Sunday, 3 July 2011

تحية من أنطون شماس.. تحية لأنطون شماس




نحتفي اليوم هنا بأنطون شماس، بمناسبة إعادة نشر كتاب الأطفال الذي كتبه منذ ثلاثين عاماً، "الكذاب الأكبر فبي العالم"، ننشر ثلاثة مقالات عن الكتاب، الأول كتبته شوهَم سميت بعنوان "حقيبة الأكاذيب"، والثاني، "تحية من أنطون شماس ودودو جيفع"، والثالث كتبه شماس نفسه عن الرحلة التي جمعته بالرسام دودو جيفع في إصدار الكتاب. ولد شماس، الأديب الفلسطيني بقرية فسوطة بالجليل عام ... وأصدر عام 1986 روايته "أرابيسك" التي عدت من أهم الروايات الفلسطينية المكتوبة بالعبرية. وهو فوق ذلك أكاديمي بارز، يقوم بتدريس الأدب بجامعة ميتشجن بآن أربور.


ترجمة: نائل الطوخي


حقيبة الأكاذيب "الكذاب الأكبر في العالم"


شوهَم سميت

في بداية الفصل الخامس من كتابه "أرابيسك" (عام عوفيد، 1986) بعد أن حكى، في الفصل السابقين، أحداث حياته في قرية سلواد بقضاء رام الله، يكتب أنطون شماس: "ولكن قدمي لم تخط أبداً في قرية سلواد، وكل الرحلة إلى ثريا سعيد ليست إلا أكذوبة"، يكشف شماس أيضاً عن السبب الذي أنتج هذا الأكذوبة: "الجندي كان يقف على الحاجز وبيده جهاز اتصالات تلقى ممن تلقى أوامر بعدم السماح بدخول الصحفيين للمنطقة". بهذا الشكل يمحو المؤلف الفروق بين الحقيقة والأكذوبة. تتحول الأكذوبة من شيء غير حقيقي إلى شيء يمكن له أن يكون حقيقياً- ما يمكنه أن يحدث. ما كان ينبغي أن يحدث. الكذب يصبح حقيقة.

الفن، وبالأخص فن القص، مرتبط بالخداع البصري، بالاختراعات، بالانتقاء. شماس نفسه، في الكلمات المؤثرة التي كتبها بمناسبة إعادة إصدار "الكذاب الأكبر في العالم" (ملحق "جاليريا" بهاآرتس. 26. 5)، يستهل بالتطرق للواقع الذي جرت الأحداث على خلفيته – مثل "أرابيسك"، فإن "الكذاب الأكبر في العالم" هو أيضاً مكتوب أثناء حرب لبنان الأولى، ولكنه ينتهي بالتأملات حوال أعاجيب أكاذيب الفن وحول قوته في تحويل "الموت نفسه إلى كذبة كبيرة"، وواضح أن شماس لا يقصد فقط إعادة إحياء دودو جيفَع، صديقه وشريكه في هذا العمل، ولا الحياة المتجددة للكتاب الصادر منذ ثلاثين عاماً، مع انتشاله من هاوية النسيان. وبالتحديد لأن "الكذاب الأكبر في العالم"، وهو معالجة لقصة شعبية عربية، يمثل معجزة الكذب، بمفهومه الرائع، الكذب الذي يبني أبراجاً تطير في الهواء، فأنا أريد أن أضع جانباً الإحالة المادية على الواقع الإسرائيلي وعلى شخصية أريئيل شارون (الكذاب في هذا الكتاب له هيئة شارون غير الجذابة)، التي أصلاً سوف تمر على رؤوس الأطفال وكذلك على رؤوس غالبية الكبار. أمامنا عمل كلاسيكي، بارودي مجاوز للزمن يكشف عن أحد الأكاذيب الكبرى في تعليم الأخلاق: انتصار الحقيقة، انتصار الخير.

شماس، الذي يعير صوته للراوي العليم، يصدر القصة بديباجة (مصطنعة قليلاً): "أي حكاية/ تبدأ بـ"كان ياما كان"/ هي حكاية جرت من زمان/ مثل قصتنا، بالتمام/ الآن نحكي/ ثم ننام". هنا أصبح أمامنا نوع من المكر، بالتقديم الاحتفالي للقصة باعتبارها قديمة ولكنها ليست مختلقة كلياً. بعدها فورياً، بنبرة ساخرة، وكأنما بلا مبالاة، كمن يعرف أن سامعيه، العارفين بتقاليد الحكايات القصة الشعبية، قد سمعوا قصصاً كثيرة كتلك، يقدم الراوي قصة الإطار، التي تدور حول ملك "مملكة الكذب"، الذي أراد تزويج ابنته لعريس مناسب، لشخص يحكي قصة تبدأ بكذبة وتنتهي بكذبة. في هذه المرحلة، وفقاً لقوانين التيمة، وبعد أن يجرب شباب كثيرون قوتهم ويفشلوا، يصل للقصر ثلاثة إخوة، من أبناء قرية بعيدة. وعندئذ، ومرة ثانية، كما هو متوقع، يفشل الأخ الأكبر والأوسط ويتحقق توقعنا بنجاح الطرف المستضعف: الأخ الأصغر. هذه العملية، التي قد تبدو وكأنها تبدو وكأنها تسير وفق خطوط التيمة، هي عملية ذكية، بالأخص لأنها تستخدم الصيغة المكرورة المتسقة مع المسلمات الأخلاقية والتي بمقتضاها يحوز أفضل الأبناء على الأميرة والمُلك، ولكن قلب معيار الأفضلية على رأسه، بتقديم الكذب كصفة مرغوبة، بل وأكثر من هذا، كمرتبة حميدة، يحول الوضع كله إلى وضع مضحك – مرعب. سوف يميز القراء الناضجون في هذا الوضع الواقع من حولنا – أكاذيب الاحتلال، عصر الصورة الإعلامية– أما القراء الصغار، المعتادون على الإصبع الكبير الذي يلوح ويعلّم ويقول "حذار حذار، ليس جيداً أن نكذب"، فسوف يستمتعون بالشرعية الممنوحة لهم في الكتاب بخصوص الفعل الذي يتم تقديمه إليهم بوصفه ممنوعاً ومستهجناً (كفى يا أمي، أنت تعطليني عن الكذب على أبي!" نهرتني أمس الأول بارونة مينخهاوزن، صغيرتنا).

القصة الإطار وحدها هي بمثابة بارقة، تذكرنا بالحكمة الخبيئة في القصص الشعبية. قد يكون الأمر بديهياً ومع هذا، فلأنه يسود بين الناس اعتقاد أن كل من يعرف القراءة والكتابة بإمكانه أخذ قصص شعبية ومعالجتها، فمن المهم الإشارة إلى أنه ليست كل القصص الشعبية تستحق إعادة الحكي، ولا أي من يحكي بمقدوره إعادة المعالجة، وليس أي أديب، ولو كانت كتابته للكبار ممتازة في جودتها، بقادر على أن يحكي قصة للأطفال. أنطون شماس، والذي استجاب لمبادرة جيفَع، وكان الأخير يأمل في أن يتشاركا سوياً في إصدار سلسلة كاملة من القصص الشعبية العربية، أذهلنا باختياره، وبحكيه، وبشكل خاص أذهلنا بالعثور على النبرة الصحيحة لحكي قصة الأخ الأصغر.

يأخذ الأخ الأصغر المنصة من الراوي العليم ويفتتح قصته بالجملة المثيرة: "عندما ولدت جدة أبي جدي". من هنا، وبإيقاع قطار الشياطين، ينسج سلسلة أكاذيب مركبة مليئة بالخيال: ديك تنبت على ظهره نخلة، مدينة تتواجد على قمة النخلة، بطيخة بداخلها سلالم تصل بنا إلى سوق صاخب. كل الأكاذيب منسوجة من خيرة المواد الخام القروية المحلية للشرق (الحمار، البطيخ، السمسم والنخل) وكل منها يفاجئنا ويسحرنا أكثر مما قبله، مصحوباً بالرسومات التي تضعنا في إطار زخرفي (وهي غمزة ساخرة قام بها مصمم الكتاب لَاهَف هاليفي). رسومات جيفَع وهي أيضاً مستوحاة من الفن الشرقي، تسهم في تجسيد الوضع وتغرسه في البيئة الثقافية، ولكن الأسلوب الحكائي – المشاغب الذي يضعه شماس على لسان كذابه، الذي يخلق صوراً بالكلمات، يعتم عليها.

ما من عجب في أنه "بعد أن انتهى الشاب من حكايته كان الملك مبسوطاً جداً"، ومنحه ابنته "وبسبب خبرته في تربية السمسم والبطيخ منحه منصب وزير الزراعة". هكذا، بدون تأنيب ضمير العقل، تنتهي القصة، وعليكم، أيها القراء، أن تقرروا: هل هذه نهاية سعيدة؟


بعد ثلاثين عاما: تحية من أنطون شماس ودودو جيفَع


مايا سيلَع


في عام 1982 صدر كتاب الأطفال "أكبر كذاب في العالم" الذي كتبه أنطون شماس ورسمه دودو جيفع. قصة الأسطورة، القائمة على قصة شعبية عربية، تدو في مملكة بعيدة واسمها مملكة الكذب. يعلن حاكم المملكة عن مسابقة للبحث عن الكذاب المثالي. من يحكي له قصة تبدأ بكذبة وتنتهي بكذبة سوف يتزوج ابنته الأميرة.

من هنا تدور قصة عبثية تحوي ديكاً عملاقاً، نخلة طويلة على قمتها تنمو مدينة، بطيخة عندما يتم قطعها تظهر سلالم، حماراً يفقد ذيله، وكذلك مثلاً شعبياً مهماً: "الكثير من السمسم يعني الكثير من الهم". الأكذاب الأفضل في العالم يحصل في نهاية الأمر ليس على الأميرة فحسب، وإنما على تعيينه لمنصب أيضاً: "وبسبب خبرته في تربية السمسم والبطيخ، مُنح منصب وزير الزراعة."

ثلاثون سنة تقريباً مرت منذ صدور الكتاب، وعندما بحثت إيريس مور، المحررة الرئيسية لدار نشر كيتِر، في الأرشيف عن الكنوز السابقة للدار، تعثرت به. وفق كلامها، فلقد أحست إحساس إنسان عثر على بيكاسو في سطح منزله. وبالفعل، فالحديث هو عن كنز لا ينضب، كتاب أطفال مضحك، ولكنه أيضاً سياسي ومليء بالحذلقة، ينشغل بالحقيقة والأكاذيب، بالواقع والخيال.

تحكي مور أنها تعرفت على شماس منذ سنوات عديدة في جريدة "هاعير": "كان يخرج للأراضي (المحتلة.. المترجم)، يكتب تقارير عن الانتفاضة، أعتقد أنه كاتب رائع. كان يرسل نصوصاً لا تحتاج لأن يتم تغيير فيها علامة ترقيم واحدة. كان يخرج في الصباح للأراضي (المحتلة) لابساً بنطلوناً أبيض وقميصاً قطنياً أبيض ويعود من الأحداث الدموية كما خرج. عندما وجدت الكتاب بدأت في البحث عنه وأرسل له إيميل."

وافق شماس على إعادة إصدار الكتاب مع تصويب واحد فقط. "قال إن إستر سوفير، التي بادرت بفكرة الكتاب، أصرت على أن لا تُكتب فيه كلمة سمسم وإنما شومشوم (السمسم بالعبرية.. المترجم) وطلب هو تغيير هذا. وقال إن عائلة دودو جيفَع إذا وافقت فهو كذلك سيوافق على إعادة إصدار الكتاب". وافقت عائلة جيفع وتم تسليم المواد – النص والصور – ليد المصمم لَهَف هاليفي.

شماس شاعر، أديب ومترجم عربي إسرائيلي ولد في قرية فسوطة بالجليل. أصدر عام 1986كتابه "أرابيسك" الذي حظى بنجاح وتمت ترجمته لعدة لغات. قبلها كان قد أصدر ديواني شعر. ولكن منذ "أرابيسك" سكت صوته. بدا أنه قرف من الحياة في هذا البلد، وهو يعيش منذ سنوات طويلة في ميتشجن بالولايات المتحدة، يعمل أستاذاً بأن أربور، ولا يهتم بأن تُجرى معه حوارات صحفية.

هل يأس "منا"؟ تقول مور إن هذا ما يبدو. "صحيح أنني لم أتحدث معه عن هذا، ولكن يبدو لي أنه قد يأس سياسياً. لديه انتقادات رهيبة بخصوص هذا المكان وبخصوص كيفية إدارته. لقد وجد لنفسه ركناً يستطيع فيه ممارسة اهتماماته بهدوء نسبي بدون الانشغال باليهود والعرب."

هل فقدنا كاتباً؟

"أتمنى أن تكون الإجابة بالنفي، ولكن إذا كانت بالإيجاب فلقد خسرنا كاتباً كبيراً. ولكن أنطون شماس هو أيضاً مثقف كبير وليس مجرد كاتب."


الكلمات التي كتبها أنطون شماس من الولايات المتحدة

بخصوص صدور الطبعة الجديدة من الكتاب

أنطون شماس


لا أذكر تماماً كيف بدأ كل شيء، كيف بدأت هذه القصة. ولكن من الواضح لي بدون أي شك إنه لولا العزيز دودو جيڤع لما تمّ أو وُجـِد أي شيء ممّا كان. كان لدينا حلم صغير قوامه سلسلة قصص شعبية عربية أراد أن نصدرها سوياً، بعد أن أطلعته على بعض منها. وكانت تلك الأيام أيامَ الشخص الذي سبّب لـ«سلام صهيون» (وليس فقط لحزبـِه) بالانحلال، ثم استقال من وزارة الزراعة وفي الحال تم تعيينُه وزيراً للأمن والقتال، وسار في طريقه لتدمير جارتنا في الشمال، والمزيدِ من هذا السجع المشكوك بأمره دونما جدال. أكثر ما أحبه دودو في القصة هو الدرج الذي يتم العثور عليه داخل البطيخة الحمراء، وأراد أن نهبط معاً إلى داخل الأسطورة. وربما الهروب. بعد عدة سكتشات للشخصية الرئيسية كان واضحاً إلى أين، ومن من، نحن هاربون، بنصف إنجاز وذيل حمار في يدنا (انظروا صورة الغلاف). القصة التي سمعتها لأول مرة من العم يوسف في القرية البعيدة أصبحت لها الآن معانٍ أخرى على يد العم دودو في القرية القريبة، فَلْيطب الثرى لكليهما .

إعادة نشر "أكبر كذاب في العالم"، بعد حوالي ثلاثة عقود منذ نشر الطبعة الأولى في سنة حرب لبنان اياها، تثبت شيئاً واحداً ربما، يبعث على الطمأنينة والابتهاج: أن حبلَ الكذب، دائما، طويل. وليس بالضرورة بالمفهوم السلبي للتعبير. في الحقيقة، لقد مرت أكاذيب كثيرة منذئذ تحت الجسر، وحقائق كثيرة غرقت في المياه الآسنة دون أن يبقى لها أثر، والجسر، كما اتضح، لم يكن جسراً على الإطلاق في يوم من الأيام. ولكن رؤية دودو جيڤع مرة ثانية على الغلاف الخلفي منغمساً، كعادته، في عمله، كأنه تغلب على الموت، كأن الموت نفسه لم يكن إلا أكذوبة كبيرة، فإن هذا من نوعية الأشياء التي تمنحني العزاء والتي لا تحدث ولا أصادفها كل يوم. فهاهوذا الفن إذن، بكل الخطوط والألوان والخيال الجامح، وبحس الدعابة الذي لا ينصاع أبداً لقانون التقادم، وبكل هذه الأكاذيب الرائعة -- الفن يستطيع ذلك أيضاً. كأبهى ما يكون. شأنَ الصداقة، وشأنَ الحب.

1 comment:

comment ya khabibi