على إيري
دان بن آموتس
ترجمة: نائل الطوخي
أي حظ حسن كان في ذهابي للجيش مع نيرا. لا أعتقد أنني كنت سأصمد في فترة مركز التدريب بدونها، بدون أن أعرف أنها تنام من أجلي، أنها موجودة من أجلي، في مكان ما، بدون وجهها في البطانية العسكرية، بدون رائحة جسمها في كيس النوم (نامت فيه مرة واحدة، في نهاية الأمر)، بدون همساتها في منتصف الليل، في خيمة الاستطلاع بالميدان. كانت تؤيد الجيش، وأنا كنت أؤيد ما كانت تؤيده. إذا لم يكن مهما لي لهذه الدرجة أن تتباهى بي، كنت سأنكسر منذ زمن طويل.
عندما عرضتُ عليها أن تسكن معي وتحافظ لي على الغرفة، وافقتْ بسعادة، بل ومنحتني قبلة على جبيني، على حساب إيجار الشقة. هي ليست واثقة، قالت، أنها ستنام كل ليلة في غرفتي. أبواها سيصابان بالشلل ، بالإضافة إلى الأزمات التي تسببها لهما. ولكن أحياناً، بدلا من أن تنام عند صديق – رائع، بالطبع – ستكون لها غرفة في المدينة. وسوف تأتي لسماع التسجيلات والقراءة والاستحمام على السطح. قلت لها أنها إذا استصدرت رخصة فيمكنها استخدام الدراجة البخارية "هو يشاركها في أغلى ما لديه، يشاركها!" تقول لجمهورها الخفي. "هذا الإنسان فقد صوابه"!
مؤكد أنني كنت سأنكسر في الجيش بدونها، كنت سألقي على مسامعهم المواد القانونية وأنا مازلت في المرحلة الأولى. مثل ميكي وشمعون وإكس وشاؤوليك "اتركني"! كنت سأذهب مثلهم إلى سجن رقم ستة، طائشاً، أجلس في الحبس وأهدد بالانتحار حتى يرسلني الطبيب النفسي إلى بيتي على مادة 24. "غير لائق نفسيا"، "غير مناسب للإطار العسكري"، لا يهم السبب – المهم أن أترك الجيش. أن أهرب من الإذلال اليومي في الدوريات، طنين الرقيب أول، الجولات حول المعسكر والإساءة التي لا تنتهي لأولاد الناس.
كان لدينا طفل من نتانيا بنظارة، موسيقي موهوب، لم يرغب بأي شكل في الذهاب لأوركسترا الجيش الإسرائيلي أو لإحدى الفرق العسكرية. يعزف على جيتار كهربائي، بيانو، ساكسفون، كل شيء، جاز، كلاسيك – ما تريده. نحيف، ضعيف، بطابع الدبابة. كم حاولوا مضايقته، ولم ينفع هذا. اخترع كلمة "مضايقويا"[1] لإساءات الرقيب أول ، وعندما تمر هذه العاهرة في القاعدة كنا نغني له "مضايقويا" لشوبرت بأربع أصوات، وبقيادة جو. اسمه كان فرانكل يوسف، ولكن الجميع يطلقون عليه اسم جو. كم هو صغير، وكبير أيضاً. كان واحدا من المحاربين الأكثر جدية في قسمنا، وبعد كورس قيادة سلاح البر تحول، في جولات على طول الجدار، إلى خبير ألغام. كنا نحتل موقعاً على بعد مئتي متر، وكان جو يجلس بارتياح على الطريق الترابي ويفكك بهدوء الألغام الأكثر تفخيخاً. كان "يعزف" على كمية كبيرة جدا من الألغام، حتى خطفوه منا وأرسله إلى كورس ضباط مكافحة التخريب.
أغلب الوقت كنت أشعر كأنني كلب يبولون عليه
فترة مركز التدريب كانت شرخاً رهيباً. الفترة الأكثر حقارة في الجيش. أغلب الوقت كنت أشعر كأنني كلب يبولون عليه ولا يدعونه يدخل البيت. كلب، يركله كل من يمر أمامه، يلقيه بالحجارة ويسكب عليه الماء، ومع هذا يتوقعون منه المحافظة على البيت وإخافة اللصوص.
كتبت الكثير من الخطابات في هذه الفترة. إلى نيرا، إلى فيرِه، وحتى لبوجل العجوز. حاولت التشبث بأظافري بالعالم الآخر الموجود خارج القاعدة. وكتبت للجميع أن كل شيء على ما يرام، أن الوضع بالنسبة لي جميل في الجيش، أننا صامدون، وإلخ. فقط لنيرا كتبت عن السماء المضببة، عن ضغوط قبل المساء، عن الوحدة الرهيبة في كتيبة تضم مليون وحيداً وعن الشوق المجنون إليها في خيمة صيادين على السطح. ولكن ما الذي استطعت كتابته لها؟ "تعالَ هنا يا عسكري! زرر القميص، اعدل القبعة، اربط رباط الحذاء، رتب السرير من جديد، إذهب لتمليط الأحجار، يا حقير! والآن قم بتمليط الأشجار، الأعمدة، حرك مؤخرتك، يا قذر، أو سأمزقك!" والجميع نفس الشيء، أي رتبة تسوى أو لا تسوى، من قائد سلاح البر وحتى الرقيب أول، يبحثون عن فرصة للإهانة، للإذلال والاحتقار وتدمير هؤلاء المساكين كي يتعلموا الانضباط ويتحولوا إلى جسد واحد يقوم سويا بـ"للخلف در"، و"للأمام سر" مثل ماكينة مشحمة. بالتأكيد لم أستطع أن أكتب لهم هذه الأشياء. بأسنان تصر وقبضتين مضمومتين قررت الصمود واجتياز الجحيم، ببساطة كي لا أعاقب بالحجز في المعسكر بينما الجميع يسافرون لبيوتهم، لرؤية نيرا.
أول شيء فعلته هو الطيران للغرفة، ولكن نيرا لم تكن هناك
يوم السبت الأول، أخذنا أجازة لـ"إعادة المعدات" – أول اتصال بالعالم الخارجي، لنودع الملابس المدنية، لكي نُري أنفسنا لأبائنا القلقين ويرتاحوا يوما واحدا من ضربة الميري. أول شيء فعلته أنني طرت للغرفة، ولكن نيرا لم تكن هناك. لم تكن في الغرفة، بل ولم تكن هناك في أي مكان. أية مفاجأة! لم أستطع تصديق عيني، كما يقولون. قامت بترتيب لوح خشبي طويل وقرميد ووضعت عليه كل الكتب والتسجيلات، غطت الحشايا على الأرض بغطاء مرقع من كل أنواع قطع القماش، لصقت البوسترات بطول الجدار أمام الباب. وعلى السقف، بالتحديد فوق الحشية، لصقت بوسترا عملاقا لغابة من الأشجار تتساقط أوراقها في خريف أحمر. على الحوض علقت مرآة بإطار قديم وبجانبها، على طاولة، رتبت شيئا ما يشبه المطبخ بأطباق وفناجين. في أحد الأركان نصبت كرسيين من القش بجانب "طاولة القهوة" من كرتونة خضروات مقلوبة، وفي ركن آخر كانت ثمة ثلاجة قديمة اشترتها، كما اتضح لي بعد ذلك، من "سوق الخنافس" بثمانين ليرة.
عندما فتحت الثلاجة جننت! الثلاجة كانت خاوية، ولكن على الحواجز والأرفف كانت ثمة أطعمة رائعة ومشروبات أجنبية ملصقة من قلب الجرائد، صور ملونة للحوم، الأجبان، الخضروات، الفاكهة، الأسماك بالأرز، سباجتي بصلصة الطماطم، علب البيرة الهولندية، ويسكي، كوكا كولا، كل شيء، بهجة للأعين.
(...) لم أنم في الغرفة تلك الليلة، ببساطة لم أستطع. ذهبت لأبوي، وبهجة وسعادة! انظروا المظلي الخاص بنا. انظروا كيف اسمرّ لونه وقُص شعره مثل رجل – جندي فعلا! متعة أن يتطلعوا إليك، يا رافي. أنت متعَب بالتأكيد، خذ دشاً جيداً ونم لتسترح. أنت تبدو رائعاً. تعالَ أعطك قبلة، يا مظليّ.
كس أمممم كل شيء! علي الاعتراف أن البيت برغم كل شيء هو بيت.
***
موليك:
عندما زرت رافي في المستشفى بعد نحو ثلاثة أسابيع، سألته ماذا حدث. لم أستطع فهم لماذا قام هناك فجأة أمام المغارة. رافي كان جنديا من الطراز الأول. رجلاً صلباً لديه خبرة عسكرية. لم تكن هذه هي مطاردته الأولى. قال لي أنه لم يرغب فقط في إطلاق النار أمام المغارة، لأنه سمع أصوات أطفال في الداخل. وهذه طريقتهم، يختبأون من خلف النساء والأطفال. اندهشت من رافي. أنا غير معتاد على طريقته. كنا في فصل واحد من البداية، وأعلم أنه بعيد عن أن يكون نباتياً. تعامله مع العرب كان براجماتيا، لم تكن لديه أية مشاكل. على الأقل، في البداية. واضح أنه أكثر إنسانية مما بدا أمام الخارج. ولهذا فلقد أصيب.
***
الأب:
لا أندب سوء حظي. الثمن ثقيل للغاية، ولكن علينا تذكر أن الحرب لم تنته في يونيو 67. الحرب تتواصل، وينبغي التعود على فكرة أنها ستستمر لسنوات طويلة (...) عندما ذهب رافي للجيش، توقعت الأكثر سوءاً. عرفت أن الجميع يعودون من الحرب، وأن العائدين لا يعودون دائما سالمين. لا خيار. حُكم علينا بالحياة على حد السيف، وعلينا أن نكون قساة كالفولاذ. عندما تلقيت الخبر رأيت الموت قريباً من بيتنا. ولكن حمدا لله – رافي لا زال على قيد الحياة.
***
نيرا:
لم يتحدث معي أبدا عن إمكانية الإصابة، ولكنني واثقة أنه فكر في هذا. حتى أنا كنت أراه مصابا، يوميا بيوم، وأنا أقرأ الجريدة وأسمع الأخبار. رأيته بلا ساق، بلا يد، على كرسي متحرك. ولكن كان هذا دائما تفكير عارض، بعيد، وفجأة، عندما حدث هذا، كأنني كنت أفكر فيه للمرة الأولى. عندما أخبرني فيرِه، ذهبت مباشرة للمستشفى وبقيت بجانب السرير طول الليل والنهار. نظرته الأولى كانت نظرة معتذرة، مثل طفل فعل شيئا سيئاً ويريد القول أنه ليس خطأه. شفتاه كانتا يابستين جداً، ورطبتهما بقطن وماء. مرة واحدة وضعت شفتيّ على شفتيه، وأغلق عينيه.
***
مقاطع من كتاب "لا يضع إيره - לא שם זין (يمكن ترجمته بالتعبير العامي: على إيري) لدان بن آموتس صدر عام 1973. كانت المرة الأولى والأخيرة التي تظهر فيها كلمة "إير" في عنوان كتاب. المقاطع منشورة في صحيفة يديعوت أحرونوت. بعنوان "لم أكن سأصمد في مركز التدريب بدونها". الصور، الأولي لبن آموتس في شبابه، والثانية لغلاف روايته "لا يضع إيره"، والثالثة صورة له في شيخوخته.
_________________________________
ولد دان بن آموتس عام 1923 في بولندا باسم "موسيا تهيليمزوجار". وتم إرساله من قبل عائلته في إطار هجرة الشبيبة إلى قرية الشباب "بن شيمن" بفلسطين، وبفضل هذا نجا من الهولوكست. في بداية حياته غير اسمه إلى "موشيه شعوني"، ثم إلى "دان بن آموتس". في عام 1941 أبيدت عائلته في الهولوكست وبقى هو حياً.
في عام 1943، أي في ذروة الحرب العالمية الثانية، خدم في الأسطول البريطاني، في إطار مشاركة الاستيطان اليهودي بفلسطين في الجهد الحربي لصالح الحلفاء. ثم تم طرده من الأسطول بسبب مشاكل تتعلق بالانضباط، وانضم لكتائب البالماح الصهيونية، وبالتحديد الكتيبة البحرية للبالماح. وفيها قام بنشاط ثقافي كبير، حيث كتب القصائد ونظم العروض المسرحية سويا مع صديقيه، حاييم حيفر، وشايكه أوفير.
في حياته، عد بن آموتس واحدا من الأدباء المركزيين والأكثر تأثيراً في إسرائيل، رآه الكثيرون نموذجا للجندي الإسرائيلي، ابن البلد، الكامل. في حوار معها، روت المغنية حافا ألبرشتاين كيف كانت تسمع برنامجه "ثلاثة في مركب واحد" باعتباره نموذجا للهوية الإسرائيلية الكاملة، والتي كانت على النقيض التام من الحياة المنفوية البولندية التي كانت تعيش بها!
ولكن بعد موته غابت ذكراه إلى حد ما، اختفت كتبه من على أرفف المكتبات ولم يعد أحد يذكر اسمه بالسلب أو بالإيجاب، كما لم تعد رواياته تُقرأ أو تُدرس.
من كتبه
"حقيبة الأكاذيب، بالاشتراك مع حاييم حيفر، 1956، ما الأخبار، 1959، كيف نصنع ماذا، 1963، التذكر والنسيان، 1968، ما أجمل هذه الحرب، 1974، مرة أخرى كيف نصنع ماذا، 1982، وكتب أخرى.
توفى عام 1989.
ولد دان بن آموتس عام 1923 في بولندا باسم "موسيا تهيليمزوجار". وتم إرساله من قبل عائلته في إطار هجرة الشبيبة إلى قرية الشباب "بن شيمن" بفلسطين، وبفضل هذا نجا من الهولوكست. في بداية حياته غير اسمه إلى "موشيه شعوني"، ثم إلى "دان بن آموتس". في عام 1941 أبيدت عائلته في الهولوكست وبقى هو حياً.
في عام 1943، أي في ذروة الحرب العالمية الثانية، خدم في الأسطول البريطاني، في إطار مشاركة الاستيطان اليهودي بفلسطين في الجهد الحربي لصالح الحلفاء. ثم تم طرده من الأسطول بسبب مشاكل تتعلق بالانضباط، وانضم لكتائب البالماح الصهيونية، وبالتحديد الكتيبة البحرية للبالماح. وفيها قام بنشاط ثقافي كبير، حيث كتب القصائد ونظم العروض المسرحية سويا مع صديقيه، حاييم حيفر، وشايكه أوفير.
في حياته، عد بن آموتس واحدا من الأدباء المركزيين والأكثر تأثيراً في إسرائيل، رآه الكثيرون نموذجا للجندي الإسرائيلي، ابن البلد، الكامل. في حوار معها، روت المغنية حافا ألبرشتاين كيف كانت تسمع برنامجه "ثلاثة في مركب واحد" باعتباره نموذجا للهوية الإسرائيلية الكاملة، والتي كانت على النقيض التام من الحياة المنفوية البولندية التي كانت تعيش بها!
ولكن بعد موته غابت ذكراه إلى حد ما، اختفت كتبه من على أرفف المكتبات ولم يعد أحد يذكر اسمه بالسلب أو بالإيجاب، كما لم تعد رواياته تُقرأ أو تُدرس.
من كتبه
"حقيبة الأكاذيب، بالاشتراك مع حاييم حيفر، 1956، ما الأخبار، 1959، كيف نصنع ماذا، 1963، التذكر والنسيان، 1968، ما أجمل هذه الحرب، 1974، مرة أخرى كيف نصنع ماذا، 1982، وكتب أخرى.
توفى عام 1989.
[1] على وزن هللويا. في العبرية تتحول "להתעלל" إلى "עללויה".
جميل نائل يعطيك العافية
ReplyDeletetslam m3alem
ReplyDeleteالترجمة سلسلة واللغة مميزة .. (تحتاج إلى مراجعات لغوية بسيطة) ... مجهود يستحق الإعجاب ... ومدونة مختلفة بشدة
ReplyDeleteجميل جداً
ReplyDelete