Friday 26 June 2009

شمسك يا إسرائيل قطعة خراء



أهارون شبتاي

ترجمة: نائل الطوخي

يا شمس يا شمسׁ


يا شمس يا شمس


كيف تضيئي

وفي البلد ظلام؟

كيف لا تدخل رؤوسنا

نتفة نور

وليس من شعاع

في غرف النوم

وكيف يتم سكب ألقك مجاناً

على جنود ولصوص

الأراضي

في بيدو، بودروس، بلعين (1)

كيف تنير

مصابيحك الطريق

لضاربي العجائز

ومسممي الآبار

يا شمس يا شمس

على ما يبدو لستِ شمساً

وإنما كتلة خراء


_______________________

(1) أسماء قرى في الضفة الغربية يلتهمها الجدار العازل


_______________________________________________________


الفيديو بأعلى الصفحة هو حوار أجراه الصحفي دوف ألبون مع الشاعر أهارون شبتاي. يبدأ الحوار بمشاهد للشاعر يتجول على طول الجدار العازل، وهو يقرأ قصيدته "يا شمس يا شمس"، ثم يعلو صوت أغنية فلسطينية، ويظهر ألبون الذي يسأل شبتاي عن سبب رؤيته للشمس ككتلة خراء. الشاعر يجيبه أن المستوطنات موجودة حولهم في كل مكان، والجدار العازل يجسد المخاوف الإسرائيلية الهائلة من الآخر والتعدد. يتساءل: "لماذا لا نكون جزءا من العالم. لماذا نحتاج المستوطنات"، وعندما يسأله المحاور عن الصدمة في شعره يقول : " اعتقد ان هذه الفترة هي صادمة بما يكفي. انت ترى هذا الجدار وتقرأ في الجريدة ان طفلا يموت هناك وطفلة تموت هنا. المشكلة ربما أن الناس لا يشعرون بالصدمة. هم معتادون. ولكنني لا اعتقد ان قصائدي صادمة اكثر من الواقع نفسه." بعدها يتم إجراء حوارات قصيرة مع مجموعة القراء الإسرائيليين الذين يضحك أغلبهم على بيت من أبيات الشاعر: "في سن الستين، أصبح قضيبي أكثر طولاً"، ليدور بعدها حوار بين الشاعر والمحاور حول الألفاظ الفجة والحسية في شعره، يعلن شبتاي أنه يتجاهل ردود الأفعال البرجوازية المتحفظة عليها لأن كتابته من النوع الذي يزلزل الناس، وطالما كنت فظا ففي هذا درجة من المخاطرة والقوة والحرية، وإذا لم ترد التعري وزلزلة الناس فأنت عندئذ موظف، كما يقول. يظهر شبتاي وحيدا في المشهد ويقرأ بيتا من قصيدة له: "في مطار بن جوريون. الله الله الله الله الله الله"، يسأله المحاور عن التجاور بين الشعري والسياسي في شعره فيقول أن الاثنين مرتبطان. شكسبير كان يكتب سياسة على الدوام وكذلك الكوميديا الالهية يرسل فيها دانتي "شارونيي" و"موفازيي" عصره إلى الجحيم. ثم يشير إلى الجمود الإسرائيلي، عدم القدرة على التغير وترك الأشياء، ويختتم الحوار بجملة دالة: "كل العالم يتغير. فقط في هذا المكان ليس هناك جديد".

________________________________________


رجل الإنصات

على الكنبة البيضاء

دخنا السجائر في ظلام الهيماليا

ببطء بدأتْ هي الحديث:

ينبغي عليك أن تكون رجل الإنصات

قالت هذا

وأنا رأيته

في ظلال ناصية الميكروفون

لابسا ملابس من القش

يسترق النظر مثل رجل البوشمان

في عين المحول الكهربائي

وماذا يريد رجل الإنصات؟

ماذا يريد رجل الإنصات؟

نظرتُ إلى العين الحمراء

لرجل الإنصات

هل يريد أن ينصت، قلتُ

لا، أجابت، لا

وشددت على كل كلمة:

رجل الإنصات يريد حوارا

ولماذا؟ تساءلتْ

وانتظرت أنا حتى قالت:

لأن رجل الإنصات يريد أن يكون

رجل الحوار. وكررت:

فرجل الإنصات يريد

أن يكون رجل الحوار

وعلى الفور وافقت

وأي حوار؟ تساءلتْ

ولم أجب

حوار شرقي؟

حوار غربي، سقراطي؟

تساءلتْ

ترددتُ، حوار شرقي

لا، قالت، حوار سقراطي

نعم، قلتُ

هذا بالتحديد ما أردته

حوار سقراطي

أو أنني لم أكن واثقا


وبعد سنتين

في الليلة الأخيرة، مارس، في مونتوك

في الجوينت الأخير

عندما تناقشنا (إذا نزعنا

الموسيقى الهادئة

من الشاشة المترصدة

ونظرنا بهدوء للبحر)

قالت لي بحزن

أنا أرى أنك نسيت ما تعلمته

عن رجل الإنصات

وأن أعلمك من البداية

فهذا شيء لم تعد لي طاقة به

لماذا؟ قلت، أنا مستعد للدراسة

وهي قالت وقالت

وكررت كل ما قالته

ثم كررت

وأنا سكت، وهي هدأت

وأصبحت أنا رجل الإنصات

الذي لن يستمع لها مرة ثانية


حداد

المرأة الأجمل

والأفضل


سوف أنساها في خمس دقائق


لأن عيني منغرزتان

فيما فوق الصدر


كيلوتات الساتان البيضاء

البنطلوتات التي أعطيتها

للخياطة الأوكرانية، من أجل تقصيرها

وسائر ملابسها

أدخلتها في ستة

أكياس زبالة لامعة

لتوزيعها على المحتاجين


لن أعيش على

فتات فطائر الشوكولاتة

في الحقائب البلاستيكية


أهلا بكم

أيتها الأرغفة الطازجة

أيتها الأثداء الجديدة

_____________________________________________________

أهارون شبتاي: واحد من أهم الشعراء الإسرائيليين المعاصرين. ولد عام 1939. أثار ضجة رهيبة ضده في التسعينات لنشره ديواناً بعنوان "زيفا" يصف فيه تفاصيل علاقته الجنسية بالمحررة "زيفا بوستك"، يكتب في السنوات الأخيرة الشعر السياسي، وتنشغل قصائده بالجدار العازل وبمحاولات التعدي على القرى العربية مثل بلعين وغيرها. ترجم إلى العبرية عددا من الأعمال الكلاسيكية مثل أعمال أوربيدوس وأريستوفانس وسوفوكليس وأيسخوليس، (من اليونانية)، وأعمال بريخت (من الألمانية)، ويقوم اليوم بتدريس الأدب العبري بجامعة تل أبيب. شبتاي كان زوجا للنشطة الراحلة تانيا راينهارت والتي كانت تدعو لمقاطعة الجامعات الإسرائيلية، ورثاها ناعوم تشومسكي عندما ماتت عام 2007. وكانت قبلها تشرب الشمبانيا مع زوجها شبتاي احتفالا بانتصارات حزب الله، كما حكت عنهما الصحفية اليسارية عاميرا هاس. القصيدة الأخيرة مكتوبة بعد رحيل تانيا.

Friday 19 June 2009

فيضان البحر

أ. ب. يهوشواع

ترجمة: نائل الطوخي

منذ أسبوعين ثارت عاصفة في الجزر الجنوبية ، واشتدت يوما بعد يوم. فجأة اكتسى كل شيء بالضباب، وامتدت السحب المشبعة بالمياه على الأفق كأكوام من القطن القذر. ولكن إعصار حبات البرد الصافية والباردة كنس الصحراء وجلد مطولا مبنى السجن الكئيب. هل هو مستغرب إذن أنه في هذه الليلة، أول المساء، وبينما العاصفة تثور بكامل قوتها، أرسل فجأة كبير السجانين السجان المناوب إلى غرفتي لإيقاظي من نومي القلق ولدعوتي إلى المكتب لتلقي أوامر مسائية مفاجئة؟

لا يزال حتى الآن يتردد صدى كلام المبعوث في الظلام السائد بين الجدران، وأنا، مثلما أنا، أنا فقط، أزحف عارياً خارجا من البطاطين الصوفية الغليظة، أما سائر شركائي في أحلامي فيموتون بين ثنايا الملاءات. مرتعشا من البرد أضع بالطو الخدمة المبقع على جسدي، وبينما تركض أصابعي على صف الأزرار الطويل، أُميل رأسي للاستماع إلى العاصفة. أنا جديد في السجن ولازلت مناوبا في الخدمة، ولذا فأنا منتبه لكل ما حولي وأسعى بشدة التفوق في عملي.

لولا أحلامي التي تربك عقلي ليلاً، كنت سأتمكن من اعتبار نفسي سجانا مثالياً. قبل شهر فقط أنهيت فرقة السجانين المتعبة، هناك تعلمت كيف يمكنني إطلاق النار من المدفع وإصابة الهدف، والقفز من على شجرات عالية، والدخول في معارك وجها لوجه، وفهم المكتوب بشكل مقتضب في دستور اللوائح. هل لأنهم رأوني صموتاً، فلقد اعتقدوا أنني أكبح غرائزي، وبالتالي أرسلوني للخدمة في هذا السجن الصغير، في الجزيرة البعيدة؟ صحيح أن المساجين هنا هم مجرمون حقيقيون، قتلة تمت رحمتهم من حبل المشنقة وحكم عليهم بالسجن المؤبد، ولكنهم قليلون، وهم عجائز جداً.

أتحسس في الظلام بحثا عن حذائي. لا أوقد شمعة أو مصباحاً، حريص أنا على ثروات المملكة. هل هناك لائحة تتيح للسجان التأملات أثناء أداءه وظيفته. لا أعرف. وإلى أن أهتم بكل بند في كتاب اللوائح، وأدرس إن كان الأمر موثقاً أم لا، فيمكنني التمتع بالأمور المشتبه فيها. ولكنني أعرف أنه حتى لو سكتّ – فسوف يفضحني وجهي، على الأقل أمام كبير السجانين هذا، والذي أخطو إليه الآن فخورا وقلبي يدق، لابساً كما يقتضي الحال، في عز الليل، أمر بممر الزنازين، يضيئه ضوء دائم وكاب، قادم من المصباح المعلق على الجدار، طول الليل وعلى عمق الزنازين من جانبيها، أصعد ثلاث درجات إلى المكتب، أقف مردداً التحية العسكرية وفق القواعد.

يجلس على طاولة الكتابة، يظل مستيقظا على طول ساعات الليل. ضابط قصير في سن الشيخوخة، شعره فضي ووجهه يابس و صارم بشكل مذهل. رجل المدرسة القديمة، والتي أنا معجب بها. الستائر مثلثة على النوافذ المشبكة والإشارات الحمراء العملاقة للمملكة منسوجة عليها بكامل روعتها. كلباه طويلا الأطراف رابضان على السجادة أمامي وينظران إليّ في حزن نبيل. فقط حبات البرد التي تجلد النوافذ تخترق الصمت السائد بيننا بشكل تام ومهيب. يوجه قائدي إلىّ نظرته، وهي متقدة بشهوة ظاهرة ما، على النقيض من ملامحه الصارمة. يشرع في حديث مباشر ومقتضب، يكمن أساسه في معلومة مذهلة:

البحر سوف يفيض ويغرق جزيرتنا.

كيف عرف بهذا الأمر؟ لم يعرفه من أي عراف مشكوك فيه لا يعرف شيئا عن جزيرتنا، بل ولا من نداء عاجل من قبل المسئولين عن جزيرتنا في العاصمة، وهم لا يتذكرون شيئا عنا. كبير السجانين لم يعرف المعلومة إلا من خلال دراسته الدقيقة، لأيام وليال، لليوميات القديمة للسجن، الموجودة، مجلدا خلف مجلد، طويلة وواسعة وسميكة، في خزانته المغلقة.

السجانون القدامى، والذي ماتوا في نوبات حراستهم (لم يتمكنوا من معرفة الموت الآخر)، وابيضت عظامهم في مكان ما بقاع المحيط، اهتموا بالتسجيل اليومي لكل تفصيلة من تفاصيل حياتهم، ومن هذه اليوميات عرف كبير السجانين بفيضان البحر، بالعلامات التي تعطيها الطبيعة قبل الفيضان، وبقوة المياه المدمرة. لثلاث مرات في الماضي تم إغراق هذا السجن، تم تدميره كلية، وتم بناؤه من جديد. حتى أنا الشاب عرفت هذا، من دراستي لتاريخ السجن. ولكنني لم أخمن أن العاصفة التي حدثت في الأيام الأخيرة، هذه الريح الإعصارية التي تهدد بهز الجدران، سوف تأتي إلينا ثانية بفيضان البحر القديم.

بدون تعمد خطوت عدة خطوات صغيرة باتجاه الطاولة، يحركني اهتمام جديد. هل أن السعادة هي ما تسربت إلى قلبي؟

كبير السجانين أراح يده على رقبة واحد من كلبيه المحبوبين وبدأ في مداعبة فروته بإخلاص. بصوت هامس حكا لي عن اللوائح التي تأمر كبير السجانين بالهروب في يوم الضراء من السجن مع رجاله، ولكنه سوف يُبقي المساجين في زنازينهم، وسوف يوقف حارساً أو اثنين عليهم، متطوعين مناسبين لوظيفتهم. والآن لا يرفع الضابط الضئيل عينيه. مَن مِن بين كل الرجال يليق للتطوع إن لم يكن أنا، سجان شاب يسعى بشدة للتفوق في خدمته.

في كل مرة يحكون لي فيها شيئاً عن اللوائح، يأخذني التأثر، ولكن هذه المرة، عندما عرفت أن كبير السجانين اختارني أنا من بين رجاله، فلقد ذهلت، تقريبا كدت أهبط على رجليه من فرط السعادة. عضضت شفتي كي لا تفلت صرخة من حنجرتي.

هل سأطالب بأن يبقى معي سجان آخر؟ يسأل كبير السجانين، وبعينيه الشبقتين ثمة بريق ماكر. في هذا السجن يخدم، بجانبنا، سجانون يقومون بوظائف الجزار والحلاق ومصلح السلاح والميكانيكي، ولكنني أفهم أفكاره.

أجيب هامسا: "لا أريد أحدا معي، سيدي القائد."

لا، أفكر، لا أريد أحداً من أصحاب هذه الوظائف الذين يسعون للتهرب من خطورة المهمة العارية، مهمة الحراسة المحضة. وبينما عيناي تتأملان يديه اللتين تداعبان الكلبين المدللين بجانب ساقيه، تخطر لي فجأة فكرة.

"لتدع معي كلبيك فحسب، سيدي."

هذه المرة نجحت في مفاجأة الضئيل كما يجب. هذان الكلبان عزيزان عليه ومحبوبان منه، وهو مرتبط بهما إلى حد مثير لشكوك زوجته في العاصمة البعيدة، وهو بلا أولاد، فقط هذان الكلبان له، ذكرا وأنثى، هو من رباهما ودللهما منذ ولادتهما، وها أنا سوف آخذهما من يديه وأجعلها كلبي سجن حقيقيين، جريئين. كيف سيمكنه رفض طلبي إن كان سيدعني هنا وحدي في السجن حاملاً كل أمواج المحيط على كتفي؟

يداه ترتعشان. لا يرد. فقط يحكي لي بصوت هامس عن مركب قديم موجود هنا. مركب قام ببنائه وقتها السجانون القدامى، لأجل إنقاذ أنفسهم، بل وفيما بعد أيضاً تم تركيب موتور جديد أتوا به من العاصمة. هذا المركب هو الذي سيكون بحوزتي عندما تغطي المياه السجن تماماً. عندئذ سأهرب أنا، لأنه هكذا تشرح اللوائح الحكيمة: "إذا وصلت الحياه حتى النفس (هنا سمح المشرع لنفسه باستعمال البلاغة) سوف يهرب السجان الأخير وسيبقي خلفه مساجينه. جيل من المساجين يأتي وجيل من المساجين يذهب، ولكن السجانون قلائل، وأبدا سوف يبقون."

آخذ من يده مفتاح المحرك الصغير والمذهب. غدا سوف يسلمني في يدي صرة المفاتيح الثقيلة للسجن كله. هوو، سأموت من فرط السعادة.

إلى أين سيهرب سيدي، يا كبير السجانين؟ إلى الجبال، بالطبع، إلى الجبال. فحتى من النوافذ المشبكة الصغيرة للسجن يمكن رؤية قممها المدببة في دغل عميق من الخضرة. إلى هناك سيتجه مع رجاله. ربما يتعثرون هناك بكوخ قديم. يقولون أن ثمة قرية مختبئة بين الأودية. من يعرف؟ وربما يكون مصيره أسوأ من مصيري.

على أي حال، أسرع لألقاء التحية العسكرية مودعاً. ولكن لدهشتي فهو لا يرد بالتحية العسكرية، وإنما يقوم من كرسيه وتعبير من الأسف مرتسم على وجهه. يترك الضئيل كلابه و يتجه ناحيتي، يقف أمامي، يشب على أطراف أصابعه، ويريح كفيه الصغيرتين والمشعرتين على كتفي بشكل أبوي للغاية، حتى يرتعش جسدي.

كلمات أخيرة وغير واضحة، يتم نقشها بشكل رائع في عمق الليل، تقال لي: "اكبح شهواتك مع الماء الفائض واجتز التجربة. تعلم كيف تهرب، أنت والكلاب التي أتركها معك".

إلى اللقاء، سيدي.

***

مع ضوء الفجر، ومع تظاهرة الأمطار الخفيفة، مد الكلبان رأسيهما من نافذتي المكتب الذي حبسا فيه وانتحبا أمام سيدهما الذي يهجرهما. مسيرة كئيبة من المغادرين مع أغراضهم تجتاز المبنى. يغلقون باباً خلف باب، ويضيفون مفتاحاً وراء مفتاح لصرتي الثقيلة، التي تخشخش في يدي ببهجة. في الحوش يشيرون لي إلى المركب المربوط في حائط البيت بحبل، وأهز رأسي مشتتاً. بفراغ صبر تقريبا أرافقهم إلى الباب الخارجي، أخرج معهم، إلى الأفق، وأغلق الباب خلفي.

عيناي تمتدان فورا باتجاه مدى البحر، ولكنني لا أستطيع رؤية شيء. السجن بعيد جدا عن البحر، فقط في الأيام الجيدة يمكن رؤية حزام أزرق في الأفق. الهاربون يصعدون على عربة السجن المشبكة ويتكدسون مع كل أغراضهم على مقاعد المساجين. يفحصونني بأعينهم. هل هم سعداء بهروبهم من هنا؟ الوداع قصير جداً، بلا أية دلالة على التأثر، فالمشاعر متجمدة، وهي في إطار اللوائح. السيارة تسير بسرعة إلى داخل الأفق الرملي الذي يحيط بنا. الكلبان ينفجران في نباح وحشي ويائس. الضباب الثقيل يبتلع السيارة.

الآن أنا حاكم واحد في هذا المبنى الحجري. كم كان بناؤه في المدى فعلاً ذكياً، حتى أستطيع أن أرى من بعيد كل داخل وخارج، كل مهاجم وكل هارب. أفتح الباب. أدخل الحوش وأغلق الباب ورائي. إذا فتحت بابا فأنا أغلقه خلفي فوراً. مدرب على المفاتيح أنا وأحب الانشغال بها، بما فيها مفاتيح السجن العملاقة، والتي تجمدت فاغرة فاها. يجب علىّ اجتياز أبواب كثيرة قبل الوصول للطابق الثاني، إلى ممر الزنازين.

المساجين كانوا قد استيقظوا من نومهم الليلي، النوم الذي بلا نهاية، والآن يجلسون على الكراسي بجوار الأبواب الحديدية، وهي مشبكة وغير مفتوحة، لكي يتمكنوا على الدوام من رؤية عيون حراسهم ولا يختبئون. يشبهون القرود في الأقفاص، غير أنهم صامتون دائماً وجالسون بلا حركة. لقد قاموا بجرائمهم، ربما قبل أن أولد – أنا حارسهم الشاب. الآن هم عجائز، وحلاقة رأسهم تجعل صلعاتهم غامضة. يجتهد الحلاق في عدم الإبقاء على أية شعرة. وبدافع من الملل يقضي بمقصه على كل شيء. أغلبهم ثقيلو الأجساد. لسنوات طويلة يسمنون من طعام المملكة، ولا يفعلون شيئا. لا يمكن معرفة إن كانوا عنيفين أم ودعاء.

ينظرون إلي بعيون هادئة. يجلسون دائماً ووجوههم إلى الممر كالمشاهدين. ماذا ينتظرون الآن؟ الإفطار، بالطبع. حتى نحيب الكلاب الحبيسة في المكتب تحول من نهنهة الحنين إلى نحيب الجوع. أركض. أفتح المطبخ وأبدأ في طبخ الوجبة وفق الأوامر المعلقة على الحائط. بعدها أضع كل شيء على العربة المتحركة، وأبدأ في خشخشة الأغراض في الممر المظلم معدوم النوافذ، والذي يصله نوره الواهن نهاراً من الأبواب المشرعة، من كوات الزنازين. في كل باب ثمة كوة صغيرة مشرعة، عن طريقها أتلقى صحناً لا تزال بقايا الوجبة السابقة عالقة به، وأقدم صحناً جديداً ممتلئاً.

هم معتادون على هذا الفعل الميكانيكي من تبديل الصحون، وكل شيء يتم بهدوء تام. بالتأكيد يعرفون أنني بقيت هنا حارساً وحيداً. أي شيء يحدث في البيت يعرفونه، برغم أن الأحاديث ممنوعة بينهم وفق اللوائح، وكذلك الأحاديث مع الحراس. وعما سوف نتحدث معهم؟ فنحن لسنا محققين، ولا قضاة، نحن فقط نحرسهم كي لا يهربوا. القانون تم تشريعه، الحكم قد نطق به، وإذا كانوا لم يشنقوهم، فهذا مصيرهم، وهم غير معتادين على الحديث عن هذا المصير. ربما نسيت القول أن مدفعا معمراُ معلق دوما على كتفي في حزام.

توزيع الطعام انتهى. نباح الكلبين يجرح أذني. أفتح لهما باب المكتب، يندفعان منه ويهجمان عليّ بفرحة مجنونة، يلحسان وجهي ويدي. بصعوبة بالغة أستطيع إسكاتهما. الآن أنا سيدهما. أقرّب منهما حصة الخبز اليومية، حصة الطعام الأضخم التي يتم منحها في هذا البيت، يهجمان على اللحم بجوع ويمزقانه بأنيابهما الطويلة وعيناهما تبرقان من الاستمتاع. أنا متجمد في مكاني وأتطلع في الظلام إلى هذا الجوع المهمَل، إلى أن يقضيا على كل شيء. بعدها أحضر حصة طعامي، الرهبانية، الضئيلة. أزدردها بسرعة وبعدم رغبة في الأكل التافه، وأنزل إلى الحوش لأتطلع إلى العاصفة.


ضباب. أمنّي عيني برؤية الماء ولا أرى شيئاً. أميل أذني لسماع هديره، كمن يترقب خطى حبيبته، ولكن نحيب الريح مع الضباب يمحو أي صوت آخر. لا يمكن أيضا معرفة شيء عن حركة الشمس. الخلفية رمادية كلها. أعود إلى الممر. صمت. لا أسمع إلا أصوات مضغ المساجين الجالسين منحنين على صحونهم.

يومي مليء بالعمل. أغسل الأواني القذرة. أنظف الأرضية. من حين لآخر أحمل فجأة المدفع في يدي، أندفع بسرعة من المطبخ، وأخرج للتجول في الممر. الجالسون في أقفاصهم لا ينظرون إليّ. هم بسطاء، والأشياء الروحانية غريبة عليهم. ولكنهم يكونون قد أمسكوا في أيديهم بكتبهم، وبدأوا في قراءتهم اليومية. قتلة عجائز، وفي أيديهم قصص مؤامرات وقصص عن المخبرين أخذوها من مكتبة السجن، كتب صفحاتها الأخيرة مقطوعة (أو تم اقتصاصها عمداً)، وبالتالي فالقراء لا يعرفون شيئا عن الإمساك بالقاتل، ولكنهم لا يزالون مصرين على استمتاعهم بعجز المخبرين المطاردين.

لمرة في الشهر نمر بعربة ونجمع الواحد وعشرين كتاباً، نخلطهم ببعضهم البعض، ونعود بالعربة من الجانب الآخر للممر. هناك من يقع في يده كتابه بالصدفة، وهناك من يقرأ كتابا جديداً – قديماً. يصعب عليهم أن يعرف كل منهم –وهم الجهلة – جميع الكتب. والآن أيضاً هم يجلسون واضعين أعينهم المنطفئة على الصفحات البالية. ألا يعرفون أن نهايتهم قريبة؟ لو تسلقوا قليلاً ووصلوا إلى الكوة الحديدية، القريبة من سقف الزنزانة، فسوف يستطيعون رؤية أفق البحر، أو إلقاء نظرة على قمم الجبال.

____________________________________________________________

أفراهام جبريئيل (بولي) يهوشواع، ولد في القدس عام 1936، يعرف باسم أ. ب. يهوشواع، ويوقع على كتبه باسم أفراهام ب. يهوشواع. واحد من أكبر الأدباء الإسرائيليين المعاصرين. تحظى أعماله باهتمام كبير في إسرائيل والخارج، حصل على جوائز أدبية عدة مثل جائزة بياليك وجائزة إسرائيل. وأطلقت عليه صحيفة النيويورك تايمز اسم "فوكنر الإسرائيلي"، بسبب قدرته على التعبير كتابة عن "المزاج الإسرائيلي المعاصر". وعدت الترجمة الإنجليزية لكتابه "مهمة المسئول عن مضخات البشر" واحدة من أفضل مئة كتاب لعام 2006 في صحيفتي النيويورك تايمز وبوبليشرز ويكلي. وحاز عام 2007 على جائزة لوس أنجلوس تايمز عام 2007 على نفس الكتاب.

من أهم رواياته "مولخو"، و"مار ماني" و"العاشق" وقد تمت ترجمتها إلى العربية. وهذا الفصل من رواية قصيرة تحمل نفس العنوان "فيضان البحر" ترى النور الآن في كتاب بعنوان "الرحلة المسائية لياتير." 2009.

ينتمي يهوشواع إلى اليسار الصهيوني، وهو موقف يسمح له بانتقاد دولته من حين لآخر، كما انتقدها وقت حرب لبنان 2006 مطالب بإنهائها، غير أن هذا لا يخفي كثيرا من المواقف العنصرية التي يكنها ضد العرب وضد الشرق. عن مواقف يهوشواع ضد العرب والشرق يمكن قراءة هذا.

.


Friday 12 June 2009

سكسبيل الشعراء العجائز

دافيد أفيدان

ترجمة: نائل الطوخي

أغنية عصرية

القمر أطلق النار بمسدس صغير.

تذكرة حفلة الأسبوع أعطيتْ.

النساء السمينات لم يقمن بدفن ميتهن.


القمر أغلق زر أمان المسدس.

قاعة الحفلات لم يتم فتحها أبدا.

حفار القبر القديم لفظ أنفاسه.


القمر ذهب لبيته البعيد.

قاعة الحفلات مغلقة، مثل القانون.

حفار القبر المحتضر انفجر في الضحك.


القمر أطلق النار بمسدس كبير.

قاعة الحفلات هي مجرد ميوزيك هول.

الميت الذي سبق ذكره هنا يكفر بكل شيء.


لذا فالقمر لم يطلق النار أصلا.

لذا فالقاعة تمام، مثل القواعد.

لذا يوجد هناك طقس الدفن.

من ديوان "حنفيات مقطوعة الشفتين"

استبدال نوبات الحراسة

اخرج، اخرج، رجل الدم.

ادخل، ادخل، رجل الماء.

عدة مرات، دقي يا أجراس،

السماء عطفت عليكم

والآن أنتم يتامى،

يتيمان، يتيمان اثنان،

أمام بابين مغلقين،

بابين مخيفين بالمناسبة.

من ديوان "قصائد باردة وأخرى"

مقدمة للمقدمة

اليد التي ضربت، هي اليد التي عطفت

على كل المضروبين. ولكن المعطوف عليه

سوف يتذكر بحنين مكبوت يوم الأمس

الذي انقضى بلا عودة. لم يهتم أحد

بالشخص الذي - بطبيعته - لا يهتم أحد به. فقط الحكمة

سيتم دفعها إلى مكان ما، سوف تمسك بالجدار المنهار،

وسوف يكون هذا، على مايبدو، واجبها الأخير

والأول أيضاً. وشخص ما يعاني.

مسيرة

الماء الأبيض طلب مهلة

ليكون أكثر دكنة. وعندئذ مرت

على السطح رعشة غير معروفة،

وشخص ما فجأة تشوه،

ولكن لا زال شيء ما على الحدود

التشوهات التي يتم التسامح معها دوماً،

والتي تضم عيوباً ومزايا،

وتضم كذلك حقيقة متواصلة، غامضة..

قوة الإرادة

يقيس الإنسان رعشته بيد مرتعشة.

يصعب جداً الوثوق في الرعشة

بين حد وحد هناك ميراث صغير: وطن

وميراث أصغر: شهادة ميلاد.

ولكن من خلفه هناك أرضمظلمة،

تقع بين حدين فسفوريين،

وهي ضعيفة فوق ضعفها، أو أنها

تقوم فجأة بإغواء كل الأقفال

وتتحول فجأة إلى رجل

يعوم على ذكرياته الصاحية فحسب

بين خط البداية وبين القبر،

وهناك ينقلب من جانب إلى آخر

مسافة آمنة

انساني.

لو أنك تؤمن بالشمس،

تنتقد الزهور،

تعتمد على الرياح،

فانساني.

ولدتُ داخل عالم مؤرشف للغاية،

مليء بحسابات والتزامات لاعددلها.

لو ولدتُ قبل الآن بخمسين عاما،

ربما أكون قد عرفت نفسي

في ظروف احتفالية أكثر،

مع شهادة ميلاد أخرى،

ورق سميك

وحروف قوطية.

خسارة، لكن

الآن

أنا لنفسي، نفسي لنفسي، نفسيلنفسي.

فقط من بعيد أسمع الدفوف القديمة.

وجلد الدف يستوعبها بصعوبة.

وجلد الدف يلفظها بصعوبة.

أجراس.

أجراس.

رنات.

وبعدك كل شيء سينفتح على اتساعه

كما كان قبل الطوفان.

من ديوان "اتفاق مرحلي"

ليلة مفاجئة

شخص عجوز، ماذا يملك في حياته؟

يقوم في صباح، ولا يقوم في صباح.

يخطو إلى المطبخ وهناك

يذكّره الماء الفاتر

أنه في سنه، في سنه، في سنه

شخص عجوز، ماذا يملك في صباحاته؟

يقوم في صباح الصيف، ليجد نفسه في خريف

يختلط مساءً بمصابيح غرفته.

من رحلته في الطرقة عاد،

لأنه كان هناك لا يزال يفكر، يفكر، يفكر

ماذا يفعل الآن وماذا يقرأ

شخص عجوز، ماذا يملك في كتبه؟

........


شخص عجوز، ماذا يملك في سنه؟

ينعس لأنه يخاف النوم.

عيناه نصف مفتوحتين، يخمن

أمام حركة النجوم، إن كانت الهمسات

ترمز له بأن تلك هي ليلته الأخيرة.

..........


شخص عجوز، ماذا يملك في ليلته؟

ليس ملكا.

ويسقط

في غير ساحة المعركة.

الآن هو كذلك

كنت مستعدا للتغير الآن.

لا أملك أسباباً للرفض الآن.

لم تعد لدي ادعاءات الآن.

لا أشعر بالألم الآن.


كنت مستعداً لأن أجرب الآن.

شيئاً لا أعرفه الآن.

كنت مستعداً لأن أحاول الآن،

ألا أشعر بالبرد الآن.

من ديوان "قصائد تحت ضغط"

قبل التاريخ

أنا أتذكر نفسي وأنا أنتظر،

مسلحاً بأسلحة من العصر الحجري،

وأنا أتذكر نفسي وأنا أضرب

بحكمة مدققة على التبن،

وأنا أعاين بجدية حريق

الجسور الكبرى والصغرى،

وأنا أستقبل بسعادة عاصفة

الأفاعي السوداء والحيات،

وأنا أنوي فعل ثلاثة أشياء،

لم يحاول شخص فعلها من قبلي،

وأنا أنظم سباقا للنمور

البيضاء والداكنة لجميع أصدقائي،

وأنا أنتظر الموت الجيد،

لكي يمر من عليّ إلى مكان آخر،

وأنا نسيت الكثير

ولم أعد أذكر القليل.

اللحظة قبل الأخيرة

الجسد توسل إلى الروح: ابقي

هنا. بعد قليل

ستفرحين. اليوم سأفتح أخيراً

كل زجاجات النبيذ

المعتقة. حتى السيرك

سوف يأتي هنا. سوف أغني لك

أغاني لم تسمعيها. ولكن الروح

قالت: مالك؟ هل نسيت أن كل متعتي

هي التحرك في الزمن؟ الآن

سوف أتزحزح من هنا. هل ستأتي

معي أم لا؟

أي سكسابيل يملكه الشعراء العجائز

أي سكسابيل يملكه الشعراء العجائز؟ عندما

أقول، مثلا، في لحظة ضعف: "من يقول،

أن الأدب عليه أن يكون أخلاقيا؟" - يتضح

أنه بإمكاني أن أحمل على كتفي الشابتين

كل ثقل عدم المسئولية المعلنة. ولكن

بوجه مجعد؟ بفم مزموم؟ بيدين

مرتعشتين؟ ما الذي يبقى، بخلاف العينين، النظرة

التي تظل معلقة في مسافات مؤلمة، الذِكر الخابي

للجانب الرضاعي: ابك، يا إنسان، ابك

من فقدتهم. ابكهم

منذ لحظة ولادتك، رعب

جسدك الفاني، معرفة

قوتك المنهار. والآن-

يأتونك بالطبيب، طبيب

يأتون به إليك. لو كانت بك

مازالت قوة للصراخ، قل لهم، قل

بكل المسئولية، بكل فعالية

حبالك الصوتية المتعبة: "لا تأتوني بطبيب، يا سادتي، لا طبيب

- وإنما جلاد مع حبل المشنقة!"

من ديوان "قصائد جديدة"

___________________________________________

دافيد أفيدان. من أهم رموز الشعر والأدب الإسرائيلي. يعده النقاد، سويا مع يهودا عميحاي وناتان زاخ، واحداً من الثلاثة الكبار بـ"جيل الدولة"، أي الجيل الأدبي الذي شهد قيام دولة إسرائيل. بالإضافة إلى شعره، فهو رسام وممثل. درس الفلسفة ولكنه لم يتخرج من الكلية. ولد عام 1934 في تل أبيب وتوفى عام 1995، في نفس المدينة، غارقا في الديون. ورثاه الشاعر نتان زاخ بإلقاء قصيدته "أغنية للأطفال" التي تبدأ كلماتها بجملة "الموت سيزورني في عيد ميلادي." قبل حوالي عام من موته كان أغلب القراء الإسرائيليون قد عرفوا شيئا عن حالته النفسية والاقتصادية، عندما نشر التليفزيون تقريرا عنه اتضح منه أنه مدين بحوالي مئة ألف شيكل. من دواوينه "مشاكل شخصية" 1957، "شيء من أجل شيء" 1964، "قصائد غير ممكنة" 1968، "قصائد خارجية" 1970، و"قصائد للاستعمال" 1973.