حرب لغات في إسرائيل، تندلع بين الوقت والآخر، محورها هذه المرة: لغة الييدش.
اللغة الييدشية، وهي لغة يهود شرق ووسط أوروبا،[1] لم تصبح مجرد لغة، ولا مجرد ثقافة، وإنما تعدتها لتشير إلى معان سياسية أبعد. يمكننا فهم هذا عن طريق الإحالة التاريخية لفكر الصهاينة الأوائل الذين كانوا ينظرون للييدشية، ولكل ما يتصل بالمنفى، أي بوجود اليهود خارج فلسطين، باحتقار، حيث اعتبروا فترة الييدشية هي فترة انقطاع اليهودي عن هويته الأصلية، هويته العبرية التي تجد جذورها في العهد القديم.
في المنتدى الأدبي الشهري الذي يعقده شمعون بيريز في بيته، وكان موضوعه هذا الشهر "أدب الييدش"، ألقى الرئيس الإسرائيلي كلمة تحدث فيها عن لغة الييدش، قام بمدحها ليعلن موتها. ولكن الشاعر الشاب "موشيه سقال" قام بالرد عليه، وبالدفاع عن الييدشية، وهو الدفاع الذي يلقي أكثر من ضوء على الثقافة الإسرائيلية المعاصرة وصراعاتها ومراكز القوة فيها.
كلمة بيريز منشورة في صحيفة يديعوت أحرونوت تحت عنوان "الييدشية هي حنين"، نقدم هنا فقرات منها وترجمة كاملة لمقال موشيه سقال.
يبدأ بيريز "مديحه" لليديشية بالقول:
"الييدشية اليوم هي حنين أكثر من كونها لغة. هي ظاهرة ثقافية خاصة. من كلاسيكيات شعب جوال، سلبت لب الكثيرين، جمالها لم يذب، رائحتها لم تذبل، خفة ظلها لا تقارن. منذ بداية التيه اليهودي في القرن التاسع إلى مناطق اللغة الألمانية بأوروبا أصبحت الييدشية لغة اليهود، ووسمت هويتهم وحافظت على خصوصيتهم."
"في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت الييدشية أكثر قوة من العبرية. ولكن مصير اللغة يشبه مصير الشعب. كما كتب حاييم جيتلوفسكي: "يجب على كل منهما (الشعب واللغة) أن يثبت كونه حقيقياً. على اليهود إثبات أنهم شعب حقيقي. وعلى الييدشية أن تثبت أنها لغة حقاً." خراب المركز اليهودي، وهو التجمع الأكبر لمتحدثي الييدشية، حدث على يد النازيين."
***
كما يشير بيريز لبعض السمات الخاصة بالييدشية، مفصلا رؤيته لها: "كيان وواقع الحياة اليهودية في البلاد الأجنبية أعطيا الليدشية ألوانا ساحرة من المكر، الغمز، وروح الدعابة. يضاف للحديث تعبيرات الوجه ولغة الجسد. التلونات الصوتية والنبرات، جعلت من اللغة فنا أصلياً. لقد تحول متحدث الييدشية في الواقع إلى ممثل يعرض معنى الكلمات التي يقولها بحركات يديه وتعبيرات وجهه. الييدشية هي لغة عائلية وعالمية. بيتية وإنسانية. ضفيرة من الضحك والدموع، حزينة وهازلة، تغزل البطولات بالنوادر، بالأقوال السيارة، بالأمثال، بالدعابات، بالقصص الشعبية. وأحيانا تسمح للدموع بأن تبلل العيون."
***
ويعود ليخلق أسطورة الشعب اليهودي، الذي غزا العالم كله بإبداعه: "من المثير للاهتمام أن نرى أدباء وشعراء يهوداً احتلوا العالم كله، حتى في بلدان كبيرة وبعيدة مثل الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية. أدباء مثل شالوم عليخم، بشفيس زينجر، شموئيل يوسف عجنون، هينريش هاينه، برودتسكي، يتسحاك بافل، كافكا، وآخرون، ترجع أصولهم إلى فترة الييدشية، وتجول أرواحهم في طرق بعيدة، وتسبح في أنهار سرية على وجه الكرة الأرضية كلها."
"حظيت مرة بأن أرى "عازف كمان على السقف"[2] باللغة اليابانية. عندما تطرح جولدا اليابانية ادعاءاتها أمام رب اليهود، في المسرح الياباني، شعرت كأن كرة الأرض قامت بدورة أخرى تحت الشمس الييدشية. وفكرت أنه في الواقع، فـ"عازف الكمان على السطح"، قد خلق الحلم الأمريكي. خلق هوليود."
"اليهود الذين هاجروا إلى كاليفورنيا أخبوا في حقائب سفرهم الحلم اليهودي، واستغلوا التصريح الأمريكي للبحث عن مكان ملائم له."
________________________________
أما الشاعر الشاب (ولد عام 1976)– من أصول مصرية وسورية – موشيه سقال، فيكتب مقالا في يديعوت أحرونوت يرد فيه على النبرة الأبوية في حديث شمعون بيريز عن الييدشية، ويقدم صورة لواحد من أهم وأطول الصراعات الثقافية في إسرائيل.
هناك ييدشية أخرى
سيدي الرئيس، قرأت باهتمام بالغ كلماتك المتعلقة بالييدشية، وفي هذه المقالة القصيرة سوف أحاول الرد عليها بل وتصويب، بعد إذنك، بعض الأمور. أولا، لأقل بعض الأشياء عن نفسي: لست ييدشستياً، ولدت قبل أربع وثلاثين عاما في تل أبيب لأبوين مولودين في البلد. في سن الثالثة عشر بدأت في دراسة الفرنسية بمدرسة "إليانس"، ومنذ ذلك الحين صرت أتحدث هذه اللغة مع جدتي، المولودة في القاهرة. القاهرة التي نشأتْ بها جدتي كانت مدينة كوزموبوليتانية متعددة اللغات، كانت تغلي وتعصف بها ثقافات كثيرة، ثقافات شرقية وأوروبية على حد سواء. إذن فالييدشية لا تسيل في شرايييني، ولكن علاقة الإسرائيلي المتوجد الآن بالييديشية – مابالك بعلاقة رئيس الدولة – هي في عيني ذات مغزى ثقافي وسياسي بعيد المدى. على أي حال، فعلى نقيض ما يعتقده بعض المعلقين خطأ والذين ردوا على كلماتك، ليس الحديث عن صراع الشرقيين ضد الإشكناز.
في خطابك، سيدي الرئيس، أمطرت الييدشية بالمديح، "الييدشية هي حنين"، كما تدعي وتذكرنا بكلمات بن جوريون، الذي أطلق عليها لغة "غريبة وخادشة"، "الييدشية هي ظاهرة ثقافية خاصة، (...) جمالها لم يذب. رائحتها لم تذبل. خفة ظلها لا تقارن". وفي نفس الجملة تشير إلى أن الحديث هو عن لغة محتضرة، لغة هزمتها العبرية.
يمكن تخيلك وأنت تقول هذه الكلمات بصوتك المعروف، الصوت الذي يحوي أصداء من البولندية – لغتك الأم – وأصداء من الييدشية، والتي تشير بحسم شديد للغاية إلى أمر هزيمتها. تتحدث عن لغة "مشحونة بالذكريات ومشاهد البلدان الغريبة محاطة بدفء البيت. كلها بساطة وسعادة وشجن" يبدو لي أنك انجرفت هنا إلى مناطق الكيتش. أنا نفسي أعرف ييدشية أخرى: ليست مسرحا فظا ولا نكاتاً قبيحة، ليست "هذا يبدو أفضل في الييدشية"، وليست "عازف الكمان على السطح".
تشير، سيدي الرئيس، إلى الييدشية بوصفها بيت. وفعلاً، لن ينكر أحد انتصار العبرية على الييدشية، ولن يشكك أحد في معلومة أن الييدشية قد فشلت فشلا تراجيديا بالنسبة للناس الذين كانت أكثر من لغة لهم: كانت بيتا لهم. بداية الهزيمة، كما هو معروف، في "حرب اللغات" التي دارت هنا قبل ما يقرب من مئة عام – ولكن انتصار العبرية على الييدشية تم حسمه في الهولوكست، وبخلاف ألاف الاختلافات– مع قيام دولة إسرائيل.
انتصار العبرية على الييدشية كان حاسما لدرجة أنه منذ حوالي العام، بادرت عضوة كنيست ما من حزب "إسرائيل بيتنا"، بإقامة جلسة خاصة باكتمال الكنيست للإشارة إلى يوم الثقافة الييدشية. وهكذا قاموا بسحب الييدشية المهزومة من بلعومها إلى المعبد الإسرائيلي – تحت قناع النوستالجيا والإشفاق، ولكن في الواقع فلقد كان هذا بهدف تنفيذ "تأكيد القتل" والإعلان – مجددا – عن أنها لغة ميتة بنسبة مائة في المائة.
بعد سنوات طويلة من الإدانة والسخرية، يبدو أن الثقافة الإسرائيلية تتعامل مع الييدشية اليوم بتسامح نسبي، نوع من التسامح الأبوي الذي يمكن للمنتصرين أن يمدحوا بها (بالمناسبة، هذه كلمة ييدشية أصلية (بارجينان[3]، وتحولت إلى إحدى رموز الهوية الإسرائيلي "الصريحة[4]")، مهزوميهم.
العلاقة المشكوك بها تذكرني بالطائفة اليهودية الصغيرة، التي حرصت تقريبا كل مدينة مسيحية في العصور الوسطى على الاحتفاظ بها بين جنباتها، والجلسة المكتملة الخاصة بالاحتفال بيوم الثقافة الييدشية يذكرني باليوم الذي كانوا يسحبون فيه أغلب الطائفة اليهودية للكنيسة، يجعلونها تسجد على ركبتيها ويشدون أذنها. كان اليهود في نظر المسيحيين "الشعب الشاهد"، كما ترمز الييدشية حتى اليوم، في نظر صباريم[5] كثر، إلى اللغة المحتقرة والمهزومة، التي يجب التعامل معها بأبوية وتسامح.
نكسر أسناننا من أجل سوتسكفر
اسمح لي، سيدي الرئيس، لأن أحكي لك حكاية عائلية صغيرة: قبل سنتين تم تسجيلي في الكورس الصيفي للدراسات الييدشية بجامعة تل أبيب. "مالك والييدش"؟ سألتني جدتي بالفرنسية، الفرنسية القاهرة، التي تتدفق على لسانها. نبرة مستمتعة تسللت إلى كلماتها وهي تتفحصني كما يتم تفحص وجه شخص غريب الأطوار. قلت لها أن دراسة اللغة – أية لغة – هي متعة ضخمة، وأن اللغة الجديدة تعني الإمكانية الجديدة، وأنه ثمة أدباء كباراً في الييدشية، شالوم عليخم، مندلي موخير سفارين، أفراهام سوتسكفر وآخرين.
فقط من أجل هؤلاء الأدباء، قلت لها، من المفيد أن نكسر أسناننا، أن نتعلم مفردات جديدة وأن نتمرن مرة أخرى على هذه اللغة، والتي عودونا دائما أبدا على احتقارها. قلت لها أيضا أن الييدشية هي لغة يهودية معرضة للاختفاء وأنها جزء من جيناتي، برغم الجذور المصرية السورية لعائلتنا، وفي النهاية بشرت جدتي أنني قررت دراسة لغة أخرى بعد اليدشية: العربية.
"العربية"؟ أدارت جدتي عينيها. "العربية" أكدتُ. "مالك والعربية؟" طلبتْ المعرفة. "هي اللغة الأم لأبي"، قلت لها. "أبوك ولد في إسرائيل"، كررت. "صحيح" أجبت، "ولكن أمه ولدت في دمشق وهو يتحدث معها حتى اليوم بالعربية، حتى عندما يتحدث العبرية، فلديه القليل من اللكنة العربية."، "ليست هناك أية لكنة عربية"، ثارت جدتي، "أنت تتخيل فقط."
سيدي الرئيس، تزعم أن "اليوم الييدشية هي حنين أكثر من كونها لغة." ولكنك مخطئ. بهدوء يكبر اليوم جيل من الشباب القادرين، وهم يعودون بالتحديد إلى ما بدا لهم فجأة ثابتاً وذا معنى: ثقافة أبائهم. على النقيض من إسرائيليين كثيرين يأخذون في تنمية عقدة اضطهاد ضد كل العالم، فإن هؤلاء الشباب يعملون على الييدشية من خلال رغبة في إدارة حوار مثمر مع ثقافات العالم المعاصرة. لا يملكون نوستالجيا، وإنما اشتياقا لثقافة أكثر تفتحا، وتلونا.
كل العالم – احتفال بالييدشية
الانشغال الشاب والعاصف اليوم بالييدشية يحدث بعيدا عن جلسة الكنيست وبيت الرئيس: يتم في الجامعات بأنحاء العالم – في تل أبيب، نيويورك، باريس ومدن أخرى، يتم في بيوت خاصة، احتفالات، على الإنترنت، في أي مكان تظهر فيه شهوة حياة غير منغلقة. من هذه الناحية فليس هناك فارق اليوم بينهم وبين الشباب الذين يختارون دراسة العربية، البولندية، الروسية، اللادينو أو الألمانية. جميعهم – بشكل معلن أو غير معلن – يفعلون هذا احتقاراً للقوموية، وانفصالاً عن الاستعلاء الإسرائيلي الحالي. وإذا كان لديهم حنين، فهو حنين للأيام التي كان فيها اليهودي هو "رجل العالم"، ليس "إسرائيل بيتنا" شعارهم، "وإنما "العالم بيتنا."
ربما تمت هزيمة الييدشية في المعركة، ولكنها تنتظر بصبر آخرة أيامها. لأنها ليست معلقة بمنطقة جغرافية، فهي تتيح للقوموية الإسرائيلية أن تقضم نفسها كالمصابة بالجنون. فعلا، هذا ليس موضوع صراع بين الشرقيين والإشكناز، وإنما التقسيم بين المنغلقين والمنفتحين، بين القومويين والكوزموبوليتانيين. وربما هذا بالتحديد، سيدي الرئيس، هو العلامة المشجعة، بل ومصدر التفاؤل الحذر. فماذا أفضل من أن نكون، أخيراً، شعبا ككل الشعوب؟
[1] تتكون من الألمانية والعبرية والأرامية، وتكتب حروفها بالعبرية.
[2] مسرحية غنائية مأخوذة عن كتاب "طوبيا الحلاب"، للكاتب اليهودي الذي يكتب بالييدشية شالوم عليخم.
[3] الكلمة التي تمت ترجمتها (ترجمة غير دقيقة) بـ"يمدحوا" هي بالعبرية "لفارجين.. לפרגן" المأخوذة من "فارجينان.. פארגינען" الييدشية والتي تعود بأصولها إلى firgunen الألمانية. الكلمة الييدشية "فارجينان" تعني أن تنظر بعين الرضا.
[4] الكلمة المستعملة هنا هي كلمة "دوغري" דוגרי، ويضعها الكاتب بين علامتين تنصيص لكونها هي أيضا مأخوذة من لغة أخرى غير العبرية، وهي العربية.
[5] حرفيا، تشير إلى المولودين في فلسطين/ إسرائيل، ولكنها ترمز أيضا إلى من يحتقرون فترة المنفى اليهودي، ويؤمنون بأن الشعب اليهودي لم يولد من جديد إلا في فلسطين.
No comments:
Post a Comment
comment ya khabibi