Thursday, 21 May 2015

عن اليهودي اليمني الذي شنق النازي آدولف آيخمان



الهولوكست كموضوع إشكنازي


آيخمان في المحاكمة


في 2010 تم إنتاج فيلم "الشنّاق"، عن شالوم نجار، السجان الإسرائيلي الذي نفذ حكم الإعدام شنقاً في الضابط النازي أدولف آيخمان، بعد أن اختطف الموساد الأخير في الأرجنتين وحوكم في محاكمة علنية كان لها أن تتحول فيما بعد إلى واحدة من الأحداث المؤسسة في الذاكرة الإسرائيلية الجماعية.  
الفيلم لأول مرة في تاريخ السينما الوثائقية المعدة عن الهولوكست، يتمحور حول سجان الضابط النازي وليس على ضحاياه، يهود أوروبا الإشكنازيين، والسجان للمفارقة يهودى من أصول يمنية، بما يلقي الكثير من الضوء على علاقة اليهود الشرقيين بالهولوكست وذكراه في إسرائيل. عن الأخيرة نشرت الكاتبة والملحنة جالي عمران مؤخراً عرضاً للفيلم في موقع "هاعوكتس" الإسرائيلي، بعنوان "فقط وقتها عرفت من هو آيخمان"، تناولت فيه أيضاً السينما الوثائقية التي تدور حول الهولوكست، وعلاقة التدين اليهودي بالصهيونية، خاصة أن نجار بعد أن شنق آيخمان تاب (وهو مصطلح عبري يشير إلى "التزام الفرد دينياً"، أي اتخاذه لحياته مساراً يهودياً متديناً أرثوذكسياً)، بالإضافة إلى التصور الشائع لليهود الشرقيين كأنهم "بلا أيديولوجيا"، وإنما يتحركون فقط وفق احتياجاتهم الاقتصادية. هنا نص الترجمة الكاملة للمقال.

جالي عمران
ترجمة: نائل الطوخي

"لأنني يمني، لم أكن أعرف من هو آيخمان، فقط فيما بعد، عندما حرسته، عرفت من هو آيخمان".
بهذه الكلمات يبدأ شالوم نجار، ومهنته جزار، وكان هو من شنق أدولف آيخمان، في حكي قصته. في الفيلم الوثائقي "الشناق"، المعروض عام 2010، وأخرجته نتالي براون وآفيجيل شفرفر، يسرد نجار، اليمني المتدين، ذكرياته من فترة خدمته في سجن الرملة. هذه الكلمات تنصب أمام المشاهدين والمشاهدات لافتة "ممنوع الدخول"، الموقعة باسم السيادة الإشكنازية في كل ما يتصل بذكرى الهولوكست. فيما يشبه تقرير حقيقة بديهية، يربط نجار بين كونه يمنياً وبين عدم معرفته من هو آيخمان، فليس لليهود الشرقيين صلة بالقصة المأساوية المسماة "هولوكست"، ولا مكان لهم داخل هذه الرواية. هذه ذاكرة جماعية ليس عليهم إلا مشاهدتها من بعيد.
هل هذا صحيح؟ وهل حتى يكون جزءاً من الرواية [الرسمية]، على الإنسان في جيلنا أن يرى نفسه كأن جده أو جدته خرجا من أوشفيتز؟
كانت محاكمة آيخمان، التي أقيمت في عام 1961، حدثاً تاريخياً ذا وضع مؤسس، وشكلت نقطة تحول في علاقة المجتمع الإسرائيلي بالهولوكست وبضحاياه. وضْع نجار – والذي تاب في أعقاب عملية الشنق وتحول من سجان إلى جزار – في موضع "الراوي"، كمن يقيم الأمر [التوراتي] "واحك لابنك"، يمنحه حقاً مساوياً في حكي قصته ولأن يكون جزءاً من الثقافة والذاكرة العامة.
غالباً ما تظهر في الصور والأفلام التي توثق لأحداث الهولوكست ثلاث وجهات نظر محتملة: نظرة الضحية، نظرة الجلاد، ونظرة المنقذ. ولكن في هذا الفيلم تنكشف أمامنا وجهة نظر جديدة، بدت حتى هذا الوقت مهمشة. في مقالها "أبناء حرام بلا شرف"، تتعامل ليات شتاير ليفني مع الاختلافات في السينما الوثائقية قبل محاكمة آيخمان وبعدها. وفق كلامها، كانت الأفلام الوثائقية قبل المحاكمة أفلاماً تقوم على صور خدمت المشروع الصهيوني والرسالة التي مفادها أن هذا المشروع هو وحده القادر على مساعدة الناجين على النهوض من جديد. بخلاف السينما الروائية، التي وجّهتها رواية "الهولوكست والنهضة"، ففي السينما الوثائقية كان التركيز على "النهضة" فحسب. بعد المحاكمة، كما تكتب شتاير ليفني، حدث التحول الأكبر: فيلم دافيد بارلوف، "بدمك حياتي"، كان أول فيلم يتعامل مع الهولوكست نفسه، وتتوجه فيه الكاميرا للفظائع والإبادة.
تتعامل شتاير ليفني مع التحول المركزي في صورة الهولوكست في السينما في ثمانينيات القرن العشرين، عندما حدث التجديد الأكبر في النظرة التي لا تصدر أحكاماً، وبهذا فقد تم فقط الإعلاء من شأن صعوبات البقاء وبطولة الناجين من الهولوكست. السينما الوثائقية، وبالأساس تحت تأثير فيلم كلود لنزمان "شوآه"، أصبحت أكثر تركيباً وعرضت أشخاصاً فرديين ذوي جروح نفسية، يحملون معهم عبء الذكرى الثقيلة وهم يحاولون مواصلة الحياة. الناجي من الهولوكست هو ذلك الذي ينتصب في مركزه، وليس الـ"هولوكست"، أو "النهضة"، قبل هذا.
في فيلم "الشناق"، يحل شالوم نجار في الواقع محل الناجي من الهولوكست. يتمحور الفيلم حوله، تركز الكاميرا عليه وعلى قصة حياته، وعلى الذكريات والندوب التي تركتها فيه عملية الشنق. "التعامل" الذي يحظى به نجار من المخرجتين ومن الكاميرا يوازي "التعامل" الذي يحظى به الناجون من الهولوكست، بينما الفيلم يدور حولهم. تجديد الفيلم يكمن في أن نجار ليس ناجياً من الهولوكست، ولكنه يقف في المكان الذي كان حتى الآن محجوزاً للناجين من الهولوكست. هذه وجهة نظر مختلفة، ليست في مركز الوعي السينمائي بخصوص صورة الهولوكست.
في مقالها "الذاكرة الشرقية والسيادة الصهيونية: أصوات من الهامش في السينما الوثائقية الحالية"، تكتب ميراف آلوش لفرون، أن الحركة القومية الإسرائيلية فرقت بين "الأنا" الجمعي، وبين "الآخرين"، بواسطة السيطرة السياسية الإثنية على منظومات المعرفة والقوة. هذه السيطرة خلقت كلاً من الذاكرة الجماعية ومنظومات إنساء الذاكرة، وبواسطة هذا أزاحت روايات غير ملائمة للأيديولوجيا الصهيونية. في بداية تسعينيات القرن الماضي، جرت خلخلة الهوية القومية الصهيونية، وبدأت مسيرة إدخال الرواية اليهودية – الشرقية إلى التأريخ الصهيوني. كجزء من هذه العملية بدا تأسيس الذاكرة الشرقية في السينما الوثائقية الحالية. وفق كلامها، فازدهار "سينما الأقليات" هو تعبير عن الانشغال الآخذ في التزايد بسياسة الهويات وبصورة جماعات الأقلية في إسرائيل. 
في إطار صراع الهويات هذا وُلدت روايات سينمائية جديدة، وبينها سينما وثائقية تشتمل على عرض تاريخي تتوسطه الذاكرة الشخصية. ولكن يصعب على الذاكرة البديلة الانفصال عن حيز الخطاب الصهيوني وهي غارقة في سلسلة صور مابعد- استعمارية، تفضح "السلطة الصهيونية"، وتشرح لنا الظروف المقيدة وغير العادلة التي تعمل فيها الذاكرة الشرقية الناهضة.
بإمكاننا رؤية كيف عمل فيلم "الشناق" في الإطار الذي تحدد ملامحه ألوش لفرون: قصة حياة شالوم نجار مغروسة داخل الرواية الصهيونية – فهو ذاك الذي شنق آيخمان. ولكن مع هذا، يقف نجار خارج الرواية – فهو يمني. وأكثر من هذا، ففي هذا الفيلم نرى كيف أوذي نجار من الرواية الصهيونية، مما حمله على العودة للدين والابتعاد عن هذه الرواية. التوتر بين هذين الطرفين يتضح من الثيمتين المركزيتين في الفيلم: الأولى هي "توبة" نجار. التوبة كتكفير عن الخطأ والتوبة كتبديل للهوية، والثانية هي استبعاد اليهود الشرقيين من ذاكرة الهولوكست وتقديم الشرقيين في الرواية الصهيونية كأنهم معدومي الأيديولوجيا.

الشنق والتوبة


شالوم نجار


مسيرة "الالتزام الديني" بدأها نجار بعد شنق آيخمان. شعر بأزمة وعانى من الكوابيس والمخاوف، وبعد أن تاب بدأ يشعر بتحسن ويتعامل مع الصدمة العصبية. في مقاله "التوبة والهويات الدينية الجديدة في إسرائيل ببدايات الألفينيات، يقول يهودا جودمان إن الجمهور الواسع، في الإعلام والبحث العلمي، ينظر إلى "التائبين"، بالأساس كشرقيين هجروا هويتهم "العلمانية" أو "التقليدية" وأخذوا على نفسهم هوية حريدية [متدينة أرثوذكسية]. هذا الرأي قائم على افتراض أن الهوية الشخصية والاجتماعية هي نتاج عمليات وخاضعة للتغير. ووفق كلامه فالتوبة تخلق هويات دينية جديدة ليست حريدية بالمفهوم الشائع والمعروف للـ"الحريدية". "الملتزمون" أو "التائبون" يبلورون هوية يهودية – إسرائيلية مركبة من طبقات متناقضة، مفارقة ومتناقضة. بواسطة هذا الافتراض الأساسي، يمكننا تمييز المناظير المختلفة المرتبطة بعملية "توبة" نجار.

التكفير عن الخطيئة

موضوع "التكفير عن الخطيئة"، يشكل موتيفاً أساسياً في الفيلم. في المشهد الافتتاحي نرى دجاجاً مقرراً له أن يكون "دجاج الكفارة" في القفص. والزمن هو عشرة أيام التوبة. نرى نجار ينفذ نهج "الكفارة"، وأول جملة يقولها هي: "ليكن هذا الطائر مقابلي وبديلي وكفارتي". في التقاليد اليهودية، فرأس السنة، يوم الكيبور وعشرة أيام التوبة التي بينهما مخصصة للصلاة والاعتراف ولنقذ الذات بهدف التوبة وإصلاح الخطيئة بواسطة الكفارة، وموضوعها هو الغفران الإلهي، كما هو مكتوب "لأنه في هذا اليوم يكفر عنكم ليطهركم... أمام الرب تتطهرون" (لاويين 16:30). يرمز الانشغال بموضوع الكفارة في الفيلم لعملية الالتزام التي مر بها نجار في فترة ما بعد الشنق، والتي نبعت من ضرورة "التكفير عن الخطيئة".
عندما يتكلم نجار عن فعل الشنق لا يصفه كخطيئة، على العكس: يحكي كيف أن قائده في سجن الرملة قال له أنه ينفذ حكماً تشريعيا عظيماً في ماهيته وهو محو "ذكر عماليق" [تثنية 25: 19]. ولكن يبدو أن كل هذا ليس إلا جزءاً من عملية إقناع الذات المتواصلة التي يقوم بها نجار لنفسه، لأن الأمر يتعلق بحكم تشريعي وليس بخطيئة. لهذا يُسأل لماذا - وقد أعدم العدو النازي الذي أرسل ملايين اليهود إلى حتفهم- يشعر أن عليه التكفير عن أفعاله؟
على مدار الفيلم تنكشف أمامنا المهنة التي كان يقوم بها نجار. قبل الإعدام في مايو 1962، عُين نجار حارساً لآيخمان. على مدار ما يقرب من ستة أشهر كانت له وظيفة واحدة ووحيدة، الحفاظ على حياته، كي لا يحاول أحد اغتياله (لدرجة أنه طولب أيضاً بتذوق أكل آيخمان، ليتأكد أنه ليس مسمماً). كان نجار السجان الوحيد الذي سُمح له بالدخول لزنزانة آيخمان وهو هذا الذي اهتم بجميع احتياجاته، ومنها مثلاً مرافقته للحمّام. يمكن القول أن نجار أيضاً أحبه بشكل ما، كما نفهم من وصفه لسلوك آيخمان المهذب والمؤدب معه. يحكي: "لم أكن أعرف من هو، كنت أفكر، اي قديس هذا، لم يفعل شيئاً، وكان يقول لي (شكراً جزيلاً)".
منذ فُرض عليه في السجن أن يكون هو شناق آيخمان، عبر قرعة أجريت بين السجانين، أصبح عليه إعدام نفس الشخص الذي كان عليه الحفاظ عليه من أي سوء. في هذا السياق يمكننا التطرق للإهمال الإسرائيلي في كل ما يتصل بإعدام آيخمان، الإهمال الناتج عن انعدام الخبرة. في الدول التي تتواجد فيها عقوبة الإعدام، هناك عدة إجراءات مهمة متصلة بهذه العملية: أولاً، على من يقوم بالإعدام ألا يعرف من يتم إعدامه، ومثل هذا، فهناك أكثر من شخص واحد يضغط على الزر، فلا تتاح معرفة من الذي ضغط على الزر الحقيقي. في هذه الحالة، كان نجار الوحيد الذي نفذ حكم الإعدام. وبالإضافة لكل هذا، فقائد نجار، بعد الشنق، أمر الأخير بإنزال جثة آيخمان من على الحبل. ولأن أحداً في إسرائيل لم تكن لديه الخبرة السابقة في تنفيذ أحكام الإعدام، فلم يعرفوا أن الجسد يتبقى فيه بعض الهواء. وهكذا، عندما أمسك نجار جثة آيخمان، تناثر دمه على جثة نجار. يصف نجار هذا الحادث كصدمة عصبية احتاج وقتاً طويلاً حتى يتعافى منها.
يقع نجار في حالة تنافر معرفي، فمن ناحية عقلانية يفهم أنه كان عليه شنق آيخمان، ولكن من الناحية النفسية والإنسانية، يشعر كأنه قتل إنساناً، ويصعب عليه جداً تحمل هذا الشعور. "التوبة"، هي بمثابة طلب العفو والغفران على الخطيئة، والتي صحيح أنها لم تكن "خطيئة" بالمعنى الكامل للكلمة، ولكن مازال متبقياً بداخله أثر من الصدمة العصبية. بقى نجار مع إحساس قوي بالمسؤولية عن فعل الشنق، وفي الفيلم تبدو "توبته" مرتبطة بالحادث ارتباطاً وثيقاً.

تبديل الهوية

في مقاله "احتياج التائبين والمتدينين حديثاً لطقوس الانتقال"، يكتب شلومي دورون عن مفهوم "طقوس الانتقال"، في ارتباطه بالتوبة. وفق كلامه، فأحد معاني هذا المفهوم هو الطقوس التي تُجرى في لحظة أزمة في حياة الإنسان، ويصاحبها، من بين ما يصاحبها، تغير الوضع أو الهوية الشخصية. منظومة الطقوس هذه تساعد على "إعادة تعريف" موقف التائبين في الوضع الجديد وترافقها طقوس انفصال رمزية عن الماضي والدخول في الوضع الجديد. بعد مرحلة الانفصال تأتي مرحلة "الارتباط" التي يستكمل فيها الأفراد استقبال هويتهم الجديدة. هذه المرحلة تتميز من بين ما تتميز بالاحتياج لحكي حكايات عن الماضي. هذه العملية تعبر عن ضرورة التحرر من هوية ما وحيازة هوية جديدة.
في عملية "التوبة" التي مر بها نجار، بإمكاننا رؤية الحاجة "للتحرر" من هويته السابقة، هويته كـ"شناق"، وأن يأخذ لنفسه هوية جديدة. رغم أن نجار يقدم فعل الشنق كـ"حكم تشريعي"، يبدو أن هذا الفعل ترك فيه إحساساً قوياً ومؤلماً، مما حمله على الاحتياج لـ"تبديل الهوية". اختياره العمل في مهنة الجزارة، وفي إطارها يقيم نجار نهج "الكفارة"، يؤكد هذا أكثر وأكثر. كما يكتب دورون، استكمال الهوية الجديدة يتميز بالاحتياج لحكي حكايات عن الماضي. من هذه الناحية يمكننا أن نرى في الفيلم نوعاً من "إغلاق دائرة" ذاتية بالنسبة لنجار، الذي "يستكمل" الآن استقبال هويته الجديدة، عندما أُعطيت له المنصة لحكي قصته والابتعاد عن هويته السابقة كـ"شناق".

الشرقيون وذكرى الهولوكست

"الشناق" فيلم ينشغل بالهولوكست من زاوية نظر يهودية شرقية، وبهذا يوسع رقعة الروايات الموجودة في الذاكرة العامة. تحظى "الهوية الشرقية"، بالحضور المركزي في الفيلم: أولاً، كل الشخصيات  التي تظهر في الفيلم (باستثناء آيخمان) هم يهود شرقيون – نجار وأبناء عائلته، أصدقاؤه الذين يستمعون لقصصه والزبائن الذين يزورون محل الجزارة الخاص به (الموجود في السوق السامري في مدينة حولون)، كما يشير نجار كثيراً في الفيلم لحقيقة أنه يمني، ويتطرق للصلة بين كونه يمنياً وبين الدور الذي أخذه. هناك زاويتان أساسيتان يُقدم من خلالهما هذا الموضوع في الفيلم: الشرقيون وذكرى الهولوكست، والشرقيون كمعدومي الأيديولوجيا.

الإزاحة من الذاكرة الجماعية


نجار أثناء ذبح دجاج الكفارة


كتبت الدراسات البحثية كثيراً عن إزاحة أبناء طوائف الشرق من ذكرى الهولوكست. كتبت [حنا] يفلونكا في كتابها "دولة إسرائيل ضد أدولف آيخمان"، أنه تم النظر لليهود الشرقيين من البداية بوصفهم "غير منتمين" للهولوكست. هذه النظرة كانت سائدة، سواء داخل المؤسسة، كمثال تقتبس من كلمات تيدي كولاك: "أعتقد أنه كان هناك دوراً آخر لا نستطيع تقديره للمحاكمة. بعد كل شيء كبر في هذا البلد جيل لم يعرف هتلر، يتواجد معنا مئات الآلاف من المهاجرين من بلدان [شرقية] أبعد من أوروبا لم يعانوا المعاناة التي نسمع عنها"، أو حتى بين اليهود الشرقيين نفسهم – كمثال، تورد يفلونكا خطاباً موجه من نسيم كفيف لقائد أركان الشرطة بعد اعتقال آيخمان، ويكتب فيه أنه رغم أنه من طوائف الشرق، فهو مستعد للتطوع لشنق آيخمان لو كان هناك احتياج لهذا.
في كلام نجار يمكننا أن نرى تعبيراً عما قالته يفلونكا بخصوص نظر الشرقيين لنفسهم باعتبارهم "غير منتمين للهولوكست". يشرح نجار أن بسبب كونه يمنياً فلم يكن يعرف آيخمان، إلى أن طولب بحراسته. يجد نجار في كونه يمنياً سبباً – من المفترض أن يكون بديهياً لدى المشاهد – لعدم معرفته آيخمان. ويحكي نجار أيضاً أنه لم يُسمح لأحد بحراسة زنزانة آيخمان سوى سجانين شرقيين، خوفاً من رغبة السجانين الإشكنازيين في الفتك به. هنا نرى تعبيراً عن نظرة المؤسسة للهولوكست كحدث ينتمي للإشكنازيين وحدهم.
يحكي نجار أنه  عندما حُكم على [مجرم الحرب النازي جون إيفان] دميانيوك بعقوبة الموت شنقاً في 1988، اتصل به مدير السجن وأخبره أن عليه الاستعداد، ولكن نجار رفض أن يفعل هذا ثانية. من وقتها، بعدها بما يقرب ثلاثين عاماً، لا تزال حاضرة الرؤية التي تزيح الشرقيين من قصة الهولوكست ولا تراهم قادرين على استنهاض مشاعر الانتقام بسببه.
أُبعدت الرواية الشرقية عن ذكرى الهولوكست بشكل عام، وعن ذكرى محاكمة آيخمان بشكل خاص عندما لم يُمنح يهود البلدان الإسلامية المنصة للإدلاء بشهادتهم في المحاكمة. في مقالها "خمسون عاماً على محاكمة آيخمان. إضاءات من على مسافة بعيدة"، تكتب يفلونكا، أنه رغم الخطاب المرسل لجدعون هاوزنر (وكان المدعي الرئيسي نيابة عن دولة إسرائيل في قضية آيخمان) من "اتحاد القادمين من تونس في إسرائيل" الذين أرادوا أن تتضمن الشهادات المقدمة في المحكمة شهادة ممثل من دولتهم، والتي خضع فيها أبناء طائفتهم للحكم النازي لمدة أشهر، وأُرسلوا لمعسكرات تجميع وقُتل بعضهم أيضاً، فهم لم يتلقوا المنصة لهذا. كان ادعاء [اليهود من أصول تونسية] أنه صحيح أن أبعاد الإبادة لم تكن كإبادة يهود أوروبا، ولكن ينبغي أيضاً ترديد جرائم النازيين في بلدهم والحكم فيها، ومع كل هذا فلم يجر تضمين قضية يهود تونس في المحاكمة. وكذلك غاب عن منصة الشهادات تمثيل يهود بلغاريا، وهم طائفة يهودية تعد سفاردية–شرقية. الشهادة اليونانية، والتي أدلى بها الناجي اليوناني من الهولوكست يتسحاك نحاما، كانت الشهادة الوحيدة التي مُنح اليهود الشرقيون فيها مكاناً في المحاكمة. هذا وأكثر، كما تحكي يفلونكا، فقد اضطرت منظمة "المهاجرين من ليبيا في إسرائيل" للتوجه بنفسها إلى قسم التحقيق في جرائم النازيين في "المقر الوطني" طالبة التحقيق في أعمال النازيين في ليبيا (والتي تم فيها تنفيذ القوانين العنصرية [النازية] المقرّة عام 1938) وإقامة يهود ليبيا على مدار الـ13 شهراً في معسكر تركيز عانوا فيه وأذلوا وقتلوا، بسبب أن أحداً لم يتحقق من ماهية هذا المعسكر.
منْع أبناء طوائف الشرق من الإدلاء بشهادتهم في محاكمة آيخمان جعلهم ينزاحون إلى خارج الذاكرة الجماعية التي جرى بناؤها وبلورتها على مدار أيام المحاكمة، والتي تشكلت هي أيضاً بوصفها ذاكرة إشكنازية فحسب. يمكننا أن نرى في فيلم "الشناق" مكاناً يتيح الإدلاء بشهادات "شرقية". مُنع الشرقيون من إعلاء صوتهم في محاكمة آيخمان، ولكن الآن، بينما الانشغال هو بذكرى المحاكمة، تُمنح المنصة لنجار ولقصته الشخصية –  ما أحس به وما فكر فيه. يتيح فيلم "الشناق" دخول رواية "شرقية" لتشكيل ذكرى محاكمة آيخمان، التي أبعدت عنها الروايات الشرقية.

الشرقيون كـ"معدومي الأيديولوجيا"

يظهر موضوع "الهوية الشرقية" في الفيلم أيضاً في فصل آخر، يحكي عن إقامة كريات أربع [في الضفة الغربية]. يبدأ هذا الفصل بجزء أرشيفي  بصوت مقدم الفيلم عن الاستيطان في كريات أربع، ويشرح أن المستوطنة مكونة من مستوطنين جاءوا لأسباب أيديولوجية، ومن أبناء الطوائف الشرقية الذين جاءوا لأسباب اقتصادية وتحسنت ظروف سكناهم. من هنا يبدو أن المستوطنين الإشكنازيين تحت قيادة الحاخام لفينجر وصلوا لأسباب أيديولوجية، وهم الصهاينة الحقيقيون. وأن الشرقيين لم يأتوا هنا لنفس الأسباب الصهيونية وبدافع "أرض إسرائيل الكاملة"، وإنما لأسباب اقتصادية.
تكتب عن هذا إيلا شوحاط في مقالها "الشرقيون في إسرائيل: الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها اليهود"، أن التأريخ الصهيوني يقدم هجرة القادمين من البلدان الشرقية كنتيجة لمعاداة السامية التي عانوا منها ومدفوعين بالإخلاص الديني، وليس لأسباب أيديولوجية – صهيونية.
للمفارقة الكبرى، نكتشف على مدار الفيلم أن نجار نفسه كان من بين مؤسسي كريات أربع. نرى في أحد المشاهد نجار وهو يبني مظلة سوياً مع ابنه،  ويحكي لنا كيف كان هو من فكر في حل للمشكلة التي خلقت عندما تعرضت الـ 14 عائلة الأولى التي وصلت "كريات أربع" لخطر الإخلاء. اقترح نجار، وكان وقتها سجاناً في سجن الخليل، أن يبيت هؤلاء داخل إسطبلات أحصنة الملك حسين. يحكي أن هذه كانت اسطبلات كبيرة وكان من الممكن الإتيان بعمال وتنظيفها وإصلاح الحمامات بها أيضاً، وهذا ما حدث. بعدها جاء الحاخام لفينجر [الإشكنازي] للسجن واقترح على نجار الانضمام إليهم، أي للمستوطنين، لأنه "يستحق هذا"، بلغة الحاخام. ابن نجار يقول له: "ما تقوله هو أنه بفضلك قامت كريات أربع"، ويجيب نجار: "بفضلي أو بذنبي".
سكن نجار في كريات أربع حتى وقعت حادثة "مذبحة مغارة المكبيلا [مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل] والتي قام بها باروخ جولدشتاين في 15 فبراير 1994 (الموافق لعيد البوريم اليهودي). يحكي نجار في الفيلم أنه كان موجوداً هذا الصباح في مغارة المكبيلا، واعتقد أن مخربين [فلسطينيين] دخلوا المكان فأغلق الأبواب فوراً، وهكذا فقد منع في الواقع جولدشتاين من الهروب.
بعد المذبحة وعلى إثرها، غادر نجار كريات أربع. يحكي أنه لم يتمكن من مواصلة السكنى هناك. كلماته هذه تقف على النقيض من كلمات مقدم الفيلم، الذي يقدم الشرقيين بوصفهم معدومي الأيديولوجيا. صحيح أن مقدم الفيلم يفسر وصول الشرقيين لـ"كريات أربع" بأسباب اقتصادية وليست أيديولوجية، ولكن مغادرة نجار لـ"كريات أربع" هي فعل أيديولوجي أكثر من أي شيء. وأكثر من هذا، فنجار له أيديولوجيا أقوى من أيديولوجيا الإشكنازيين، هو ذلك الذي استبطن فعلاً الرسالة الإنسانية المتضمنة من الهولوكست، ولم يعد بإمكانه القبول بفعل قتل كهذا. هذه النقطة تبرز أكثر، عندما نسمع مقدم الفيلم يحكي أن احتفالات عيد البوريم تواصلت كما هو معتاد في "كريات أربع".
يتمحور فيلم "الشناق" حول قصة حياة شالوم نجار. تقصر المساحة عن الإحاطة بشخصية نجار والقيم التي يمثلها، كما يتم التعبير عنها في الفيلم. ولكن من المناسب التطرق لهذا، وإن كان بشكل قصير. ليس بإمكاننا مشاهدة الفيلم بدون الوقوع في حب نجار: هو شخص لطيف، مضحك، ذكي وبالأساس طيب القلب. ولكن الأهم من هذا، فعلى مدار الفيلم تنكشف أمامنا رؤيته والقيم التي يمثلها، التي تعبر عن الروح الإنسانية العالمية الموجودة في جماليات الكتب المقدسة اليهودية. يمثل نجار في الفيلم ما هو بمثابة "الضمير القومي": كان حاضراً في أحداث تاريخية ذات دلالة، ولكنه ينظر إليها من الخارج وينتقدها. نجار نفسه ليس رمزاً، وإنما إنسان من لحم ودم، حي وموجود. نحن لا نرى ملاكاً، أو شخصية خيالية، وإنما إنساناً حقيقياً، يداه أيضاً ملطختان بالدماء (كان شناقاً، ومهنته جزار)، ولهذا فهو يقدم لنا بديلاً اختيارياً ممكناً لنا جميعاً، وهو اختيار الطريق الصحيح والأخلاقي.
يقدم فيلم "الشناق" نوعاً جديداً من الذاكرة الجماعية، التي لا تخضع للرواية الصهيو-إشكنازية الشائعة. لو كانت المؤسسة الصهيونية قد احتكرت لنفسهاً سابقاً الهولوكست وشكل التعبير عنه، فإن هناك قطاعات مختلفة بين السكان اليوم قادرة على عرض الهولوكست من وجهة نظرها وزاوية رؤيتها. يشكل "الشناق" جزءاً من الاتجاه لإدخال روايات جديدة للذاكرة العامة، الروايات التي كانت حتى هذا الوقت مبعَدة عن السيطرة الإشكنازية على ذكرى الهولوكست، لأنها لم تكن متوافقة مع الأيديولوجيا الصهيونية.
مع هذا، فالرواية المبنية في فيلم "الشناق"، لا يتشاركها جميع اليهود الشرقيين، أو جميع اليهود اليمنيين، وإنما هي رواية ذاتية. نجار هو الإنسان الفرد في القصة، هو الإنسان الفرد الذي شنق آيخمان. هو يحمل على كتفيه، وحده، روح الجماعة، وهو وحده من يتعاطى مع عبء الذاكرة. من هذه الناحية، فصحيح أن الذاكرة الشرقية المقدمة في فيلم "الشناق" تؤسس لرواية بديلة للرواية الصهيونية، ولكن أكثر من هذا، فهي رواية ذاتية، بل ويمكن القول إنها رواية ضد-عامة. ربما في هذا تكمن الطاقة الاحتجاجية أو البديلة في الفيلم الذي يتحدى ماهية الذاكرة العامة.
يمكن لفيلم "الشناق" أن يكون نقطة انطلاق لإعادة فحص ونقد روايات أخرى في الحيز العام الإسرائيلي. هو فيلم يشكل حجر أساس في تطور صورة الهولوكست في الذاكرة العامة، ويغرس وتداً ويحقق حقيقة جديدة على الأرض: الهولوكست لم يعد "ينتمي" ليهود أوروبا وحدهم.

________________________
نُشر الموضوع في ملحقفلسطين الصادر عن "السفير" لشهر مايو/ أيار 2015

No comments:

Post a Comment

comment ya khabibi