Friday 15 October 2010

بيت بيته بيتك

بيت بيته بيتك

ناتالي براون

ترجمة: نائل الطوخي


دخان كثيف تموج من خلف التل وقامت أشعة الشمس الأخيرة ذهّبت رؤوس المتظاهرين والجنود التي أطلت بالتبادل في الضجة المتربة. خلاص، روح البيت، هكذا ردد من بعيد ردد مكبر الصوت العملاق. وتبدد صوته في الريح. حزمة طلقات واضحة اكتسحت الصرخات الدقيقة وبعد ثوان هربت حفنة المتظاهرين، أعلامهم مخفوضة كالذيول، وعيونهم مشتعلة وضيقة من الغاز والخوف. تراقصت أشكالهم هنا وهناك على التل، وانتشرت. بعدهم، من خلف السحاب الثقيل جاء وصعد ثلاثة جنود مسلحون وتفحصوا بكسل الأرض التي تم إخلاؤها. عندما اجتمعوا لمراقبة القرية، اسود لونهم على ضوء أول الليل وبدوا مثل ظل واحد، هائل ومظلم.

حول يارون نظره عن شاشة الإل سي دي، ذهل لمرآى الإطار الجريء الذي تمكن من تصميمه، المشهد الافتتاحي في لقطة واحدة، شعر بالرضا عن نفسه، القصة كلها في كبسولة ضئيلة ومؤثرة. فجأة التقطت عينه طفلا نحيلا، يجري بنشاط على مهبط التل، أسرع يارون بتوجيه الكاميرا باتجاهه، ولكن الطفل اختفى كأنه لم يكن في حقل الصخور القريب.

حي فلورنتين الصاخب سقط في صمت يوم السبت، انتقل يارون للحي قبل ثلاثة أسابيع. اقتنى أبواه شقة له، بعد رحلة من الإقناعات المجهدة. كان من الصعب عليه أن يشرح سبب استثمار مبلغ غير قليل في بناء آيل للسقوط في الجنوب، بينما يمكنه بنفس المبلغ شراء شقة جديدة في الشمال. وربما أيضا آذتهم في النهاية الأسقف المرتفعة، الأرضيات الأسمنتية المرسومة والشبابيك الخشبية الواسعة المطلة على قمة بنفسجية. وربما كانت هذه ملاحظة عابرة ساخرة ألقى بها على مسامع أمه، ولكنها في الحقيقة فلقد توجهت إلى الآذان الصهيونية لأبيه وأشار فيها إلى أن إليعازر بن يهودا سكن في الشقة لسنوات قليلة. سواء هذا أو ذاك، فلقد كان يخفي بارتباك الأخبار عن أصدقائه – بيته.

مين ساكن في هالبيت؟

- جورج ساكن هون، في بيته.

مين كمان ساكن في بيته؟

صوت الباص المكبوح تردد من جهاز السراوند الجديد. رجع يارون إلى الخلف بيأس. هذه هي المرة الثالثة التي يتم تسجيله فيها لدراسة العربية. في البداية اتهم الإطار الجمعي في الجامعة. اللغة معناها الحميمية، كما زعم. في جمعية حلونوت لم يكن هناك سوى عشرة تلاميذ، ولكن الكلمات كانت ما تزال لا تطاوعه. هذه المرة، جرب الدروس الخصوصية في مقهى يافا. تزايدت الرغبة عندما بدأ في تصوير فيلم عن الجدار. مرت ثلاث سنوات منذ أنهى دراسته بنجاح مثير للإعجاب. فيلم مشروع التخرج القصير الذي وصف فيه رافضي الخدمة العسكرية حاز على جوائز كثيرة. الكاميرا سلاح غير عنيف، كما نادى على المنصة في أنحاء العالم، صوته هادئ ومتزن ويده موضوعة بتأمل على شعرات ذقنه الخفيفة البادئة في النمو.

وإنت وين بيتك؟

استرق يارون النظر بفزع إلى الساعة. ربما نام على الأريكة. بعد قليل ستأتي شيري. اليوم هي مشغولة بتحرير شهادات لكاسري الصمت[1]. مسكينة، فكر، وفي النهاية، لطيفة بما يكفي. تطوع بالمساعدة. في خزانة المطبخ لا يوجد إلا مكرونة "أوسم" وفي الثلاجة ثمة بصلات قليلة. سنطلب سوشي، قرر، وبدل الملاءات.

عضلات الظهر وهنت في ثوان، قام من عليها ، سال عرقه متأخرا بعد الدش القصير، المشبع. لمست شيري وجهه بخفة، التفت ساقها حوله. فجأة بدت له بعيدة، حاول تذكر اسم عائلتها. فيسمان، لا. ربما فيسبرج أو فينجرتن. تحدثت. كلماتها فقدت معناها وبرغم أنه اجتهد لهز رأسه، فلقد بدأ في الغرق.

في حلمه عاد الطفل. ناداه يارون بعربية مشوشة. لم يدر الطفل وجهه للخلف وواصل القفز بخفة مخيفة في الحقل المكشوف.

هل أنت متأكد أن هذا آمان؟ بالتأكيد أمان، ابتسم أيوب بتعب، وصل بالأمس دوليون جدد، احتفال. كانوا مستنزفين. ناموا اليوم معقودي الأيدي على التراب صفوفا صفوفا. سرينة الصرخة العسكرية[2]، لا تزال تدوي في آذانهم. يارون كان يصور ويصور، حتى قاطعوا الكاميرا واضطرت المجموعة لمساعدته بغضب. سوف يكون العالم شاهداً على فظائعكم، صرخت شيري بدموع المهانة عندما فصلها جنديان بالقوة عن السلسلة الحية. هذه مظاهرة غير عنيفة، شخر خليل بينما يتم جره من ساقيه. عنفكم هو انتصارنا. يا روبوتات متناكة، تلقت جبهته ضربة من ماسورة بندقية إم 16. صارع يارون دفاعا عن الكاميرا بقوة وتقريباً أصابته رصاصة. لم يسمع الأوامر ولا طلقات التحذير ومازال يختنق من الغاز المسيل للدموع، شق طريقه إلى الجيب العسكري وبمعجزة نجح في النهاية في تخليصها من أيديهم.

في وسط فناء بيت أيوب، تم فرش مشمع من النايلون على السجاجيد التي تغطي مساحة الأسمنت وووضعت شابتان محجبتان عليها أواني كبيرة وخرجتا متعجلتين. تصاعدت رائحة الخبز في أنف يارون الدائخ. أربع متطوعات أمريكيات بملابسة ملونة كن يضحكن مع خليل، الذي كان يتباهى بالمجموعة المثيرة للإعجاب التي نمت في رأسه، وانزلق سائر المتظاهرين للداخل قطرة قطرة. بينما يقبض بأصابعه على طبق الكسكسي بالضأن، لاحظ يارون فجأة طفلا يجلس بجانب أيوب ويستمع لأخبار محكمة العدل الإسرائيلية التي تم تبادلها بصوت منخفض. كيف حالك، أنا يارون. قطع أيوب حواره قائلا: ابني. وحيد، لفظ الطفل. يحدق في الكاميرا المنصوبة أمامه ويتحسس أجزاءها بحذر. هل كنت في الجيش؟ لا. أجاب يارون بتواضع وفوجئ بملاحظة خيط عابر من خيبة الأمل. ولكن أبي كان قائداً مهما، أضاف بسرعة وندم فجأة. خدشت الكلمات أذنيه وبدا أن الجميع قد توقفوا عن الأكل وأخذوا ينصتون له بسخرية.

أقلق وحيد راحته، في طريقه للبيت، في قافلة السيارات إلى الخارج في الظلام. فراق متخيل، عاد الطفل وظهر أمام عينيه بوجه مغلق. افترقا بمحبة، بعد أن وضع وحيد الكاميرا المشعلة على كتفه وخطا في أنحاء بيته بمكر ، يارون مشدوه على آثاره ورأسه يغلي. نعم. البيت. الفيلم كله، من على ارتفاع متر وثلاثين سنتيمتر!

- هالبيت كبير!

- آه، كبير وحلو.

قرأت مريم في شريحة مستوية ومثيرة بالآي بود. تنهد يارون واستندت شيري على كتفه، وضع يده على حجرها بعقل مشتت. أومضت القدس من بعيد، انفتحت أمامه بنعمة، بطلي، عرف يارون. وقبل أن ينفصل عن المجموعة، كان وضع بصمة إصبعه على شماسة النافذة المسقوفة.

تفاقم الصراع وحصد ضحايا. أصيب توفيق في عموده الفقره، فقد خليل عينه و تم اجتثاث مئات أشجار الزيتون، مصدر الرزق الوحيد للقرية. وفي أثناء هذا، اشتدت صداقة يارون ووحيد والفيلم الذي ولد في أعقابها. احتل الطفل قلبه تماما وخاف على مصير العائلة التي سوف تققد مستقبلا بيتها الذي يقع في مسار الجدار. قلل يارون من زيارة عائلته. كان ينقل لأمه أخبارا عن صحته ولم يتحدت مع أبيه نهائياً.

حافظ شاب مشغول ووجهة مليء بالتجاعيد على الميتسوبيشي لانسر المخبوطة، مركونة أمام الضفة اليسرى. المتظاهرون العرقانون، والذي أخذ عددهم يقل من أسبوع لآخر، أخذوا يخرجون من قلبها متأخرين، مباشرة إلى قاعة صغيرة وصاخبة بالبشر من كل صنف. بحث يارون عن شيري في الظلام، توسلت أمه إليه لحضور وجبة السبت وسوف يضطر للخروج مبكرا من المناسبة. لاحظ ضابط لواء الجولاني السابق مرتعشاً أن صورة وجهه المقربة تتقافز على ظهر الملاءة البيضاء.

الطريق لهود هشارون كانت أقصر مما يتذكر. مر وقت طويل منذ زار بيت مولده. بإصبع واحد أخرس حوارا هرب من رأسه بشكل أثار غضبه.

إنت ساكن هون.

- لا أنا مش ساكن هون.

- بيت المدير حلو؟

لا، بيت المدير مش حلو.

توقف الدرس وساد هدوء في السيارة، استشنق يارون بعمق رائحة آخر البساتين وشعر بحزن عذب.

أدار في صمت مفتاحا مهجوراً في صرته وانفتح الباب الفولاذي على اتساعه. أبوه يحدق ناظراً في البلازما ال50 بوصة وأمه لا تزال تعمل في المطبخ. سلام، قال في هدوء ونجح في الدخول. في ثوان وقف أبواه. أمه بحضنها الخفيف وأبوه بربتة مشحونة. نعم، وقت طويل. كومت أمه على ظهر الصينية طبخات كان يحبها، كرنباً محشواً، شرائح لحم، شليشكلاخ. ازدرد يارون الطعام بمتعة متزايدة، بينما أخبار السادسة تتسلل فجأة إلى أذنه. رفضت المحكمى العليا الالتماس المشترك لأبناء القرية وسوف يتواصل بناء الجدار العازل على ما يرام في الأيام القادمة. وهاهم أصدقاؤه يطلون من البلازما، يمسكون باللافتات الكرتونية، يمسكون ببعضهم البعض. وهاهو. وجهه مختبئ خلف الكاميرة. وقف يارون. انفرد ظهره والتمعت عيناه. وحيد.

في لمحة قديمة نساها يارون، قبض أبوه بكفيه الواسعتين على يده. وفي لفتة جديدة بشكل مذهل، نظر مباشرة في عينيه. إذا أردت، فالمسار سوف يلتف على بيتهم. ذهل يارون. من أين عرفت؟ همس. ماما حكت لي. الجاسوسة. كيف تستطيع؟ بتليفون واحد. شحب وجهه، العينيان الزرقاوتان لأبيه الكبير، أبيه القادر، التحمتا بعينيه.

*

تم عرض الفيلم الصادم ليارون بنجاح كبير في مهرجان برلين. الجمهور الواسع حبس أنفاسه لدى رؤية يد البلدوزر الهائلة، والتي اجتثت بيت وحيد برفة عين. وقف وحيد وحده على التل، جسمه النحيل كان يرتعش، ولكن بطريقة غريبة. ظل موقفه ثابتاً. تملى في بيته الجاثم على الأرض وفجأة حول وجهه باتجاه الكاميرا التي اقتربت ببطء رقيق، من وجهه.

_____________________________________

ولدت ناتالي براون عام 1978. نشرت قصائد وقصصا قصيرة في دوريات أدبية. حصلت عام 2005 على المركز الأول في مسابقة "شعر على الطريق" التي نظمتها بلدية تل أبيب – يافا عن قصيدتها "ك". وحصلت على تمويل إصدار ديوانها الأول "أن تقتل وتتنفس" الصادر عام 2006.

براون سينمائية أيضا ، تم عرض فيلميها القصيرين "سرة"، و"العشاء الأخير لنـ. براون" في مهرجانات بإسرائيل وخارجهها. أما فيلمها "التحول" الذي يربط بين شهادات لنساء مررن بتجربة الاغتصاب وبين أساطير قديمة تنشغل بالأذى الجنسي، فلقد عرض في مرجان القدس السينمائي ومهرجانات أخرى في أنحاء العالم وحظى بجائزة الفيلم التوثيقي الأفضل لعام 2006. كما حظى فيلمها "الجلاد" الذي يحكي قصة الشخص الذي قام بشنق الضابط النازي أدولف آيخمان، بالجائزة الأولى في مهرجان الأفلام الدولية في حيفا 2010.

الكلمات المكتوبة بالعامية الفلسطينية في هذه القصة مكتوبة بالعربية في القصة العبرية بالأصل.




[1] اسم مجموعة من الجنود الإسرائيليين الذين أنهوا خدمتهم وينشرون المعلومات عن فظائع الجيش في الأراضي المحتلة.

[2] التعبير بالأصل هو צופר הצרחה הצה"לי. أي سرينة الصرخة التساهالية، نسبة لتساهال وهي الحروف الأولى من "جيش الدفاع الإسرائيلي".

No comments:

Post a Comment

comment ya khabibi