ولد نير برعام عام 1976، أديب وكاتب مقالات، حائز على جائزة رئيس الوزراء للأدباء العبريين عام 2010، هو ابن وزير الداخلية الإسرائيلي السابق عوزي برعام، وبرغم هذا فهو يصنف يساريا، وفي عام 2006 كان واحدا من المبادرين بكتابة عريضة الأدباء الشباب، مع دودي بوسي، ماتي شموئولوف، شمعون آداف وآخرون للمطالبة بإيقاف حرب لبنان. وكان واحدا من مؤسسي "الحركة الجديدة"، وهو تنظيم سياسي يساري أقيم من أجل الاتحاد مع حزب ميرتس، ولكن برعام انسحب في النهاية قائلاً أن دعم الحركة الجديدة وحزب ميرتس للحرب على غزة 2008 يمثل فشلا أخلاقياً.
يحرر برعام سلسلة 972 في دار نشر عام عوفيد. وهي السلسلة التي تعني بالكتب البحثية المكتوبة من وجهة نظر نقدية. ويحرر سلسلة الكلاسيكيات في دار عام عوفيد، والتيتهدف لنشر الكلاسيكيات الغربية الأدبية. كما يكتب في ملحق "الكتب" بصحيفة "هاآرتس. من كتبه، احكي لي قصة حب بنفسجية، 98، أطفال الحفل التنكري، 2000، معيد الأحلام، 2005، أناس جيدون، 2010. الفصل المترجم هنا مأخوذ من روايته الأخيرة "أناس جيدون" وتم نشره في صحيفة يديعوت أحرونوت تحت عنوان "ألمان جيدون"، ويحكي فيه عن ألمانيا أيام الحرب العالمية الثانية.
نير برعام
ترجمة: نائل الطوخي
ألمان جيدون
الناس يلتقون بالناس. أغلب القصص تحدث هكذا. وطالما أنك لم تلفظ نفسك الأخير، فحكم العزلة نهائي. ترى العالم ينفجر من كثرة الناس، وتميل لتصديق أنك ستذيب عزلتك بسهولة. لأي درجة يصعب هذا؟ يقترب شخص من شخص آخر، والاثنان يتأثران بـ"غسق الآلهة"[1] ومن العرض الأخير لهاوفتمان، وكلاهما تلقى سهماً من("Thompson Broken-Heart Solutions" "القلب هو وباء القرن العشرين"). وهكذا تعقد المعاهدة. هذا وهم يفيد الدولة، المجتمع، والسوق. وبفضله فحتى الوحيدون يستلمون ملابس، أسهم، سيارات، يلبسون ثيابا فاخرة استعداداً لحفل راقص.
من خلف النافذة رآها مغطاة بمعطف فرائي لبسته لدى خروجها من هذا البيت للمرة الأخيرة. لم تغادر برغبتها، فالعالم بالخارج لم يقدم لها شيئاً. ولكن لم يكن لديهم مال لتشغيلها. أطلقوا سراحها، وأعطوها معطفا فرائيا أبيض هدية، تحول مع الأيام إلى رمادي جداً. الفراق هو الفرصة للولادة من جديد: ربما يحدث شيء ما جيد، ربما تحدث فرصة أخرى، ربما تنشرخ العزلة قليلاً.
اقتربت بخطواتها الصغيرة – زاد وزنها قليلا، السيدة شتاين – خطوات مثلما قيل دائما، "لا تنظر، ليس هناك أي شيئ تراه هنا." إليك بمكر التاريخ: الأحداث الأخيرة في برلين منحت لليهود على شاكلتها أسباباً جيدة للبحث عن مخبأ بين الظلال.
تفحصت عيناه الأجزاء المكشوفة في جسدها. الوجه المضغوط الذي احمر من هبات الهواء البارد، الرقبة الرقيقة التي كان بهاؤها يناقض دائما وبقسوة الجسد القصير، كنواة من الجمال كان يمكن لها الإزهار في ظروف أخرى. عزلتها مطلقة، هذا واضح. لم يكن لديه شك في أنه باستثناء المواضيع التجارية، فلقد كانت مقلة في الحديث مع الناس بالسنوات الأخيرة.
وقفت سيارة بجانبها. ثمة رجلان يجلسان في المقعد الأمامي. لم تنظر إليهما، ولكنها بكل حركة من جسدها تسلل إليها الوعي بوجودهما. بحركة سريعة أزاحت خصلة رمادية عن جبينها، وخطت ببطء خلف جدار أبيض. تعقب توماس السيارة حتى اختفت بين سيارات أخرى في الشارع. بعد لحظة عاودت السيدة شتاين الانطلاق وخيل لها أنها رأت وجهه في النافذة.
كم حزنت أمه على غيابها، كانت السيدة شتاين واحدة منهم، ملأت الفراغ بينهم – أخت أمه التي لم تلدها أمها، على سبيل المثال – حتى سلموا بحقيقة أن أمه لم تكن لها أخت، وطردوها. في نهاية الأمر، عندما تناقصت الحصة السنوية التي ورثتها أمه بسبب لطمة التضخم، والوجود كان على حافة الخطر، يصبح الدم هو الدم وهكذا ينتهي الأمر.
خبطة على الباب. "سلام فراو شتاين"، يقول توماس. هزت رأسها ودفعته نظرتها الصارمة إلى الجانب. التقت عيناهما لرفة عين: السنوات لم تخفف الكراهية بينهما.
للحظة استمتع بإهانتها، تلك المكتوبة في الصحف، وفي الدستور، وحتى في لافتات المرور. من قريب لاحظ أثارها أيضاً: في وجه السيدة شتاين كان يثور استعجال معذَب. الروح، بالضبط مثل الجسد المحني، كانت تتوقع ضربة أخرى. كمن يعرف البيت بكل ممراته، أسرعت بالممر القاتم واختفت في غرفة نوم سيدتها. لوقت ما وقف جامداً بجانب الباب ثم أسرع في أعقابها. هي تدبر شيئاً، هذا واضح.
عندما لحق بها، كانت قد تمكنت من تعليق معطفها في الخزانة والجلوس بجانب سرير أمه. عيناها لم تعبرا عن أي دهشة بينما لم تر المرأة أكثر من ثماني سنوات مالت عليها وسألتها إن لم تكن تحتاج شيئاً. ردت أمه بالسلب. سألتها السيدة شتاين إن كانوا يعتنون بها جيداً، وهمست أمه "نعم"، وكانت في الواقع "لا". أدركت السيدة شتاين وغمغمت مراراً وتكراراً باسمها :مَرلينا، مَرلينا.
تخيل توماس كيف قطعت برلين كلها من أجل رؤية سيدتها وهي ذابلة. بصوت لاهث حكت لأمه، "التقيت هذا الصباح بالصدفة بالهر شتوكرت. أدار وجهه كأنه لم يرني. قلت، طيب، فأنا معتادة على رؤية معارف قدامى وأرحب بهم ويبتعدون، وأحيانا يتصرفون كأنهم لم يروني."
"في قلبي دائماً أحييهم. ولكن في تصرف الهر شتوكرت كان هناك شيء ما غريب. وقفت بجانبه وسألت: "سيدي، هل هناك شيء ما تريد قوله لي؟" لم أذكر اسمه، دوما ما سيستطيع الزعم بأنه لا يعرفني. خفض عينيه وقال: "فراو هايزلبرج مريضة للغاية."
همست أمه لها بشي ما لم يصل لأذني توماس الواقف بجانب الباب، وهزت السيدة شتاين رأسها بتفهم. داهم توماس الاشمئزاز: كل هذا معروف للغاية. مئات الصباحات التي جلست فيها الاثنتان ملتصقتين الواحدة بالأخرى في غرفة النوم، تتبادلان الأسرار، وشيء آخر. وكل من يقترب منهما يتصور أنه يغزو مملكة ليس فيها مكان لأحد غيرهما. رتبت السيدة شتاين الوسائد تحت رأس أمه، داعبت شعرها ثم مالت ودفنت وجهها في صدر أمه. "مرلينا، كيف حدث هذا..."، همست، "كيف حدث هذا"..؟
بأية خفة غطت الاثنتان على الفجوة بينهما في السنوات الثماني الأخيرة. كأنما انكشفت ستارة وظهر مشهد سابق: هاهما مجددا، سيدة مريضة تهبط أحيانا إلى العالم فقط لكي تتأكد من صلابته، ثم تعود وتحلق، ومدبرة البيت التي أصبحت صديقتها الجيدة وببطء تسلمت واجباتها، وبعملها كانت ترفع السور الفاصل بين السيدة وبين العالم. يبدو أنهما الآن تثوران على شظايا الزمن التي تبقت لهما، في حالة حداد على السنوات التي مرت والساعات الضائعة.
تريدين الدفاع عنها مثلما كان الأمر في الماضي، يا سيدة شتاين؟ هكذا فكر توماس بغضب وتحول عنهما. تريدين الدفاع عنها من السنوات التي ضحت بها، من الفظائع التي بقعت ثوب زفافها، من الأخطاء؟ لأجل الدفاع عنها ينبغي رسم صورة الجلاد. رجاء، هاهو جلاد لك: مرض رهيب يدمر جسد سيدتك ويدفعها بعناد إلى الموت. ومازلت تؤمنين أنه يمكنك فعل شيء لأجلها؟
وقف توماس في ردهة شاسعة. بأوامر أمه، كانت الستائر القطيفية مسدلة على الدوام. أشعل النور بمصباح ذابل، وعليه وسائد محشوة بالريش، وقفت بجانبها، وجال بنظره على نسخ التماثيل – أوجست رودن، "باب النصر"، من الفخار، بوذا مذهب صغير أخذته كهدية من مثقف ما التقته في شبابه وتحت تأثيره اهتمت بديانات الشرق البعيد. فوق تمثال بوذا انتصبت على الرف صورة لأرنست يونجر مع إهداء، "إلى مرلينا، ذات الفضول المبهر."
نباتات صناعية أحاطت بالقنطرة المتوجة ببلاط دليفت من رسومات البحيرات وطواحين الهواء الحمقاء. دائما ما شعر بالدوار لدى مرأى هذه الردهة، من هذا الخليط الذي يهدف للتأكيد على سعة أفق صاحبة البيت.
قرر تجاهل ما يحدث في غرفة النوم، جلس بجانب طاولة العمل وقام بعمل إصلاحات أخيرة على خطاب سيلقيه اليوم في لقاء مع مديري "ديميلر – بنتس". طموحه كان أن يفهموا في نهاية المساء أن شركة ميلتون هي الرد على جميع تطلعاتهم. خسارة كبيرة أن السيدة شتاين الصغيرة لم تتعثر بعدد من الأخبار في الصحف التي تم فيها ذكر اسمه (لسبب غامض ما، فمعارفه لم يقرأوا أبدا الصفحة المناسبة في الجريدة المناسبة باليوم المناسب) ولا تعرف إنجازاته.
في الوقت الذي كان فيه أبوه وأصدقاؤه المفصولون يقطعون بشوارع برلين، متنكرين في هيئة دواليب وسندوتشات أو علب شوكولاتة، كان قد فكر في خطة أصلية وملهمة. يوما ما، بعد انتهاء دراسته الجامعية بسنتين، قرأ في الصحيفة أن شركة ميلتون لدراسة الأسواق تنوي إقامة فرع في ألمانيا.
هذه الشركة الأمريكية، والتي كانت لها أفرع في جميع العالم ولم يكن لها إلا فرع واحد في أوروبا – في إنجلترا بالتحديد – أشعلت خياله عندما كان لا يزال يدرس في الجامعة. صادق طالبا أمريكيا يدرس الاقتصاد، وحكى له عن "ميلتون" وعن أبحاث الأسواق المتقدمة لديها والتي تستقبل الأوروبيين بعقد لمدة عشر سنوات على الأقل.
كانت هذه واحدة من النقاط المضيئة القليلة أثناء دراسته بجامعة برلين: في بداية العشرينيات اهتم بالطبع بعلوم المجتمع، بل وفكر في دراسة علم اللغة، ولكنه في النهاية فكر، بوحي من أمه، والتي كانت تؤمن بـ"التغيير الذي سيحدث في روحه"، في أنه إذا انضم لجامعة تتباهى بالمفكرين من الدرجة الأولى، فعليه بدراسة الفلسفة. أغلب الدراسات بدت له تضييعاً للوقت، وفي اللحظة التي أخذ فيها شهادة الماجستير خرج من هناك بلا رجعة.
في شتاء 1926، وهو يبلغ ثلاثة وعشرين عاماً، سافر للندن والتقي بأمريكي اسمه جاك فيسك، مدير قسم أوروبا بـ"ميلتون لدراسة الأسواق". كرس شهورا – سويا مع معلم أمريكي كان يدفع له – من أجل تنقيح اللغة الإنجليزية بالخطاب الذي سيلقيه هناك. جلس على المقعد الجلدي المنجد بالمكتب الواسع للمدير، والذي بدا وجهه المجعد وشاربه الكثيف مؤثرا للغاية، وفحص بفضول خريطة عملاقة للعالم ملونة بالأزرق والأحمر والأبيض، وعليها أعلام صغيرة تشير إلى أفرع "ميلتون" الكثيرة.
لدى مرأى هذه الخريطة المتباهية فهم أنه كان محقاً: بوحي من ملحوظة ما لشوبنهاور (هاهي فائدة صغيرة أخذها من دراسته) – "يستطيع الأمريكيون القول عن فجاجتهم ما قاله كيكرو عن العلم: انضموا إلينا" – قرر اتخاذ أسلوب معبر وبسيط، سيثير على الأغلب رفضا في الإدارات الألمانية، والآن اقتنع أن هذا القرار كان صائباً.
تفحصه المدير بارتياب، كأنه لم يفهم من أين ظهر هذا البرليني الشاب ببذلته المزخرفة، والتي تفيض بالأزرق بأسلوب فرنسي على رقبته وأظفر بطية جاكيته. وضع توماس ساقه الطويلة فوق الأخرى، عرض على الأمريكي تبغا هولنديا فاخرا، أشعل غليونا، سأله بود من أين أتته فكرة طاولة عمل على هيئة سفينة قراصنة، وبدأ في الخطاب: "سيد فيسك العزيز، قرأت عن خطة السيد قريبا لتدشين فرع جديد لـ"ميلتون" في القارة، وبالتحديد في بيتنا، برلين. بداية، اسمح لي بأن أبارك لك باسم البرلينيين.
كباحث موهوب في الأسواق كان عليك دراسة فرصك في السوق الأوروبية بشكل أساسي. ولكنك بالتأكيد تعلمت أثناء هذا درسا من الإنجازات المحدودة لفرعك في إنجلترا. لنعترف: خطوات "ميلتون" في أوروبا متشنجة، يمكن القول بأسف أنكم حتى الآن لم تصلوا إلى القارة. وإليكم بشرى صغيرة: في برلين سيكون الأمر أكثر صعوبة. كيف أعرف؟ هذا بسيط للغاية.
لكل جماعة ثمة منظومة تخمينات خاصة بها، ومقاييس دراسة الأسواق التي تم تفعيلها على الأمريكيين لن تستطيع تمييزنا، نحن الألمان. عرفت من مصادري أنك في لقاءاتك مع شركات ألمانية تتباهى بمناهج دراسات "ميلتون"، وتقول للجميع أنها علم. ولكن تذكر أن هذا الرف العلمي في الواقع هو قصة خيالية يمكنك بيعها لألمان سذج يحبون تحويل كل شيء إلى علم، ولكن كلينا نعرف أنه بعد سنتين سوف يقتنع ربما أكثر الناس سذاجة أن مناهجك غير فعالية في ألمانيا وسوف يطردونك من السوق.
العلم الوحيد الصالح هنا هو علم النفس القومية الخاصة بالألمان، أما أنت، سيدي الفاضل، فتظهر فجأة مع حفنة من دولاراتك وتريد تعليمنا كيف نصرف نقودهم؟ سيدي الفاضل، أنت لا تفهم الهوية الألمانية. ومع هذا، فلست الأول ولا الأخير. الهوية الألمانية صعبة الفهم. هناك من يعتقدون أن كل تقاليدنا ودراساتنا وفنونا وفلسفتنا خلقت هنا فسيفساء جذابة من النماذج.
ولكن لللأسف فالنفس الألمانية أبسط بكثير. سيدي سوف يفاجئ من اكتشاف إلى أي درجة يسهل تشغيلها وحل شفرتها. وربما لا تكون هذه البساطة من النوع الذي يعرفه الأمريكيون، إنها بساطة ينبغي دراسة نواتها الأساسية بعمق من أجل فهمها. ينبغي فهم، مثلاً، ما هي البرجوازية المثقفة في ألمانيا، هي لا تشبه أبدا أبناء البلد الصارخين لديكم على الشاطئ الشرقي."
في الفترة الأخيرة فقط بذلت "ميلتون" جهودا كبيرة في دراسة السوق الألماني"، قال فيسك وأخذ راحته على كرسيه وهو يقطب جبينه.أخذ توماس انطباعا بأن اللقاء يسبب له متعة وأنه يستفزه لكي يختبره.
"مع كل احترامي، سيدي، فأمي سوف تطارد الأسود في مقابر الكولوسيوم قبل أن يتمكن الأمريكيون من فهم الإنسان الألماني. هل قرأت أرنست يونجر؟ طبعا لا. هو صديق مقرب. هل تعرف باولي؟ التعطش للنور العظيم مغروز بعمق في روحه. إذا لم تكن قد رأيت الجموع في فينترفلدبلاتس تقف في المساء المتأخر وتحدق في الشعلات اللامعة لـ"نيفيياه"، فأنت لم تر ألمانيا. هل تعرف وصف völkisch؟ هذا في الحقيقة وصف للماهية الألمانية بلا مقابل في اللغات الأخرى. وهل تعرف نظرية نيومان عن الدولة كـ"صفقة كبيرة" تتم لصالح الشعب؟ ومع هذا، سيدي، فعلى الأقل سوف تتفق معي في أنه لا يمكن وصفك بأنك متخصص في الشخص الألماني إلا بصعوبة.
"ربما الآن استقرت العملة الألمانية وتحسن الوضع الاقتصادي، ولكن إذا تجولت في برلين قبل عدة سنوات، كنت ستعرف الماهية الحقيقية لألمانيا! كنت سترى أناسا يبدون عقلانيين ويخترعون منهج استقرار هشاً، وببساطة يطبعون النقود ويفتتون العملة حتى لا تساوى صدفة على شاطئ البحر. هذا هو المنطق الألماني: الركض، والتزاحم بالمناسبة, إلى الكارثة. ليس من طريقتنا التوقف حتى ولو قبلها بلحظة واحدة.
"الشخص الألماني مركب من عشرات العناصر المختلفة. سوف تقول أن الجميع هكذا، وهذا صحيح، ولكن تركيبة الصفات الألمانية، على سبيل المثال توزيع العواطف بداخلها، هي خاصة ومتفردة. أنا أسعى وراء صيغة رابحة سوف نتكمن بواسطتها من غزو السوق الألماني. تتساءل إن كانت في يدي؟ أعلن لك أنه نعم، أغلب حياتي كرستها لدراسة الإنسان الألماني. ولذا، سيدي، فإذا أردت إقامة صفقات في ألمانيا، فأنا أقترح عليك أن نتعاون."
اهتز جاك فيسك. "يا شاب، أنت لا تفهم أبدا هذا المجال، ولكن لديك الموهبة، وسلاستك مذهلة فعلا." عندما هاجر فيسك إلى برلين، قام بتعيين توماس مساعداً له، وبعدها بسنة عينه مديرا لقسم جديد من عامل واحد واسمه "علم نفس الشراء الألماني". الحق يقال: توماس آمن أنه ولد لكي يكون في هذه الوظيفة. منذ صباه آمن أن موهبته الأكثر تطوراً تكمن في إغواء الناس لكي يشتروا منتجاته، العزف على الأوتار الصحيحة في نفس المشتري.
من هنا قاد دفة المواضيع بحكمة. بعد أن عرض حججاً مقنعة، جداول تحوي أفكاره الجديدة، وبشكل عام قام بممارسة سحره – تلقى من مدير الشركة التصريح باستعارة – بصفته مستشارا – ميزانية البحث لشبكة وولفورت، وهي من الزبائن الأوائل لـ"ميلتون برلين". في الشركة ترددت مزاعم بأن الألمان لن يثقوا بالشبكة الشعبية والتي يقع أصلها في دولة لا تزال غامضة وغير مفهومة في نظرهم.
"من الاستبيانات التي نظمتها شركة ميلتون في المدن الكبرى يتضح أن الألمان لن يثقوا في أن هذه المنتجات هي مناسبة فعلا"، هكذا أعلنت السيدة جينتر، والتي كانت تتباهى بلقب نائب مدير قسم البحوث، أما وظيفتها الرئيسية فكانت اصطياد الزبائن من أجل الميلتونيين. كانت امرأة شقراء قصيرة فقدت زوجها في الحرب الكبيرة، ربت طفليها وكانت دائما ما تقدر بشكل زائد رجاحة عقل المستهلك الألماني.
كان توماس يراها كامرأة ذات صوت واهن وإنسانة مستقيمة من العالم القديم. أزعجته السيدة جينتر، وخطط لقطع رأسها – رأسها المهنية طبعاً – حتى نهاية السنة، لم يكن الأمر يتطلب مكيدة من أستاذ. في هذه الأثناء، وفي صدمة شديدة، أوصت برفع الأسعار من أجل البيع أكثر.
عندئذ قام توماس وقال، "بداية، فعلي الاختلاف مع فراو جينتر: أمريكا بالتحديد تثير فضول الألمان. وثانياً، أقترح أن تجتاح "وولفورت" السوق من السماء. أتذكر كيف أن الجميع هنا قد تحمسوا عندما انطلقت الطائرة "برسيل" في السماء"، ولم يكن هذا سوى غبار الغسيل. شبكة عملاقة مثل "وولفورت" عليها شراء سماء برلين لشهر واحد.
أعلن، "سنطرد كل الشركات الأخرى، لا ينبغي أن يرفع شخص عينيه للسماء ويرى شيئا ما غير كتابات طائرة، إشارات إعلانية أو نافورات طائرات "وولفورت"، وإذا لم يكن هناك اختيار، فلتكن هناك عصافير أيضا. سنبيع جميع مناطيد زبلن، الطائرات، كل ما يحلق في السماء. وإذا حاز المنافسون أدوات الطيران، فسوف نجبرهم على الهبوط."
أحب الأمريكيون هذا. من الكتب التي قرأها والأفلام التي شاهدها استنتج أنهم يحبون الجمل الجريئة التي تعبر عن أفكار مغامرة وضربة قاصمة للعدو: سوف نعمل أ ونفرّجهم، سوف نعمل ب وهذا سوف يصفيهم، سوف نعمل ج وسوف ينهارون ويبيعون كل أنواع الخردوات في الشارع. طالما كانت الفكرة بلا عراقيل، فهم سيقتنعون أن "هذا رجل كما نريد". هم يحتاجون للإيمان بأن رجلهم مستعد لحرق مدينة درسدن[2] من أجل بيع غلاية شاي.
"من كل شاحنة عليها مكبر، من كل بناية، فاترينة ونافذة أمامية لسيارة، سوف تشع أنوارنا. منتجاً وسعراً. منتجاً وسعراً يتناوبان طول الوقت."
"هذا يبدو عظيماً"، تحمس واحد من مديري "وولفورت أوروبا".
"بالصدفة أعرف أعضاء من "باول فنيتسل"، قال توماس.
"هؤلاء الذين سجلوا براءة اختراع الطائرة التي تبدل الإعلانات؟" تساءلت السيدة جينتر.
"بالضبط"، أمّن، "شباب رائعون فعلاً، ولديهم الكثير من براءات الاختراع في جيوب بنطلوناتهم. أقترح أن تحصل "وولفورت" على براءة الاختراع هذه منهم".
"هل نحتاج فعلا لطائرة تبدل عشرين إعلانا في كل طيران؟ لسنا إلا شبكة واحدة" صعّب ممثل آخر لـ"وولفورت" الموضوع.
"شرحت سابقاً..." قال توماس وود أبوي يشع من عينيه الخضراوتين، "نحن لن نثور بلا منطق، كما هو معتاد هنا في هذه المدينة، سوف ننشر في المرحلة الأولى منتجا وسعرا، وفقط في المرحلة الثانية سنعمل على الشبكة."
"هذا يبدو مثيرا للاهتمام، هل تستطيع تحديد لقاء لنا مع "باول فنيتسل"؟ تساءل الوولفورتيون.
"بالتأكيد"، ابتهج توماس، "إنهم أصدقاء مقربون."
حلوة كالعادة :)
ReplyDelete