Friday 19 March 2010

هيثكليف

ولدت أورلي كاستل بلوم عام 1960 في تل أبيب لعائلة يهودية هاجرت من مصر إلى إسرائيل عام 1949. كانت تتحدث الفرنسية منذ طفولتها بفضل مربيتها الفرنسية التي كانت تعمل في بيت والديها. بعد دراستها الثانوية في مدرسة هرتسليا وبعد انتهائها من خدمتها العسكرية، درست السينما لسنة واحدة في جامعة تل أبيب ثم درست لسنة في مدرسة "بيت تسيفي" العليا لفنون المنصة في رامات جان. بدأت في نشر كتاباتها عام 1987. اكتشفها المحرر الأدبي حاييم بيساح، والذي كان يحرر كتب إتجار كيريت ويعمل في دار نشر عام عوفيد، حيث نشرت مجموعتها الأولى "غير بعيد عن مركز المدينة"، ولكن تألقها الأكبر في الساحة الأدبية المحلية حدث بعد نشر روايتها "أين أوجد"، وكتاب آخر من الكتب التي حظت بتقدير كبير هو رواية "دولي سيتي"، والتي تعالج فيه قضية الأمهات في إسرائيل. في عام 1990 فازت بجائزة تل أبيب، وفي عام 1993 فازت بجائزة ألترمان، وفي عامي 1994 و2001 فازت بجائزة رئيس الوزراء للإبداع. تمت ترجمة كتبها لتسع لغات. وكتاب "دولي سيتي" تم تحويله لمسرحية عرضت عام 2006 على المسرح الكامري من إخراج توفي ديكمان.

من كتبها:

"غير بعيد عن مركز المدينة"، مجموعة قصصية، 1987، "محيط معاد"، 1988، "قصص غير جادة"، 1993، "راديكاليون أحرار"، 2002، "تكستيل"، رواية، 2006.

قصتها المترجمة هنا، والتي تمزج فيها الكاتبة بين الواقع الإسرائيلي المعاصر وأجواء رواية "مرتفعات ويذرنج"، هي إحدى قصص مجموعتها الأولى "غير بعيد عن مركز المدينة".


أورلي كاستل بلوم

ترجمة: نائل الطوخي



هيثكليف

الأيام كانت أيام حرب. الجنود النظاميون والاحتياطيون لم يكونوا يأكلون العسل. في أحيان نادرة تأخذ القوات المحاربة أجازة ليوم أو يومين. الأجازات كانت قصيرة. قصيرة للغاية. الفترة التي نتحدث عنها كانت بعد منتصف الحرب بقليل، وبرغم أن الحرب لا تزال مستمرة، فقد ساد الجمهور مناخ من الوهن والتخمة، كأنها انتهت بالفعل. بدأت أصوات عالية معارضة للحرب تتردد، وعلى الناحية المقابلة، ترددت عشرات الحجج لصالح الحرب. وكان هناك أيضا أناس لم تعنهم الحرب أبداً في حد ذاتها، لدرجة أنهم لم يستطيعوا تحديد من المنتصر ومن المهزوم. كانت قلوبهم تميل في اتجاهات أخرى تماماً.

عندما خرجت سمدار من السينما كان الجو لا يزال نهارا. امتزجت الحمرة التي غطت وجهها بأشعة الشمس الحمراء، والتي أوشكت على الخروج دائما إلى خلف بناية المكاتب القبيحة. في عقلها ترددت كلمة وحشية واحدة ووحيدة: هيثكليف. كانت تبلغ أربعة عشر عاماً. لم تكن هذه معجزة، بل وكانت شيئاً بديهياً.

يداها كانتا مبتلتين من أثر الدموع التي مسحتها بسرعة وهي تصعد السلالم باتجاه الخروج، وبللت تذكرة السينما أيضاً. ألقتها مبللة ومفتتة، مسحت دمعة أخرى، وقطعت الطريق.

الميدان الواسع كان خاوياً. جلست سمدار على درجة من درجات سلم مدخل المبنى وأشعلت سيجارة وجدتها مطوية في عمق الدوسيه القماشي. ثلاثة من قائدي الموتوسيكلات، يكبرونها بعام، مروا بها. لاحظ أحدهم الفتاة التي تدخن وصفّر لزميليه كي يتوقفا. رأتهم سمدار وتمكنت من مسح دمع أخرى، دمعة حزن، انزلقت من عينها.

نزل من الموتوسيكل.

"تريديين جولة؟" سألها.

لم ترد الفتاة.

"تريدين جولة"، سألها مرة ثانية، ولم ترد.

"لا تفهمين العبرية؟" كان يمضغ لبانة.

استمرت سمدار في تنفس الدخان صامتة.

"انظروا، إنها ترتعش"، هتف.

أثار قائد المتوسيكل الثاني الضجة وهو يضغط على دواسة البنزين. فضل الدوران حول الميدان في جولات واسعة.

"ما قصتك يا شولا؟" قال. "لا تريدين جولة معنا، أخبرينا. لست الأولى ولا الأخيرة."

"لا أريد"، قالت سمدار وقامت من مكانها. لم تبد من بعيد كابنة الرابعة بعشر. كان يمكن بسهولة إعطاؤها ثمانية عشر عاماً.

غضب ماضغ اللبانة. اقترب من وجهها، جذب السيجارة من فمها وسحب منها نفساً. تجمدت ابتسامة المبتسم. شدت سمدار رقبتها ونظر إلى الشابين باحتقار، ثم غادرت مكانها واختفت بين عواميد الأسمنت.

"ما الذي فعلته يا أفنير؟" سأل المبتسم زميله بغضب.

"لا أحتمل أشكالهن. لسن جميلات ويعتقدن أنفسهن الليدي ديانا."

أدار المبتسم موتوسيكله وانضم لصديقهما، والذي كان يدير منذ فترة حوارا مع طفلة أخرى وجدها في طريقه. انطلق أفنير وراءه بسرعة، كي يثبت لنفسه للمرة المئة أن قوة أحصنة موتوسيكله تساوي قوة أحصنة موتوسيكل صديقه.

شقت سمدار طريقها في شارع إيفن جفيرول. طعم السيجارة كان مراً. نظرت على جانبيها للتأكد أن أحداً لا يراها وبصقت بصقة كبيرة على الرصيف. عندما رفعت عينيها، احمرّ وجهها. كانت هناك عينان تتطلعان بها. كانتا عيني هيثكليف[1]، خضراوتين، مائلتين قليلاً، وتركزان عليها جيداً. فحصت نظرته وواست نفسها بأنه في النهاية، فإن البصق هو فعل طبيعي، والطابع الوحشي لهيثكليف لن يرفضها بسبب بصقة.

النظرة الثاقبة التي غرزها فيها في البداية تحولت إلى ما يشبه ابتسامة. ملابس القطيفة التي كان يرتديها كانت جيدة عليه. حلت ربطة شعرها وتركته يسقط. كانت خفيفة، وكان بإمكان هيثكليف، لو أراد فحسب، أن يحملها بيد واحدة ويركض بها صامتاً على طول الشارع.

توقف أوتوبيس مليء بالعمال العرب في الإشارة القريبة. اختفى هيثكليف وفرسه باتجاه قمة الشوك. هناك سوف يستمر هيثكليف في الصراخ، وأصداء صرخاته فحسب هي ما ستصل إلى أذنيها المنصتتين. العمال العرب كانوا منهكين ونعسانين. لقد انتهوا من يوم عمل مرهق، والآن هم في طريقهم إلى إحدى المدن في الجنوب. لم تجهد سمدار نفسها في التطلع إلى وجوههم. أحد العرب، وكان موجودا في وسط الأوتوبيس، سحب مسدساً، ولكنها تجاهلته. وحتى عندما صوب إليها ماسورة المسدس لم تغير إيقاع سيرها. منذ زمن طويل كانت تريد أن تصبح ضحية عملية إرهابية كتلك. تغيرت الإشارة وانطلق الأوتوبيس.

انطلاق الأوتوبيس كشف سمدار التي كانت تقف وتتطلع للأعلى. السماء كانت مليئة بالنجوم، ولكن هناك ضوءاً نهارياً رمادياً. حولت نظرها قليلاً باتجاه الأسفل متطلعة إلى أطراف التلال الخضراء ومتجاهلة أجهزة الإيريال والعواميد الكهربائية في الطريق. لم تر هيثكليف، كما أن صرخاته غابت بين صخب السيارات المنطلقة. العمال العرب هم المتهمون في هربه. أصبح أكثر نبلاً في عينيها. واصلت السير ببطء لخطوات أخرى ووقفت بجانب شجرة كبيرة وسميكة. ليست هناك عصافير صاحية ليلاً. كلها نائمة على الأشجار، مخفاة جيدة عن أعين البشر، مثل محاربي العصابات. دققت سمدار النظر في أعماق الشجرة. كل شيء أسود وبصعوبة أمكن رؤية الأوراق. حاولت نفضها كي ترى كيف تطير العصافير منها، ولكن الشجرة كانت قاسية وثابتة وأكثر سمكا منها.

يفترض أن هناك في الدوسيه سيجارة أخرى. في رحلتها غير المتعاطفة بداخلها تعثرت بقطعة حلوى لزجة وبفتات حبات مضاد حيوي تبقى من دور البرد الأخير الذي أصابها. من حين لآخر كانت تخرج يدها من الدوسيه وتحكها في بنطلونها، وربما في الجيبة الرمادية الطويلة.

للمرة الثالثة والأخيرة، هكذا أكدت لنفسها، غرزت يدها في الدوسيه، وأخيراً تعثرت في سيجارة مطوية ملتصقة بإحدى قطع الحلوى. ببطء نقلت السيجارة والحلوى لأعلى الدوسيه. الدوسية كان طويلا وضيقا، وكان عليها التمرين بحرص شديد، كي لا تقوم الأشياء الكثيرة بداخله، ومنها سندوتش جبنة صفراء وزيتون، له ثلاثة أيام، وأقلام رصاص مقصوفة، مبراة، غطاء قلم روج، بتمزيق الورقة الحساسة للسيجارة.

عندما نجحت في إخراج هذين الشيئين، بدأت في محاولة الفصل بينهما بحرص. هذه المهمة كانت تتطلب يدين رقيقتين، ولكن حتى اليدين المرتعشتين لمدمن كانتا لتنجحا أكثر من يديها اليسريين. انفتح ثقب في السيجارة، والتصقت قطعة الحلوى بيدها. حاولت سمدار التخلص منها عن طريق نفض يدها، ولكنها أبت الانفصال. في النهاية تخلصت منها عن طريق حكّها على لوحة إعلانات قريبة، وجلست يائسة على أريكة صفراء. تفاقم الإحساس بالجوع، الذي كان قد داهمها منذ مشاهدتها الفيلم. قضمت سندوتش الجبن الصفراء بشراهة. اصطدمت أسنانها بذر الزيتون الموضوع بإهمال داخل السندوتش. لفظته بداخل كفها.

هبط هيثكليف من على فرسه وجلس بجانبها. داعب وجهها. رمت من يدها بذر الزيتون. سندت رأسها على صدره، وداعب هو شعرها الثائر. خافت من أن يقبلها، لأنه لم يقبلها أي رجل من قبل أبداً. ولكن هيثكليف لم يفعل إلا أن قبلها على وجنتها المشتعلة وأزاح من علي عينيها خصلة شعرها التي كانت تحجب عنه نظراتها.

لم يقل كلمة. أرادت سمدار أن تقول له بالإنجليزية، آي لوف يو، ولكنها لم تحب أن تكشف عنها لكنتها الغريبة. من المفضل لها كذلك ألا يعرف عنها هيثكليف كل شيء. لم تكن تعرف أن هيثكليف يعرف ويرى كل شيء، وأنه يتغذى على حبها له مثلما تتغذى الأرض على المطر الذي يهطل عليها.

رائحة الأرض المبتلة بفعل المطر تصاعدت في أنفها. ربما جاءت من هيثكليف. كان غارقا في التأملات ويتطلع إلى الأفق. تجرأت سمدار على نقل أصابعها إلى جانبي وجهه الحاد، ولم يتحرك. أنفها كان بارزا للغاية، وتمنت ألا يلمسه. قام هيثكليف بتوجيه رأسه إليها وسكت. كان ما بينهما أكبر من الكلمات. لم تجرؤ حتى على الابتسام له. قام واختفى خلف التلال الخضراء.

أكثر قليلا من مئة متر كانت تفصل بين سمدار وبين بيت أبويها، ولكنها فضلت السير حتى تصل إلى التلال الخضراء على الضفة الأخرى من السهل المتاخم للمدينة من ناحية الشمال.

أرادت أن يطلع النهار، كي تتمكن من الركض والدحرجة على العشب النابت بشكل فاتن. ولكن المكان كان مظلماً ومخيفاً، ومن بين الأشجار قد تظهر في أي لحظة، إذا أرادت فحسب، الأرواح والساحرات والقتلة الهاربون. مياه السهل كانت سوداء، حتى النجوم لم تجرؤ على الانعكاس فيها.

مر كلب ضال بجانبها وتشممها. كيف يمكن معرفة أن روح هذا الكلب ليست روحا محبوسة، لا تطلب إلا الخروج والانتقام؟ واصل الكلب تشممها. ألقت عصا إلى البعيد. ركض الكلب إليها وأعادها مغروزة بين أسنانه. رقد بجانبها وتثاءب. رائحة فمه كانت سيئة. نام.

حركت الريح أفرع الشجر. لم تستغرق سمدار في الخوف. رقدت على العشب الندِي وتدحرجت عليه ذهاباً وإياباً. صحا الكلب. وضعت سمدار رأسها على الدوسيه وتعثرت بأركانه المؤلمة، ثم قامت وخطت باتجاه الشجرة الوحيدة على الضفة الخضراء.

في الثامنة والنصف بحسب ساعتها أطلقت على هذا المكان اسم يوركشاير.

قالت لنفسها: "لا أدين بأي شيء لأي شخص. ولا حتى للعصفور الغبي الذي يغير وضعه في منتصف الليل. ولا للذئاب التي يمكنها الخروج من الأرض وافتراسي. أنا حرة. أنا لهيثكليف."

عادت لترقد عل العشب وأغلقت عينيها. لم ترغب في فتحهما، ولكن ملمس يد شخص على رقبتها اضطرها لأن تفعل هذا. كانت يد هيثكليف. رددت اسمه، ولم يرد عليها. أراد أن تسأله أين كان في هذا الوقت المتأخر، ولكنه رقد عليها وفتح أزرار قميصها. بعد قبلة طويلة هدأ هيثكليف ونام. تنفسه أصبح أكثر وأكثر بطئاً. تنفسها كان ثقيلاً. نامت على مروج يوركشاير عارية كما ولدتها أمها، مشتعلة من الخجل. لم تجرؤ على الحركة، ولا على أن تطلب منه الحركة، حتى وإن كان ثقل وزنه قد ضايقها. بحثت عن حصانه، ولكنها لم تجده، وافترضت أن الحصان قد خرج للركض وحده في المساحات المفتوحة. تطلع الكلب إليها انتظاراً للملاطفة. ثقُل جسم هيثكليف عليها. كان الضغط على رئتيها كبيراً. هزته بخفة، واستيقظ. وبينما كان يزيح برقة من على جبينها عشباً التصق بها، لاحظت سمدار أن ملابسه خضراء بالفعل، ولكنها ليست من القطيفة كما اعتقدت في البداية.

قال لها هيثكليف: "عليّ أن أذهب"، وسمدار كانت تعرف أنها لن تراه لأيام طويلة. لم تكن لديها فكرة عن كيف يمكنها أن توقفه وتجعله يبقى. مشيته كان منحنية. زرر بنطلونه. سار الكلب خلفه وذيله بين رجليه. سألت نفسها إن كانت حاملاً أم لا. ارتسمت ملامح عابسة على وجهها الشاب.



[1] هيثكليف هو بطل "مرتفعات ويذرنج"، رواية إميلي برونتي الشهيرة. وقح وفج، يحب كاثرين التي تفضل زوجا آخر عليه. أحداث الرواية تدور في يوركشاير، وهي المنطقة التي نشأت فيها برونتي.

No comments:

Post a Comment

comment ya khabibi