Friday 25 June 2010

الغرفة رقم 10

ولد الأديب يهوشواع كْناز عام 1937 باسم يهوشواع جلاس، في مستوطنة بتاح تكفاه. تأثر في فترة صباه بحركة الكنعانيين، والتي تأسست عام 1939، وهي حركة حاولت الربط بين الشعوب التي عاشت في فلسطين في الألف الثاني قبل الميلاد وبين الإسرائيليين الحاليين، وبسبب تأثره هذا غير اسم عائلته إلى الاسم التوراتي "كناز".

كناز معروف بالأساس بفضل الروايات التي كتبها، ولكن جزءا من شهرته أيضا يعود إلى عمله كمحرر صحفي، ففي الستينيات والسبعينيات كان محرر دورية "كيشيت - قوس"، وفي الثمانينيات حرر مع يورام برونوفسكي دورية "محبروت لسفروت - كراسات أدبية"، كما حرر الملحق الأدبي لصحيفة هاآرتس والذي ارتبط به لسنوات عديدة.

من كتبه "بعد الأعياد"، 1964، "المرأة الكبيرة في الأحلام"، 1073، "في الطريق إلى القطط"، 1991، "مشهد طبيعي وثلاثة أشجار"، 2000، و"شقة بباب في الحوش"، 2008. كتابه "معيد المحبات القديمة"، أخرجه المخرج الإسرائيلي الشهير عاموس جيتاي باسم "حبكة"، وحاز على جائزة خاصة في مهرجان فينيسيا عام 2003. وقصته القصيرة "سر هنريك"، أخرجتها روتي بيريس عام 1987 في فيلم يحمل عنوان "أخت هنريك"، وحازت على جائزة الفيلم الأفضل من المعهد الإسرائيلي للسينما. أما كتاباه "بعد الأعياد"، و"المرأة الكبيرة في الأحلام" فقد تم تحويلهما لمسرحيتين. وحظى كناز بجائزة بياليك عام 1997.
تمت ترجمته كتبه للغات عديدة واعتبره البعض الأديب الذي احتضنته المؤسسة الأدبية في إسرائيل. نشر قصصه القصيرة الأولى، في بداية الستينيات، بدورية "كيشيت" تحت اسمه المستعار "آفي عتانيئيل"، مشيرا بهذا الاسم إلى القاضي التوراتي عتانيئيل بن كناز.

كما يترجم من الفرنسية قصائد وقصصا لأونورا دي بلزاك، ويعمل منذ بداية الالفية على مشروع لترجمة كتب الأديب البلغاري جورج سيمنون، وتم حتى اليوم نشر ترجماته لكتب "الرجل الذي انتظر القطارات"، "سلالم حديدة"، "ساعة الأجراس"، "رسالة إلى القاضي"، "موت بل" و"ضربة قمر."

القصة المترجمة هنا منشورة في دورية "كيشيت هحاداشه" وأعادت يديعوت أحرونوت نشرها.

غرفة رقم 10

يهوشواع كناز

ترجمة: نائل الطوخي

في نومه ليلاً مر به شيء ما ولم يشعر به. عندما قام صباحا شعر بتعب من نوع مختلف: يده اليمنى واهنة، أصابعه فقدت مرونتها، في الحقيقة، فقدت إحساسها. اليد مخدرة، قال في نفسه، نِمْتُ عليها على ما يبدو. حك بيده اليسرى كفه اليمنى النائمة، يريد إيقاظ تدفق الدم فيها. ولكن اليد لم تسخن حتى من الاحتكاك.

عندما وقف لحلاقة ذقنه أمام المرآة اكتشف أن فمه ملتو، في الحقيقة، أن وجهه ملتو. أطفأ ماكينة الحلاقة وذهب للجلوس على كرسي في الصالون، للتأمل فيما حدث له وما ينبغي أن يحدث. جاهد لتحريك أصابع يده المصابة، المضمومة قليلاً، أن يقبضها في كفه ويبسطها، يقبضها ويبسطها. بجهد بطيء نجح في تحريكها قليلاً. شعر أنه مازالت بها الروح.

جند يده اليسرى اليقظة لممارسة القوة على الأصابع المخدرة لليد اليمنى، لأن تحيطها وتبسطها. أخذ يكرر حركة الضم والفرد. وعندما ترك أصابعه تقوم بهذا بنفسها، خيل له أنه أزاد قليلا من مدى حركتها، ولكن هذا لم يكن كافياً.

لوقت طويل انشغل بأصابع يده اليمنى، هل نسى التواء فمه الذي أخافه أولاً، عندما نظر في المرآة؟ لا، ولكن هذا هو ترتيب الأمور: قبل أي شيء، عليه الانطلاق بعربته لطبيبته، في التأمين الصحي[1]. ومن أجل هذا فعليه أن يحاول إعادة القدرة على القيادة الجيدة ليده اليمنى.

اتصل تليفونيا بالمكتب لكي يطلب دورا في زيارة للطبيبة – مبكرا، إذا أمكن، من فضلك. عندما سُئل عما به، شرح للموظفة عن ماذا يتحدث، ونقلت هي المحادثة إلى الطبيبة. طلبت منه الطبيبة الانتظار في البيت وسوف يتم إرسال طبيبه له لفحصه.

خلال أيام غير قليلة استقام الوجه بل واشتدت يده اليمنى. تحركت أصابعه بحرية أكبر، ولكن لم تزل محدودة جدا في الحركات الرقيقة، مثل عقد رباط الحذاء وربط الأزرار. يمكنه مجددا قيادة سيارته، ولكن خط يده، في العبرية واللغات الأجنبية، والذي لم ير ابناه الاثنان أبدا أفضل منه، ضاع منه بلا عودة.

الابن الصغير، الذي يسكن داخل المكان، ذهب في نزهة قصيرة خارج البلاد، وفي أيام غيابه لم يكتف الأكبر بالمكالمات التليفونية مع أبيه وإنما كان يأتى لزيارته يوميا أيضا. في إحدى الزيارات، عندما ركن سيارته، رأى أباه يقف في شرفة الشقة، منشغلا بتلويح العلم الوطني احتفالا بيوم الاستقلال[2]. لفترة طويلة ظل في السيارة وواصل التطلع به. كان أبوه مشغولا جدا بفعله لدرجة أنه لم يلحظ السيارة المعروفة الراكنة تحت البيت. كانت المشكلة هي ربط عصا العلم بحبل دقيق إلى سور الشرفة.

في الأيام التي سكنوا بها ببيتهم الصغير، على قطعة الأرض نفسها، كان أبوه يصعد كل عام، لدى إعلان يوم الاستقلال، على السلم إلى السطح، ويربط عصا الحبل إلى طرف إيريال الراديو. من بعيد كان يمكن رؤية العلم يخفق، لأن أغلب المساحة من حولهم كانت مفتوحة.

فتح له أبوه باب الشقة وابتسامة حزينة على فمه.

"خسارة وقتك"، قال كما هو متوقع، "أنت تعرف أنني سأخبرك إذا كانت هناك حاجة."

""هاهو الأمر، لديك مشكلة مع العلَََم، ولم تنو أن تناديني."

"من أجل هذا أناديك للمجيء إلي من تل أبيب؟ كنت سأطلب من أحد الجيران."

"لم تكن لتطلب من أي جار."

"إذن كنت سأحاول وأحاول حتى أنجح في ربطه."

خرجا للشرفة. كان العلم متروكا هناك على الطاولة. كابياً وبالياً.

"هذا العلم لا يبدو جيداً. خرقة فعلا." قال لأبيه.

"سوف أشتري واحدا جديدا. في العام القادم سيكون لديّ واحد جديد."

"أبي، هذا هو العلم الذي كان لدينا في البيت منذ إقامة الدولة!"

ضحك أبوه: "لا، ما بك! هذا استبدلته من سنوات. انطفأ لونه تماما لدرجة أنه أصبح أبيض كله. مثل الراية البيضاء."

"وهذا أيضا أبيض تماماً. سأقفز للمستوطنة لأشترى علما جديدا. بالتأكيد لديهم أعلام في المحلات زودهم بها المعبد الكبير."

"كف، هذا العام سنستخدم هذا."

"أنت لا تريد تركه!"

أخذ أبوه العلم واقتربا إلى سور الشرفة.

قال أبوه: "أنت ستمسك العصا وأنا سأربط."

"ربما كان العكس أفضل"، اقترح الابن.

"لا تفهم؟ علي التعود على الربط، قبل أن تأتي، كان ينبغي عليّ أن أمسك العصا وأن أربط في نفس الوقت. هذا ما كان صعبا علي."

ألصق الابن عصا العلم بأحد أعمدة السور. انحنى أبوه ولفّ ببطء الحبل الدقيق حول العصا والعمود. سمع ابنه صوت تنفسه المنتظم، المعتاد في لحظات تركيزه. وبعد مرور عدة ثوان صاحبته الهمهمة الغريبة التي رافقته في السنوات الأخيرة، شيء ما بين التنهد والنواح الخفيف، كنغم غير لطيف كان يرتجله إلى ما لا نهاية. الآن همهم قريبا جدا من أذن الابن.

بعد أن نجح في لف الحبل عدة لفات، جاءت اللحظة الحاسمة: أمسك طرفيه وحاول ربطهما. رأى الابن أنه نجح في عقد الطرفين، ولكن أصابعه ارتبكت بين هذا وذاك ولم تستطع توجيه الطرف الأول وزلقه في عقدة الطرف الثاني. حول الابن وجه جانباً. الهمهمة الخادشة للأذان توقفت.

وقف أبوه، تنفس بثقل للمجهود. "تفهم، المشكلة أن هذا أصابني في يدي اليمنى. لا يمكن تبديل وظائف اليدين. لديك صبر؟"

"بلا نهاية. ولديك؟"

"بالتأكيد. انظر، نجحت في التغلب على رباط الحذاء. هذا ليس بسيطا، في هذا المجهود ضاع جزء من النهار. لنر إن كان هذا سينفع أيضا الآن مع العَلَم. تعالى نحاول مرة ثانية، إذا لم يسر الأمر، فسوف أتنازل لك."

انحنى. حل الصمت مرة ثانية. ومرة ثانية الهمهمة المثيرة للأعصاب التي تعود لتنوح بأذن الابن. استمر هذا فترة طويلة، وفجأة توقفت الهمهمة ولم يتردد إلا صوت تنفس الأب، أكثر سرعة، محموما تقريبا، كتنفس الراكض الذي يقترب من هدفه ويستجمع بقايا قواه. وفجأة أعلن بصوت مخنوق: "أبويّ!"

حول الابن وجهه عودة إلى عصا العلم. انعقدت العقدة.

"سنقويها؟"، سأل أباه.

"ليس ضروريا. هي قوية."

نحّى الابن يده عن العصا، تحرك جانبا على طول السور، لرؤية العلم من الجانب. كان مائلا باتجاه الشارع.

"ليس مستقيما، يميل للخارج."

"لا يهم"، "أجاب أبوه بابتسامة ساخرة، "هكذا سيلائم اليومين، مائلا قليلا ليوم الذكرى، ومنتصبا قليلا ليوم الاستقلال."

عادا للصالون.

تمنى الابن أن يسمع من فم أبيه: "إذن هل هناك تحسن في وضع يدك؟"

قال أبوه: "لا. هذا على ما يبدو الحد الأقصى. التمرينات فعلت فعلها. وكل ما تبقى هو تكتيكي. لدي كشف عند نفورلوج (طبيب أعصاب"، يشرح)، والطبيبة قالت أن كشفه قد يفيد. لا أعرف."

"متى الكشف؟"

"بعد العيد بيومين"، قال أبوه، وللمزيد من التأكد اقترب من الرف، والمتروكة عليه عدة صفحات مطوية بصرامة وعليها الدفتر الأحمر للتأمين الصحي. تفحص إحدى الأوراق ووجد التصديق على الموعد الذي ذكره.

"سآتي معك."

"خسارة وقتك. يمكنني فعلا أن أكون على ما يرام هناك مع نفسي."

"ولكنني أريد."

"حسنا. لا أستطيع أن أطردك."

في اليوم المقرر بكر الأب ووقف أسفل البيت لانتظار ابنه. من البديهي أن ينقله إلى المستشفى بسيارته. أطاعه الابن وجلس على يمينه. في الراديو تردد صوت موسيقى وأخذ الأب، الذي كانت روحه المعنوية مرتفعة، من حين لآخر يصدر دندنة ترافق النغمة التي يبثها الراديو.

خرجا للطريق الرئيسي ووصلا بسرعة إلى المستشفى الملاصقة له. لم يكن هناك مكان خاو في ساحة صف السيارات الخاصة بالمستشفى. لقد بكرا في المجيء وتبقى لهما وقت كاف للبحث عن ركنة في مكان آخر. في أثناء هذا رأيا إحدى السيارات تخرج من الساحة وأسرعا باحتلال مكانها. المكان الذي تم إخلاؤه لهما كان ضيقا والوصول إليه كان غير مريح. بموهبة شديدة ناور الأب في الدخول مارشيدير للمساحة ما بين السيارتين، بحركة واحدة ناعمة. توقف، أطفأ المحرك وتطلع لابنه.

"أبدا لن أستطيع أن أركن هكذا"، قال الابن.

صمت الأب وابتسم.

دخلا المستشفى ووجدا الغرفة رقم 10، المسجلة في كتيب التوجيهات. على باب الغرفة لم تكن هناك أية إشارة لاسم طبيب أو لفرع طبي ما. طرق الابن الباب. لم يجب أحد من الداخل. بعد عدة محاولات، فتح الابن الباب بحرص، استرق النظر إلى الداخل، كانت الغرفة خاوية من البشر. دخلا. طاولة، كرسي بجانبها، وصف من الكراسي على طول الحائط. جلس أبوه على أحد الكراسي، وظل الابن واقفاً، يتفحص الجدران من حوله، عارية جميعها، باستثناء لافتة "ممنوع التدخين"، بالعبرية والعربية. سقطت نظرته على باب داخلي واقترب منه.

قال أبوه مستشرقا النظر للساعة: "لازال مبكراً. مازال أمامنا عشر دقائق."

"فقط لأتأكد أن هذا هو المكان"، قالها الابن وطرق على الباب مرة ومرتين وفتحه، مرة أخرة بحذر، تلصص في الداخل وتفحص الغرفة، حول وجهه إليه أبيه: "لا أحد"، قال، أغلق الباب وذهب للجلوس بجانبه.

"ماذا يوجد هناك؟"

"سرير صغير، ستارة، حوض وحنفية، طاولة، كرسي، صندوق. أشياء كتلك الموجودة في غرفة طبيب. يبدو كأن أحدا لم يستعمل هذه الغرفة لفترة طويلة."

"ربما المكان ليس هنا"، تساءل الأب.

"هذه رقم 10".

ابتسم أبوه وفرد يديه بدهشة.

جلسا لفترة طويلة وسكنا وبدأ أبوه في الهمهمة.

"غريب أنه ليس هناك من يذهب لهذا الطبيب، فقط نحن"، قال الابن.

"هذا المكان أبدا لا يبدو وكأنه ينتمي للمستشفى. حتى إعلاناتهم في الميكروفون صعبة السماع، لا يمكن فهم ما يقولون."

"سأخرج لأستوضح أين هذا الدكتور ولماذا لا يأتي"، قال الابن.

وقبل أن يحاول الأب منعه من هذا كان الابن يتجول في الممرات. رجال ونساء بالمعاطف البيضاء كانوا يمرون أمام وجهه، منهم من لم يستجب أبدا لسؤاله، ومنهم من قال له أنه لا يعرف أين الدكتور رونين، ومنهم من زعموا أنها لا يعرفون أصلاً من هو. سؤاء هؤلاء أم أولئك قد نصحوا السائل بالعودة للعرفة التي كان مقررا له فيها انتظاره والتحلي بالصبر.

عاد إلى الغرفة. نعس أبوه على ما يبدو واستيقظ لدى دخوله، لأنه بدا مذعورا ومرتبكاً.

"سأحضر لك شيئا لتشربه."

"لا، لا، لست عطشانا، أين ذهبت طول هذا الوقت."

"ذهبت لمعرفة ما أمر هذا الطبيب؟"

"و..؟"

"هناك فرصة في أن يأتي هنا قريبا."

نظر أبوه إلى ساعته وهز رأسه. "إذا لم يأت حتى الآن، فهو لن يأتي اليوم."

"ربما أحضر لك سندوتشاً؟ في هذا الوقت بالبيت تكون قد تناولت الغداء. سأعود بعد دقيقتين."

"لا، لست جوعانا، لا تذهب. أفضل أن تبقى هنا بجانبي، حتى إذا ما نمت مرة أخرى. قد يدخل شخص ما هنا ويراني نائما وحدي... هذا ليس لطيفا."

وفق جدول يومه الثابت كانت تلك هي ساعة قيلولته.

"حسنا، لن أتركك وحيدا. يمكنك النوم بهدوء."

"بالتأكيد لن أنام مرة ثانية. ولكن تحسبا لأي ظرف."

"بابا، لن أتحرك من هنا."

بعد فترة بسيطة انغلقت عينا الأب وانسحبت رأسه على صدره. بعدها تردد صوت تنفسه المنتظم الذي تحول إلى شخير. كان الجو هادئا حولهما. من حين لآخر تردد، كأنما من مسافة بعيدة، صوت ميكروفون المستشفى ينادي على شخص ما للاقتراب من مكان ما أو للاتصال برقم ما. كان من الصعب فعلا تمييز أسماء المدعوين. حتى لو كان الدكتور رونين، هو المدعو للوقوف فورا في الغرفة رقم 10، لم يكونوا ليعرفا هذا، كانا منفصلين تماما عن صخب المستشفى. يجلسان في جزيرة هادئة معزولة، تأخذ في التشبع بنعاس الأب وشخيره.

انفتح الباب فجأة واقتحم الرجل الغرفة كريح عاصفة. بكوعه دفع إلى الخلف الباب الذي انصفق، مر ببصره على الجالسَيْن في غرفة الانتظار، توسل: "بعد قليل." ودخل غرفته، أغلق الباب وبعد عدة ثوان تردد صوته متحدثا، في التليفون بالتأكيد.

"أبي، أبي!"، نادى الابن ووضع يده على كتف أبيه.

فتح الأب عينيه. تطلب الأمر لحظة لكي يعود ليحدد مكان نفسه. في النهاية سأل:

"جاء؟"

"نعم. هو في الغرفة، سيناديك بالتأكيد بعد قليل."

"حسنا، على الأقل نمت قليلا، هذا أيضا يساوي."

أشار متساءلا إلى باب الغرفة، والذي تردد من خلفه صوت الطبيب، منهمكا في محادثة تليفونية.

"نعم، هو ذاك."

"هو لا يسرع." همس الأب، حك عينيه، قام ببطء وفك أطرافه.

انفتح الباب ووقف الطبيب، والذي كان قد ارتدى معطفه الأبيض، في مدخله.

شاب صغير جدا، نحيل وقصير، شعره الفاتح مجعد. وعيناه، ولونهما غير معروف، صغيرتان ومتشككتان.

"دخول!"، نادى.

سار الابن لسبب ما خلف أبيه وأوقفه الطبيب على الباب.

"انا ابنه."

"هو صافي الذهن؟"

"نعم."

"إذن ابق هنا. إذا احتجتك، سأناديك."

في ليالي الطفولة كانت أصوات نوم الأب تتردد من غرفة الأبوين، وكان الطفل يستيقظ لانتظار الرعب القادم بعد لحظة. كان أبوه يتحدث مع غرباء من عصور مختلفة التقاهم في أحلامه. أحياناً بالإنجليزية القصيرة والخاضعة – ربما أخفق في عمله ويعتذر أمام مديره في معسكر الجيش البريطاني في حيفا - ومرات بالعبرية – على ما يبدو يشرح شيئا ما لزبون في محل سيارات زراعية بتل أبيب، ومرات بألمانية عذبة وبسّامة، وربما مع أخواته، يستدعي ذكريات من بيت طفولتهم، وقد يغمغم بالعربية، يزعق على ما يبدو على العمال، في المحجر أو البستان، وصوته كان يعلو ويهدر حتى تناديه الأم باسمه وتربت على جسمه: "ماذا هناك؟" كان يهدر بذهول. "أنت تصرخ. ستوقظ الطفل." كان يتمتم بشيء ما، يأخذ نفسا عميقا ويصمت. بعد فترة غير طويلة تتردد أصوات الشخير، ضعيفة في أولها، ثم تأخذ في الاشتداد. وبعدها تصبح أكثر قوة وسرعة، وفجأة تتوقف، وينطلق خوار طويل من الاختناق، والصمت الرهيب بعده. قلب الطفل كان يدق من الخوف. أذنه كانت غارقة في الظلام لسماع أي نفس، صخب الحياة "لا تمت!" يصرخ فيه من قلبه، "لا تمت! لا أستطيع أن أكون يتيما!" حتى تتردد من هناك ضوضاء، همهمة وغمغمة وتنهد ثقيل، وسعال، ومرة ثانية يتصاعد الشخير المعتاد، المهدئ.

خرج الطبيب من غرفته، ترك الباب مفتوحا، مر من أمام الابن وخرج للممر. دخل الابن إلى غرفة الطبيب. وقف أبوه بجانب سرير الكشف الصغير، يلبس بنطلونه. مد إليه رأسه وابتسم ابتسامة متعبة كانت واسعة أيضا بعض الشيء، لأن كل شيء انتهى أخيراً وبعد قليل سيعود إلى بيته. جلس على حافة السرير، ارتدى حذاءه وبدأت أصابعه في الارتباك مع الرباط.

"اسمح لي يا بابا، سوف أقوم بهذا بسرعة."

لم ينتظر الابن إجابته، ركع على ركبتيه وربط رباط الحذاء. قام الأب، لبس القميص، حاول عقد الأزرار ولم ينجح.

"زررت البنطلون بلا مشاكل."

"الأزرار هناك كبيرة والعراوي كبيرة."

"دعني أساعدك".

"لا. أحتاج لأن أفعل هذا بنفسي. في البيت أفعل هذا كل صباح. يأخذ وقتا ولكن الصبر لازم."

عاد الطبيب لغرفته وجلس على الطاولة، صوب نظره باتجاههما، أخرج ورقة من الدرج وكتب عليها. بعدها طوى الورقة، أدخلها في ظرف، بلل بلسانه شريط الصمغ وألصقها. نظر إليهما مجدداً، قام، وبدون أن يقول شيئا أعطى الابن الظرف. اسم الطبيبة كان مسجلا عليه. خرج الطبيب مرة ثانية من الغرفة وسمعا صوت إغلاق الباب الخارجي. واصل الأب التعامل مع أزرار القميص. حول الابن وجهه عنه حتى لا يعطله عن التركيز. عندما تغلب الأب على الزر الأول قال لابنه:

"هل ترى؟"

بعد فترة بسيطة عاد الطبيب، وقف أمامهما وصوب إليهما نظرات غاضبة:

"ماذا يحدث هنا!" زعق، "كم من الوقت سيستمر هذا؟ لا يمكنني الانتظار هنا ساعة كاملة حتى ينتهي هو من ارتداء ملابسه."

هبطت يدا الأب. نظر إلى ابنه ورأى أن وجهه إلى الأرض.

"لا يهم"، قال لابنه، "لا تأخذها على قلبك."

"اذهبا إلى غرفة الانتظار"، طلب الطبيب، "وهناك ينتهي من الارتداء. بسرعة، أطلب منكما!"

انتقلا لغرفة الانتظار ودخل الطبيب إلى غرفته وصفق الباب.

قال الأب بصوت هامسا: "الآن اعقد لي من فضلك زر القميص. أريد الذهاب من هنا."

لم ير أبدا ابنه من هذه المسافة القريبة لأي درجة غريب صدره العاري، الهزيل بفعل الشيخوخة، وممتلئ بالأعصاب.

خرجا من المستشفى وذهبا إلى ساحة صف السيارات. تفحصه أبوه وقال:

"لا تسمح لهذا المتوحش أن يخيفك" دخلا إلى السيارة، أبوه بجانب المقود وهو على يمينه. سمعا صوت الموسيقى ثانية.

"هل قال لك شيئا عن الكشف؟" تساءل الابن.

"لا. لم يقل أي شيء."

"لنفتح الظرف ونرى ما الذي كتبه للطبيبة؟"

"لا. هذا لا يهمني."

في الانحراف الأول إلى اليمين حاد الأب عن الطريق الرئيسي ودخل إلى شوارع المستوطنة. تساءل الابن لماذا لا يعودان من الطريق السريعة التي جاءا منها.

"الشرود"، قال الأب، "كنت أسمع الموسيقى."

في الراديو كان فيشر ديسكو يغني "رجل علبة الموسيقى."

توقف المرور بجانب المستشفى القديمة للمستوطنة. عربتا إسعاف خرجتا الواحدة في إثر الأخرى مع صفارات قوية غطت على صوت الموسيقى في الراديو. عندما ابتعدت عربتا الإسعاف وخفتت الصفارات، عاد صوت فيشر ديسكو ليملأ فراغ السيارة الصغيرة، وحول إليه أبوه وجهه وقال له، تقريبا بنبرة توبيخ:

"هناك عزاء في الموسيقى."

رجل علبة الموسيقى أنهى أغنيته، الأغنية التالية في صوت الموسيقى لم تكن على ذوق الأب. أطفا الراديو وسكت كلاهما. المرور الذي كان قد توقف، بدأ في التحرك.

"هنا ولدتَ"، قال الأب فجأة وأشار من وراء كتفه إلى المستشفى. "أذكر جيدا ذاك اليوم، عندما جئت هنا لرؤيتك للمرة الأولى".

وابتسم بدهشة، كمن يصعب عليه فهم كيف حدث هذا، بتلك البساطة، كيف ارتسم في ذهنه اليوم البعيد، فقط لأنه مر بالصدفة بجانب هذا المستشفى وتوقف بجانبه.

حيث كان مقررا له الموت بعد أشهر قليلة.



[1] קופת החולים.

[2] יום העצמאות . المقصود يوم إعلان دولة إسرائيل. 15 مايو. وهو يوم النكبة.

Saturday 19 June 2010

إلى يافا

أيمن سكسك هو واحد من "أدباء عرب الـ48"، الذين يكتبون بالعبرية. ولد عام 1984 لعائلة مسلمة في يافا، والتي يقيم بها اليوم. أكمل إعداد الماجستير في قسم الأدب الإنجليزي بالجامعة العبرية بالقدس.

نشرت قصته الأولى وهو يبلغ 18 عاما في ملحق "سوف شافواع – نهاية الأسبوع" بصحيفة معاريف. بعدها بسنة نشر قصة أخرى في مسابقة القصة القصيرة بصحيفة هاآرتس، وبدأ بنشر عدد من القصص القصيرة تحت عنوان "يافا تل أبيب" بملحق "تربوت فسفروت – ثقافة وأدب"، بالصحيفة. وكانت هي الأساس لروايته الأولى "إلى يافا" والصادرة عام 2010.

يعمل سكسك منذ عام 2007 ناقداً أدبياً في ملحق "سفاريم - كتب" بصحيفة "هاآرتس". كما نشر ايضا في دوريات مثل "كيشيت هحاداشه لسفروت"، "عيون اوبيقورت"، وبدورية "معيان." وشارك كمحرر في الأنطولوجيا الشعرية "لا تخروا في جت. النكبة الفلسطينية في الشعر العبري 1948 – 1958." والذي قام بتحريره الشاعر حنان حيفر.

ننشر هنا مقالين عن روايته "إلى يافا" الصادرة هذا العام.

إلى يافا، لأيمن سكسك، رغما عن الأنف

يوديت شَحَر

هاآرتس

"إلى يافا" لأيمن سكسك هو كتاب مهم، كتاب ينشغل بموضوع هوية صبي مسلم نشأ في يافا، في مدينة مختلطة بين اليهود والمسلمين والمسيحيين، وفي عالم يعيش في الصراع. هذا هو الطريق الذي يقفز فيه الراوي من الجامعة العبرية بالقدس، والتي يدرس بها، إلى بيت أمه، في الشرخ بين الشرق والغرب. هذا هو الطريق بين عالمين متناقضين. العالم الذي رضع من أبويه، من المجتمع التقليدي الإسلامي، والعالم الذي يمثل إسرائيل اليهودية العلمانية، تل أبيب مثلا الموجودة بالفعل في المقابل.

الرسائل التي يتلقاها عن مكانه السليم في المجتمع تضغط عليه للسير للمسجد والصلاة مع أبويه، ثم ترْك الدراسة في الجامعة والمساعدة الاقتصادية لأمه التي أصبحت أرملة. المفروض أن يملأ مكان الأب الذي مات من إصابة عمل. ولكن الراوي يحتار طريقاً آخر: يختار دراسة الأدب العام في الجامعة التي تعد قلعة للرؤية الغربية للعالم. وهذا الصراع هو مصدر قوته، ومصدر ضعفه في نفس الوقت.

قوته، لأنه يختار بحرية تحقيق نفسه في أشياء يحبها، ويختار أن ينتزع نفسه من عالم القيم التي يتشكك بها. وهو الاختيار الذي يتيح له إمكانية رؤية العالمين بصورة واعية ومن أعلى.

ومصدر ضعفه، لأنه ممزق بآلام الضمير لأنه لم يتحمل المهمة التي كان عليه تحملها، وهي مساعدة أمه وأخته في إيجاد لقمة عيشهم. يترك الأم لأخويها، خاليه، واللذين يدفعان أيضا مصاريف دراسته ودراسة أخته. ويدير ضهره لثقافته ولجذوره.

يصمت تماماً عندما يزوجون أخته، والتي كانت لديها أحلام بالضبط كما كانت لديه: أن تخترق الحلقة الخانقة السائدة في المجتمع التقليدي. وعندما تتخلى عن دراستها، لا يتمكن من الوقوف بجانبها ومن أن يقول لها ما تمنت أن يقوله لها: لا تتركي الدراسة ولا تتزوجي بالوساطة التي ربطوكِ بها.

ولا يستطيع أيضا الوقوف بجانب حبيبته عندما خطبوها لرجل لا تعرفه، رد فعله سلبي، هرب من حفل الخطوبة، وهو ما سبب العار لأمه.

بهذه النفس المتنازعة، التي يوهنها الصراع الداخلي الدائم، لم يعد له مكان للوقوف على قدميه، وهكذا يفقد مصدر ثقه هو نفسه: فهو لا يستطيع أن يكون عكازا لأمه، ولا يتمكن من مساعدة أخته ولا حبيبته، ولا ينجح في الوقوف بجانبهما كرجل، وأن يتحمل صلاحيات الرجل. ولذا فهو لا يقف لجانب عربيين مرا بعملية تفتيش في المعرض، وإنما يوافق على أن تسحبه من هناك صديقته الإسرائيلية. يصمت عندما تمر فلسطينية فقيرة بتفتيش مهين في الأوتوبيس، وفي البار يلتقطه البارمان ويجهز له كوكتيل من الإناث.

البطل هو بطل ضدي، هو النقيض المطلق من جيسون بورن، الوكيل السري الذي أصيب بفقدان الذاكرة، وصارع من أجل اكتشاف هويته. في فيلم "هوية في الفخ"، الموصوف في الكتاب، يكون جيسون بورن "عميلاً قام بتصفية أعدائه بشكل منهجي، هاجر من مدينة إلى أخرى في أوروبا وتخلص من الفخ الذي أعدته له وكالات الاستخبارت.". بطل سكسك يقول عنه: "أنا سعيد من أجل جيسون، بالتأكيد لم يكن سهلا عليه الحياة بدون هوية."

في السطور التي يعود فيها الراوي من الفيلم مع أخته إلى البيت، ويناديها وهي في المطبخ: "سماهر، قلتِ لي ما اسم هذا الفيلم؟" تجيبه "هوية في الفخ" ويقع كأس الشراب من يدها. شعرتُ أن سكسك يجهد نفسه فعلاً لكي يغرس هاتين الكلمتين في رأسي، وهو المعنى المركزي للكتاب. أعتقد أن سكسك كان بإمكانه الاعتماد على ذكاء القراء الذين سيفهمون ما يقوله لهم مرارا وتكرارا.

الكتاب يتيح للقراء معايشة نسيج الحياة المستحيل لعربي إسرائيلي يعيش في يافا. عربي يعيش فعلا معنا، بجانبنا، بداخلنا، وحياة يتم تحديدها يوميا على يد معضلات يتحرر منها الإسرائيلي اليهودي ويعمى عن رؤيتها وسماعها.

عندما نناقش الصراع اليهودي العربي فنحن نتمسك بشعارات عدوانية وبالصريخ وبالحدة، أما سكسك فيقدم لنا طريقا منوعاً لتعقيد الأمور، عن طريق عالمه الداخي ولغته المليئة بالصور، الرقيقة والمستبطنة: ما الذي يفعله طالب عربي مثلا، أثناء تلقي المنح، عندما يتم عزف النشيد الوطني مع كلمات: "لنكن شعباً حراً في أرضنا."، وما الذي تشعر به حبيبته عندما تتلقي منحة دراسية من إدارة خزانة "رواد الاستيطان اليهودي في إسرائيل". يقدم لنا سكسك مرآة أمام وجوهنا، عندما يصفنا كبهلوانات وجوههم مدهونة بمسحوق السكر اللزج المتبقي من فطائر عيد الحانوكا، ويشعرون بالإهانة في أعماقهم عندما يجرؤ شخص على رفض العجينة الدهنية.

في الكتاب يظهرنا سكسك، نحن اليهود، في عرينا، كمن يميزون بين العربي الجيد، العربي الصديق الشخصي، العربي "الذي يخصنا"، وبين "العربي" العام - والذي لعدم معرفتنا به يتحول في أعيننا بشكل تلقائي إلى مشتبه به، شيطاني، مهدد، ثم نقرر: هانحن نرسل ولدا عربيا، من الأغيار، يوم السبت، ليشعل النور في المعبد المظلم في السبت. ليفعل الفعل المحرم علينا بدلاً منا.

نظرة سكسك مريرة ولكنها بسامة أيضا، على سبيل المثال عندما يشعر صديقه اليهودي العلماني بالصدمة لكونه ساعد "الجوكات"، أي الحريديم، اليهود المتدينين، ويحكي له أن أمه تقول عنهم أنهم – أي الحريديم –لصوص جميعاً. وفي نفس الجملة يحكي له أنه أنقذه من الكلب الكبير الذي أراد الأطفال الآخرون تحريضه عليه. يقول له الطفل اليهودي عن أصدقائه اليهود: "هم عنصريون جميعا، هكذا تقول أمي، لا يحترم الواحد منهم الآخر. هكذا فإن كل جماعة تجد "جوكاتها" فإنها لا تؤنسنهم.

ولكن سكسك لا يمر مرور الكرام على الانغلاق والخوف من الغريب والمختلف في المجتمع العربي: عندما تتأرجح أمه بسلال ثقيلة على الرصيف ويحاول عامل أجنبي صيني – شخص من الدرجة السابعة في إسرائيل – مساعدتها، تخاف أمه وتمسك السلال بقوة وبخوف. يحكي لها كيف أن نزهة ليلية، على الأقدام، في حي عربي قريب تتحول إلى تعبير عن العداء والتشكك وأسئلة من عينة "ماذا تفعل هنا؟"، "من أنت؟"، "أفضل لك أن تذهب، هل تسمع؟"

هكذا فعلى طول الكتاب كله، يبحث الراوي ويوثق لبقايا جذوره وثقافته المدمرة: هنا، من بيت أمه وحيه تبقت أكوام من الرمال والمعادن. عجلة لعبة دوارة متبقية يقف على جانبها بين الخرائب. في أحلامه يعود ويدوخ في اللعبة الدوارة المكسورة، بالتوائم مع الدوخات المشابهة التي تتموج به دائماً.

أيضا يقوم سكسك بتوثيق العناوين بالعربية والإنجليزية – "خزانة فلسطين"، على غطاء البلاعة. أو "حكومة فلسطين مدرسة الزهرة 1938"، على حجر متفتت. في رغبة يائسة وبشكل مهووس يبحث عن عناوين "ف-ل-س-ط-ي-ن"، يسعى لنقشها على حجر مصقول بحروف عبرية، وعن طريقها يسعى للحصول على اعتراف من الثقافة الإسرائيلية اليهودية المحتلة بالثقافة العربية الفلسطينية، بل وربما يسعى للعثور على رابط ممكن بين الثقافتين. رابط قد يمنحه مكانا في العالم ويتيح له تسوية، ولو جزئية، مع الصراع الداخلي الذي يعيش في قلبه.


هذه هي يافا

يوني ليفنه

يديعوت أحرونوت

قبل قطع رأسها بلحظات، داست ماري أنطوانيت بالخطأ على قدم من سينفذ حكم الإعدام. يقولون أن الملكة السابقة لم تتخل عن أفكارها وطلبت منه السماح. القدرة على النظر في عين الشناق ومطالبته بالأدب الأولي هو إثبات قاطع لا يقل عن المقصلة على أنه حتى في ظل الغياب المطلق لأي مهرب، فإن الإنسان يمكنه أن يعمل من خلال الحرية، ولتكن ضئيلة قدر ما تكون، للحفاظ على صورته الإنسانية.

يتعامل المبدعون مع التحديدات والقمع بطرق مختلفة من أجل السيطرة على الحيز. الفنان المثلي كيث هرينج خرج من بلدة أمريكية صغيرة ومسيحية، وملأ عقد الثمانينيات المحافظة في ظل إدارة ريجان بالجرافيتي وبصور البلابل. لقد حول الجانجستا راب المسدس إلى ميكروفون والميكروفون لمسدس. "إلى يافا"، وهو الكتاب الأول لأيمن سكسك، يبحث عن طريق خاص به من أجل التغلب على واقع إسرائيلي ويافاوي تنغرس فيه التحديدات والحدود على طوله وعرضه. قيود فعلية في الشارع، على هيئة حراس، شرطيين وبناء عدواني، حتى الحدود الرمزية من الدين والثقافة في عقد الحرب التي تجتاح الحياة اليومية.

معرفتي الأولى بالبطل والراوي – الذي يجمع موادا أدبية من حياته ويبدو كما لو أنه يتحدث بالأساس مع نفسه من خلال قراءة كراسته الشخصية – تصوره كطفل جيد لم يخرج عن الحدود. الجمل هادئة، مؤطرة بشكل جيد. الأحداث تدور حول وصف محكوم لتبادل الكلمات والنظرات. كثير من الفصول تنتهي بانقلابات دائرية، حزينة ومبتسمة.

بسرعة كافية يظهر أن هذا الأسلوب الحذر هو تعبير عن قصة حياة كاملة، تتبلور في الفصول المبنية كقصص قصيرة مستقلة. أبو البطل قتل في حادثة عمل، ولكن بدلا من الوقوف محله كما هو متوقع منه، يخلص للدراسة، للكتابة ولحياته العاطفية. في الفصل الأول، وهو من الفصول الأفضل في الكتاب، يجلد البطل ذاته لكونه سمح لخاليه بالسيطرة على مستقل أخته، بينما يتمتع هو بالحرية الاقتصادية والفكرية التي سُلبت منها. رقة سكسك ككاتب تصل في نهاية القصة إلى ذروة أدبية: الأخ يجلس في غرفتهما المشتركة أثناء حفل الخطوبة، يخلي لأخته سريرها السابق ويغمغم بوعد أن يترك الدراسة في القدس ويعود للسكنى في يافا. بعد التقدم البطيء والشعري للقصة يحين ميعاد الصفعة المفاجئة التي تعطيها الأخت الصامتة لأخيها. من السهل التفكير في أن هذه الصفعة هي احتجاج عليه لكونه قد تخلى عنها، ولكن في نفس الوقت يتردد تفسير آخر – الأخت تعفي أخاها من رقة الروح ومن دوافعه بأن يضحى بطموحاته الشخصية.

هذه القصة تسم جوهر صراع البطل. وبوصفه يقف في المنتصف بين تل أبيب – يافا – القدس، فعليه الاختيار مرارا وتكرارا بين التنازل عن تماهيه مع مجتمعه العربي لأجل التقدم في العالم الثقافي الإسرائيلي، وبين البقاء مخلصا للأكواد الدينية والعائلية لأبناء شعبه.

قام روميو وجولييت بتحويل هذا الصراع إلى مأساة عن التحرر من حكم المصير والعائلة. أدباء التنوير اليهود وأدب المنبتّين قاموا بتحويل الوضع البيني بين الثقافات وأشكال الحياة إلى مثال عن الإنسان في القرن العشرين. سكسك يؤكد على العنصر اليومي، الكوميدي أحيانا، لهذا الصراع- صراع على الرموز المتضخمة في أرض يافاوية متقلصة، تتحول بها حتى فطيرة الحانوكا التي يتم توزيعها مجانا على الأديب إلى ساحة صغيرة للمعركة، وتصبغ وجوه الواقفين في الطابور بالسكر البودرة مثل البهلوانات أو الجنود. هو يميز السخرية الإنسانية في مجموعة من جنود حرس الحدود الذين يقومون بتسويد حياة اليافاويين بجوهر وجودهم، ولكن في اللحظة التي يهطل فيها عليهم المطر، فهم يضطرون للهروب مثل الأطفال إلى غرفة بير السلم، وهكذا يمنح أبناء يافا تفوقا لحظيا عليهم. هذا التكنيك يذكرنا أحيانا بصورة ألكس ليبك. صور من الشارع تخرج الرموز واللافتات والكتبات من سياقها وتطرد عنها المناخ الرسمي. لدي ليبك يتم الإحساس في الغالب بحرية الكاميرا وتفوق المصور على كاميرته، سكسك، في مقابل هذا، هو أكثر انتقادية تجاه نفسه بشكل لا يقل عما هو تجاه الناس الذين يصفهم، ويمكنهم من إظهار السخرية والتعاطف تجاهه.

في الكتاب عوائق تنبع من المهمة التي يأخذها على نفسه – وهي شرح العلاقة بين الإنسان الشخصي والمجتمع الذي ينتمي إليه ومحاولة اختبار بنفسه أدواته الثقافية كأديب. أحيانا ما تنتصر الرمزية والسخرية في هذا الصراع. وأحيانا ما لا يتوفر الصبر للعثور على الصلات الشعرية بين التفاصيل النثرية التي يربطها سكسك ببعها البعض. ولكن في أغلب الوقت فإن كتاب "إلى يافا" يعرض طريقاً حساساً ومثيراً للتماهي للتعامل مع الإحساس بالحصار السياسي والفكري الذي يصاحب جمهورا غير قليل في إسرائيل اليوم. ينجح في إقناعنا بأنه حتى الأشخاص الرقيقين، الميالين للتسوية بطبعهم، يستطيعون إسماع صوتهم في المجتمع الذي يتوقع منهم الصمت وابتلاع الضفادع. وأكثر من هذا، فإن هذه القدرة في نهاية الأمر تخلق حيزا من الحرية. يكتب سكسك: "يبدو أنه في كل مرة أريد الكتابة، فإن كراستي القديمة تبدو كما لو كانت توفر لي فجأة أرضاً إضافية."


Friday 11 June 2010

كرة القدم في الشعر العبري

أعد الناقد والشاعر جلعاد مئيري أنطولوجيا للقصائد عن كرة القدم في الشعر العبري، ونشرت صحيفة يديعوت أحرونوت مقتطفات منها هنا. ننشر هنا بعض هذه القصائد مع تقديم مئيري لها.

اختارها وقدمها: جلعاد مئيري

ترجمة: نائل الطوخي



قصائد كرة القدم في الشعر العبري ولدت في سياق سياسي تاريخي واسع مسمى "بوبويتيكا": بويتيكا (جماليات) متأثرة بالثقافة الشعبية. الشاعر البوبويتي العبري الأكثر بروزا هو ناتان ألترمان. قصائد "لحظات" و"العمود السابع" منحت الشعر العبري الأفق الشعبي، سواء كان جادا أو كان هازلاً. هذه القصائد انشغلت من بين ما انشغلت به بالرياضة، السينما، الإعلانات، الإعلام الجماهيري وما شابه، ولذا فليس مفاجئا أن ألترمان قد كتب قصائد كرة القدم الأولى في الشعر العبري (1936، 1956). منذ أن نشر ألترمان قصائد كرة القدم، تسللت تيمة كرة القدم ببطء شديد للشعر الإسرائيلي.

على قدر ما مرت السنوات استخدامها أصبح أكثر شيوعيا وكان العقد الأخير هو الأكثر خصوبة من ناحية قصائد كرة القدم المنشورة فيه. من هنا فإن البوبويتيكا، سواء تم التعبير عنها في قصائد كرة القدم بالخصوص، أو في الشهر المهتم بالثقافة الشعبية بشكل عام، كانت هي التأثير الأدبي الأطول مدى لألترمان على الشعر العبري.

كيف انتهى هذا

يوفال باز

فجأة كان كلفاني يظهر صارخاً:

"إذا لم ألعب فليس هناك لعب"!

كنا نوقف اللعبة ونبدأ من جديد.

عرفنا أنه كان يجب أن ينتصر

وإلا فسوف تكون هناك ضربات

فسمحوا له بتجاوز الجميع

وفي النهاية يخترقهم

وعندما كان الجميع يريدون الرجوع للبيت

كان يفقد أعصابه

يضرب أول من يمسك به

ويركل الكرة مصوبا إياها للسقف

ماتشات الكرة

ناتان ألترمان

المجد للرياضة!

صوت الهتاف والدفوف!

المشهد ساحر كحلم خيالي---

صفوف الستاد تهدر كقطيع من الدببة

الحكم يهمس بالاعتراف.


القدم تركل. اليد تضربها.

جرحى في الطابور يمرون.

دعنا لا نقرأ أخبارا على جبهة ....،

ولنذهب لملعب كرة عبري!


شكرا لكم جميعاً، سادتي الرياضيين،

على مشهد المعجزات المذهل---

جيد بشكل حارق ولذيذ

أن تحبب الرياضة لسكان تل أبيب.


جيد أن نرى كيف يجمع شاب أسنانه

ويُنقل إلى سرير مستشفى عام

مجرحا ومتورما كله ويطمح

لـ"العقل السليم في ام السليم!"


هدف بالقدم اليسري

روني سوميك

في ذكرى فرانز بوشكاش

عندما لوح برانز بوشكاش بأصابعه

كالإريال على سطح جسمه

كان يمكن استقبال

صوت تقبيل سنِه لوجنة الكرة.

في هذه الأيام كان ملعب الكرة قريباً

من الكنيست. العشب الذي لم ينمُ به

كان طريا كستار على تابوت العهد.

كانت للأسود المنسوجة هناك أرجل ذهبية،

وفم مفتوجح للزئير بـ"الرب موجود" بصوت لم

يسمعه إلانا.

رب واحد كان هناك، ملفوف في كتاب التوراة،

والرب الآخر، المجري، كان يجري بعيدا بعيدا في الملعب

والذي وصلته، كما كنا نؤمن،

صوت الأبواق.


هدهدة للأطفال

إيتان نحمياس جلاس

ياللا! نام ياطفلي،

الكرة انتهت، الليل حار

انزل، القطط تبحث في صفائح القمامة،

الشوارع تموت من الخماسين،

المنطقة نامت، تعال

إلى ماما، سأخذ شفتيك الزنجيليتين

قبل نومك


مباريات القاعياشي كيتشلس

كيف - مرة ثانية - تورطنا

كيف تورطنا مرة ثانية

في مباريات القاع.

هذا طريقنا،

هذا كل ما نعرفه.

الحرب ضد السقوط

المخضرمون في المقصورة تعودوا

يعرفون أنه ليس من احتمال آخر

لنا.


الشباب، الذين يذوقون لأول مرة طعم الهزيمة،

يتعلمون ببطء

حب المرارة

وهم يعرفون أنه بدون المرارة

لا نملك شيئا.

وإذا لم يكفِ هذا،

فصبيتي هي أيضا

تحارب ضد السقوط.

سقوطها لي

وسقوطي لها.


عن سقوطها الذي هو سقوطي، تقول:

"اسمع، لا أحد يخرج

كل الأرانب

في يوم واحد."

وأن هذا بالمناسبة حجة شائعة

لتلك التي لا تعرف كيف تمص


عن سقوطي الذي هو سقوطها تقول:

"لا أحب".

طيب، لنفترض

ولكن ما الذي لا تحبينه هنا؟

لساني يعرف الشوارع.

معتاد أنا على طعم المرارة

وبخلاف هذا

لا أملك شيئا.


تفاؤل حذر

جلعاد مئيري

إلى أخي، يفتاح

16:07


سيارات ملونة مرتبة في الجراج

مثل الفواكه في العلبة. جيش كأنه يبلع مكعباً

خاوياً،

حلواً.


16:10

على الرصيف

بجانب المقهي

فسيفساء أولميبية عتيقة

قمصان

عُصابات

خلاخل

زمامير للسيارات


17:06

كرات زائدة

إخلاصات عقيمة

إحباطات صغيرة

نصائح غالية

وليس

هناك من يلتقطها، يبثها ويغربلها


17:07

لنغير طريقة اللعب

لنغير الدفاع

لنغير المدرب

لنغير خط الوسط

لنغير الكراسي

لنغير الكانتين

(الكولا مثل الماء)

لنغير لوحة النتيجة

لنغير العشب

والسماء

لنغير الملابس

لنغير الأماكن

لنغير، لنغير.


17:35

بائع السجق يوجه

قفل الحزام

الخاص بالصينية الخشبية


"أرتيك، تعال هنا"

ترك الصبى

الإبزيم

ولايزال يتأرجح


في دكك المشجعين

كل شيء يُضرب في اثنين

نوى الفاكهة، المصاصات، الدباديب

الكولا (في أكواب كرتونية

لأسباب أمنية)

ومع كل هذا يتم البيع.


18:20

الجمهور قد قام

فوق، يا كرة

في الشبكة العالية:

بُود

ها!