ولد الأديب يهوشواع كْناز عام 1937 باسم يهوشواع جلاس، في مستوطنة بتاح تكفاه. تأثر في فترة صباه بحركة الكنعانيين، والتي تأسست عام 1939، وهي حركة حاولت الربط بين الشعوب التي عاشت في فلسطين في الألف الثاني قبل الميلاد وبين الإسرائيليين الحاليين، وبسبب تأثره هذا غير اسم عائلته إلى الاسم التوراتي "كناز".
كناز معروف بالأساس بفضل الروايات التي كتبها، ولكن جزءا من شهرته أيضا يعود إلى عمله كمحرر صحفي، ففي الستينيات والسبعينيات كان محرر دورية "كيشيت - قوس"، وفي الثمانينيات حرر مع يورام برونوفسكي دورية "محبروت لسفروت - كراسات أدبية"، كما حرر الملحق الأدبي لصحيفة هاآرتس والذي ارتبط به لسنوات عديدة.
كما يترجم من الفرنسية قصائد وقصصا لأونورا دي بلزاك، ويعمل منذ بداية الالفية على مشروع لترجمة كتب الأديب البلغاري جورج سيمنون، وتم حتى اليوم نشر ترجماته لكتب "الرجل الذي انتظر القطارات"، "سلالم حديدة"، "ساعة الأجراس"، "رسالة إلى القاضي"، "موت بل" و"ضربة قمر."
غرفة رقم 10
يهوشواع كناز
ترجمة: نائل الطوخي
في نومه ليلاً مر به شيء ما ولم يشعر به. عندما قام صباحا شعر بتعب من نوع مختلف: يده اليمنى واهنة، أصابعه فقدت مرونتها، في الحقيقة، فقدت إحساسها. اليد مخدرة، قال في نفسه، نِمْتُ عليها على ما يبدو. حك بيده اليسرى كفه اليمنى النائمة، يريد إيقاظ تدفق الدم فيها. ولكن اليد لم تسخن حتى من الاحتكاك.
عندما وقف لحلاقة ذقنه أمام المرآة اكتشف أن فمه ملتو، في الحقيقة، أن وجهه ملتو. أطفأ ماكينة الحلاقة وذهب للجلوس على كرسي في الصالون، للتأمل فيما حدث له وما ينبغي أن يحدث. جاهد لتحريك أصابع يده المصابة، المضمومة قليلاً، أن يقبضها في كفه ويبسطها، يقبضها ويبسطها. بجهد بطيء نجح في تحريكها قليلاً. شعر أنه مازالت بها الروح.
جند يده اليسرى اليقظة لممارسة القوة على الأصابع المخدرة لليد اليمنى، لأن تحيطها وتبسطها. أخذ يكرر حركة الضم والفرد. وعندما ترك أصابعه تقوم بهذا بنفسها، خيل له أنه أزاد قليلا من مدى حركتها، ولكن هذا لم يكن كافياً.
لوقت طويل انشغل بأصابع يده اليمنى، هل نسى التواء فمه الذي أخافه أولاً، عندما نظر في المرآة؟ لا، ولكن هذا هو ترتيب الأمور: قبل أي شيء، عليه الانطلاق بعربته لطبيبته، في التأمين الصحي[1]. ومن أجل هذا فعليه أن يحاول إعادة القدرة على القيادة الجيدة ليده اليمنى.
اتصل تليفونيا بالمكتب لكي يطلب دورا في زيارة للطبيبة – مبكرا، إذا أمكن، من فضلك. عندما سُئل عما به، شرح للموظفة عن ماذا يتحدث، ونقلت هي المحادثة إلى الطبيبة. طلبت منه الطبيبة الانتظار في البيت وسوف يتم إرسال طبيبه له لفحصه.
خلال أيام غير قليلة استقام الوجه بل واشتدت يده اليمنى. تحركت أصابعه بحرية أكبر، ولكن لم تزل محدودة جدا في الحركات الرقيقة، مثل عقد رباط الحذاء وربط الأزرار. يمكنه مجددا قيادة سيارته، ولكن خط يده، في العبرية واللغات الأجنبية، والذي لم ير ابناه الاثنان أبدا أفضل منه، ضاع منه بلا عودة.
الابن الصغير، الذي يسكن داخل المكان، ذهب في نزهة قصيرة خارج البلاد، وفي أيام غيابه لم يكتف الأكبر بالمكالمات التليفونية مع أبيه وإنما كان يأتى لزيارته يوميا أيضا. في إحدى الزيارات، عندما ركن سيارته، رأى أباه يقف في شرفة الشقة، منشغلا بتلويح العلم الوطني احتفالا بيوم الاستقلال[2]. لفترة طويلة ظل في السيارة وواصل التطلع به. كان أبوه مشغولا جدا بفعله لدرجة أنه لم يلحظ السيارة المعروفة الراكنة تحت البيت. كانت المشكلة هي ربط عصا العلم بحبل دقيق إلى سور الشرفة.
في الأيام التي سكنوا بها ببيتهم الصغير، على قطعة الأرض نفسها، كان أبوه يصعد كل عام، لدى إعلان يوم الاستقلال، على السلم إلى السطح، ويربط عصا الحبل إلى طرف إيريال الراديو. من بعيد كان يمكن رؤية العلم يخفق، لأن أغلب المساحة من حولهم كانت مفتوحة.
فتح له أبوه باب الشقة وابتسامة حزينة على فمه.
"خسارة وقتك"، قال كما هو متوقع، "أنت تعرف أنني سأخبرك إذا كانت هناك حاجة."
""هاهو الأمر، لديك مشكلة مع العلَََم، ولم تنو أن تناديني."
"من أجل هذا أناديك للمجيء إلي من تل أبيب؟ كنت سأطلب من أحد الجيران."
"لم تكن لتطلب من أي جار."
"إذن كنت سأحاول وأحاول حتى أنجح في ربطه."
خرجا للشرفة. كان العلم متروكا هناك على الطاولة. كابياً وبالياً.
"هذا العلم لا يبدو جيداً. خرقة فعلا." قال لأبيه.
"سوف أشتري واحدا جديدا. في العام القادم سيكون لديّ واحد جديد."
"أبي، هذا هو العلم الذي كان لدينا في البيت منذ إقامة الدولة!"
ضحك أبوه: "لا، ما بك! هذا استبدلته من سنوات. انطفأ لونه تماما لدرجة أنه أصبح أبيض كله. مثل الراية البيضاء."
"وهذا أيضا أبيض تماماً. سأقفز للمستوطنة لأشترى علما جديدا. بالتأكيد لديهم أعلام في المحلات زودهم بها المعبد الكبير."
"كف، هذا العام سنستخدم هذا."
"أنت لا تريد تركه!"
أخذ أبوه العلم واقتربا إلى سور الشرفة.
قال أبوه: "أنت ستمسك العصا وأنا سأربط."
"ربما كان العكس أفضل"، اقترح الابن.
"لا تفهم؟ علي التعود على الربط، قبل أن تأتي، كان ينبغي عليّ أن أمسك العصا وأن أربط في نفس الوقت. هذا ما كان صعبا علي."
ألصق الابن عصا العلم بأحد أعمدة السور. انحنى أبوه ولفّ ببطء الحبل الدقيق حول العصا والعمود. سمع ابنه صوت تنفسه المنتظم، المعتاد في لحظات تركيزه. وبعد مرور عدة ثوان صاحبته الهمهمة الغريبة التي رافقته في السنوات الأخيرة، شيء ما بين التنهد والنواح الخفيف، كنغم غير لطيف كان يرتجله إلى ما لا نهاية. الآن همهم قريبا جدا من أذن الابن.
بعد أن نجح في لف الحبل عدة لفات، جاءت اللحظة الحاسمة: أمسك طرفيه وحاول ربطهما. رأى الابن أنه نجح في عقد الطرفين، ولكن أصابعه ارتبكت بين هذا وذاك ولم تستطع توجيه الطرف الأول وزلقه في عقدة الطرف الثاني. حول الابن وجه جانباً. الهمهمة الخادشة للأذان توقفت.
وقف أبوه، تنفس بثقل للمجهود. "تفهم، المشكلة أن هذا أصابني في يدي اليمنى. لا يمكن تبديل وظائف اليدين. لديك صبر؟"
"بلا نهاية. ولديك؟"
"بالتأكيد. انظر، نجحت في التغلب على رباط الحذاء. هذا ليس بسيطا، في هذا المجهود ضاع جزء من النهار. لنر إن كان هذا سينفع أيضا الآن مع العَلَم. تعالى نحاول مرة ثانية، إذا لم يسر الأمر، فسوف أتنازل لك."
انحنى. حل الصمت مرة ثانية. ومرة ثانية الهمهمة المثيرة للأعصاب التي تعود لتنوح بأذن الابن. استمر هذا فترة طويلة، وفجأة توقفت الهمهمة ولم يتردد إلا صوت تنفس الأب، أكثر سرعة، محموما تقريبا، كتنفس الراكض الذي يقترب من هدفه ويستجمع بقايا قواه. وفجأة أعلن بصوت مخنوق: "أبويّ!"
حول الابن وجهه عودة إلى عصا العلم. انعقدت العقدة.
"سنقويها؟"، سأل أباه.
"ليس ضروريا. هي قوية."
نحّى الابن يده عن العصا، تحرك جانبا على طول السور، لرؤية العلم من الجانب. كان مائلا باتجاه الشارع.
"ليس مستقيما، يميل للخارج."
"لا يهم"، "أجاب أبوه بابتسامة ساخرة، "هكذا سيلائم اليومين، مائلا قليلا ليوم الذكرى، ومنتصبا قليلا ليوم الاستقلال."
عادا للصالون.
تمنى الابن أن يسمع من فم أبيه: "إذن هل هناك تحسن في وضع يدك؟"
قال أبوه: "لا. هذا على ما يبدو الحد الأقصى. التمرينات فعلت فعلها. وكل ما تبقى هو تكتيكي. لدي كشف عند نفورلوج (طبيب أعصاب"، يشرح)، والطبيبة قالت أن كشفه قد يفيد. لا أعرف."
"متى الكشف؟"
"بعد العيد بيومين"، قال أبوه، وللمزيد من التأكد اقترب من الرف، والمتروكة عليه عدة صفحات مطوية بصرامة وعليها الدفتر الأحمر للتأمين الصحي. تفحص إحدى الأوراق ووجد التصديق على الموعد الذي ذكره.
"سآتي معك."
"خسارة وقتك. يمكنني فعلا أن أكون على ما يرام هناك مع نفسي."
"ولكنني أريد."
"حسنا. لا أستطيع أن أطردك."
في اليوم المقرر بكر الأب ووقف أسفل البيت لانتظار ابنه. من البديهي أن ينقله إلى المستشفى بسيارته. أطاعه الابن وجلس على يمينه. في الراديو تردد صوت موسيقى وأخذ الأب، الذي كانت روحه المعنوية مرتفعة، من حين لآخر يصدر دندنة ترافق النغمة التي يبثها الراديو.
خرجا للطريق الرئيسي ووصلا بسرعة إلى المستشفى الملاصقة له. لم يكن هناك مكان خاو في ساحة صف السيارات الخاصة بالمستشفى. لقد بكرا في المجيء وتبقى لهما وقت كاف للبحث عن ركنة في مكان آخر. في أثناء هذا رأيا إحدى السيارات تخرج من الساحة وأسرعا باحتلال مكانها. المكان الذي تم إخلاؤه لهما كان ضيقا والوصول إليه كان غير مريح. بموهبة شديدة ناور الأب في الدخول مارشيدير للمساحة ما بين السيارتين، بحركة واحدة ناعمة. توقف، أطفأ المحرك وتطلع لابنه.
"أبدا لن أستطيع أن أركن هكذا"، قال الابن.
صمت الأب وابتسم.
دخلا المستشفى ووجدا الغرفة رقم 10، المسجلة في كتيب التوجيهات. على باب الغرفة لم تكن هناك أية إشارة لاسم طبيب أو لفرع طبي ما. طرق الابن الباب. لم يجب أحد من الداخل. بعد عدة محاولات، فتح الابن الباب بحرص، استرق النظر إلى الداخل، كانت الغرفة خاوية من البشر. دخلا. طاولة، كرسي بجانبها، وصف من الكراسي على طول الحائط. جلس أبوه على أحد الكراسي، وظل الابن واقفاً، يتفحص الجدران من حوله، عارية جميعها، باستثناء لافتة "ممنوع التدخين"، بالعبرية والعربية. سقطت نظرته على باب داخلي واقترب منه.
قال أبوه مستشرقا النظر للساعة: "لازال مبكراً. مازال أمامنا عشر دقائق."
"فقط لأتأكد أن هذا هو المكان"، قالها الابن وطرق على الباب مرة ومرتين وفتحه، مرة أخرة بحذر، تلصص في الداخل وتفحص الغرفة، حول وجهه إليه أبيه: "لا أحد"، قال، أغلق الباب وذهب للجلوس بجانبه.
"ماذا يوجد هناك؟"
"سرير صغير، ستارة، حوض وحنفية، طاولة، كرسي، صندوق. أشياء كتلك الموجودة في غرفة طبيب. يبدو كأن أحدا لم يستعمل هذه الغرفة لفترة طويلة."
"ربما المكان ليس هنا"، تساءل الأب.
"هذه رقم 10".
ابتسم أبوه وفرد يديه بدهشة.
جلسا لفترة طويلة وسكنا وبدأ أبوه في الهمهمة.
"غريب أنه ليس هناك من يذهب لهذا الطبيب، فقط نحن"، قال الابن.
"هذا المكان أبدا لا يبدو وكأنه ينتمي للمستشفى. حتى إعلاناتهم في الميكروفون صعبة السماع، لا يمكن فهم ما يقولون."
"سأخرج لأستوضح أين هذا الدكتور ولماذا لا يأتي"، قال الابن.
وقبل أن يحاول الأب منعه من هذا كان الابن يتجول في الممرات. رجال ونساء بالمعاطف البيضاء كانوا يمرون أمام وجهه، منهم من لم يستجب أبدا لسؤاله، ومنهم من قال له أنه لا يعرف أين الدكتور رونين، ومنهم من زعموا أنها لا يعرفون أصلاً من هو. سؤاء هؤلاء أم أولئك قد نصحوا السائل بالعودة للعرفة التي كان مقررا له فيها انتظاره والتحلي بالصبر.
عاد إلى الغرفة. نعس أبوه على ما يبدو واستيقظ لدى دخوله، لأنه بدا مذعورا ومرتبكاً.
"سأحضر لك شيئا لتشربه."
"لا، لا، لست عطشانا، أين ذهبت طول هذا الوقت."
"ذهبت لمعرفة ما أمر هذا الطبيب؟"
"و..؟"
"هناك فرصة في أن يأتي هنا قريبا."
نظر أبوه إلى ساعته وهز رأسه. "إذا لم يأت حتى الآن، فهو لن يأتي اليوم."
"ربما أحضر لك سندوتشاً؟ في هذا الوقت بالبيت تكون قد تناولت الغداء. سأعود بعد دقيقتين."
"لا، لست جوعانا، لا تذهب. أفضل أن تبقى هنا بجانبي، حتى إذا ما نمت مرة أخرى. قد يدخل شخص ما هنا ويراني نائما وحدي... هذا ليس لطيفا."
وفق جدول يومه الثابت كانت تلك هي ساعة قيلولته.
"حسنا، لن أتركك وحيدا. يمكنك النوم بهدوء."
"بالتأكيد لن أنام مرة ثانية. ولكن تحسبا لأي ظرف."
"بابا، لن أتحرك من هنا."
بعد فترة بسيطة انغلقت عينا الأب وانسحبت رأسه على صدره. بعدها تردد صوت تنفسه المنتظم الذي تحول إلى شخير. كان الجو هادئا حولهما. من حين لآخر تردد، كأنما من مسافة بعيدة، صوت ميكروفون المستشفى ينادي على شخص ما للاقتراب من مكان ما أو للاتصال برقم ما. كان من الصعب فعلا تمييز أسماء المدعوين. حتى لو كان الدكتور رونين، هو المدعو للوقوف فورا في الغرفة رقم 10، لم يكونوا ليعرفا هذا، كانا منفصلين تماما عن صخب المستشفى. يجلسان في جزيرة هادئة معزولة، تأخذ في التشبع بنعاس الأب وشخيره.
انفتح الباب فجأة واقتحم الرجل الغرفة كريح عاصفة. بكوعه دفع إلى الخلف الباب الذي انصفق، مر ببصره على الجالسَيْن في غرفة الانتظار، توسل: "بعد قليل." ودخل غرفته، أغلق الباب وبعد عدة ثوان تردد صوته متحدثا، في التليفون بالتأكيد.
"أبي، أبي!"، نادى الابن ووضع يده على كتف أبيه.
فتح الأب عينيه. تطلب الأمر لحظة لكي يعود ليحدد مكان نفسه. في النهاية سأل:
"جاء؟"
"نعم. هو في الغرفة، سيناديك بالتأكيد بعد قليل."
"حسنا، على الأقل نمت قليلا، هذا أيضا يساوي."
أشار متساءلا إلى باب الغرفة، والذي تردد من خلفه صوت الطبيب، منهمكا في محادثة تليفونية.
"نعم، هو ذاك."
"هو لا يسرع." همس الأب، حك عينيه، قام ببطء وفك أطرافه.
انفتح الباب ووقف الطبيب، والذي كان قد ارتدى معطفه الأبيض، في مدخله.
شاب صغير جدا، نحيل وقصير، شعره الفاتح مجعد. وعيناه، ولونهما غير معروف، صغيرتان ومتشككتان.
"دخول!"، نادى.
سار الابن لسبب ما خلف أبيه وأوقفه الطبيب على الباب.
"انا ابنه."
"هو صافي الذهن؟"
"نعم."
"إذن ابق هنا. إذا احتجتك، سأناديك."
في ليالي الطفولة كانت أصوات نوم الأب تتردد من غرفة الأبوين، وكان الطفل يستيقظ لانتظار الرعب القادم بعد لحظة. كان أبوه يتحدث مع غرباء من عصور مختلفة التقاهم في أحلامه. أحياناً بالإنجليزية القصيرة والخاضعة – ربما أخفق في عمله ويعتذر أمام مديره في معسكر الجيش البريطاني في حيفا - ومرات بالعبرية – على ما يبدو يشرح شيئا ما لزبون في محل سيارات زراعية بتل أبيب، ومرات بألمانية عذبة وبسّامة، وربما مع أخواته، يستدعي ذكريات من بيت طفولتهم، وقد يغمغم بالعربية، يزعق على ما يبدو على العمال، في المحجر أو البستان، وصوته كان يعلو ويهدر حتى تناديه الأم باسمه وتربت على جسمه: "ماذا هناك؟" كان يهدر بذهول. "أنت تصرخ. ستوقظ الطفل." كان يتمتم بشيء ما، يأخذ نفسا عميقا ويصمت. بعد فترة غير طويلة تتردد أصوات الشخير، ضعيفة في أولها، ثم تأخذ في الاشتداد. وبعدها تصبح أكثر قوة وسرعة، وفجأة تتوقف، وينطلق خوار طويل من الاختناق، والصمت الرهيب بعده. قلب الطفل كان يدق من الخوف. أذنه كانت غارقة في الظلام لسماع أي نفس، صخب الحياة "لا تمت!" يصرخ فيه من قلبه، "لا تمت! لا أستطيع أن أكون يتيما!" حتى تتردد من هناك ضوضاء، همهمة وغمغمة وتنهد ثقيل، وسعال، ومرة ثانية يتصاعد الشخير المعتاد، المهدئ.
خرج الطبيب من غرفته، ترك الباب مفتوحا، مر من أمام الابن وخرج للممر. دخل الابن إلى غرفة الطبيب. وقف أبوه بجانب سرير الكشف الصغير، يلبس بنطلونه. مد إليه رأسه وابتسم ابتسامة متعبة كانت واسعة أيضا بعض الشيء، لأن كل شيء انتهى أخيراً وبعد قليل سيعود إلى بيته. جلس على حافة السرير، ارتدى حذاءه وبدأت أصابعه في الارتباك مع الرباط.
"اسمح لي يا بابا، سوف أقوم بهذا بسرعة."
لم ينتظر الابن إجابته، ركع على ركبتيه وربط رباط الحذاء. قام الأب، لبس القميص، حاول عقد الأزرار ولم ينجح.
"زررت البنطلون بلا مشاكل."
"الأزرار هناك كبيرة والعراوي كبيرة."
"دعني أساعدك".
"لا. أحتاج لأن أفعل هذا بنفسي. في البيت أفعل هذا كل صباح. يأخذ وقتا ولكن الصبر لازم."
عاد الطبيب لغرفته وجلس على الطاولة، صوب نظره باتجاههما، أخرج ورقة من الدرج وكتب عليها. بعدها طوى الورقة، أدخلها في ظرف، بلل بلسانه شريط الصمغ وألصقها. نظر إليهما مجدداً، قام، وبدون أن يقول شيئا أعطى الابن الظرف. اسم الطبيبة كان مسجلا عليه. خرج الطبيب مرة ثانية من الغرفة وسمعا صوت إغلاق الباب الخارجي. واصل الأب التعامل مع أزرار القميص. حول الابن وجهه عنه حتى لا يعطله عن التركيز. عندما تغلب الأب على الزر الأول قال لابنه:
"هل ترى؟"
بعد فترة بسيطة عاد الطبيب، وقف أمامهما وصوب إليهما نظرات غاضبة:
"ماذا يحدث هنا!" زعق، "كم من الوقت سيستمر هذا؟ لا يمكنني الانتظار هنا ساعة كاملة حتى ينتهي هو من ارتداء ملابسه."
هبطت يدا الأب. نظر إلى ابنه ورأى أن وجهه إلى الأرض.
"لا يهم"، قال لابنه، "لا تأخذها على قلبك."
"اذهبا إلى غرفة الانتظار"، طلب الطبيب، "وهناك ينتهي من الارتداء. بسرعة، أطلب منكما!"
انتقلا لغرفة الانتظار ودخل الطبيب إلى غرفته وصفق الباب.
قال الأب بصوت هامسا: "الآن اعقد لي من فضلك زر القميص. أريد الذهاب من هنا."
لم ير أبدا ابنه من هذه المسافة القريبة لأي درجة غريب صدره العاري، الهزيل بفعل الشيخوخة، وممتلئ بالأعصاب.
خرجا من المستشفى وذهبا إلى ساحة صف السيارات. تفحصه أبوه وقال:
"لا تسمح لهذا المتوحش أن يخيفك" دخلا إلى السيارة، أبوه بجانب المقود وهو على يمينه. سمعا صوت الموسيقى ثانية.
"هل قال لك شيئا عن الكشف؟" تساءل الابن.
"لا. لم يقل أي شيء."
"لنفتح الظرف ونرى ما الذي كتبه للطبيبة؟"
"لا. هذا لا يهمني."
في الانحراف الأول إلى اليمين حاد الأب عن الطريق الرئيسي ودخل إلى شوارع المستوطنة. تساءل الابن لماذا لا يعودان من الطريق السريعة التي جاءا منها.
"الشرود"، قال الأب، "كنت أسمع الموسيقى."
في الراديو كان فيشر ديسكو يغني "رجل علبة الموسيقى."
توقف المرور بجانب المستشفى القديمة للمستوطنة. عربتا إسعاف خرجتا الواحدة في إثر الأخرى مع صفارات قوية غطت على صوت الموسيقى في الراديو. عندما ابتعدت عربتا الإسعاف وخفتت الصفارات، عاد صوت فيشر ديسكو ليملأ فراغ السيارة الصغيرة، وحول إليه أبوه وجهه وقال له، تقريبا بنبرة توبيخ:
"هناك عزاء في الموسيقى."
رجل علبة الموسيقى أنهى أغنيته، الأغنية التالية في صوت الموسيقى لم تكن على ذوق الأب. أطفا الراديو وسكت كلاهما. المرور الذي كان قد توقف، بدأ في التحرك.
"هنا ولدتَ"، قال الأب فجأة وأشار من وراء كتفه إلى المستشفى. "أذكر جيدا ذاك اليوم، عندما جئت هنا لرؤيتك للمرة الأولى".
وابتسم بدهشة، كمن يصعب عليه فهم كيف حدث هذا، بتلك البساطة، كيف ارتسم في ذهنه اليوم البعيد، فقط لأنه مر بالصدفة بجانب هذا المستشفى وتوقف بجانبه.
حيث كان مقررا له الموت بعد أشهر قليلة.