ننشر هنا مقالاً كتبه الروائي يورام كانيوك عن الأديب والنشط السياسي أوري أفنيري وعن كتاب السيرة الذاتية الصادر عنه مؤخراً بعنوان "القتل بين الأصدقاء" للكاتب أمنون لورد. المقال تم نشره في صحيفة يديعوت أحرونوت تحت عنوان "البطل الخالد".
البطل الخالد
يورام كانيوك
ترجمة: نائل الطوخي
كتاب أمنون لورد "القتل بين الأصدقاء" هو سيرة ذاتية جذابة لواحد من أبطال الثقافة الإسرائيليين الأكثر بروزاً، أوري أفنيري. الأحداث الكبرى والصغرة منذ إقامة الدولة وحتى اليوم تمتد هنا كثورة يلعب فيها أوري أفنيري، البطل الخالد غير المتوائم مع أي اعتبار سياسي، دوراً مهماً في الحرب الخاسرة التي حاربها. ولكن في نهاية الأمر فإن أفنيري قد فشل. مثلما أن الأشخاص المحقين أكثر مما ينبغي، يفشلون دائماً.
لم يدرك أفنيري أن الشر في العالم يولد عن أفكار سامية. عندما كان في بداية طريقه فكر وفق مصطلحات الأمة العبرية، الحيز السامي، بسبب تأثره بمنظمة "لحي"[1] كما تأثر في نفس الوقت بالأفكار الكنعانية[2]. في كتابه الدقيق والمهم، يفرش لورد مساحة مكتوبة بألم من عاش في نطاق حياة أفنيري، وغير رأيه، وكتب نقداً، كله محبة عميقة للشخص الذي يحاول فهمه.
مغروس في كل ناصية
كل ما حدث هنا في الستين عاماً الماضية يمر كشريط مصور وأفنيري مغروس به، أحياناً ليس في مقدمة الأخداث المهمة، ولكنه دائماً يلامسها. لم يكن أفنيري أبداً شخصاً أحادياً. دوماً كان لديه ما يضيفه، ولكن دوماً كان هناك القليل من القديم في طريقه. ثمة من يقولون إن شخصيته تحوي جوانب مظلمة – كما دأب شريكه شالوم كوهين على أن يصفه بالفوهرر – ولكن ما أنقذه على ما يبدو كانت عقلانيته. الحديث هو عن رجل شخص يجيد حساب الكوارث العظمى والآمال الضخمة.
وقف أفنيري كرأس حربة صراع اليسار في البلاد، ولكنه لم يكن يسارياً. هو يبعد مسافة كبيرة عن اليسار الأيديولوجي أو الحزبي، وهكذا صنع جريدته "هاعولام هازيه"، صحيفة كانت ثورية ولكن تعوزها الملامح. إحدى جوانبها سلام وعدل والجانب الآخر نميمة مخجلة.
لقد عاد من حرب الاستقلال جريحاً بعد أن كتب قصيدة مديح لمحاربي 48، ولكن مع عودته ولدت بداخله الفكرة التي ارتبط بها طول عمره: محو "فصل اليهودية من الألواح الفولاذية للعرق العبراني"، أي، إحداث ثورة ضد هؤلاء الذين أرسلوه للحرب. لقد أراد بداية جديدة. وأراد أن يدير جيل المحاربين الدولة التي أقامها.
في كتابه التوثيقي واللامع، يطرح لورد قضية سنيه الذي انتقل لليسار الراديكالي، لأنه اعتقد أن الغرب قد غرق ولن يقوم ثانية، وقضية كستنر التي عمل أفنيري في أعقابها بقسوة وعدم حرص. أفنيري الذي كان من بين مخترعي "العمل السامي"[3]، ارتبط بحركات كثيرة كرتونية نمت آنذاك، من أجل دعم الفكرة الأساسية التي لازمته على طول حياته الناضجة: إقامة مملكة عبرية في أرض إسرائيل، وطرد جيل الزعماء "المتهودين" الذين أرسلوا الشباب للمعاناة في الحروب الإسرائيلية.
الدولة التي حلم بها لم تكن طائفة دينية وإنما عبرية، إسرائيلية. دولة ترتبط بمحيطها. تقوم بافتداء العرب أيضاً. دولة تكون مثيرة جنسية مثل القسم الخلفي من صحيفة "هاعولام هازيه" أو مثل الطوابير النازية التي انشده بها في طفولته بألمانيا. صحيح أن معركته الشخصية قد فشلت، ولكن سوياً مع هذا فأجيال كثيرة من الشباب قد تأثروا بـ"هاعولام هازيه"، وبطريقة أفنيري، ثم تركوه، بشكل عام لصالح بالونة فارغة أخرى من الخواء السياسي، بل وخائنة.
اليسار غير الأخلاقي
ابتعد اليسار الإسرائيلي عن أفنيري، لأنه من أجل أن تكون يسارياً في العالم، ينبغي أن تكون إنساناً مؤمناً بالأخلاق، وأن تقوم بأفعال غير أخلاقية. ولكن أفنيري ليس يسارياً ولم يكن كذلك، وإنما رجل يؤمن بأن الشيء قد يكون صحيحاً اليوم ولن يكون صحيحاً في الغد.
ما يتيح لورد لقرائه فهمه، هو الشخصية الصبارية[4] التي أعجب بها أفنيري. البروسي العبراني، الموشيه ديان الذي انتهى عهده القديم بداود الملك والذي حارب الأنبياء، وهم أصل اليهودية. هذا "الإليك الذي ولد في البحر"، البطل الذي كتبه موشيه شامير، هذا الشعب الجديد والشاب، المرتبط بالحركات الثورية. مثل الثوريين الجزائريين، أو ثوريي ناصر، أو الثورة الكوبية لكاسترو.
اسم "أوري"، كما يكتب لورد، هو أوري في "إليك الذي عاد من البحر". الذي لم يكن له تاريخ يهودي، الذي عاد لعتاقة أرض إسرائيل، والذي لم يكن لديه استمرار حقيقي. الاسم أوري أيضاً قدسته الشاعرة راحيل[5]، وتزوج أفنيري في نهاية الأمر أيضاً راحيل، ولكن راحيل أخرى. كل ما ميز اليهود لألفي عام هزمه، وفي الواقع هزمنا جميعاً: الهاي تكنولوجي. أو بشكل أكثر صواباً: طريقتك في السير ملتوياً، السفر في ضوء أحمر، أن تتم التضحية بك وأن تخاف.
النجاة كطريقة للحياة على مدار ألفي عام أدت إلى انتصار العباقرة على أبطال البالماح وأبطال الكنعانيين[6]. الانتصار اليهودي على "نمرود"، رمز العبرانية، هو سقطة رهيبة في الطريق التي سار فيها أفنيري بينما كان يخدم لسنوات طويلة بوصفه نبياً. ولكن الانتصار عليه لم يكن متاحاً لو لم يكن اسمه أفنيري، كعامل مساعد لبطل ألماني كنعاني على حصان أبيض. حارب ضد كل المظالم، ولكن بقلبه انضم لكبار القتلة الكبار: ستالين أو ماو، الذين أسالت انتصاراتهم أنهاراً من الدماء، وكانت لهم، كما كانت لأفنيري نفسه، نوع من الروحانية المغضبة.
كشك في شارع 96
أريد إضافة شيء ما شخصي. لقد تعرفت على أفنيري منذ سنوات كثيرة. في الخمسينيات الثائرة لم أكن هنا. ما عرفته عن البلد عرفته من "هاعولام هازيه" التي كانت تباع عندئذ في كشك بشارع 96. بعد عودتي أتيح لي أن ألتقي بأفنيري لمرات غير قليلة. في 68 جلسنا كمجموعة كبيرة في كافيه سلطان بشارع فريشمان، وادعى أفنيري بحماس أنه تقريباً أقنعنا جميعاً، أنه بعد لحظة طفيفة سوف تُخرجنا أمريكا من الأراضي (المحتلة).
أتذكر بهاء المظاهرات في الجليل بالستينيات عندما كنا قلائل، أتذكر خطاباته التي كانت تخترق المدرعة وشجاعة قلبه. ولكنني أتذكر أيضاً الظلم الذي أوقعه بأشخاص في صحيفته. في نهاية الأمر لقد تمت هزيمة أفنيري، لا على يد السلطة التي كان يحتقرها، وإنما على يد اليهود.
قبل شهرين شاركت في مظاهرة ضد العنصرية وصديقي سافي رخفلسكي، الذي نظم المظاهرة أمام متحف تل أبيب القديم، والذي قُرأت فيه لأول مرة وثيقة الاستقلال، دعا أفنير للحديث. على مدار سنوات لم يكن اليسار، أو ما يسمى باليسار، يقوم بدعوة أفنيري لإلقاء خطاب. لقد ظل وحيداً وجميلاً حتى الشيخوخة. وتحدث.
كانت هذه المرة الأول التي أسمعه يلقي خطاباً، وصوته كان يرتعش. كان متأثراً من الموقف الذي اجتمع فيه مائتي شيخ متعب ومئة من الشباب من حركات الصبية، للتظاهر أمام شعب لامبال. انفعل أفنيري على رغم أنه ألقى في الماضي مئات الخطابات التي اقتطعت من الحجارة، وكان حزيناً بعض الشيء ولكنه تحكم في وقفته.
لا يزال يحلم بالعدالة ولكن ليس بالأخلاق. يحلم بالآمال التي ضاعت. قلت له "أوري، أنا متشائم بخصوص ما يحدث هنا"، وقال "دائما كنتَ متشائماً وأنا دوماً ما كنتُ متفائلاً". أي أنه لا يزال في وسط الطريق، حتى الآن، في سن السادسة والثمانين.
[1] حركة سرية يهودية مسلحة كانت تعمل في فلسطين – قبل إعلان دولة إسرائيل – ضد العرب والانتداب البريطاني.
[2] أي مجموعة الأفكار التي نمت في إسرائيل بعد قيام الدولة لتؤكد على استمرارية الوجود العبراني على أرض فلسطين منذ أزمنة العهد القديم وحتى اليوم وتعتبر وجود اليهود في المنفى مجرد انقطاع لهذا التاريخ.
[3] "הפעולה השמית" حركة فكرية كانت تنادي بارتباط دولة إسرائيل بجيرانها العرب. أقامها أوري أفنيري، ناتان يالين مور، وبوعز عفرون.
[4] نسبة إلى الصبار، أو التسبار، اليهودي المولود في فلسطين، والذي يتميز بالوقاحة والوسامة والعمل بيديه في مقابل اليهودي الذي يعيش خارج إسرائيل، والذي يتميز في الصورة النمطية بالخنوع والاستكانة والعمل في الربا والمضاربات.
[5] شاعرة محدثة. ولدت عام 1890 ورحلت عام 1931.
[6] الجملة تشير إلى فشل الطريق الثوري، وانتصار اليهودي التقليدي على العبراني القوي والشجاع المولود في فلسطين.
No comments:
Post a Comment
comment ya khabibi