصباريم الإشكناز. يتم قبول الشرقيين في نهاية الأمر بداخل الإشكناز، الذين يتعلمون الاعتراف بمميزاتهم، هم يتأشكزون، ويتم تقليص تراثهم التاريخي المعقد إلى درجة الفولكلور الساحر. في"كازابلان" القائم على مسرحية يجئال موسينزون التي تعود للخمسينيات، وتحولت إلى مسرحية غنائية في الستينيات، يكشف بطل الفيلم (يهورام جاؤون) عن كونه جديرا بحب الصبارية، البولندية (إفرات لافي)، وأنه برغم كل شيء فهو ليس "حيوان أسود[10]"، على العكس، فهو رجل مستقيم "محترم"، كما يشهد عليه ابن طائفته من الحي (أرييه إلياس). ببطء يكشف الفيلم أمامنا عن قائد العصابة الساحر، كازابلان، ويكشف عن أنه بطل حرب 1967 الذي عرض نفسه للخطر من أجل قائده، ابن الطبقة العليا. عندما تتعرف الصبارية/ البولندية وسائر عائلتها على طيبة قلبه ووطنيته، يصبح ارتقاؤه في السلم الاجتماعي شيئا شرعيا، مثله مثل الاحتفاء المأمول بالتئام/ تمازج الزوجين.

بعد ثورة "الفهود السود"، تم السماح للشرقي بإطلاق احتجاجات حذرة، مثلما في غضب سلومونيكو على الرأي المسبق ضد الشرقيين وعلى الحصص المخصصة للمهاجرين الجدد الإشكناز بدلا من أن يتم منحها للمهاجرين الشرقيين الفقراء الذين جاءوا منذ ثلاثين عاما. (في عصر الليكود، فإن الشرقي أصبح يظهر اعتزازا معينا برفضه لأشكزة اسم عائلته من أجل الصعود في السلم الاجتماعي، مثلما في "شرجا الصغير"، لزئيف روفيح، وكذلك بتفضيله، على نقيض تاريخ أفلام "البوريكاس"، فتاة سفاردية من كريات شمونه، على الإشكنازية الغنية من تل أبيب). مع هذا، فإن الاحتجاج في أفلام مثل "سلومونيكو" و"كازابلان"، يميل لأن يتم التعبير عنه بشكل سطحي ليس إلا، وفي النهاية، فالنقد، وهو غير سلس بالأصل، يصبح غير ذي صلة بسبب أيدولوجية التكامل – كأنما يكفي الزواج والأشكزة لأجل تغيير منظومة السلطة السياسية والاقتصادية. بالضبط مثلما أن السياسيين الإسرائيليين وعلماء المجتمع يباركون الزواج بين الطوائف (وهو يبلغ اليوم حوالي 20%) كدليل على أن المشكلة الطائفية في طريقها للاختفاء، فكذلك أيضا الـ"هابي إند" بأفلام "البوريكاس" يشجع الحل "الأسطوري" والذي يدعم، في الواقع، الوضع الراهن. حيث في الواقع، فإن عدم المساواة في الجيل الثاني أضخم مما كان مما كانت في الجيل الأول، فنفس العملية التي خلقت تقسيم العمل الطائفي في السنوات المبكرة من الخمسينيات والستينيات هي التي وضعت المنظومات التي تقوم بإعادة إنتاج تقسيم العمل الطائفي وعدم المساواة.

برغم هذه التوجهات العامة، يمكننا التأكيد أن أفلام "البوريكاس" لم يتم صبها من عجينة واحدة. بينما أفلام زئيف روفيح تؤكد على المحاكاة الساخرة وعلى ألعاب "القلب" الكرنفالية، وأفلام جورج عوفديا تخلق مناخا شبيها بـ"ألف ليلة وليلة" إسرائيلية، فيمكن القول عن صناع أفلام أخرى، مثل إفرايم كيشون، وبشكل خاص في كوميدياته مثل "صالح شبتاي" و"أربينكا"، ومناحم جولان، بشكل خاص في ميلودراماته مثل "بورتونا" و"ملكة الطريق"، يمكن القول عنهم بثقة شديدة جدا أنهم "يمشرقون الشرق". بكلمات أخرى، فصناع الأفلام لا يميلون فقط لتشكيل الشرق كما يتخيلونه، وإنما أيضا لاستنساخ تفسير السلطة لـ"التخلف" الشرقي. أغلب أفلام "البوريكاس" قام بصنعها سينمائيون إشكناز، مثل مناحم جولان، إفرايم كيشون، يوئيل زيلبرج، بيريد شتاينهردت وبوعاز دافيدزون (عوفديا وروفيح هما استثناء القاعدة). عدم التوازن الطائفي هو قوي بشكل خاص في أفلام "البوريكاس" التي تعود للستينيات، وكانت فيها الغالبية الساحقة من المنتجين، الكتاب، المخرجين، الممثلين والموسيقيين، إشكنازا. أنتج جولان "صالح شبتاي" على سبيل المثال، وكيشون كتب السيناريو وأخرجه، والدور الرئيسي قام به توفول وجسدت إستر جرينبرج دور زوجة صالح. تم منح الأدوار الرئيسية في فيلم جولان "بورتونا" لأهوفا جورن ولجيلا إلماجور، أما دور الأب فقام به الممثل الفرنسي بيير برسار. في "إلدورادو" (1963) وفي "ملكة الطريق"، كانت جيلا إلماجور هي التي جسدت الدور النسائي الرئيسي للشرقية. أدوار العرب،في المقابل، تم منحها في هذه الفترة للممثلين الشرقيين. هكذا نجد ما يشبه إعادة الموضعة displacement الإثنية في منحدر السلم الثقافي، تغيير يتم فيه سلب العرب والشرقيين على حد سواء حقهم في تمثيل ذاتهم. في السينما، مثلما هو الحال في مجالات أخرى، كانت المؤسسة هي التي أعطت لنفسها الحق في الحديث باسم الشرقيين. ومثل هؤلاء الباحثين الاستعماريين، والذين كانوا يؤمنون بأنهم فقط من يمكنهم الحديث، كأنهم كانوا "في مكان الآباء"، in loco parentis ، باسم "البدائيين"، و"الأهالي"، في المجتمعات التي كانوا يدرسونها، فما فعله السياسيون الإشكناز، علماء المجتمع، الأدباء والسينمائيون هو أنهم أعطوا لنفسهم الحق في الحديث "باسم" الشرقيين.

كانت لهذه الأفلام انعكاساتها على الصورة العامة للشرقيين، فيما يتجاوز كثيرا إطارها السينمائي. تعبير "صالح شبتاي"، على سبيل المثال، أصبح جزءا من اللغة اليومية وأصبح طريقة للإشارة إلى المهاجر الشرقي منذ الخمسينيات والذي يمر بفترة المعبرة - من أجل إيقاظ في نهاية الأمور السمات "الجوهرية" المتصلة بالشرقيـ/ـة الموجود/ة. كان هناك ميل لاستقبال الشخصيات الشرقية وسماتها كـ"حقائق". تسللت الأيديولوجيا السائدة بواسطة هذه الأفلام حتى إلى صفوف الشرقيين/يات أنفسهم/ن، وكان كثيرون/ات منهم/ن قد استوعبوا/ن على مدار الزمن الآراء المسبقة المتجسدة على الشاشة – على سبيل المثال، بأن الإشكناز يتفوقون عليهم فعلا من الناحية الثقافية ولذا فهم يستحقون وضعهم الثقافي الأكثر ارتفاعاً. بهذه الطريقة، فليس فقط أن "الغرب" قد أصبح هو الذي يقوم بتمثيل "الشرق"، وإنما أيضا، في لعبة الانعكاسات الاستعمارية الكلاسيكية، أصبح الشرق يرى نفسه من خلال المرآة المشوهة للغرب.

كل هذا جاء لأجل التقليل من شأن الأهمية الإيجابية لأفلام تهتم بالشرقيين – بشكل خاص في سياق الستينيات، بينما مالت المنظومة السياسية لاعتبار الشرقيين غير موجودين، أو، في أفضل الاحتمالات، لاعتبارهم موجودين في فضاء خاو. في المدرسة، على سبيل المثال، لم يتم تدريس تاريخ وأدب يهود البلدان العربية والإسلامية إلا بصعوبة. كان الإعلام المطبوع ومحطات الراديو الحكومية تقوم بدعم الانطباع بغياب الشرقيين والاحتياج الضمني لـ"إعادة دمجهم" واستيعابهم في الكود الإشكنازي. حتى اليوم فإن الموسيقى الشرقية – برغم شعبيتها الشديدة بين الأغلبية الشرقية (وحتى بين العرب الفلسطينيين) – معزولة في جيتو خاص بها، مصنفة باعتبارها "فولكلورا"، على نقيض الموسيقى "العالمية". شبكات البث لا تخصص إلا عُشر ساعات الموسيقى التي بحوزتها للموسيقى الشرقية.

في هذا السياق، فإن الحماس الشرقي لأي نوع من التمثيل السينمائي – حتى إن لم يكن الشرقيون هم من يمثلون ذاتهم – مفهوم جدا. وأصبح هو العنصر المركزي في نجاح أفلام "البوريكاس" المبكرة. يفترض الكثيرون أن الكوميديات فقط المقدمة عن هذا الموضوع هي ما كانت شعبية، ولكن في حقيقة الأمر، فحتى قبل "صالح شبتاي"، الفيلم الدرامي لجولان، كان "إلدورادو" مربحا للغاية (265,000 ليرة إسرائيلية و- 618,000 مشاهداً). عجل نجاح هذه الأفلام من التوجه الصناعي لصياغة الشرقيين في سياق التوترات الطائفية، أما النقاد، كما رأينا، فلقد احتقروا أفلاما باعتبارها "عديمة الذوق"، و"فجة". لا يفاجئنا أن جمهور أفلام "البوريكاس" قد تضاءل في السنوات المتأخرة من السبعينيات، مع صعود الليكود للسلطة. الليكود، برغم أنه لم يقم بتحسين الوضع الحقيقي للشرقيين، فلقد قام بعدة إيماءات رمزية باتجاه الثقافة الشرقية. كان لانتصار الليكود تأثير نفسي جمعي هام، لأنه نجح في طرد حزب العمل من السلطة، وكان في السلطة منذ قيام الدولة ( وبشكل جنيني أيضا في فترة الاستيطان)، واعتبرته الأغلبية الشرقية نظاما نخبويا يتخذ سياسة تمييزية ويظهر تعاليا إزاء الشرقيين. في المنعطف التاريخي بنهاية السبعينيات، فإن الليكود، ولتكن عيوبه على قدر ما تكون، قد أعطى شرعية معينة للتعبير الثقافي الشرقي، وهو الأمر الذي كانت نتيجته تضاؤل الاحتياج للإشباع النفسي الذي قدمته أفلام "البوريكاس" الهروبية والمثالية.

برغم أن أفلام التوثيق والدراما التوثيقة التي أنتجها صندوق هاكيرين هاكييمت بإسرائيل عرضت الشخصيات الشرقية بشكل تنميطي، كنماذج للتكيف على الحداثة، فقد كانت هناك أبعاد هامة لقرار السينما التجارية في الستينيات بالاستعانة بشخصيات رئيسية شرقية. أولا، شرعية ظهور الشرقيين على الشاشة وانتشار هذه الشخصية في دور السينما الرئيسية المهمة، بشكل خاص في دولة شابة ذات صناعة صغيرة، يصبح فيها كل عرض لفيلم في دور السينما دافعا للاحتفال الوطني، ولذا فتتم محاكمته وفق معايير أقل رصانة، بشكل خاص قبل السبعينيات. الأمر الثاني، إدراج الأبطال الشرقيين كان يرمز لاعتراف صناعة السينما بالقوة الاقتصادية للشرقيين كأغلبية سكان إسرائيل، وطاقة مشاهدي السينما بينهم هي أكثر ضخامة بسبب أعمارهم المتوسطة الشابة. هذه القوة الاقتصادية، ولتكن محدوديتها كما تكون، هي مهمة في دولة يقوم فيها وزير التجارة والصناعة بتشجيع صناعة صناعة السينما بواسطة فرض الضرائب على التذاكر المبيعة. الأمر الثالث، معنى الاعتراف بهذا الواقع الاقتصادي هو أن صناع الأفلام قد اضطروا للقيام بتنازلات معينة للجمهور الشرقي، ليس فقط بواسطة صناعة فيلم عن الشرقيين وإنما أيضا عن طريق إظهار تعاطف معين مع مشاكلهم. وفي عدة حالات – بشكل خاص في أفلام فرايم كيشون – فإن هذا التعاطف يأتي مصحوبا بنقد للمؤسسة. من هذه النواحي كانت الأفلام الروائية مختلفة عن أفلام الدراما التوثيقية المؤسسية، مثل فيلم باروخ دينار وليوبولد (آرييه) لهولا (مدينة الخيام). دينار بوصفه منتجا وسيناريستا ولهولا بوصفه مخرجا قدما الفيلم لـ"كيرين هايسود"[11] – والذي اكتملت رؤيته الإنسانية الوصائية للشرقيين بصورة مثالية عن المهاجرين الإشكناز والمؤسسة. "الحكمة" الأخلاقية في القصة، كما يتم حكيها بأسلوب الواقعية الاشتراكية، هو أنه يجب تقدير السخاء المؤسسي في مساعدته لـ"المصهر"[12]، حظى الشرقيون بمديح بسبب هجرتهم الناجحة في المرتبة وحظى الإشكناز بالمديح بسبب التسامح الذي أظهروه تجاخ إخوانهم، الشرقيين الأقل تطوراً.

برغم الميل الفطري للجمهور الشرقي لصناعة السينما الشخصية، فحتى الأفلام التجارية، التي لا تطلبها المؤسسات، "قامت بمشرقة الشرق"، ورددت الشروح السائدة لـ"تخلف" الشرقيين. سواء كان هذا في الإطار العام للكوميديا، مثلما في "صالح شبتاي"، أو في إطار الميلودراما مثلما في "بورتونا"، فإن هذه الشروح قد تم تقديمها بدرجة كبيرة من وجهة نظر "إنسانية"، تعتمد على روح الشفقة الوصائية، وهكذا خلقت ما يمكن تسميته بالخداع البصري في المواقف الموالية للشرقيين. في أفلام كيشون بشكل خاص، فإن الساتورا المعادية للمؤسسة هي مضللة وتدعم هذا الخداع. التحليل النصي الدقيق لكوميديا "صالح شبتاي" وميلودراما "بورتونا"، وهما فيلمان رسخا سويا أسس تمثيل الشرق، سوف يكشف عن المنظومة المبدئية من الصور الأسلوبية التي تم تفعيلها ومعالجتها مرارا وتكرارا في الأفلام التي جاءت بعد ذلك.



[1] البوريكاس هو نوع من الفطائر البلغارية الشهيرة في إسرائيل، وتم إطلاق الاسم على نوع معين من الأفلام الشعبية تم إنتاجه في إسرائيل الستينيات والسبعينات واهتم بتجسيد شخصيات من اليهود الشرقيين بالأساس.

[2] Levant تعني أصلا بلاد الشام، ولكن تطور معناها في الخطاب الاستشراقي ليشير إلى الشرق بشكل عام.

[3] أنور عبد الملك، عالم الاجتماع والمفكر المصري الكبير، وأول من لفت النظر إلى أزمة الاستشراق في مقاله "الاستشراق في أزمة"، وهي واحدة من المراجع الهامة التي اعتمد عليها إدوارد سعيد في كتابه عن الاستشراق.

[4] يدعوها الصحفي "أرض إسرائيل سابقا" لأن مصطلح "أرض إسرائيل" يشير في العبرية الحديثة إلى فلسطين قبل إقامة دولة إسرائيل، أما بعدها فهي تسمى "إسرائيل".

[5] الصباريم هم اليهود المولودون في إسرائيل، والإشكناز هم اليهود الآتون من بلدان غربية.

[6] تعبير أطلق على المهاجرين اليهود القادمين من شمال أفريقيا، لتأثرهم بالثقافة الفرنسية. بالعبرية פרענקים، فرانكيم.

[7] الأسماء إشكنازية بشكل واضح.

[8] الجفيلتا فيش هي نوع من السمك المحشي، وهي أكلة يأكلها اليهود الغربيون، أما البوريكاس والحميندوس فيشتهر بها اليهود الشرقيون. اسم جوخة منتشر بين اليهود الشرقيين والعكس منه اسم هرشلاه.

[9] نوع من الكوميديا ظهر في إيطاليا بعصر النهضة، بالقرنين السادس والسابع عشر. كانت حبكته تدور حول الحيل التي يقوم بها المحبون للزواج رغما عن آبائهم.

[10] شفارتسا حاياه، تعبير بالييدشيه يعني "الحيوان الأسود"، ويطلق على اليهود الشرقيين.

[11] المؤسسة المالية الرئيسية للهستدروت الصهيوني.

[12] المصهر عبارة توصف بها إسرائيل، حيث تقوم، وفقها، بدمج الجنسيات القادمة إليها من جميع دول العالم، وبالتحديد تصهر الشرقيين والغربيين في بوتقة واحدة.