أيمن سكسك هو واحد من "أدباء عرب الـ48"، الذين يكتبون بالعبرية. ولد عام 1984 لعائلة مسلمة في يافا، والتي يقيم بها اليوم. أكمل إعداد الماجستير في قسم الأدب الإنجليزي بالجامعة العبرية بالقدس.
نشرت قصته الأولى وهو يبلغ 18 عاما في ملحق "سوف شافواع – نهاية الأسبوع" بصحيفة معاريف. بعدها بسنة نشر قصة أخرى في مسابقة القصة القصيرة بصحيفة هاآرتس، وبدأ بنشر عدد من القصص القصيرة تحت عنوان "يافا تل أبيب" بملحق "تربوت فسفروت – ثقافة وأدب"، بالصحيفة. وكانت هي الأساس لروايته الأولى "إلى يافا" والصادرة عام 2010.
يعمل سكسك منذ عام 2007 ناقداً أدبياً في ملحق "سفاريم - كتب" بصحيفة "هاآرتس". كما نشر ايضا في دوريات مثل "كيشيت هحاداشه لسفروت"، "عيون اوبيقورت"، وبدورية "معيان." وشارك كمحرر في الأنطولوجيا الشعرية "لا تخروا في جت. النكبة الفلسطينية في الشعر العبري 1948 – 1958." والذي قام بتحريره الشاعر حنان حيفر.
ننشر هنا مقالين عن روايته "إلى يافا" الصادرة هذا العام.
إلى يافا، لأيمن سكسك، رغما عن الأنف
يوديت شَحَر
هاآرتس
الرسائل التي يتلقاها عن مكانه السليم في المجتمع تضغط عليه للسير للمسجد والصلاة مع أبويه، ثم ترْك الدراسة في الجامعة والمساعدة الاقتصادية لأمه التي أصبحت أرملة. المفروض أن يملأ مكان الأب الذي مات من إصابة عمل. ولكن الراوي يحتار طريقاً آخر: يختار دراسة الأدب العام في الجامعة التي تعد قلعة للرؤية الغربية للعالم. وهذا الصراع هو مصدر قوته، ومصدر ضعفه في نفس الوقت.
قوته، لأنه يختار بحرية تحقيق نفسه في أشياء يحبها، ويختار أن ينتزع نفسه من عالم القيم التي يتشكك بها. وهو الاختيار الذي يتيح له إمكانية رؤية العالمين بصورة واعية ومن أعلى.
ومصدر ضعفه، لأنه ممزق بآلام الضمير لأنه لم يتحمل المهمة التي كان عليه تحملها، وهي مساعدة أمه وأخته في إيجاد لقمة عيشهم. يترك الأم لأخويها، خاليه، واللذين يدفعان أيضا مصاريف دراسته ودراسة أخته. ويدير ضهره لثقافته ولجذوره.
يصمت تماماً عندما يزوجون أخته، والتي كانت لديها أحلام بالضبط كما كانت لديه: أن تخترق الحلقة الخانقة السائدة في المجتمع التقليدي. وعندما تتخلى عن دراستها، لا يتمكن من الوقوف بجانبها ومن أن يقول لها ما تمنت أن يقوله لها: لا تتركي الدراسة ولا تتزوجي بالوساطة التي ربطوكِ بها.
ولا يستطيع أيضا الوقوف بجانب حبيبته عندما خطبوها لرجل لا تعرفه، رد فعله سلبي، هرب من حفل الخطوبة، وهو ما سبب العار لأمه.
بهذه النفس المتنازعة، التي يوهنها الصراع الداخلي الدائم، لم يعد له مكان للوقوف على قدميه، وهكذا يفقد مصدر ثقه هو نفسه: فهو لا يستطيع أن يكون عكازا لأمه، ولا يتمكن من مساعدة أخته ولا حبيبته، ولا ينجح في الوقوف بجانبهما كرجل، وأن يتحمل صلاحيات الرجل. ولذا فهو لا يقف لجانب عربيين مرا بعملية تفتيش في المعرض، وإنما يوافق على أن تسحبه من هناك صديقته الإسرائيلية. يصمت عندما تمر فلسطينية فقيرة بتفتيش مهين في الأوتوبيس، وفي البار يلتقطه البارمان ويجهز له كوكتيل من الإناث.
البطل هو بطل ضدي، هو النقيض المطلق من جيسون بورن، الوكيل السري الذي أصيب بفقدان الذاكرة، وصارع من أجل اكتشاف هويته. في فيلم "هوية في الفخ"، الموصوف في الكتاب، يكون جيسون بورن "عميلاً قام بتصفية أعدائه بشكل منهجي، هاجر من مدينة إلى أخرى في أوروبا وتخلص من الفخ الذي أعدته له وكالات الاستخبارت.". بطل سكسك يقول عنه: "أنا سعيد من أجل جيسون، بالتأكيد لم يكن سهلا عليه الحياة بدون هوية."
في السطور التي يعود فيها الراوي من الفيلم مع أخته إلى البيت، ويناديها وهي في المطبخ: "سماهر، قلتِ لي ما اسم هذا الفيلم؟" تجيبه "هوية في الفخ" ويقع كأس الشراب من يدها. شعرتُ أن سكسك يجهد نفسه فعلاً لكي يغرس هاتين الكلمتين في رأسي، وهو المعنى المركزي للكتاب. أعتقد أن سكسك كان بإمكانه الاعتماد على ذكاء القراء الذين سيفهمون ما يقوله لهم مرارا وتكرارا.
الكتاب يتيح للقراء معايشة نسيج الحياة المستحيل لعربي إسرائيلي يعيش في يافا. عربي يعيش فعلا معنا، بجانبنا، بداخلنا، وحياة يتم تحديدها يوميا على يد معضلات يتحرر منها الإسرائيلي اليهودي ويعمى عن رؤيتها وسماعها.
عندما نناقش الصراع اليهودي العربي فنحن نتمسك بشعارات عدوانية وبالصريخ وبالحدة، أما سكسك فيقدم لنا طريقا منوعاً لتعقيد الأمور، عن طريق عالمه الداخي ولغته المليئة بالصور، الرقيقة والمستبطنة: ما الذي يفعله طالب عربي مثلا، أثناء تلقي المنح، عندما يتم عزف النشيد الوطني مع كلمات: "لنكن شعباً حراً في أرضنا."، وما الذي تشعر به حبيبته عندما تتلقي منحة دراسية من إدارة خزانة "رواد الاستيطان اليهودي في إسرائيل". يقدم لنا سكسك مرآة أمام وجوهنا، عندما يصفنا كبهلوانات وجوههم مدهونة بمسحوق السكر اللزج المتبقي من فطائر عيد الحانوكا، ويشعرون بالإهانة في أعماقهم عندما يجرؤ شخص على رفض العجينة الدهنية.
في الكتاب يظهرنا سكسك، نحن اليهود، في عرينا، كمن يميزون بين العربي الجيد، العربي الصديق الشخصي، العربي "الذي يخصنا"، وبين "العربي" العام - والذي لعدم معرفتنا به يتحول في أعيننا بشكل تلقائي إلى مشتبه به، شيطاني، مهدد، ثم نقرر: هانحن نرسل ولدا عربيا، من الأغيار، يوم السبت، ليشعل النور في المعبد المظلم في السبت. ليفعل الفعل المحرم علينا بدلاً منا.
نظرة سكسك مريرة ولكنها بسامة أيضا، على سبيل المثال عندما يشعر صديقه اليهودي العلماني بالصدمة لكونه ساعد "الجوكات"، أي الحريديم، اليهود المتدينين، ويحكي له أن أمه تقول عنهم أنهم – أي الحريديم –لصوص جميعاً. وفي نفس الجملة يحكي له أنه أنقذه من الكلب الكبير الذي أراد الأطفال الآخرون تحريضه عليه. يقول له الطفل اليهودي عن أصدقائه اليهود: "هم عنصريون جميعا، هكذا تقول أمي، لا يحترم الواحد منهم الآخر. هكذا فإن كل جماعة تجد "جوكاتها" فإنها لا تؤنسنهم.
ولكن سكسك لا يمر مرور الكرام على الانغلاق والخوف من الغريب والمختلف في المجتمع العربي: عندما تتأرجح أمه بسلال ثقيلة على الرصيف ويحاول عامل أجنبي صيني – شخص من الدرجة السابعة في إسرائيل – مساعدتها، تخاف أمه وتمسك السلال بقوة وبخوف. يحكي لها كيف أن نزهة ليلية، على الأقدام، في حي عربي قريب تتحول إلى تعبير عن العداء والتشكك وأسئلة من عينة "ماذا تفعل هنا؟"، "من أنت؟"، "أفضل لك أن تذهب، هل تسمع؟"
هكذا فعلى طول الكتاب كله، يبحث الراوي ويوثق لبقايا جذوره وثقافته المدمرة: هنا، من بيت أمه وحيه تبقت أكوام من الرمال والمعادن. عجلة لعبة دوارة متبقية يقف على جانبها بين الخرائب. في أحلامه يعود ويدوخ في اللعبة الدوارة المكسورة، بالتوائم مع الدوخات المشابهة التي تتموج به دائماً.
أيضا يقوم سكسك بتوثيق العناوين بالعربية والإنجليزية – "خزانة فلسطين"، على غطاء البلاعة. أو "حكومة فلسطين مدرسة الزهرة 1938"، على حجر متفتت. في رغبة يائسة وبشكل مهووس يبحث عن عناوين "ف-ل-س-ط-ي-ن"، يسعى لنقشها على حجر مصقول بحروف عبرية، وعن طريقها يسعى للحصول على اعتراف من الثقافة الإسرائيلية اليهودية المحتلة بالثقافة العربية الفلسطينية، بل وربما يسعى للعثور على رابط ممكن بين الثقافتين. رابط قد يمنحه مكانا في العالم ويتيح له تسوية، ولو جزئية، مع الصراع الداخلي الذي يعيش في قلبه.
هذه هي يافا
يوني ليفنه
يديعوت أحرونوت
قبل قطع رأسها بلحظات، داست ماري أنطوانيت بالخطأ على قدم من سينفذ حكم الإعدام. يقولون أن الملكة السابقة لم تتخل عن أفكارها وطلبت منه السماح. القدرة على النظر في عين الشناق ومطالبته بالأدب الأولي هو إثبات قاطع لا يقل عن المقصلة على أنه حتى في ظل الغياب المطلق لأي مهرب، فإن الإنسان يمكنه أن يعمل من خلال الحرية، ولتكن ضئيلة قدر ما تكون، للحفاظ على صورته الإنسانية.
يتعامل المبدعون مع التحديدات والقمع بطرق مختلفة من أجل السيطرة على الحيز. الفنان المثلي كيث هرينج خرج من بلدة أمريكية صغيرة ومسيحية، وملأ عقد الثمانينيات المحافظة في ظل إدارة ريجان بالجرافيتي وبصور البلابل. لقد حول الجانجستا راب المسدس إلى ميكروفون والميكروفون لمسدس. "إلى يافا"، وهو الكتاب الأول لأيمن سكسك، يبحث عن طريق خاص به من أجل التغلب على واقع إسرائيلي ويافاوي تنغرس فيه التحديدات والحدود على طوله وعرضه. قيود فعلية في الشارع، على هيئة حراس، شرطيين وبناء عدواني، حتى الحدود الرمزية من الدين والثقافة في عقد الحرب التي تجتاح الحياة اليومية.
معرفتي الأولى بالبطل والراوي – الذي يجمع موادا أدبية من حياته ويبدو كما لو أنه يتحدث بالأساس مع نفسه من خلال قراءة كراسته الشخصية – تصوره كطفل جيد لم يخرج عن الحدود. الجمل هادئة، مؤطرة بشكل جيد. الأحداث تدور حول وصف محكوم لتبادل الكلمات والنظرات. كثير من الفصول تنتهي بانقلابات دائرية، حزينة ومبتسمة.
بسرعة كافية يظهر أن هذا الأسلوب الحذر هو تعبير عن قصة حياة كاملة، تتبلور في الفصول المبنية كقصص قصيرة مستقلة. أبو البطل قتل في حادثة عمل، ولكن بدلا من الوقوف محله كما هو متوقع منه، يخلص للدراسة، للكتابة ولحياته العاطفية. في الفصل الأول، وهو من الفصول الأفضل في الكتاب، يجلد البطل ذاته لكونه سمح لخاليه بالسيطرة على مستقل أخته، بينما يتمتع هو بالحرية الاقتصادية والفكرية التي سُلبت منها. رقة سكسك ككاتب تصل في نهاية القصة إلى ذروة أدبية: الأخ يجلس في غرفتهما المشتركة أثناء حفل الخطوبة، يخلي لأخته سريرها السابق ويغمغم بوعد أن يترك الدراسة في القدس ويعود للسكنى في يافا. بعد التقدم البطيء والشعري للقصة يحين ميعاد الصفعة المفاجئة التي تعطيها الأخت الصامتة لأخيها. من السهل التفكير في أن هذه الصفعة هي احتجاج عليه لكونه قد تخلى عنها، ولكن في نفس الوقت يتردد تفسير آخر – الأخت تعفي أخاها من رقة الروح ومن دوافعه بأن يضحى بطموحاته الشخصية.
هذه القصة تسم جوهر صراع البطل. وبوصفه يقف في المنتصف بين تل أبيب – يافا – القدس، فعليه الاختيار مرارا وتكرارا بين التنازل عن تماهيه مع مجتمعه العربي لأجل التقدم في العالم الثقافي الإسرائيلي، وبين البقاء مخلصا للأكواد الدينية والعائلية لأبناء شعبه.
قام روميو وجولييت بتحويل هذا الصراع إلى مأساة عن التحرر من حكم المصير والعائلة. أدباء التنوير اليهود وأدب المنبتّين قاموا بتحويل الوضع البيني بين الثقافات وأشكال الحياة إلى مثال عن الإنسان في القرن العشرين. سكسك يؤكد على العنصر اليومي، الكوميدي أحيانا، لهذا الصراع- صراع على الرموز المتضخمة في أرض يافاوية متقلصة، تتحول بها حتى فطيرة الحانوكا التي يتم توزيعها مجانا على الأديب إلى ساحة صغيرة للمعركة، وتصبغ وجوه الواقفين في الطابور بالسكر البودرة مثل البهلوانات أو الجنود. هو يميز السخرية الإنسانية في مجموعة من جنود حرس الحدود الذين يقومون بتسويد حياة اليافاويين بجوهر وجودهم، ولكن في اللحظة التي يهطل فيها عليهم المطر، فهم يضطرون للهروب مثل الأطفال إلى غرفة بير السلم، وهكذا يمنح أبناء يافا تفوقا لحظيا عليهم. هذا التكنيك يذكرنا أحيانا بصورة ألكس ليبك. صور من الشارع تخرج الرموز واللافتات والكتبات من سياقها وتطرد عنها المناخ الرسمي. لدي ليبك يتم الإحساس في الغالب بحرية الكاميرا وتفوق المصور على كاميرته، سكسك، في مقابل هذا، هو أكثر انتقادية تجاه نفسه بشكل لا يقل عما هو تجاه الناس الذين يصفهم، ويمكنهم من إظهار السخرية والتعاطف تجاهه.
في الكتاب عوائق تنبع من المهمة التي يأخذها على نفسه – وهي شرح العلاقة بين الإنسان الشخصي والمجتمع الذي ينتمي إليه ومحاولة اختبار بنفسه أدواته الثقافية كأديب. أحيانا ما تنتصر الرمزية والسخرية في هذا الصراع. وأحيانا ما لا يتوفر الصبر للعثور على الصلات الشعرية بين التفاصيل النثرية التي يربطها سكسك ببعها البعض. ولكن في أغلب الوقت فإن كتاب "إلى يافا" يعرض طريقاً حساساً ومثيراً للتماهي للتعامل مع الإحساس بالحصار السياسي والفكري الذي يصاحب جمهورا غير قليل في إسرائيل اليوم. ينجح في إقناعنا بأنه حتى الأشخاص الرقيقين، الميالين للتسوية بطبعهم، يستطيعون إسماع صوتهم في المجتمع الذي يتوقع منهم الصمت وابتلاع الضفادع. وأكثر من هذا، فإن هذه القدرة في نهاية الأمر تخلق حيزا من الحرية. يكتب سكسك: "يبدو أنه في كل مرة أريد الكتابة، فإن كراستي القديمة تبدو كما لو كانت توفر لي فجأة أرضاً إضافية."
No comments:
Post a Comment
comment ya khabibi