في هذا المقال الذي نشرته "هآرتس" وأريد له أساساً أن يكون
حواراً كاملاً مع المغنية نتاشا أطلس التي زارت إسرائيل مؤخراً، يسترجع الصحافي
الإسرائيلي – من أصول مصريّة – إيال ساجي بيزاوي ذكرياته عن أبيه، ويسترجع نصوص
الكاتبة الإسرائيلية من أصولٍ مصرية هي الأخرى، جاكلين كهنوف، ويفكّر في مفهوم
الشرق، ويرسم لوحة أمامنا كدنا ننساها، من ذكريات
اليهود العرب في بلداننا.
كيف ساعدتني جاكلين كهنوف على فهم أبي: شبه حوار مع نتاشا أطلس
إيال ساجي بيزاوي
ت: نائل الطوخي
الحق أن هذا كان مقرراً له أن
يكون حواراً عادياً. حواراً معمقاً مع المغنية نتاشا أطلس، والتي كتبتُ عنها قبل
ظهورها في مهرجات "مديتَرنا.. Mediterrana" في أشدود. تأثرت للغاية
استعداداً لهذا اللقاء، الذي أُجل مراراً وتكراراً بسبب الجدول المزدحم تم إعداده
لها في البلاد. في نهاية الأمر تمكنا من تحديد ميعاد للحوار، فقط في الأمسية
الأخيرة لوجودها هنا، قبل طيرانها عائدة لبيتها في لندن بساعات. موضوعان أساسيان أثارا
اهتمامي في هذا اللقاء: الأول، أردت فهم ما الذي جعلها تكسر المقاطعة الثقافية على
إسرائيل، وجعلها تقرر الظهور هنا بعد سنوات من الرفض، والثاني، أردت أن أستوضح
منها إن كانت كطفلة كبرت في بلغاريا وانتقلت للسكنى في بريطانيا مرت عليها سنوات
خجلت فيها من جذورها العربية. أردت معرفة إن كان لها هي أيضاً، مثلما للكثيرين من
أبناء الجيل الثاني من اليهود الشرقيين في البلاد، سنوات رفضت فيها اللغة والثقافة
العربيتين. هل اشتملت سيرتها الذاتية على مرحلة ما من "الاكتشاف"، أرادت
فيه العودة لأصولها الثقافية التي تم إهمالها، وهل فعلاً تم إهمالها؟
ولكن أراد الله، القدر، النجوم
العليا وسائر قوى الطبيعة، أن يخضع أبي للعلاج في المستشفى في وضع حرج قبل اللقاء
بساعات معدودة. لم يكن يمكن تحمل زيارته في قسم العناية المركزة، بينما هو مخدر
وخاضع للتنفس الصناعي. عرفت أنني أوشك على فقده في الأيام القادمة، ولم أعرف قط
ماذا سأفعل بكل هذا الألم. الفكرة الفورية كانت إلغاء الحوار مع أطلس. عندها فكرت
أن هذا ربما يشتت انتباهي قليلاً، وفكرت في أنني أنا بنفسي لن أستطيع التركيز في
الحوار، وإذا فلا داع مطلقاً له. وعندها فكرت أن هذا أفضل من الجلوس بلا عمل في
البيت وأنني بالتأكيد سأجن من الأفكار المزعجة والمخيفة. وعندها فكرت أن هذا ربما
يكون غير مناسب وغير محترم. وعندها تذكرت أنه بالتأكيد سيكون راغباً أن أذهب لهذا
اللقاء. وعندها انتابتني بعض الهواجس والأفكار، وفي المستشفى كان قد طُلب منا أن نخلي
الغرفة لأن وقت الزيارة انتهى، ووقت اللقاء بأطلس اقترب.
في نهاية الأمر، فمن ناحية لم ألغ
الحوار ومن ناحية أخرى لم أجره بشكل حقيقي. وصلت لمكان اللقاء بنتاشا أطلس
مستنزفاً ومنهكاً. كنت بلا طاقة، بلا طموح، بلا أية قدرة على التواصل، بلا تركيز، وبالأساس
حزين جداً. لم أخرج جهاز التسجيل، ولا حتى الآيفون لأقوم بالتسجيل، ولا قلماً
وكراساً للكتابة، ولا حتى ورقة أسئلة كنت قد أعددتها. أردت فقط الكلام. عادي، حديث
إنساني. بسيطة. بدون أن أتكلم عن نفسي أكثر مما ينبغي، وبدون أن أشركها فيما يمر
بعائلتي الآن. عادي، فقط الاستماع. أن أحاول الإنصات حتى.
ولكن أبي كان هناك. ليس فقط في أفكاري وأحاسيسي. كان هناك أيضاً في الكلام
القليل الذي منحتني إياه أطلس نفسها (في الحقيقة في الأسئلة القليلة التي سألتها
إياها)، وبشكل خاص في طريقة كلامها. بداية الحوار بيننا كانت بالعربية – المصرية.
ولكنها كانت ترد على أسئلة الحوار بالإنجليزية. قالت: "أول لغتين لي كانتا
الإنجليزية والفرنسية. ولدت في بروكسل وأمي بريطانية، وعلى مدار أغلب حياتي كنت
أسكن في بريطانيا. العربية كانت هناك دوماً، ولكني لم أجتهد بها إلا متأخراً جداً
وتعلمت الحديث بها بشكل أفضل. يمكنني أن أجيب على أسئلة الحوار بالعربية، ولكن
الإنجليزية أو الفرنسية أسهل لي".
فيما يخص أبي، الذي ولد في القاهرة وهاجر للبلاد في عمر الـ18 عاماً، كانت العربية هي لغته
الأم. ولكن دراسته وتعليمه كانا بالفرنسية، والتي أصبحت بمثابة لغة أم ثانية له. وهكذا،
في المنافسة الخفية والجلية أحياناً التي كانت بين هاتين الأمين، كانت هناك مجالات
فضل فيها الكلام بالعربية، ومجالات أخرى فضل فيها الإنجليزية، ومتأخراً أكثر انضمت
العبرية أيضاً. لو أُجري حوار معه، واضح أنه سيتمكن من الكلام بالعبرية أو
بالعربية، ولكن بديهي أيضاً أنه كان سيفضل الفرنسية على الاثنتين. وهو اختيار لم
يكن عَرَضياً في نظري، وربما كان رمزياً أيضاً بدرجة ما. مثل تفضيل الاختيار
الثالث، هذا غير الموجود في الحقيقة، الفرنسية ليست الوطن الأول، مصر، ولا الثاني،
إسرائيل.
جاكلين كهنوف |
"مشرقية"،
هكذا وصفت الأديبة وكاتبة المقالات اليهودية المصرية جاكلين كهنوف، هذه الخلطة
الثقافية التي تقع بين الشرق والغرب، بين أوروبا وبلاد العرب. كهنوف، المولودة في
القاهرة عام 1917، كانت يهودية من أصل تونسي وعراقي، عاشت في بلد مسلم وعربي،
واعتنت بها مربية إيطالية ومدربة إنجليزية، ودرست في مدرسة فرنسية. لم تعرف اللغة
العربية إلا قليلاً (وفق كلامها فقد حدث هذا بفضل اضطرارها للكلام مع الخدم العرب
في بيت طفولتها)، كانت الفرنسية لغة الأم بالنسبة لها، أما العبرية فتعلمتها مع
وصولها لإسرائيل في 1954، ومع هذا فضلت كتابة مقالاتها بالإنجليزية. هذه المقالات
لم تُنشر بالإنجليزية، وإنما تُرجمت إلى العبرية ونُشرت لأول مرة في مجلة
"ماسا" للأدب، والتي حررها يتسحاق بتسلئيل، ثم في مجلة "كيشِت"، والتي
حررها الشاعر والمترجم أهارون أمير.
احتاجت كهنوف إلى الكثير من القوة والشجاعة حتى تعلن عن
نفسها في تلك السنوات بوصف "أنا مشرقية". بدا في سنوات الخمسينيات
والستينيات، وهي السنوات الرئيسية التي نشطت بها، وكأن لا شيء أخاف قادة الدولة
أكثر من "مشرقة" المجتمع الإسرائيلي. سبق هذا تاريخ طويل من ترسخ مفهوم
"المشرق.. Levant"،
والذي استعمل في الأصل كمفهوم جغرافي يصف أبناء الشرق الأدنى، وأصله في الفعل
الفرنسي، lever،
بمعنى "أن يعلو". أي، المكان الذي تعلو منه الشمس. ولكن سريعاً جداً
تحول هذا المفهوم إلى تعبير إدانة، وفق قاموس إبن شوشان على سبيل المثال يستعمل
كـ"وصف لشخص ثقافته سطحية وأخلاقه خارجية فحسب، بدون تحضر حقيقي ولا اتزان
روحاني".
هذه النظرة لأبناء وبنات الشرق
استولت أيضاً على القادة الصهيونيين وزعماء الدولة. منذ الثلاثينيات، عندما زار
مندوب الوكالة اليهودية ناحوم فيلنسكي الطائفة اليهودية في القاهرة، كتب لرئيس
الوكالة أيامها موشيه شرتوك، أن "في القاهرة يضاف لتعفن المنفي تعفن المشرق".
أكثر من هذا، فقد وجد أنه من الصواب أن يحذر الصهاينة في البلاد بقوله:
"حافظوا على روحكم القتالية، على فضولكم وامتنعوا عن أي تغيير من شأنه أن
يجعلكم مشرقيين. لأنه من الواضح اليوم لأي مراقب موضوعي أن مشرقة أرض إسرائيل ستشير
للفشل النهائي للصهيونية". وأيضاً، في الخمسينيات، مع موجات الهجرة الكبرى
ليهود البلدان الإسلامية (تلك المسماة هجرة "جماهيرية") بدا أن مشرقة
المجتمع الإسرائيلي تحولت لتهديد ملموس أكثر بكثير. "لا نريد أن يتحول
الإسرائيليون إلى عرب"، قال دافيد بن جوريون في هذا الوقت، "من واجبنا
محاربة روح المشرق الفاسدة جماعات وأفراداً، وأن نحافظ على القيم اليهودية الأصيلة
كما تبلورت في المنفى".
التأثيرات الثقافية الغريبة، خليط
اللغات، وتكاثر الهويات – كل هؤلاء كانوا أعداء الفكرة القومية بشكل عام، والأيديولوجيا
الصهيونية بشكل خاص. أرادت هذه أن تخلق هنا هوية "طاهرة"، إسرائيلية
ويهودية، كانت لونها الحاسم بالطبع هو لون يهود شرق أوروبا. أما كهنوف، المرأة
الشرقية التي وصلت لتوهاً للبلاد، فقد جرؤت على قول: "هذا إثراء متبادل،
يسمونه في إسرائيل ‘مشرقة‘، أنا أراه إثراء وليس إفقاراً". مقابل جيل
البالماح وجيل 1948 جرؤت كهنوف على وضع جيلها، جيل المشرقيين، هؤلاء من أبناء
الأقليات الذين عاشوا في بلاد إسلامية وتعلموا على ركبة الثقافة الأوروبية. في
مقابل الهوية الطاهرة، التي تبدو وكأنها
بريئة من التأثير والهجنة (!)، عرضت هوية "مبقعة"، "مفتوحة
على العالم المحيط بنا، كان عربياً أو غربياً. مقابل الهوية الإسرائيلية التوحيدية
والمتصلبة، عرضت هوية أكثر براجماتية، سائلة، تتفكك وتتشكل من جديد في أية لحظة.
"أنا عن نفسي"، كتبت في
أحد مقالاتها، "أنا مشرقية نموذجية، بمعنى أنني أقيّم بدرجة متساوية ما أخذه
من الأصول الشرقية وما أصبح نصيبي من الثقافة الغربية". وأبي أيضاً كان
تشكيلة كتلك بين الأصول الشرقية ونصيبه الذي حازه من الثقافة الغربية. وليس في
إسرائيل، المسماة غربية، حاز لنا على نصيبه هذا، وإنما جاء به من وطنه الأول، مصر.
ولم يكن يحتاج ليهود شرق أوروبا في البلاد كي يعلموه ما هي أوروبا وما هي الثقافة
الغربية. كان لديه هذا في البيت. من المدرسة الثانوية الفرنسية في القاهرة، من
تأثير الاستعمار البريطاني على مصر، ومن أبناء الطوائف الذين عاشوا وقتها في المدن
المصرية الرئيسية، والذين كان على علاقة بهم.
يبدو أن هذه الجملة لكهنوف كانت
الأكثر اقتباساً من بين كتاباتها. صحيح أنها ظلت بمثابة أديبة هامشية، بل ومجهولة، بالنسبة لغالبية
القراء الإسرائيليين، ولكن الخبراء القليلين الذين عرفوا كتاباتها وتعاطوا معها،
أكثروا من الاستشهاد بهذه الجملة، كأنها خلاصة الفكرة المشرقية، التي أرادت كهنوف عرضها
على دولة إسرائيل كخيار من أجل البقاء في الحيز الشرقي – المتوسطي. "الربط
الأرستقراطي بين الشرق والغرب"، هكذا وصفت الصحفية نوريت برتسكي فكرة كهنوف
المشرقية، وقال المترجم والناقد الأدبي يورام برونوفسكي عنها إن "قوتها تكمن
في ربطها بين الشرق والغرب، جوتة مع عبد الوهاب ومع الشاعر يسرائيل فنكاس".
ولكن، في عيني، مع كل السحر الكامن
في الربط المتجانس بين الشرق وبين الغرب، بين أوروبا والعرب، ومع كل غواية خيار أن
نكون "هذا وذاك"، فأفكار كهنوف حول الهوية المشرقية لا تتلخص في هذا.
ليس صدفة أن تكتب عنها الأديبة رونيت مطلون – وهي الوحيدة في نظري التي تعمقت حقاً
في كتابات كهنوف ونجحت في فهم تركيب أفكارها- أن "إمكانية أن تكون كل شيء،
يبدو معناها في أحيان كثيرة ألا تكون شيئاً في السياق المشرقي". وبالفعل، يبدو
أن كهنوف في نهاية الأمر لم تشعر بانتماء كامل لأي واحدة من أنواع الهويات التي
نعرفها اليوم، ولم تشعر وكأنها في بيتها بأي من محطاتها المختلفة، فلم تحس بنفسها
مصرية مئة في المئة عندما عاشت هناك، ولا فرنسية عندما عاشت في باريس، ولا أمريكية
عندما عاشت في شيكاغو ونيويورك، وفي نهاية الأمر ففي البلاد شعرت كأنها بقيت واقفة
خارج حدود الهوية الإسرائيلية.
مثل كهنوف، أبي أيضاً شعر أنه ليس
مصرياً مئة في المئة برغم أنه ولد وعاش هناك حتى سن الثامنة عشر. مثلها، ففي حالته
أيضاً كان تعليمه فرنسياً في الأساس ودوماً ما كان يوجه عينيه لباريس، ومع هذا
فبرغم أنه عاش فيها شهوراً معدودة، شعر كأنه غريب عنها وغير منتم. ومثلها، فأيضاً
إسرائيل، وقد دفعته صهيونيته لأن يبني فيها بيته، ويؤمن بعدالة وجود هذا البيت على
طول حياته، حتى هذا المكان بدا له غريباً في نهاية الأمر، وبدت ثقافته له فظة
وعدوانية، بلا أي تهذيب عرفه وجاء به من تعليمه الفرنسي المخلوط بالمصرية/العربية
وبالقيم اليهودية، التي حتى هي وجد صعوبة في العثور عليها هنا.
على مدار السنوات حاولت فك الشفرة
وأن أشرح أبي لنفسي. وكيف يمكن فهم شخص كانت آراؤه السياسية يمينية ويشير إلى أوري
أفنيري، في وقت عد فيه الأخير يساراً جذرياً، بوصفه خائناً وعدو إسرائيل؟ وكيف
يمكن شرح أنه كان اشتراكياً في جوهره ويصوت لليكود، لأن روحه تقززت من اليسار
الإشكنازي، قراء جريدة "هاآرتس"، والتي اشترك هو نفسه فيها منذ
الخمسينيات وحتى اليوم؟ وكيف أفسر لنفسي الضربة الوحيدة التي ضربها إياني على يديّ
عندما أشرت على طفل عربي في الشارع برغم علاقته المتشككة لدرجة مستفزة تجاه
جيرانه؟ وكيف يمكن فهم كلماته الحاسمة، العنصرية أحياناً، عندما كان يحكي عن العرب
والمسلمين على مسامعي، بينما هو نفسه يقدر ويحترم أي عربي ومسلم يلتقيه، بل وقد تبنى
صديقتي الطيبة "جميلة" ورآها مثل ابنته؟ كيف يمكن التخلص من
"أيديولوجيته"؟ وبشكل عام، أي نوع موقف سياسي هذا الموقف؟
على مدار السنوات حظرت أمي عليّ
وعليه الكلام عن مواضيع سياسية واجتماعية، فقد كانت هذه تشتعل سريعاً جداً وتصل
إلى عراك لفظي وصارم. لم أنجح أبداً في فهم كيف أن أبي، المحب للناس، يستطيع أن
يخرج من فمه جملاً صدمتني كثيراً. مع السنوات بدت كأن هويته – مثل هوية كهنوف ومثل
هوية يهود شرقيين كثر - إلى هذا الحد مقسمة ومشققة، فقد حمّلني بنصفه اليساري،
الإنساني، المعادي للقومية، ولكي يحس بنفسه سليماً قليلاً، فقط ليُشعر نفسه قليلاً
كأنه في بيته، ويتخندق في مواقف يمينية، عنصرية، منعزلة ورأسمالية، لم أصدق قط أنه
يتبناها في الحقيقة، فهي لم تتسق مع شخصيته ومع جوهره كله.
فقط عندما أصبحنا نحن الاثنين
مرتاحين أكثر، ونجحنا في أن يمتنع كل منا عن إشعال النقاش ونار المعركة، أصبحنا
سعداء باكتشاف أن لكل الأشياء في الحقيقة أساس معين نوافق عليه. فجأة، عندما أصبح
مستعداً لأن يسمع ويتكلم، وجدنا أن هناك عوامل مشتركة غير قليلة لأفكارنا
المختلفة. وأصلاً بفضل عواصف النقاشات بيننا، كان كل منا يعرف جيداً أن ثمة حقائق
نسبية في كلام الآخر، وفقط بسبب سخونة
المعركة والتناطح فنحن غير مستعدين الآن للاعتراف بها. وهذا الاعتراف بنسبية
الحقائق لم يكن له مكان بيننا إلا عندنا تهدف مناقاشتنا فعلاً، ومن خلال محاولة
ورغبة صادقين، في أن يفهم كل منا موقف الآخر. وقتها، وقتها فحسب، استطعت فهم أبي، هو
مثل كهنوف، لا يريد في الحقيقة التمسك بأيديولوجيا واحدة، كاسحة، تبدو وكأنها
فاعلة دوماً، ودوما ما تخدم أصحابها. هذا من وجهة نظره موقف خفيف جداً، بسيط، وغير
مركب، لا يجيد التعامل مع الأوتار الدقيقة للواقع.
بعد سنوات طويلة من محاولات فهم
أبي وشرحه لنفسي، وجدت أن كهنوف في مقالاتها تجيد صياغة الأشياء أفضل مني ومنه.
ووجدت أنه في نظرها أيضاً، مثلما في نظر أبي، فكل حادث وحادثة يحتاجان لبلورة
الموقف من جديد، من خلال التفكير في السياق الفوري. ولا يمكن لأية أيديولوجية
كبيرة توفير هذا، وهي ليست إلا هروباً إلى تفكير مثالي صلب لا علاقة له أصلاً
بالحياة. أما التصلب الفكري، هذا الذي لا يساوم، غير المستعد للاعتراف بوجود
روايات أخرى، بديلة، فهو العدو المؤكد للهوية المشرقية. وهكذا، حتى لو كان الربط
بين الشرق وبين الغرب، بين جوتة وعبد الوهاب هو أساس وجود الهوية المشرقية، ففي
رأيي أن ليس هناك اقتباساً أكثر صحة ومناسبة لوصف جيل المشرقيين، من ذلك الذي
صاغته كهنوف نفسها، وكانوا وفق كلامها محترمين دائماً وعرفوا جيداً أن
"الإنسان، بكل عدم قيمته، أكثر أهمية من المبدأ، بكل قداسته".
وربما بسبب هذه الفكرة، لم تستطع
كهنوف في نهاية الأمر استبطان الفكرة القومية بشكل حقيقي، برغم أنه واضح من
كتاباتها كونها حاولت. وربما بسبب هذا، لم ينجح أبي في نهاية الأمر في أن يكون
إسرائيلياً حقيقياً، برغم أنه أراد هذا جداً. وجود حقيقة واحدة ووحيدة، مطلقة ومتصلبة،
تبدو دُغري وتسبارية[1]،
ما تقوله في أي ظرف يبدو كما لو كان الحقيقة الوحيدة، والكلام الغارق في الغضب
والحنق – كل هذه الأشياء بدت في نهاية الأمر فظة بعينيه ومناقضة للمرونة الفكرية، ولمكان
وضع علامات التشكك، وللتهذيب الذي يستلزمه السياق المشرقي. على مدار السنوات، في
كل مرة سافرت فيها للقاهرة كنت أتوسل إليه ليأتي معي. ولكنه كان يرفض دائماً.
"لم يعد لديّ أي شيء معهم"، كان يقول لي هذا بوجه منغلق. "كنا
سوياً، كان الأمر جيداً، شكراً، انفصلنا، ومن وقتها وأنا أنتمي لهذا المعسكر، لإسرائيل".
دوما ما كان يكرر لي حكايته بأنه في اليوم الذي تركوا فيه القاهرة رمت الجارة
المسلمة قُلة ماء من الشرفة، في فعل يرمز إلى الطرد: اذهبوا ولا تعودوا. كان يقول
لي: "في هذا اليوم أقسمت ألا تطأ قدمي مصر للأبد".
ولكن عندما جاء لزيارتنا صديق
مصري، كان يعمل سابقاً في السفارة المصرية في إسرائيل، وسأله عن يومه الأخير في
القاهرة، انفجر في البكاء. كانت هذه هي المرة الأولى التي أراه يبكي، وانتظرت حتى
يعود ويحكي مجدداً حكايته عن الجارة وقُلة الماء. بدلاً من هذا حكى أبي لهذا
الصديق عن بواب البناية الذي كان يحتضنه وهو خارج بحقيبته، كيف طلب منه أن يبقوا
في مصر، وكيف بكا الاثنان، الواحد على كتف الآخر. لم أسمعه قط يحكي هذه الحكاية،
وبالتأكيد لم أر أبي متأثراً هكذا من قبل. عندما سألته أين اختفت قصة الجارة وقُلة
مائها، قال إن في الحقيقة فهذا حدث وهذا
أيضاً حدث. ولكن علينا أن نعرف أي قصة نحكيها ومتى ولمن.
"على مدار السنوات"،
قالت لي نتاشا أطلس في الحوار القصير الذي أجريته معها، "كنت أقاطع إسرائيل
وأرفض المجيء هنا للظهور في حفلات. ولكن عندما عرفت شاباً فلسطينياً متزوجاُ من
يهودية إسرائيلية تغير شيء ما في داخلي. فجأة، بالتحديد هذا الوعي الشخصي، العرضي،
جعلني أفكر في أنني قد أحتاج لأن أسلك طريقاً آخر. سهل جداً أن تقاطع. أسهل شيء أن
تقول أنا لا أريد إسرائيل ولا أريد معرفة إسرائيليين ولا أريد المجيء هنا للظهور
في حفلات. وعندئذ ماذا سيحدث؟ بماذا سيفيد هذا؟" ومثل مشرقية نموذجية لخصت
كلامها قائلة: "في هذا الموقف ثمة شيء ما متصلب ولا يقبل التسوية، أتشكك في
أنه سيخدم الهدف. أنا ضد سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وضد الاحتلال. هذا واضح.
ولكن مقاطعتي حتى اليوم لم تفد بأي شيء. ربما يكون الطريق الطريق الصحيح بالتحديد
هو المجيء هنا والظهور وترديد رأيك في الموضوع. بالطبع سأدفع على هذا ثمناً
باهظاً. بالتأكيد لن يمكنني معاودة الظهور في مكان مثل بيروت، وربما حتى لن أستطيع
الدخول للبنان. ولكن هذا هو الثمن الذي سأضطر لدفعه. لا يمكنني القول إن هذا
بالضرورة هو الشيء السليم. ولكني أعرف أنني رغبت في تجربة شيء ما آخر يختلف عن
المقاطعة التي كنت أنتهجها حتى الآن".
بعد يومين من لقائي مع أطلس رحل
أبي، المشرقي الأخير في حياتي. لم أتقبل جميع آرائه ورؤاه في حياته، ولا الآن
أيضاً. ولكن واضح لي أنني سأظل مديناً له على شيء واحد دائماً: عن كونه علمني أن
هناك "جانباً" و"جانباً آخر"، عن كونه زرع فيّ احترام الإنسان
كما هو حتى لو لم أتفق معه، على أنه مكنني أكثر من مرة بالاعتراف بوجود حقائق
نسبية والتعامل معها، وباختصار، على أنه منحني للأبد- مع كل أفكاره المتناقضة
والمتصادمة – قليلاً من المشرقية المطلوبة لكي أعرف أن حياة الإنسان قيمتها أكبر
من أية فكرة. بالتحديد في هذه الأيام، التي نتمنى فيها جميعاً العثور على
المخطوفين أحياء وإنقاذهم، والتي تثور الأنفس فيها وأي كلمة تزعزع العتبات،
بالتحديد في هذه الأيام أعتقد أنه يمكن التوقف للحظة ومحاولة الإصغاء للحقائق، حتى
وإن لم تكن إلا نسبية، التي يقولها أيضاً الطرف الثاني. ولا يكون هذا الفعل "معادياً
لإسرائيل"، وإنما العكس بالضبط. من خلال إيمان أن هذا سيؤدي لسلامة الأطفال.
لأن حياتهم، وهذا ما ينبغي أن يكون في رأيي، قيمتها أكبر من أي مبدأ.
___________________________
الحوار منشور بالعربية
في ملحق فلسطين الصادر عن مؤسسة السفير لعدد أيلول/ سبتمبر 2014
[1] كلمة دوغري
بالعربية واردة كما هي، والتسباري هو اليهودي مولود فلسطين. صورته الذهنية تتسم
بالصراحة وعدم المرونة في مقابل اليهودي غير الإسرائيلي الذي بدا في الصهيونية
مائعاً وضعيفاً.
No comments:
Post a Comment
comment ya khabibi