Friday 14 January 2011

طيران الإوز

الروائي سامي ميخائيل يسكن بحي دانيا في حيفا، على جبل الكرمل. شاهد ميخائيل من قرب الحريق العملاق الذي داهم الجبل مؤخراً وأوشك على مهاجمة بيته. قبل اندلاع النار بأشهر قليلة فحسب، كان قد أكمل كتابة روايته الجديدة، وبطلها هو عامل في الغابة التي اندلعت فيها النار الضخمة بالكرمل. هنا فصل من كتابه "طيران الإوز". الفصل منشور بالعبرية في صحيفة معاريف.

طيران الإوز

سامي ميخائيل

ترجمة: نائل الطوخي

مزودين بالمضارب دخل الثلاثة إلى ما وراء الغابة. حملت الريح نفثات الدخان والرائحة الحادة لأشجار البلوط المزهرة التي تُلقى في الآتون الآن وتذوب. ركن شرجا سيارته الجيب بجانب برج مراقبة وبسرعة قفز على مرتفع الغابة.

شق طريقه بإصرار دؤوب يناسب رجل الغابة نفسه، في أعقاب الاثنين الآخرين الذين ثارا وسيطرا على اللهيب بالمضارب، وكانا كمن يطردان حيوانات متوحشة وجائعة. السلالم الداخلية في البرج الأسمنتي كانت حلزونية. السطح العلوي هدف لمراقبة سواء السياح أو الحراس المطالَبين بالتحذير من الحرائق. أخذت النار في الاقتراب، مثلما في رقصة مسعورة ترتفع على أجنحة الريح العاصفة. بينما يركض على درجات السلالم سمع زمجرة. شرجا كان واثقاً من نفسه.

أبراج المراقبة تُبنى من الخشب، أما هنا فلقد شعر بنفسه محمياً بداخل حوائط الأسمنت المصبوب. برغم هذا، وفيما يخالف المنطق، على قدر ما كان يصعد كانت العتمة تتزايد. الحرارة تشتد والنور يهرب تحت غطاء الدخان. عندما وصل إلى سطح البرج شعر كمن هبط إلى داخل الأتون. تبخرت الجيب بين فكّي النار. إليعازر جونين وموريس ليفسكي اندفعا من غابة الأشجار كمن يطاردان شبحاً هائلاً. "شرجا!" صرخ موريس بصوته الحاد، "شرجا!" بعدها توجه بذراعين سوداوين لإليعازر وبنبرة مريرة شكا، "على ما يبدو أن شرجا قد هرب، تركنا". صرخ إليعازر برعب. أما شرجا فلم يجد الهواء ليصرخ، ولو حتى ليهمس. مذهولَين فر المساعدان بجلدهما وقد اعتقدا أن شرجا قد غدر بهما.


في الوقت القليل الذي تبقى له بأعلى البرج نظر شرجا إلى ما حوله، فحص منظر الغابة الذي عكس بنية الأرض المنبسطة أمواجاً أمواجاً حتى نهاية المدى. كان متأكداً أن الحريق الضخم قد تم التسبب فيه عن عمد. تمكن من أن يعد على الأقل سبعة مراكز للنار في مسافات متساوية تقريباً. إشعال. كان هذا شهر أكتوبر، ذروة الخريف الخرب. الريح الشرقية أشعلت النيران التي اندلعت في فوضى.

بقلب مكتوٍ تذكر شرجا المنشور التاريخي الذي نشر في 1929 على يد منظمة "رجال الأشجار في فلسطين". هدف رجال الأشجار، كما تم الإشارة إليه بلغة هذه الأيام هي "تنمية الإحساس بالأشجار لدى كل مواطن، وتدريب الجميع على الزراعة والحراسة وحب أشجار البلاد، لأن عمل الغابة هو من بين فنون السلام الأقدم والأكثر احتراماً لدى البشر، والانشغال به هو أمر غير أناني وعمل من أعمال البناء. "الوصي الذي بادر بهذا المنشور كان "حضرة سيادة المندوب السامي، لفيتانت كولونيل سير دج ون روبرت تشنسلور". ولكن أهم من هذا كان تسجيل "نواب رؤساء" المنظمة: حضرة سيادة المفتي الأكبر، حضرة رئيس بلدية القدس، حضرت البطريرك اللاتيني للقدس، الوجيه الأمثل أسقف القدس والشرق، مدير الجامعة العبرية.

في الوقت الذي كان يجلس فيه في أعلى البرج، حزيناً ومذهولاً، فكر شرجا في أنه طبيعي أن لا أحد من الناس من ذوي النوايا الطيبة هؤلاء قد تبقى على قيد الحياة. معهم أيضاً ذابت روح التهدئة. عندئذ حلت عليه فكرة أن حياته هي أيضاً في خطر. الفضاء الداخلي للبرج امتلأ بالدخان الكثيف والغاز المسمم.

في الخارج كانت الأشجار التي جلدها اللهب تزأر. اختفى صفاء السماء. هربت العصافير. الحيوانات التي لم تتمكن من الفرار بجلدها احترقت حتى الموت على الأرض المشتعلة. في شيء من هنا ومن هناك، ترددت نواحات و آهات معذبة تحمل بشرى الموت. نظر إلى الأعماق العاصفة من تحته، وللحظة مرت في عقله فكرة مختلفة، قفز وقال لنفسه، إلى ألسنة النار المتوحشة، التي سوف تلتهمه شهيتها المفتوحة. لا، هو لن يتعذب. لن ينتظر الموت البطيء متألماً. ولم يتذكر أي شيء آخر.

فور أن استيقظ اكتشف أنه ممنوع عليه أن يفتح عينيه، لأن الضمادة المصمتة غطت كليهما. خُيل له أن نملاً يعض بطنه. حركة تنفسه تسببت في تشقق صدره أيضاً. كفاه أيضاً كانتا مغطاتين بالضمادة. ينام مستلقياً ووجهه موجه إلى سقف ما، ساقاه ممددتان بعيداً عنه، كأنهما محبوستان في محيط من الحامض الفوار. وبجانب كل هذا فقد شعر أنه غير مغطى بظهره. ساد الصمت، لم يتحرك أي شيء، ولا حتى الهواء، ولكنه شعر كأنه يتزلق في مهبط "زحليقة" بسرعة مدوخة، ولا سيطرة له عليها. على خلاف الآلام الجسمانية فقد كان لامبالياً بخصوص مصيره. ومع هذا، شعر أن عينين تحدقان فيه الآن. تسلل لقلبه فضول واهن. "أين... أنا؟" نطق بلا صوت.

"شرجا! شرجا!" الهتاف المبتهج الذي استوعبته أذناه كأجراس العيد في رحلة من الضياع. استجاب جسمه للهتاف المبتهج حتى قبل وعيه... "ماذا. ماذا يحدث؟" ببطء وبشفتين ثابتتين.

"أنا شيرا، يا أحمق. استيقظت! استيقظت!"


أحس بكف يدها تحلق على وجهه. عطر شعرها يتسلل من وراء غطاء الهباب وذكرى اللهيب. "استنتجت،" نطق بحذر كئيب. فجأة شعر بعائق ما يربض على جفونه، "أوكيه. إذن أفهم أنني أعمى. ماذا أيضاً؟"

"أنت سليم" عادت السعادة لصوتها. "سوف ألمسك حتى تفهم أنك سليم. في الواقع أنا خائفة. لا أريد إيلامك. سأموت وألمسك يا شرجا".

كان هذا إعلاناً بالحب لا تخطئه العين. ولكن ما جدوى الوصول لجنة أحلامك بدون نور العين، كشيء فائض. "أنا أعمى" صوته كان متشككاً.

أصابعها ارتعشت فوق الملاءة التي تغطي كرشه العاري. "أنت لست أعمى"، أسكتته، "أنت محروق كما ينبغي، وقبيح مثل قرد مسلوق، ولكن بالنسبة للعينين، لا تقلق، سوف تكون على ما يرام. أنا أعمل هنا، وليس هناك من سبب في أن يكذبوا عليّ".

شعر بنفسه محبوساً في متاهة مخيفة، بصعوبة تمالك نفسه كي لا ينفجر في البكاء، سواء خوفاً من وخز الألم المتكرر الذي مزق جسمه، أو خوفاً من الارتعاشات التي أغرقت قلبه ولم يعرف ما كنهها. "شيرا، شيرا"، نطق بألم ثاقب.

كل ما أراده الآن هو أن تظل شيرا قريبة منه قدر الإمكان. أن تلمسه شيرا، أن تلمس حتى أعضاءه الصارخة من هول الوجع. عندما تعافى قال لنفسه أنه ليس هناك عدل ولا أخلاق في الطبيعة، لا في البركان، لا الإعصار ولا في عاصفة النار. ولا حتى في الحب. في نفس العام حبّلها.

_____________________________________________

سامي ميخائيل: واحد من أهم الأدباء اليهود من أصل عراقي في إسرائيل. ولد سامي ميخائيل عام 1926 في بغداد باسم صلاح منسى. وأصبح عضوا في الحركة اليسارية العراقية لحقوق الإنسان (الحزب الشيوعي اليهودي العربي) وهو مازال يدرس في الثانوية. عام 1948، وهو يحمل الاسم الذي ولد به، صدر أمر باعتقاله واضطر لتغيير اسمه والهروب إلى إيران وبعد فترة قصيرة، في 1949، هاجر لإسرائيل، في البداية أقام بيافا ثم انتقل للإقامة في حيفا. نشر في البداية مقالات في الصحافة العربية بإسرائيل، وفي عام 1974 نشر رواية الأولى "متساوون ومتساوون أكثر".

لاقي ميخائيل صعوبات في العثور على عمل بإسرائيل لسنوات، بسبب كونه شيوعيا. ولكن برغم هذه المصاعب فلقد تم استعابه في العمل بالخدمة الهيدرولوجية بوزارة الزراعة، حيث عمل هناك لعشرات السنوات. هذه المصاعب موجودة في كتابه شبه الأوتوبيوجرافي "مياه تقبل المياه"، والمنشور عام 2001.

ميخائيل هو أخو نادية، وهي أرملة الجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين والذي تم شنقه في دمشق عام 1965.

من كتب سامي ميخائيل: "متساوون ومتساوون أكثر" (1974)، "حماية" (1977)، "هذه قبائل إسرائيل" (1984)، "فيكتوريا" (1993)، "الجناح الثالث" (2000)، "حمام في ترافلجر" (2005)، "عايدة" (2008).


No comments:

Post a Comment

comment ya khabibi