Friday, 9 April 2010

سار في الحقول

نشرت رواية "سار في الحقول" لموشيه شامير، لأول مرة عام 1947، وتحولت إلى واحدة من الأعمدة الرئيسية للأدب العبري في القرن العشرين. تصدر منها هذه الأيام طبعا جديدة في سلسلة "شعب الكتاب – النثر الإسرائيلي" التي تنشرها دار "يديعوت سفاريم." هذا الفصل من الرواية تمت ترجمته نقلا عن صحيفة "يديعوت أحرونوت"

تدور أحداث القصة في إطار صهيوني عام 1944، حول قصة حب أوري وميكا. في خلفية الأحداث يتصارع المستوطنون اليهود في فلسطين مع الفلسطينيين من أهل المكان ومع البريطانيين من الناحية الثانية، قبل إعلان قيام دولة إسرائيل. تصف القصة حياة أوري، الجندي بالبالماح، وحبه لميكا، وهي فتاة مهاجرة حديثا لإسرائيل، انتهاء بموته التراجيدي في ساحة المعركة. أوري هو صبار (يهودي مولود في فلسطين)، ينتمي للكيبوتس ويبلغ 19 عاما. واثق من نفسه ويشعر بالتزام عميق تجاه "أرضه" وعائلته وأصدقائه والمهام العسكرية الملقاة على عاتقه. على النقيض من ميكا، وهي القادمة حديثا من بولندا، لاجئة لا تملك شيئا، تأتي من "هناك" (الهولوكست لا يتم ذكره صراحة في الكتاب). ميكا وأوري يرمزان للتقسيم التنميطي الذي صنعته الصهيونية بين اليهودي الصبار المولود في فلسطين، وبين اليهودي الذي يعيش في "المنفى"، حيث الأخير خانع دائما، يميل للعزلة، متردد، على عكس الأول الواثق من نفسه والذي يؤمن بأنه يحقق حلما قومياً. الحوار بين ميكا وأوري يبدو كحوار بين أصمين. هي تتحدث عن رغبتها في الخصوصية، في غرفة أو على الأقل في زاوية تخصها، وهو يتحدث عن الجرار الذي يتمناه، عن حيرته بين التوقف عن العمل في القطاف أو الانتقال إلى عمل آخر. أوري صهيوني يؤمن بالجيش بينما ميكا تعارض ذهابه للبالماح. هكذا خلق شامير النمط الذي ظل سائداً لعقود، ولا زال، في إسرائيل، بين الصورة السلبية لليهودي الذي يرفض الهجرة لفلسطين، أو يهاجر متأخرا، وبين الصورة المشرقة والإيجابية لليهودي المولود في فلسطين. وبالإضافة لهذا، تقوم الرواية، التي يمكن اعتبارها رواية "صهيونية" بسهولة تامة، بالتمجيد من شخصية الجندي الإسرائيلي، وإظهاره كضحية طول الوقت.


موشيه شامير

ترجمة: نائل الطوخي


افتتاح في القنطرة


في القنطرة كان الجو مساء، ولكن العريف العجوز، رمادي الشعر، كهانا، لا يزال يفرك في يده عدد الصباح من الجريدة العبرية. في الخارج كانت المحطة الحدودية صاخبة. القاطرة تنفخ في مكان ما للداخل، كأنها تسعى لطي العالم كله. صبايا سلاح المعونات يقدمن مشروبات وسندوتشات في منطقة الكبائن بالمحطة. أما العربات فكانت خاوية تماما. اندهش من عدم تبقي حراسة على الأغراض.

ولكن العريف العجوز كان مغروزا في مكانه، يمد ساقيه أمامه إلى ما تحت الأريكة على الطرف المقابل ويعجن الجريدة في يده. فجأة علا صوت خطوات إيقاعية وسريعة. الشرطة العسكرية تدخل في عملية الفحص. على الفور ستتردد صافرة القاطرة وسينحشر الجميع داخل العربات، يمضغون، يضحكون ويزعقون. كاهانا العجوز قرب العدد من نور المصباح الأزرق. في طرفه كان هناك المربع الأسود.

أغلق عينيه. المربع الأسود كان على خلفية صفراء فاقعة. بدا وكأنه يهمهم بالخبر بعينين مغلقتين: "أوري – مات متأثرا بجراحه – الخبر تأخر – مات وهو يبلغ عشرين عاماً – من أبناء المكان – أبوه – من مكان ما."

كان يعرف أنه على الناحية الأخرى للجريدة يزدحم عمود من الأخبار المغطاة بالأسود. لم تحتمل أمعاء يوسل برومبرج، ولذلك جاء خبره صغيراَ ومضغوطاَ. مكتوب فيه: "نحن معك في حدادك يا كاهانا على أورينا. يوسل." خبر "التجمع الزراعي للإمداد" كان أكبر. يتذكرونه منذ كان يشتري الجرارات من عندهم من أجل مزارع البلد كلها... عمود طويل، هزيل ورفيع، من الأخبار السوداء وفي جميعها يبرز المربع: أوري، أوري – أوري.

ماذا حدث، ماذا الذي كان يدور من تحت ابتسامات أوري، ونظرات ميكا؟ ربما سمعت، يا كاهانا، أحاديثهما الليلية، ربما تنزهت معهما في الغابة، أو ذهبت معهما لعرض يومي في المدينة؟ كيف كان ابنك – هل كان حاداً، رجولياً، عارفاً، أم ساذجاً وأحمق كطفل رضيع؟ من هي ميكا؟ امرأة؟ طفلة؟ هل كانت ترغب بكل هذا؟ هل رأيتها عارية مرة؟ كيف هي كامرأة، كيف هي كامرأة رجل – لا تعرف، صح؟

وكيف كان أورِيكَ كرجل؟ لا تعرف لماذا مات أوري. لا تعرف لماذا أحب ميكا، وهي غير جميلة إطلاقاً، ولا تحتملها أي من عاملات المطبخ، وينمّ عليها الجميع دائماً، وأنت لا تعرف لماذا أحبها. وربما لم يحبها، وأنه في الحقيقة لم يكن يحبها.

وابنك- انظر هنا: طفل مدلل كأوري، واحد من الشباب يعني، وفجأة تأتي امرأة (طفلة تبلغ عشرين عاماً!) تقدم له حياتها. ولكنها تقدمها! هذا القليل هو من أجل شخص ما – العالم ملآن. وهو يموت فجأة. ويموت هكذا بحيث أن شيئاً ما يحيطك إلى أن تختنق وتعترف: أنك لم تكن تعرف.

متأخر جداً، يا عريف كاهانا. القطار يصفر ويخرج إلى داخل الليل المظلم [2] الثقيل والأسود. الجميع يتحركون في القطارات ويعودون من الأجازة. يعود شخص ما للمعسكر بكارثة جديدة في قلبه. وأنت لا تعرف شيئاً. أي دفء يتسلل لقلبك عندما تفكر في الكامب، في قرية الكامبات الواسعة في الصحراء.

ماذا تبقى في البيت؟ ما أهمية هؤلاء الذين تبقوا؟ يا رب العالمين – العجوز – أية مشاعر مدنية لعينة! أخلى العريف كاهانا مكانا للزنوج ليجلسوا معه. سحبوا سندوتشات من جيوبهم المنتفخة ومضغوها بأفواه كبيرة. نظر العريف من النافذة إلى قلب الليل. ركض القطار، مظلماً ومعتماً.

فقط في الداخل، بعيداً، انفجرت سحب وبرق من بلعوم ما خفي. ضربت النسمات الصحراوية العربات، وانطحن رمل دقيق بين الأسنان، مضغ العريف الرمل وأنصت بعينين مفتوحتين لصوت انجراشه بين فكيه. مد كاهانا يديه إلى خارج النافذة، كمن يريد استقبال هدية تلقيها السماء من أجله. لم يهبط أي شيء باتجاهه. بالعكس. انزلقت الجريدة من يديه، وطارت على طول النوافذ المظلمة، والآن هي لا تزال مبيضة.

__________________________________________________

ولد موشيه شامير عام 1921، ومات عام 2004. أديب ومسرحي وسياسي وكاتب مقالات، وواحد من أهم الأدباء الإسرائيليين في العصر الحديث، وعضو في الدورة التاسعة للكنيست عن حزب الليكود. ولد شامير في صفد، وفي عام 1924 انتقلت عائلته للسكنى في تل أبيب حيث نشأ هناك. في عام 1934 انضم إلى حزب هاشومير هاتساعير، وبعدها بخمس سنوات انضم للقيادة الرئيسية للحزب. حيث حرر الصحيفة الناطقة بلسان حاله "عال هاحوماه".

خدم في البالماح "كتائب الصاعقة بالجيش الإسرائيلي قبل 48"، ونشرفي هذه السنوات إبداعه الأدبي في صحيفة "ماشمير"، كما نشر إبداعات أخرى في كتيب "يلكوت هاريعيم"، وفي عام 1948 أسس المجلة الناطقة بلسان الجيش الإسرائيلي "بامحانيه"، وحررها حتى عام 1949". تم عزله من الجيش بطلب من بن جوريون بسبب تقرير نشره عن احتجاجات ضد تفكيك "البالماح"، وفي الخمسينيات أصبح عضو هيئة تحرير "معاريف" وحرر القسم الثقافي فيها.

أصبح واحدا من رؤساء حزب "لاعام" في "الليكود"، وتم انتخابه ممثلا عنه في الدورة التاسعة للكنيست عام 1977، حيث عارض اتفاقات كامب ديفيد، وعلى خلفية هذا قدم استقالته من الليكود في نهاية 1979.

ومن كتبه: "سار في الحقول"، 1947، "تحت الشمس"، رواية سيرية، 1950، "واحد صفر لصالحنا"، 1951، "ملك من لحم ودم"، رواية تاريخية، "الحدود"، "الوريث"، "المكان الأخضر"، و"قصص بثلاثة أصوات".


[1] التعبير الأصلي ليس "الليل المظلم"، وإنما "الليل المصري". وهو تعبير توراتي أتي في سياق الضربات العشر التي أوقعها الرب بالمصريين، ينسب الظلام إلى مصر: "ظلمة مصرية".

No comments:

Post a Comment

comment ya khabibi