شهادة شخصية وغير شخصية
"كان من الأفضل أن نتحدث
في هذا اللقاء بالعربية أو التركية، خاصة مع وجود إرث حضاري مشترك بيننا، كان من
الضروري أن يوجد من يترجم إلي التركية، لذا فمن دواعي الأسف أن نتحدث
بالإنجليزية"
أورهان باموق في معرض الكتاب بالقاهرة عام 2007
ذات مرة، وكنت في الفرقة الثانية من الكلية،
وكانت العائلة قد عرفت أنني دخلت قسم اللغة العبرية في كلية الآداب، جلست مع عمي
وسألني: "امتى تقدر تقول إنك أتقنت اللغة العبرية بنفس مستوى إتقانك للإنجلش
مثلاً؟" حيرني السؤال لأني ببساطة، كنت يومها قد أتقنت العبرية أكثر بكثير من
مستوى إتقاني لـ"الإنجلش"، وبشكل ما، اعتبرت هذا أمراً بديهياً. لم أكن
متفوقاً في الإنجليزية، لم أكن شاباً متأمركاً على غرار أبناء عمومتي. كنت شاباً
معقداً وكئيباً أكتب القصص وأتقن اللغة العربية. في الحقيقة، فحتى وقتها، ولسنوات
بعدها، لم أكن قد أدرت حواراً واحداً بالإنجليزية مع أي صديق أجنبي. وقتها كانت
عبريتي أفضل من إنجليزيتي بلا جدال، وعربيتي أفضل من الاثنتين.
دخلت قسم اللغة العبرية، كما قلت من قبل، عن طريق الصدفة. كنت أريد الإنجليزية ودرجاتي في الإنجليزية لم
تكن تسمح. ولم يكن في كلية آداب جامعة عين شمس من أقسام تدرس لغات منفصلة غير
الفرنسية والعبرية، وأنا لا أعرف شيئاً في الفرنسية. إحدى نتائجي في الفرنسية في
أحد الأعوام كانت نصفاً (نصف درجة) من عشرين. كنت فاشلاً في تعلم اللغات.
رغم فشلي هذا، شغفت بالعبرية. ويبدو أن هذا
حدث مبكراً، أذكر جيداً أني من أيامي الأولى في الكلية كنت على أهبة العشاء، أمسكت
رغيفاً وتأملته جيداً، ثم قلت لأمي إن شكل الخبز يذكرني بشكل حرف الصاد العبري،
ويُرسم على هيئة צ. كانت
القطعة منبعجة، وحرف الصاد بالعبرية يتلوى في أسفله كالراقصة، وفور رأيت رغيف
الخبز تخيلت الحرف العبري على الفور. وهذا يدلنا طبعاً على أية أرغفة خبز نأكلها
في القاهرة.
مرت السنوات وتزايد الهوس، أذكر أنني بدأت
أقرأ روايات بالعبرية، وأنا في السنة الثالثة، وكنت أقرأ تفسيرات وتحليلات للعهد
القديم بالعبرية أيضاً، وعندما أردت التوسع، قرأت تفسيرات بالإنجليزية، وبعد
التخرج قرأت عدة كتب بالإنجليزية لمؤلفين إسرائيليين. على عكس الغالبية في
العالم العربي الذين رأوا إسرائيل عن طريق الإنجليزية، فأنا رأيت الإنجليزية عن
طريق إسرائيل. كان كل من يعرف أنني أترجم عن العبرية يعتبر أنني أجيد الإنجليزية
بالتبعية، وهذا حتى وقت طويل لم يكن صحيحاً. الآن، تقوت علاقتي بالإنجليزية أكثر،
على الأقل كلاماً. الآن صنفت نفسي بشكل أفضل، أنا أقرأ وأكتب أفضل بالعبرية، وأسمع
وأتكلم أفضل بالإنجليزية، وهذا يبدو منطقياً في مصر، ومنطقياً في جميع العالم. لأن
الإنجليزية لغة التواصل العالمي مع الجميع، والعبرية لا يتكلمها أحد.
هذا هو الثقب الأساسي في علاقتي بالعبرية.
أنا أدرس لغة لا أستطيع الكلام بها. ويبدو أيضاً أنني أتعلم ثقافة لا يهتم بها أحد
في محيطي. لأنني إذا جلست مع أحد وكلمته عن عمل قرأته بالعبرية أو فيلم إسرائيلي
شاهدته، فكيف أتوقع أن يرد علي؟ أما أن يسمعني للنهاية، بدون أن ينطق بكلمة، أو
يعلق "إنت خاين"، أو "إنت فشيخ"، أو يخبرني أنه قرأ رواية
إسرائيلية مرة، وحينها سيبدو غبياً، وجميعنا نحب أن نبدو أذكياء. أصبحت أكتم أغلب
ما أقرأه، أعتبره سري الخاص.
هذه التجربة تختلف بالطبع عن تجربة زملائي
وأصدقائي من الفلسطينيين، والعبرية بالنسبة لهم لغة يومية، وليس فقط لغة يومية،
وإنما لغة الاحتلال اليومي، لغة الكلام مع الطرف المهيمن، لغة الإذلال في الحواجز
العسكرية، لغة التناقض مع العربية، لم يُتح لي أن أعيش تجربة كهذه. كنت مدللاً في
علاقتي بالعبرية، وأصلاً، أنا دخلت العبرية من مدخل العربية.
النظرة لإسرائيل هي نظرة مركبة دائماً. هذا
يعود للتناقض البنيوي لإسرائيل نفسها، التي تنظر لنفسها كدولة غربية في الشرق
الأوسط، وينعكس هذا على علاقة العرب بها. فمن ناحية يُنظر إلى إسرائيل ككيان غربي،
ويعاديها أعداؤها العرب عداءهم للغرب، كما يحبها أصدقاؤها العرب حبهم للغرب، ولكن
أيضاً يُنظر إليها في سياق شرقي أكثر خفاء. في الحقيقة أن وضعها في سياق شرقي هو
أمر لا يخص إسرائيل بالتحديد، وإنما يخص اليهودية والعبرية. الأصدقاء كانوا يقرأون
ترجماتي عن العبرية ويسخرون من الأسماء العبرانية، يخترعون أسماء من قبيل
"أزاحيا بن شمعون بن حمطيئيل"، مثلاً، اسم هو الأكثر شرقية من أي شيء،
بل وربما يبدو أكثر شرقية من الأسماء العربية. هذا ليس عارضاً، فكلنا، حتى
المكابرون، نعرف أن العبرية ولدت فيما يُعرف اليوم بالشرق الأوسط، وأنها جاءت من
رحم العربية، أو أن العربية جاءت من رحمها، أو جاء الاثنان من رحم واحد. هذا لا
ينطبق على "دولة إسرائيل"، التي تأسست على يد مهاجرين صهاينة شرق
أوروبيين.
هذا الارتباك عاناه الكثيرون، ومن بدايات
الصهيونية. يحكي المؤرخ إيلان پاپيه، في مقال كتبه بمجلة "ميطاعام"، أن
هرتسل وهو يخطط لدولته أراد أن تكون لغتها الرسمية هي الألمانية، لا العبرية، لأن
الألمانية لغة التقدم والعبرية لغة "بدائية".
صحيح أن وجهة نظره لم تنتصر في النهاية، وأن
دولته المستقبلية تحدثت العبرية، ولكن ستحدث تسوية بين العبرية واللغات الأوروبية،
"غير البدائية". تحكي ليتال ليڤي، في كتابها "الانتهاكات الشعرية.
الكتابة بالعبرية والعربية بين إسرائيل/ فلسطين"، أن اليهود في هجراتهم
الأولى لفلسطين في نهايات القرن التاسع عشر كانوا منبهرين باللغة العربية بوصفها
اللغة الأصلية للمكان، وأوصوا بدراستها بهدف فهم أفضل لبنية اللغة العبرية، كما
انبهروا، انبهاراً استشراقياً على ما يبدو، بملابس البدو وأنماط حياتهم، ولم يفلت
من هذا الانبهار الاستشراقي إليعازر بن يهودا، الذي يعد محيي اللغة العبرية وواضع
أول قاموس بالعبرية الحديثة، وعارض الاستعارة من لغات غير سامية في العبرية
الحديثة. بحسب كتاب ليڤي، فإعجاب بن يهودا بالعرب، وغيرته البادية منهم، بدآ منذ
رحيله على السفينة إلى فلسطين، حتى أنه كتب عنهم: "طويلون وأقوياء... أحسست
أنهم يشعرون بأنفسهم كأبناء لهذه الأرض، بينما أنا جئت لهذا المكان كغريب،
كأجنبي".
ولكن سرعان ما انتصرت النظرة الأوروبية
المعادية للعربية، بل وتم الزعم أنه ليس هناك ما يسمى بالثقافة العربية، ومن حينها
أخذت اللغة العبرية سمتاً أوروبياً، سواء من ناحية تركيب الجملة أو الأصوات أو
غيرها. فيما بعد، في الخمسينيات، سيحتقر اليهود الأوروبيون أولئك القادمين من
البلدان العربية وينطقون العبرية بحرفي الحاء والعين العبريين/ العربيين، بل
وسيتساءلون: كيف أن هؤلاء يهود وليسوا عرباً؟
***
عودة لتاريخي مع تعلم العبرية، في العام
القادم ستمر عشرون عاماً على بدء تعلمي هذه اللغة. خلال العشرين عاماً ظلت العبرية
تروح وتأتي في حياتي، كنت أنقطع عنها فترات وأعود إليها فترات، ولكن إن كان هناك
من تسلسل في حياتي في العشرين عاماً الماضية فهو يقع في أمرين، الكتابة الأدبية
واللغة العبرية. وهذا يحدث بالتبادل، انشغل بالكتابة لفترة وأنسى العبرية، ثم
أنشغل بالعبرية وأنسى الكتابة.
هكذا، مع انتهائي من كتابة روايتي الأخيرة،
ومع اتضاح أمارات على فشل الثورة، وبدء دخولنا في الاكتئاب العميق، والانسحاب
بالتدريج عن الشارع، خطرت العبرية على بالي. كانت عندي كتب كثيرة مركونة بالعبرية،
فبدأت أخرجها من المكتبة وأقرأ الواحد إثر الآخر، قرأت عشرين كتاباً ربما، وأحدها،
رواية "تشحلة وحزقيل" لألموج بيهار، قرأتها وفتنت بها وقررت ترجمتها،
وأنهيت الترجمة خلال عامين. لسنتين عاشرت العبرية يومياً، عبرية توراتية تلمودية
آرامية وعربية، خليط مذهل كان في هذه الرواية.
أنقذتني العبرية من جنون هزيمة الثورة، وجدت
فيها ملاذاً يشرح لي أشياء أكثر عن مكان بعيد، مكان تأسس على الدم والنار ويدين
بالفضل للجيش وعقيدته، تأسس على رغبات قاسية في إعادة تشكيل مجتمع من جديد، في طرد
أناس وجلب أناس، وفي إقامة جدار عملاق يفصل بين الداخل المتحضر والخارج الهمجي.
أفهمتني إسرائيل أشياء كثيرة عن مصر ما بعد 30 يونيو.
هل أنا مطبع؟
"بقدر إفهم انك
مانسفتش القاعة عشان مايموتوش الاولاد الصغار، وبعرف إنك كنت ضد خطف الرياضيين
الإسرائيليين بميونيخ، ضد خطف الطيارات، وضد قتل المدنيين، حتى حرب لبنان كنت
ضدها، كنت تقول، مش هيك بتنخاض الحروب، لإن اللي ما بيحترم حياة الغير، مايحقلّوش
يدافع عن حياته".
فيلم "باب الشمس" للمخرج يسري نصر
الله، عن رواية إلياس خوري
أول ما يتبادر إلى
الذهن عند معرفة أحد ما بأني أترجم عن العبرية، خاصة بين دوائرنا المقربة، كلمتان
اثنتان "تطبيع ومقاطعة". هاتان الكلمتان شديدتا المركزية في أدبيات
السياسة في مصر، بل إن المدخل لإسرائيل في مصر أصبح يمر عبرهما، بعكس لبنان مثلاً،
التي يروج فيها خطاب المقاومة بجانب خطابي المقاطعة والتطبيع. ولأنه ليس لدينا أية
مقاومة من أي نوع في مصر، فعلاقتنا، على الأقل علاقة الإنتلجنسيا، بإسرائيل، تمر
عبر مصطلحي التطبيع والمقاطعة. لا صراع ولا صهيونية ولا تحد ولا أي شيء. إما أنك
مطبع أو مقاطع.
وبسبب مطاطية مفهوم
التطبيع، وعدم وجود تعريف موحد له حتى الآن، فقد سهل هذا أن يتحول المفهوم لفزاعة
في كثير من الأحيان، مما أنتج نتيجة عكسية، أن يصبح مفهوم المقاطعة في حد ذاته
هدفاً لسخرية كثير من القطاعات الآن في العالم العربي. لهذا فكرت أن أقدم رأياً
شخصياً حول التطبيع والمقاطعة. ما الذي يُعد تطبيعاً وما الذي لا يُعد تطبيعاً؟
هذا سؤال مهم لأن المصطلحين يبدوان بديهيين أحياناً وهما ليسا كذلك.
فور تخرجي، وهذه حقيقة
لا أحس بالارتياح لها قليلاً، ذهبت مرات معدودة للمركز الأكاديمي الإسرائيلي في
الجيزة لطلب كتاب. أتى الكتاب وصورتُه ثم لم أعاود الذهاب. ولكن علاقتي تواصلت
بأصدقاء إسرائيليين على الإنترنت، وأحياناً وجهاً لوجه عندما كانوا يأتون لزيارة
القاهرة. فور تخرجي أيضاً، وكنت شديد الحماس لدراستي، بدأت أجادل الإسرائيليين على
المنتديات الإلكترونية في مواضيع مثل الاحتلال، الصهيونية، الهولوكست، والتفجيرات
الانتحارية. كانت تجربة مريرة في حياتي، لأنها عرفتني بشكل قاس على الوجه القومي
شديد الغباء والتعصب للإسرائيليين. كنت أنهي الرد عليهم (وكنت أجتهد جداً في
صياغته بعبرية سليمة، وكانت تخرج مضحكة رغم كل الجهد) فيرد عشرون على ردي الواحد
ردوداً متعصبة واستفزازية وتحكم على نواياي الانتحارية العربية القاتلة. في
النهاية مللت وتركت المنتدى. التجربة كانت مريرة، لأنها، للمرة الوحيدة في حياتي،
عرضتني للإسرائيليين العاديين، الرافضين سماع الرأي الآخر والمنغلقين داخل الرواية
الصهيونية، فأنا، بصفتي مترجماً عن العبرية وأعمل بالشأن الثقافي، لم أحتك، سوى
هذه المرة، إلا بمثقفين وشعراء وفنانين ويساريين إسرائيليين. أتساءل الآن، إن كانت
حادثة يتيمة جرت مما يزيد على العشر سنوات، تعرضت فيها لغباء الإسرائيليين، لا
تريد الامحاء من ذاكرتي، فكيف بالفلسطيني الذي تعرض سابقاً لمن طرده، ويتعرض
يومياً لمن ينكر عليه حقه في أرض آبائه، آبائه الذين كانوا على الأرض من خمسين
عاماً، لا من ألفي عام؟
أكثر من هذا، نشرت مرات
قليلة في دوريات إسرائيلية. عرض علي الشاعر الصديق (وكان أول صديق أتعرف عليه من
إسرائيل) يتسحاق لاؤور أن أكتب لهم شيئاً في مجلة "ميطاعَم"، وهي دورية
يسارية راديكالية فكتبت. كان يعدون ملفاً عن الأم، فقمت في مقالي بربط فكرة الأم
بفكرة الأرض، ثم التحول للكلام عن الصهيونية وارتباطها بـ"أمنا الأرض".
المجلة معادية للصهيونية بقوة، ولكن وقتها فكرت أنني لن أرتاح للكتابة في شؤون
عامة للإسرائيليين، وأني أحب أكثر لو أني أسمعت الإسرائيليين أشياء لا يحبون
سماعها عن ذواتهم. اليوم زال عندي هذا التحفظ. اليوم، وإن لم أفعل بعد، لا يبدو أن
مشكلة لديّ في الكتابة للإسرائيليين عن شؤون عامة، فقط بشرط أن يجري هذا في منابر
مستقلة، أي بعيدة عن مؤسسات الدولة، وتعرّف نفسها بأنها معادية للصهيونية.
بدون أن تتحول المساحة
هنا لمساحة لكشف الذات والاعترافات الشخصية، أقول أني لست متأكداً أنني مطبع أو
غير مطبع، كل ما أعرفه أني معاد لإسرائيل كدولة عسكرية من رأسها حتى إخمص قدميها،
قامت على التهجير وسلب القرى وتشريد العائلات، قامت على هذا، وهذا يختلف عن دولة
كان القمع جزءاً من تاريخها، هنا التهجير هو نفسه التاريخ، هو سبب القيام. يحكي
الشاعر يتسحاق لاؤور، في كتابه "نحن نكتبك أيها الوطن"، عن حركة يد بن
جوريون عام 48، عندما دخل عليه إسحق رابين مع يجآل آلون ليسألاه "ماذا سنفعل
مع سكان اللد والرملة"، فأشار بيده بحركة بسيطة بمعنى الطرد. حركة اليد هذه،
التي نتج عنها طرد 50 ألف فلسطيني من سكان اللد، لم توثق، لم تكن مكتوبة ولا
محكية، فقط حكاها إسحاق رابين لكاتب سيرته الذاتية. ونقلها لاؤور عنه. هذه الحركة
لم تكن الوحيدة، تكفي قراءة أعمال من عرفوا باسم المؤرخين الجدد، مثل آڤي شلايم
وبني موريس وإيلان پاپيه وغيرهم، للتعرف على المذابح التي جرت في فلسطين ضد
الفلسطينيين. هذا رداً على التفاهة التي تزعم أن الفلسطينيين باعوا أراضيهم،
نعم، باع بعض الفلسطينيين أراضيهم، والباقون حرقت قراهم وقتلوا وتم تهجيرهم.
كل ما أعرفه أن هذه
الدولة بصيغتها الحالية لابد أن تنتهي، من أجل خاطر الإنسانية لا من أجل خاطر
العروبة أو الإسلام. وأفهم جيداً أنه من أجل هذا لابد من مقاطعتها وعزلها. بما
يعني أن المقاطعة ليست خطاباً مجنوناً تماماً كما يحاول البعض أن يصور لنا. نظام
الأبارتهايد عُزل وقوطع ثم انتهى. المقاطعة قد لا تنهي الصهيونية صحيح، ولكنها لن
تجعلها أمراً رائجاً لهذه الدرجة. أي ستساعد على إنهائها. فقط عليها أن تصبح
مقاطعة ذكية.
فهمي للمقاطعة الذي
أفكر فيه يقوم على التمييز بين الأفراد ومؤسسات الدولة. أرى أن مقاطعة الأفراد
الإسرائيليين لن تحل شيئاً، وبالأحرى لو كانوا أفراداً معادين للصهيونية. بالعكس،
ستجعل الصراع صراعاً عنصرياً بدلاً من أن يكون صراعاً إنسانياً. هذا التمييز مهم
بالنسبة لي على المستوى الأخلاقي، وهو ما أدى بي في فترة مبكرة لرفض العمليات
الانتحارية التي تجرى داخل المدن الإسرائيلية، فقتل إنسان أعزل هو جريمة. صحيح
أنني أفهم بعض هذه العمليات، بمعنى أنني أفهم أن الإنسان المقموع بشكل يومي لا
يفرق بين إنسان ومنظومة، ولكني لا أبررها، ودوماً ما ظل الهدف الأخلاقي الأسمى
بالنسبة لي هو "تجريد السادة من أدوات السيادة"، لا "قتل
السادة". ما هي أدوات السيادة المشار إليها في هذه الحالة؟ إنه الجيش
الإسرائيلي بشكل أبرز.
المثال الواضح بالنسبة
لي هو حالة تحرير جنوب لبنان على يد حزب الله، وكان حزب الله بطل المقاومة العربية
المفضل بالنسبة لي في عام 2000، بخلاف حالتي حرب 2006 وما تلاها من التدخل في
سوريا. في حالة تحرير الجنوب عام 2000، استطاع حزب الله، من ناحية، أن ينجح ويحرر
الجنوب بالفعل، ومشاهد هروب الجنود الإسرائيليين المهانين من لبنان تدل على أكبر
هزيمة لإسرائيل منيت بها منذ تاريخها، ومن ناحية أخرى، لم يتورط حزب الله
وقتها في عمليات ضد مدنيين إسرائيليين، أو أنه تورط بشكل لا يكاد يذكر، وإنما كانت
أهدافه دائماً أهدافاً عسكرية. هذا ممكن إذن. أن يكون المرء أخلاقياً وناجحاً في
نفس الوقت.
وفي النهاية، فالتعامل
مع مؤسسات دولة إسرائيل، قبول دعوات من جهات رسمية، وأحياناً اللجوء للسفارة
الإسرائيلية، كل هذا قد يسهم في تزايد غطرسة الإسرائيليين، أي أن يكونوا قد نجحوا
فيما قاموا لأجله. وهذا بالتحديد سبب عدم ارتياحي الآن للجوء للمركز الأكاديمي
الإسرائيلي في مرحلة سابقة في حياتي. المركز الأكاديمي الإسرائيلي يتبع السفارة
الإسرائيلية، التي تتبع بدورها وزارة الخارجية الإسرائيلية، والتي هي بتعريفها
"غاسلة وجه" الدولة، أي أن المركز ليس بريئاً لكل هذا الحد، لقد أقيم في
إطار اتفاق كامب ديفيد الذي فرض فيه السادات على المصريين، بدون سؤالهم، لأنهم
الطرف غير المهم هنا، أن يشعروا بمشاعر "طبيعية" تجاه آخرين. السلام مع
إسرائيل كان فعلاً غير طبيعي يطالب بـ"التطبيع"، فعلاً سلطوياً ولا عجب
في كونه ولد ميتاً.
يبدو لي أن أن الأمر
عندنا معكوس، فالساسة ورجال الأعمال المصريون يتعاملون مع الساسة ورجال الأعمال
الإسرائيليين. من يرفض التطبيع فقط هم المثقفون، ويؤدي هذا لنتيجتين، أولاهما منح
الشرعية السياسية والاقتصادية لإسرائيل، والثانية عدم فهم أي شيء عن إسرائيل.
الأجدى في رأيي من المقاطعة الثقافية هي المقاطعة الاقتصادية، الأجدى من الضغط على
المثقفين لكي لا يصافحوا إسرائيليين في المؤتمرات الدولية، هو الضغط على رجال
الأعمال لكي لا يستثمروا في إسرائيل، ولكن المثقفين عندنا لا يستطيعون رفع الصوت
ضد رجال الأعمال، أو أمر آخر، إنهم لا يعتبرون رجال الأعمال والساسة
"منهم"، هم آلهة ويفعلون ما يحلو لنا، أما نحن، المثقفين الضعفاء،
فنتشطر على غيرنا المثقفين الضعفاء. المثقفون أقدر على مقاطعة المثقفين المطبعين،
من قدرتهم على مقاطعة الساسة ورجال الأعمال المطبعين.
مع هذا فحتى خطاب
المقاطعة الثقافية، والتي قد تؤدي أحياناً إلى منع فهم أي شيء عن المجتمع الإسرائيلي،
هو أيضاً ليس مجنوناً تماماً. كل ما في الأمر أنه ليس مصاغاً، ولا مُفكَراً فيه،
بشكل ذكي. دائماً ما أتذكر حالة المسرحي علي سالم الذي ذهب لإسرائيل، في مقابل
حالة الأديبة أهداف سويف التي ذهبت هي الأخرى لإسرائيل. ما الذي أدى إلى إقصاء
الأول والتسامح مع الثانية؟ يبدو لي أن السبب الحقيقي هو شيء ما يتعلق بخطاب كل
منهما تجاه إسرائيل. هناك من يذهب لإسرائيل بهدف مسبق وهو الانبهار بها، كما فعل
سالم، وهناك من يذهب بهدف مسبق وهو فضحها، كما فعلت سويف. صحيح أن الاثنين ذهبا
برؤى مسبقة، ولكن هذا يعني أيضاً أن الموضوع ليس موضوع "الذهاب إلى
إسرائيل"، وإنما "الموقف من إسرائيل"، وهذا فارق ضخم بين شعار أعمى
ووعي مبصر قليلاً. ومثال آخر: بينما جموع المصريين بنخبهم الثقافية والسياسية
تشاهد مسلسل "رأفت الهجان"، لم يفكر أحد في اتهام الجاسوس المصري بالتطبيع
مع العدو، ولا اتهم أحد الكاتب صالح مرسي بـ"أنسنة العدو"؟ بل ظل مؤلف
القصة "صالح مرسي"، محبوباً من جموع الناصريين والقوميين في مصر ومعبراً
عن أفكارهم، لماذا حدث هذا بينما كان كان الكاتب يصور الحياة في إسرائيل
بإيجابياتها وسلبياتها، ويؤنسن العدو، بل وقد أجرى حواراً مع جريدة "هاآرتس"
بعد عرض المسلسل؟ الإجابة، لأن شعار المقاطعة ليس مجنوناً تماماً. لأنه في نقطة ما
من عقله، نقطة غير واعية بنفسها، يفّرق بين التعامل مع إسرائيل وبين الموقف من
إسرائيل.
الشعار ليس مجنوناً
تماماً، ولكنه أيضاً ليس ذكياً بما يكفي، ويلزم له كي يكون فعالاً أن يتخلص من
الجهل والرؤى المسبقة شديدة العمومية، حتى يعرف متى يكون سلاحاً فعالاً، ومتى يرتد
السلاح إلى صدر صاحبه.
----- * تصويب: تبين لي بعد نشر
المقال أن "المركز الأكاديمي الإسرائيلي" لا يتبع السفارة الإسرائيلية
في القاهرة وإنما "الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات"، والتي
هي بحسب تعريف صفحة "وزارة الخارجية الإسرائيلية" على الإنترنت:
"ممثلة دولة إسرائيل أمام المؤسسات العلمية الدولية والمعاهد العلمية
المحلية".. وأعتذر بشدة عن هذا الخطأ
فصح وفصحى وفشاخة: الرحلة الساحرة للجذر الثلاثي
"وكان إذا قال
منفلتو إفرايم: دعوني أعبر، كان رجال جلعاد يقولون له: أأنت إفرايمي؟، فإن قال:
لا، كانوا يقولون له: قل إذن شِبّولت [أي سنبلة]، فيقول: سِبّولت، ولم يتحفظ للفظ
بحق".
سفر القضاة 12: 6
تشرح لنا القصة
التوراتية، الواردة في التصدير أعلاه، شيئاً عن نشأة اللغات، عن الفروق الطفيفة
بين لهجة وأخرى، وعلى نقيض قصة برج بابل الذي بلبل الرب ألسنة ساكنيه، تؤنسن هذه
القصة اللغة عن طريق البدء بأدق وحداتها، الصوت. كما تشرح شيئاً عن فروق النطق
التي تمّكّن من الكشف عن أصل المتحدث وبلده. وتكاد تكون متطابقة مع قصة أخرى تُحكى
عن الحواجز العسكرية في لبنان وقت الحرب الأهلية، كان رجال الكتائب بمقتضاها
يستوقفون الفلسطينيين ويطلبون منهم نطق كلمة "بندورة"، بمعنى
"طماطم"، فإن نطقوها، "بَنْدورة" فهذا يعني أنهم فلسطينيون،
وإن نطقوها بَنَدورة فهذا يعني أنهم لبنانيون. أشارت ياسمين حمدان لهذه القصة في
أغنيتها "بندورة" عندما قالت: "أنا أقول بَنَدورة، بتقول
بَنْدورة".
دائماً ما كنت أواجه
بسؤال، هل العبرية هي اللغة الأصلية أم العربية؟ وكنت أجيب على هذا بسؤال آخر، هل
لهجة الدقهلية هي الأصل أم لهجة الشرقية؟ لكي تفكر ببساطة في اللغات الأسطورية،
القديمة والملحمية، فكر أيضاً في اللهجات الحديثة. هكذا يزاح السحر عن كيفية نشأة
اللغات. فكر عندما كنتَ في قريتك الصغيرة تستعمل ألفاظاً توقفت عن استعمالها عندما
وصلت القاهرة. فكر كيف كنا نقول كلمة وتوقفنا عن قولها، فكر كيف يرجع المغترب من
الخارج بعد أن قضى سنوات طويلة ليسمع كلمات لا يفهمها لأول مرة وتكون على لسانه
كلمات قديمة توقفت أنت ومن حولك عن استعمالها منذ وقت طويل.
***
استقر علماء اللغويات
على تسمية مجموعة اللغات التي تنتمي لها اللغة العربية باللغات السامية، ومن ضمنها
العبرية والآشورية والآرامية والحبشية (الأمهرية). افترضوا وجود لغة سامية أم،
تفرعت منها غالبية لغات الشرق الأوسط القديم، في فروق طفيفة كما تبين لنا القصة
أعلاه، تحولت إلى اختلافات ضخمة فيما بعد. سام بحسب التوراة هو ابن نوح وأبو عدد
من الآباء الذين أنجبوا شعوباً عاشت في المنطقة، مثل آشور وآرام، وكان إبراهيم
واحداً من أحفاده، إبراهيم الذي سيأتي لنا فيها بعد بالأخين الأسطورين، إسحق
وإسماعيل، وباللغتين المقدستين، العبرية والعربية.
لا نعرف الكثير عن
كيفية نشوء اللغتين العبرية والعربية، ويبدو أننا لن نعرف قريباً. التوراة، وفي
أعقابها القرآن، يمداننا بقصة أسطورية تسد الثقوب. هاجر إبراهيم من العراق إلى
فلسطين، تزوج سارة وأنجب إسحق، وتزوج هاجر وأنجب إسماعيل، رمى إسماعيل وأمه في
الجزيرة العربية، ولن نعرف الكثير عن قصتهما ولا سلالتهما فيما بعد، أما إسحق
فاستقر في فلسطين/ أرض إسرائيل وأنجب يعقوب الذي أنجب يوسف الذي بيع في مصر ثم
أصبح وزيراً هناك، حتى لحقه إخوته، وسيصبحون فيما بعد آباء أسباط بني إسرائيل، حتى
خرجوا من مصر على يد موسى، وفي سيناء نزلت الألواح عليهم وبدأت البذرة الأولى
للديانة اليهودية في التشكل.
كل هذه قصة أسطورية،
بمعنى ألا دليل عليها إلا من الكتب المقدسة. الحقيقة الوحيدة التي يمكن القطع بها،
أن اللغتين، العبرية والعربية، لغتان شديدتا التشابه ببعضهما البعض. وباستثناء
الخط الذي كُتبت به كل لغة، فالنظام الصرفي وجذور الكلمات تتطابق في أحيان كثيرة.
تختلف أحياناً ولكنها شبه متطابقة من حيث الجذور، وكذلك الآرامية طبعاً، وإن لم
تعد الأخيرة مستعملة إلا بشكل محدود للغاية.
أثناء دراستي في
الكلية، تعرفت على صديق اسمه أحمد منير، وسنظل أصدقاء حتى يومنا هذا رغم افتراق
السبل. أهداني وقتها شرائط كاسيت لفيروز، وبدأت أسمع فيروز بشغف، أسمعها وأحاول
فهم شيء من اللهجة اللبنانية التي كانت مستعصية عليّ آنذاك، وكل كلمة أفهمها
تمنحني سعادة كبيرة. كانت هذه الفترة التي بدأ فيها شغفي باللغة. وحصيلتي كانت
اللغتين العربية والعبرية، العاميتين المصرية واللبنانية. تستعصي عليّ كلمة
باللبنانية، فأفتح قاموسي العربي وقاموسي العبري لأفهم ولو احتمالاً بسيطاً
وبعيداً لمعناها. لم يكن هناك إنترنت آنذاك، أو كان موجوداً ولكن لم يكن دخل بيتنا
بعد.
***
ذات مرة، وكنا في
الكلية ندرس مصطلحاً تلمودياً، وهو "پلپول"، ويعني الحذق والذكاء الزائد
في أمور الشريعة، سألَنَا أستاذ علم اللغة محمد بحر، رحمه الله، إن كنا نستطيع
استنتاج أصل الكلمة، ولم يعرف أحدنا، فقال إنه على ما يبدو يعود إلى كلمة
"فلفل"، التي هي بالعبرية مثلما بالعربية، عدا عن أنها بالعبرية تنطق
"پِلپِل". يومها أعطانا درساً سيقدّر له أن يصاحبني حتى الآن: عندما
تفكر في الكلمات الدالة على معان مجردة، فكر أيضاً في المعنى المادي السابق
للكلمة. وهذا يسري على العربية أيضاً، ضرب لنا مثلاً بكلمة "جدال"، التي
تعود إلى الفعل "جدل"، أي "ضفّر جديلة". من يتجادلان سوياً
يضفران جديلة. تذكر النِقاش والنَقْش.
بمناسبة الذكاء
والفلفل، أذكر مرة وأنا طفل أني رأيت أفيشاً لفيلم بعنوان "الحدق يفهم"،
وسألت أختي ساعتها عن معنى كلمة "الحدق"، وهو هل "الحادق"، أي
المملح؟ فقالت إنها تعني الذكي، لا الحادق. الآن أفكر أن كلمة "حدق"،
بمعني الذكي، تعود لـ"الحذق"، وأبحث عن معاني الـ"حذق"، فأجد
من بينها "تزايد حموضة الخل"، هكذا تحول المعنى من الحموضة للذكاء
للملوحة للذكاء مرة أخرى، من المادي للمجرد للمادي للمجرد، في رحلة طويلة وخلابة
قطعتها الكلمة. المذاقات المختلفة وارتباطها بصفات الإنسان أمر شديد الشيوع،
تذكروا كلمة "حرّيف" في العامية المصرية، بمعنى "الماهر"،
والآتية من معنى أقدم ما زال مستعملاً في العبرية وبعض اللهجات العربية: "ذو
الطعم اللاذع أو الحار".
فيما بعد ستصبح هذه
لعبتي، أفكر في كلمة عربية فأحاول تغيير بعض حروفها (أحول الضاد لصاد، الشين لسين،
الثاء لشين، الغين لعين، أو غير ذلك) وأفكر في جذور الأفعال الثلاثية بين العربية
بلهجاتها والعبرية، لأحاول فهم تاريخ الكلمات. من ذلك مثلا كلمة "الحق"
العربية. كلمة "حُق" في العبرية تعني "القانون"، والجذر
الثلاثي "حقق"، يعني حفرَ أو نقشَ. هكذا يمكننا التلصص على تاريخ
الكلمة. الفعل حقق يعني حفر، وسمي القانون في العبرية "حُق" لأنه كان
يُنقش/ يُحفر على الحجر، ثم ذهبت العربية لتجعل الحق اسماً من أسماء الله ولتنسب
له سلسلة من المعانى الأشمل، مثل الصدق والعدل والصواب. بعدها بدأتُ التفكير في
معنى التعبير القرآني "حقت عليهم كلمة ربك"، بأن كلمة ربك انطبعت عليهم،
نزلت كالختم لترتسم عليهم، كأنها تُحفر على الحجر.
كما يبدو لي أن كلمة
"دين" العربية، بمعنييها ونطقيها، الدِين الذي هو العقيدة والدَين الذي
هو القرض، يعود أصلها إلى مفهوم قضائي، ويعني "الحُكم" كما هو بالعبرية
حتى اليوم. فـ"يوم الدين" العربي، و"يوم هادين" العبري"
و"يوم دينا" الآرامي، هو يوم الحكم العدل على الناس، أي يوم القيامة أو
ما شابهه، كما أن اسم الله "الديّان" يعني وفق هذا: الحكم العدل، وفي
العبرية التلمودية التشريعية "دينه كدين كذا"، أي "حكمه كحكم
كذا". احتفظت العربية بظلال من المعنى القضائي القديم في فعل "آدانَ".
ولكن كلمة
"دين" العربية، في حركة غير متوقعة، دخلت العبرية أيضاً، العبرية
الإسرائيلية المعاصرة هذه المرة. كنت أعبر الشارع مع صديق إسرائيلي في أحد شوارع
القاهرة، ولأنه لم يكن متمرساً على رياضة عبور الشارع القاهرية، فقد ارتعب عندما
أتت سيارة مسرعة باتجاهه وصرخ بكلمة سيتبين لي بعد سنوات أنها "ينعل
دينك!"، أو بالنطق الإشكنازي "إينال دينك".
لأن الإسرائيليين
يعيشون مع الفلسطينيين على نفس الأرض اليوم، فقد كان لزاماً أن تنتقل المصطلحات
والتعبيرات بينهما، بين العبرية والعربية الحديثتين، هذه المرة في إطار علاقة بين
اللغة المهيمنة واللغة المهيمن عليها. سبق وأن كتبت عن "العرص" في إسرائيل، ولكن هذا ليس كل شيء. أخذ
الإسرائيليون الشتائم من الفلسطينيين، خاصة الأكثر حدة وإيلاماً، وليس فقط
الشتائم، يمكن القول إنهم أخذوا الألفاظ المحملة بشحنات عاطفية جياشة، ففي مقابل
"ينعل دينك"، هناك في العبرية الحديثة أيضاً "بحياة دينك"،
وتقال للاستعطاف.
في الغالب، رأى
المستوطن اليهودي الأوروبي في الفلسطينيين المجموعات الأكثر شوارعية، ذوي العاطفة
الصاخبة المبهرجة، في مقابله هو، الذي يحب أن ينظر لنفسه كمثقف أوروبي ومتحضر يسمع
الموسيقى الرفيعة ويحضر العروض المسرحية، طبعاً دون إغفال دور اليهود الشرقيين
كحلقة وصل لغوية بين العبرية الحديثة والعربية الفلسطينية.
في المقابل أخذ
الفلسطينيون من الإسرائيليين الكلمات التقنية، المعبرة عن السياسة الفعلية التي
تفرض واقعاً على الأرض. يقول الفلسطينيون "محسوم"، وهو الحاجز العسكري
بالعبرية، الحاجز العسكري الذي يقفون عليه بالساعات متسائلين هل سيعبرون أم لن
يعبروا، ويشكل التجربة اليومية الأكثر شيوعاً بينهم. ملاحظة عابرة: كلمة
"محسوم" مشتقة من الجذر "حسم" العبري، أي "أغلق".
تذكر الجذر العربي.
***
منذ أسابيع نشر الروائي
مكاوي سعيد في المصري اليوم مقالاً بعنوان "روايتك فشيخة قوي"، ويتمحور المقال حول
كلمة "فشيخ"، التي لسبب ما جرى اعتبارها رمزاً للغة الشباب، في المقال
قال سعيد: "رأتنى فتاة جميلة فشدت صديقتها من يدها وسلمت علىّ بحرارة وهى
تقول بحماسة: روايتك فشختنى قوى يا أستاذ! وحدث لى إظلام تام لبرهة ثم ابتسمت
وخلعت، وظللت لفترة (مذبهل) حتى فسر لى شاب الكلمة بأن معناها أن روايتك عجبتها
جداً، ياااه، لقد ظللنا لسنوات نسخر من لهجة اللبنانيين عندما كنا نتوه في مدينتهم
ونسألهم عن مكان الأوتيل فيقولون لنا وهم يشيرون: بعد خمس فشخات"!
ما لم يعرفه مكاوي هنا،
وهو على العموم بدا متعاطفاً مع "لغة الشباب الجديدة"، هو الأصل اللغوي
لـ"الفشاخة". يمكننا بسهولة أن نفكر في معنى "فشخ" القريب،
وهو "فلق"، أي شيء ما قريب من "فسخ" العربية. وأكثر من هذا،
رجوعاً للعبتي مع العبرية، يمكننا أن نفكر في عيد "الفصح" اليهودي كشيء
قريب من هذا. أول ذكر للفصح في التوراة كان في آية سفر الخروج: "تقولون هي
ذبيحة فصح للرب الذي عبر على بيوت بني اسرائيل في مصر". الترجمة الشارحة
للآية، وقد لا تكون الأدق، هي "تقولون هي ذبيحة فصح للرب. الذي تَفَسّح على
بيوت بني إسرائيل في مصر"، لأن الفعل "پسح"، وهو الفعل المستعمل في
الآية، يعني "خطا".
يبدو لي أن ثمة شيئاً
أصيلاً في كلمة "فسخ" و"فشخ" و"فسح"
و"فصح"، يتعلق بانفتاح الساقين، أو بالانفتاح بشكل عام، الفَلْق، وصولاً
إلى الخطو. لهذا يقول اللبنانيون "خمس فشخات"، أي خمس خطوات. ومن
"الفشخ" أتى "الفشيخ"، أي القادر على الفشخ.
يمكننا هنا أيضاً
التفكير في جذر "فصح" العربي، ومنه أتى فعل "أفصح" بمعنى
"عبّر"، الذي أتت منه بدورها كلمة "الفصحى". يمكننا تخيل، بلا
أدلة، فقط قرائن، أن الفعل "أفصح" له علاقة أيضاً بانطلاق الفكرة من
داخل عقل الإنسان إلى خارجه، إلى أن تصبح كلمة. أي أن العرب تخيلوا مفهوم الفصاحة
في ارتباطه بقطع خطوة من الداخل للخارج. فكِروا أيضاً في كلمة
"البلاغة"، الآتية من جذر "بلغ"، أي "وصل". هكذا
تنتمي كلمتا "الفصحى" و"الفشاخة" (وتعد الأخيرة بالتحديد
رمزاً لما هو نقيض الفصحى، أي رمزاً للغة الشباب الألفينية) لنفس الجذر شديد
القدم. من الجدير بالذكر هنا أن كلمة "فشخ" العامية المصرية، أي انفتح
بقوة، معناها بالعبرية "پسق"، وبنطق آخر "فسق"، والتي هي أخت
الجذر العربي "فسق"، بمعنى خرج (عن الملة مثلاً).
أي تكوينات لا نهائية
وفاتنة يشكلها الجذر الثلاثي ولا يعيها متحدثو اللغة!
ومثلما أن في العربية
بلهجاتها هناك كلمتا "فسخ" و"فشخ" بنفس المعنى تقريباً، ففي
العبرية هناك كلمتا "پسح" و"پسع" بمعنى عبر أو خطا. لماذا
تُكتب "صراط" حيناً بالصاد وحيناً بالسين؟ لماذا توجد أكثر من كلمة
متقاربة صوتياً بنفس المعنى؟ لماذا هناك كلمتا "خاوٍ"
و"خالٍ"، كلمتا "إغواء و"إغراء" بنفس المعنى؟ لا تفسير
هنا إلا اللهجات. لهجة نطقت كلمة بشكل، وأخرى نطقتها بآخر. لهجة قالت
"شبولت"، وأخرى قالت "سبولت"، ولدى وضع قواميس اللغة، تؤخذ
الكلمتان المتقاربتان ويُتخيل أن لكل منهما معنى مختلفاً عن الآخر، أو تُنسب الصحة
لكلمة ولا تُنسب لكلمة أخرى، أو، في معظم الأحيان، تتجاور الكلمتان جنباً إلى جنب
بلا تعليق.
***
كثيراً ما يتم الزعم
بوجود تواصل بين العامية المصرية واللغة المصرية القديمة، يشار إلى كلمة منطوقة في
لهجتنا المصرية وكلمة شبيهة في المصرية القديمة، مما يعد دليلاً أحياناً على أن
لغتنا، العامية المصرية، تعود في الأصل للمصرية القديمة، لا العربية. في بعض
الأحيان يبدو التشابه منطقياً، وفي البعض الآخر يبدو مفتعلاً وأيديولوجياً.
الاختبار الذي أجريه للكلمة بسيط، لو كانت الكلمة مشتقة من أصل ثلاثي، وهذا الأصل
الثلاثي موجود في العربية والعبرية، فسيكون من غير المنطقي إرجاعه إلى المصرية
القديمة. فلا يمكن الزعم مثلاً أن كلمة "خلاص" العامية، تعود إلى جذور
"هولوس" القبطي، كما يزعم كتاب "أصل الألفاظ العامية من اللغة
المصرية القديمة"، وذلك لأن جذر "خلص"، جذر أصيل في العربية والعبرية،
ولا يمكن الزعم أن كلمة "ريّس"، مأخوذة من كلمة قبطية، وتجاهل كلمة
"رأس"، العربية والعبرية.
بالتأكيد هناك تأثير
للغات المصرية القديمة على اللغات السامية. فحتى لو لم يعش الإسرائيليون في مصر،
كما تخبرنا التوراة والقرآن، فقد كانوا بالجوار منها، وبالتأكيد كانت اللغة
المصرية واحدة من اللغات التي تعامل معها العرب والعبرانيون في العالم القديم،
ولكن من أجل رد كلمة بالعامية المصرية إلى المصرية القديمة، خاصة لو بدت الكلمة
أصيلة في العربية، لا يصح تجاهل الحلقة الوسطى بينهما، اللغة العربية وأختها
العبرية، أي المنظومة السامية التي تعد نواتها الأولى هي الجذر الثلاثي.
الجذر الثلاثي هو نواة
اللغات السامية، التي تخترع كلمة من ثلاثة صوامت وتظل تشتق منها وتصرفها في أوزان
مختلفة بحركات مختلفة وتوظفها لمعان مختلفة. عدد لا يحصى من الكلمات والمعاني
والاشتقاقات يمكن إرجاعها لجذور ثلاثية مشتركة بين اللغات السامية جميعاً. بشكل
ما، فالجذر الثلاثي هو حائط الصد للغات السامية، هو الحائط الذي يتوقف قبله
الاشتقاق. هو النواة.
صحيح أن الجذر الثلاثي
هو نواة اللغات السامية، ولكن يبدو لي أحياناً أيضاً أن له تاريخاً، أنه لم ينزل
علينا من السماء وإنما تطور من جذور أخرى. الأمثلة على هذا قليلة جداً، ومعظمها
افتراضات. أفكر في كلمة "مال" كأنها في الأصل تكونت من مقطعين، "ما
لفلان"، التي تحولت مع الوقت لـ"مال فلان"، كما يشير التشابه بين
أفعال مثل "سكن" و"كنّ"، و"كان"، أو
"سبق" و"بقى"، وكلها أفعال ثلاثية مستقلة بذاتها، إلى إمكانية
تفكيك وتركيب الجذور الثلاثية نفسها.
سواء في الآرامية أو
العبرية أو العامية المصرية، يدخل حرف الشين على الجذر الثلاثي ليؤكد معناه أو
يحوّره. في العبرية هناك وزن "شفعل"، أي حرف الشين مضافاً إليه جذر
"فعل"، مما يحول الفعل لفعل رباعي، وفي العامية المصرية، يسهل إرجاع
"شهيص" لـ"هاص"، و"شقلب" لـ"قلب"،
و"شخرم" لـ"خرم". يبدو أن العربية القديمة كانت تستعمل السين
بدلاً من هذا الشين (والتبادلات بين الحرفين شديدة الشيوع في منظومة اللغات
السامية، تذكر "شبولت" و"سبولت"، تذكر "شالوم"
و"سلام"). في العربية، تدخل السين على الفعل الثلاثي في وزن كامل هو وزن
"استفعل" المطاوع، لتعطي معنى الادعاء في العامية، مثلما يكون
"الاستهبال" هو ادعاء الهبل، أو لتعطي معنى الطلب، فيكون
"الاستفهام" "طلب الفهم"، و"الاستئذان" طلب الإذن، أو
حتى لتقلب معناه، فيكون "الاستمرار" مقلوب "المرور"، بالضبط
مثلما أن "سبق" مقلوب "بقى".
على العموم، أعتقد أن
ما ينقصنا في مجال دراسات علم اللغات السامية، دراسة عن تاريخ الجذر الثلاثي في
اللغات السامية. هل أنه فعلاً أصل في حد ذاته، أم أنه تطور عن جذور أخرى؟ وما الذي
كان عليه قبل أن يتبلور كجذر ثلاثي؟ دراسة كتلك، إن لم تكن موجودة بالفعل، ستحل
إحدى الشفرات الوراثية الأساسية لمنظومة اللغات السامية، وفي قلبها العربية
والعبرية، وستكشف لنا عن مرحلة شديدة القدم من مراحل طفولة اللغة السامية الأم،
تلك التي لا نعرف لها اسماً ولا تاريخ ميلاد حتى اليوم.
إسرائيل ضد إسرائيل: يهودية وإسلام وصهيونية
"والإنسان الذي يؤلمه أن
اليهود يُقتلون، ألا يؤلمه أن يقتل عرباً؟ العرب أيضاً خُلقوا على هيئة الرب، هذا
هو الإنسان، الروح... من ناحية الشريعة، لا يجب قتل إنسان... مكتوب في التوراة: لا
تقتل. بوضوح، لم يقل لا تقتل موشيه أو لا تقتل محمد. قال لا تقتل".
من فيلم "الشنّاق"، للمخرجتين نتالي براون وأفيجيل سبربر.
أثناء نقاشاتي مع الأصدقاء، كانوا يقولون لي
إنهم ضد إسرائيل لأنها دولة دينية، وبدا هذا أحياناً كأنه مأخذهم الأساسي على
إسرائيل.
بالنسبة لي فالأمر ليس هكذا، فالسياق الأوضح
الذي نستطيع من خلاله فهم إسرائيل ليس سياق الدول الدينية، وإنما القوميات
الأوروبية. نشأت إسرائيل كدولة عسكرية، بإلهام من صعود الدول القومية في القرن
التاسع عشر، وبرغبة من مؤسسيها في الالتحاق بالمشاريع الاستعمارية وقتها، وأسست
تنظيمات عسكرية تحولت إلى جيش أصبح هو عنوان الوجود الإسرائيلي الحالي، وقد تكون
إسرائيل بعد هذا دولة دينية أو غير دينية، ففي الأديان دائماً متسع للجميع، لطبول
الحرب أو لدعاة السلام، وكل لديه مبررات وجيهة من قلب الدين. إن كانت إسرائيل دولة
يهودية قامت على تهجير أهل المكان، فيهود أوروبا كانوا هم الطرف المتعرض للمذابح.
في الحقيقة، تعرض يهود أوروبا لإحدى أكبر المذابح التي عرفها التاريخ الحديث حتى
الآن، الهولوكست.
ما الذي حدث إذن في إسرائيل؟ امتلكت
اليهودية جيشاً وشرطة ومنظومات قضائية وقوة هائلة مكنت من اضطهاد من هم بخارجها
وتحويل الضحايا السابقين لجلادين حاليين، أو لذوي امتيازات بفضل الجلادين
الحاليين، كما مكنت من سن قوانين لصالحها، مثل "قانون العودة" الذي يصبح
بموجبه من حق أي يهودي في العالم التجنس بجنسية إسرائيل لو أراد الهجرة إليها.
اليهودية في حد ذاتها، مثل جميع الأديان،
تحوي آيات وتفسيرات شديدة التسامح وأخرى شديدة الانغلاق. هذا ليس شيئاً مفاجئاً،
وإنما يعرفه جيداً المثقفون العرب العلمانيون، حينما يقولون، صدقاً أو ادعاءً،
إنهم ضد الصهيونية وليسوا ضد اليهودية.
***
دائماً ما بدا لي الإسلام واليهودية كشخصين
من نفس القرية يعملان في الخارج، يتكلمان نفس اللغة، يؤمنان بنفس الأفكار، لديهم
الكثير والكثير من المعارف المشتركين والمعارف المشتركة، ثم وجدا نفسهما في
الغربة. يضع كل منهما عيناً على زميله، يكون مقياس النجاح بالنسبة للأول هو الثاني
والعكس، تنمو بينهما منافسة ضخمة ومرارات سوداء بالتحديد بسبب الأصول المشتركة
لهما. هذه المرارة لم تكن لتوجد بين مصري وياباني مثلاً، وإنما تنمو بين اثنين
آتيين من نفس البلدة ويتكلمان نفس اللهجة ولهما نفس الجد المشترك.
مثلاً، صحيح أن القرآن يحتوي على الكثير من
الآيات في ذم اليهود، ولكن نستطيع بحساسية ما أن نكتشف شيئاً ما بين السطور، شيئاً
تمثله آية "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على
العالمين"، هكذا، بالضبط، يتكلم الله عن علاقة خاصة ربطته ببني إسرائيل، وهذا
هو جوهر الكتب المقدسة اليهودية كلها، لدرجة أن "نشيد الأنشاد" فُسر
بوصفه حواراً غزلياً بين الله وشعبه إسرائيل. ذم اليهود في القرآن لا يقوم على
أنهم جماعة عاصية فقط، وإنما كونهم خانوا العهد الذي كان بينهم وبين الله. هذه
ليست قصة عداء، هذه قصة عداء تسبقها قصة حب
. في مراحل سابقة من حياتي، حتى
وأنا أكثر يقيناً وإيماناً، كنت أسأل نفسي، لماذا خص الله بني إسرائيل بكل آيات
الذم هذه؟ لماذا يبالي بهم لهذه الدرجة؟ الإجابة في تصوري لأن الأمر أعقد من مجرد العداء.
لولا التجانس بين بنيتي اليهودية والإسلام
ما أمكن لكثير من الإسرائيليات الدخول على التفسيرات الإسلامية للقرآن. دخلت
الإسرائيليات، وكثيراً ما لم يُحس باغترابها عن تفسيرات القرآن، واحتاج الأمر
جهداً كبيراً حتى يقول الفقهاء المسلمون: "هذا من الإسرائيليات فلا تصدقوه
وهذا ليس من الإسرائيليات فصدقوه". إلى جانب هذا، فالكثير من الآيات القرآنية
والمأثورات النبوية تتعامل مع اليهود بوصفهم حملة العلم والأسرار. "اسألوا
أحبار اليهود"، كثيراً ما ورد هذا التحدي في المأثورات الإسلامية للتأكد من
صدقية قصة ما. المرجع دائماً بالنسبة للإسلام كان أحبار اليهود.
كثير من فقهاء اليهود أيضاً تبنوا علاقة
العداء والاحترام مع الإسلام، خاصة في البلاد العربية، ترجموا "يهوة"
إلى "الله" أو "الله" إلى "يهوة"، سمح الحاخام موسى
ابن ميمون لليهود بالصلاة في المساجد، ولم يسمح لهم بهذا في الكنائس. وتوحد العرب
واليهود سوياً في الأندلس ضد الكاثوليك. وكتب اليهود شعرهم في العصور الوسطى
باستعارة الأوزان العربية، بل وكتبوا اللغة العربية بحروف عبرانية، ويبدو أنهم
أسسوا قواعد النحو العبري قياساً على النحو العربي. وحتى الآن، يفخر اليهود باسمهم
"أهل الكتاب"، بدون الوعي بأصل التسمية القرآنية. قرأت مرة في إحدى
الصفحات الثقافية الإسرائيلية تحقيقاً طريفاً كان عنوانه "كيف تحول أهل
الكتاب إلى أهل الكتاب الأعلى مبيعاً".
لم يكن تخصيص اليهود والمسيحيين باسم
"أهل الكتاب" عرضياً، فكتاب "المقرا" (من جذر
"قرأ")، وهو الكتاب المسمى مسيحياً باسم "العهد القديم"، يعد
أكثر الكتب المكتوبة تأثيراً في العالم القديم، وقارات كاملة من العالم الحديث
أيضاً. آمن به اليهود، وتبنته الكنيسة، وأعاد القرآن سرد الحكايات التي احتواها.
هذا ليس كتاباً عرضياً، وإنما هو "الكتاب"، ويبدو أن القرآن قد قصده
عندما أطلق على المسيحيين واليهود لقب "أهل الكتاب".
التشابه بين اليهودية والإسلام قائم من
الجينات، هناك أولاً التشابه في بنيتي العربية والعبرية نفسهما، وثانياً، تُعد
الديانتان ديانتين لغويتين، ترتبط الأولى بالعبرية التي كتب بها
"المقرا"، وترتبط الثانية بالعربية التي كُتب بها "القرآن"،
مما جعل للكلمة حضوراً طاغياً في الديانتين، الكلمة التي تحوي في داخلها إمكانيات
سحرية، مثل كلمة "كن"، وحروف أوائل السور مثلاً في الإسلام، وكلمات
"آمين"، و"حي" مثلاً في اليهودية. اسم الرب في اليهودية،
يهوة، يُكتب ولكنه لا ينطق إلا بوصفه "الاسم"، "الاسم
المقدس"، "الاسم ذو الأربعة حروف"، "إلوهيم"،
و"أدوناي"، أي "سيدنا"، وذلك للقوة الهائلة التي يحتويها
"الاسم المقدس". في المقابل فهناك دعاء في الإسلام يستحلف الله بكل اسم
سمى به نفسه، أو بكل اسم استأثر به في علم الغيب عنده. ارتباط الديانتين باللغة قد
يكون ناجماً عن أن كتابيهما المقدسين موجودان بلغتيهما الأصليتين، بخلاف الأناجيل
مثلاً التي عُثر عليها في ترجماتها وليس في نصوصها الأصلية، المكتوبة على ما يبدو
باليونانية والآرامية.
أو ربما يتعلق الأمر بشيء آخر، بكون
الكتابين "مُنزلَيْن"، وأُمليا أو أُرسلا على يد الله نفسه. أنزل يهوة
الألواح على موسى في سيناء، وأملى ملاك الله جبريل كلماته على محمد، النبي الأمي،
في غار حراء. هذا يختلف تماماً عن حواريي يسوع المسيح الذين كتبوا قصته بعد صلبه
وقيامته.
التشابه الثالث قائم في بنية الكتابين
نفسهما، المقرا والقرآن، وكل منهما كتاب يحوي الكثير من المواعظ، والقصص
التاريخية، والحث على الحرب والعنف والجهاد بجانب الحث على الحب والسلام، والنثر
بجانب الشعر، بجانب التشريعات المدونة بتفاصيل التفاصيل، هذا أيضاً بخلاف الأناجيل
التي تضم مواعظ روحانية فحسب، وليس تشريعات، لأن يسوع المسيح أُرسل لا لينقض
الناموس وإنما ليكمله.
ولكن هناك اختلافات، اليهودية ديانة عرقية،
وتهوّد مسيحي أو مسلم أمر شديد الصعوبة، لأن اليهودية مرتبطة ببني إسرائيل الذين
عاهدهم الله عهد الختان. لهذا فاليهودية ليست ديانة عالمية ولا تبشيرية، ولهذا
يكتسب مفهوم "الأغيار" قوة مضاعفة في اليهودية عن مثيله في الديانتين
الأخريين، ولهذا تحرم اليهودية، دوناً عن الإسلام والمسيحية، الزواج المختلط بين
اليهود وغيرهم، وهو التحريم الذي بدا أن إسرائيليين كثيرين لم يلتزموا به على طول
تاريخهم، من أول سليمان الملك، بحسب المقرا، حتى يهود أوروبا وغيرهم.
كان القرآن واعياً بكون اليهودية ديانة
عرقية، وفي أغلب آياته لم يخاطب اليهود، وإنما "بني إسرائيل"، وعندما
فضلهم الله، بحسب القرآن، على العالمين، فهو لم يفضل اليهود، أي أتباع الديانة
اليهودية، وإنما فضّل بني إسرائيل، أسباط إسرائيل الإثني عشر، أبناء يعقوب. وحتى
الآن، عندما يقال للإسرائيليين إن إسرائيل دولة دينية، لأنها يهودية، يردون بأن
اليهودية عرقٌ وليست ديانة، ومثلما أن فرنسا فرنسية، فإسرائيل يهودية، هكذا
يقولون. هذا ليس دقيقاً بالطبع، لأن اليهود اختلطوا كثيراً عن طريق الزواج بالشعوب
الأخرى، الأغيار، واختلاف الملامح بين اليهودي الأوروبي واليهودي الإثيوبي مثلاً
خير دليل على هذا. ولكن من الناحية النظرية، لا يمكن الزعم أن اليهودية
"رسالة عالمية"، كما هي المسيحية والإسلام مثلاً.
الاختلاف الثاني بين اليهودية والإسلام، هو
كتاب "التلمود"، وهو الكتاب الذي يتلو في قداسته كتاب المقرا. في إحدى
سجالاتها، تقول الشاعرة الإسرائيلية من أصل عراقي، حبيبة پديا، ومعها الحق، إن
التلمود كان إبداعاً متعدد الأصوات. فبعد أن كُتبت المقرا، بدأ فقهاء اليهود بين
العراق وفلسطين، بابل وأورشليم، في صياغة آراء فقهية تتعلق بالشريعة اليهودية كما
كتبوا تفسيرات متعددة للمقرا. وبعض آرائهم كان شديد العنصرية وبعضها شديد التسامح،
وفي كلها مجال للرأي والرأي الآخر، يقول الحاخام فلان كذا فيرد عليه الحاخام فلان
بكذا، صفحات التلمود نفسها عبارة عن متن رئيس وحوله الكثير والكثير من الحواشي
والتعليقات للفقهاء اليهود. ليس في الإسلام كتاب مقدس كهذا. الكتابان المقدسان في
الإسلام هما كتاب الله وسنة رسوله، الأول كتاب إلهي، والثاني سجل أفعال وأقوال
رسوله، لا مجال هنا للإبداع متعدد الأصوات.
***
تمهيداً لإقامة دولة إسرائيل، أقصى الصهاينة
التلمود على قدر ما أعادوا الاحترام للمقرا، ككتاب تاريخي وقومي وليس ككتاب ديني،
على اعتبار أن المقرا كُتبت وقت حكم اليهود في فلسطين/ أرض إسرائيل، بينما
التلمود، وسائر الكتب الفقهية، كتبت واليهود في حالة ضعفهم، وهم يخضعون لحكم
"الأغيار" وفي المنفى في بابل.
عبر الصهاينة عن احتقارهم لليهودية المصاغة
في "المنفى" على قدر إيمانهم بالمقرا المكتوبة في "أرض
إسرائيل"، لأن الصهيونية ببساطة أرادت الزعم أن اليهودي الحقيقي ليس هو
اليهودي الموجود في العالم، وإنما اليهودي "العائد إلى أرض إسرائيل"
حصراً، وفي خطوتها الثقيلة هذه، دهست تراثاً طويلاً وممتداً وفاتناً من اليهودية
المصاغة في العالم، وعلى رأسه كتاب التلمود وكتب الفقهاء اليهود في
"المنفى".
هذا واحد من أسس التوتر القائم بين مفهومي
"اليهودي" و"الإسرائيلي" داخل إسرائيل. المفهومان مرتبطان
ببعضهما بالطبع، ولكن لحظات التوتر بينهما تكشف لنا عن خلل عميق يرقد في أعماق
البنية الصهيونية. بصياغة أخرى، يمكن القول إن هناك "إسرائيليْن" اثنين،
إسرائيل المؤنثة التي هي دولة إسرائيل، وإسرائيل المذكر الذي هو يعقوب، والذي أصبح
يعني لاحقاً في الفقه اليهودي "عموم اليهود في العالم، من غير الكهنة"،
أي اليهود العاديون.
قبل قيام دولة إسرائيل، كانت كلمة
"إسرائيل" تشير حصراً إلى المفهوم الثاني، أي إلى "عموم اليهود في
العالم"، وإليهم صيغ النداء الفاتن، الذي هو بمثابة "لا إله إلا
الله" يهودية، ونصه: "اسمعْ يا إسرائيلُ الربُ إلهُنا إلهٌ واحدٌ"،
ولطالما فُتنت بالنداء ورددته بيني وبين نفسي في شوارع القاهرة المزدحمة، لاستحضار
الإله الواحد الكامن خلف السيارات والعوادم والبشر العرقانين، وأنا أيضاً، على خطى
اليهود والمترجمين المسيحيين للمقرا إلى العربية، أسقطت ذكر "يهوة"
المقدس من ترجمتي للنداء، لأن الترجمة الدقيقة للنداء هي "اسمع يا إسرائيل
يهوة إلهنا يهوة واحد".
قبل قيام دولة إسرائيل، كان يُكتب في بطاقات
هوية اليهود المصريين: "الديانة: إسرائيلي"، وهو ما كان أمراً شديد
المنطقية وقتها، وإن أصبح يثير العجب الآن، كما يبين لنا الفيلم الفاتن لنادية
كامل "سلطة بلدي". جدير بالذكر أن القرآن من جانبه، لم يتمكن من التعامل
اللغوي مع مفهوم "إسرائيل" هذا، ككلمة مفردة تدل على الجمع، فترجمها إلى
"بني إسرائيل"، ومن الآن فصاعداً خاطبهم بصيغة الجمع.
أنا شخصياً مولع بإسرائيل هذا، وليس
بإسرائيل هذه. مولع بإسرائيل الذي هو اليهودي العادي، اليهود العاديون، بتراثهم
وأفكارهم ولغتهم وعلاقتهم بالله، وليس بدولة إسرائيل التي هجرت وطردت أناساً من
غير اليهود وأقامت مدنها على خرائب قراهم، كما أقصت واستبعدت تراثاً طويلاً
وساحراً لليهود أنفسهم، لإسرائيل نفسه، مع وصمهم بالضعف وقلة الحيلة. من الآن
فصاعداً، سيصبح الإسرائيلي الجيد، الإسرائيلي الحقيقي، هو الصبي الوقح الذي يلبس
بنطالاً قصيراً ويمسك سلاحاً ويحارب أعدائه، وليس اليهودي المشغول بتوراته
وبتفسيراتها ويعبد ربه بهدوء. درس الهولوكست، تقول الصهيونية، ألا نسير كالغنم
للذبح وأن نصبح أقوياء مسلحين ليخافنا أعداؤنا ويرهبونا ونعيش على الأرض في سلام،
وصحيح، عنّفت دولة إسرائيل سكان الأرض التي جاءت لاستيطانها، قمعتهم وحرقت قراهم
وطردتهم بقوة السلاح ثم بنت جداراً عملاقاً ليحميها منهم، ولكنهم أبداً لم يرهبوها
ولم تعش على الأرض في سلام.
الحنين لما لم نره: القصة الحزينة لليهود الشرقيين
"طرق أورشليم نائحة، لعدم
القادمين إلى الأعياد، وجميع أبوابها متهدمة.
كهنتها متنهدون وعذاراها
متحسرات، وهي في مرارة"
فيروز والأخوان رحباني، في معالجة لسفر "مراثي إرميا"
تحل هذه الأيام ذكرى التاسع من آب، وهو،
بحسب التقويم العبراني، اليوم الذي تهدّم فيه الهيكل الثاني لليهود في فلسطين عام
70م، وانتهى الوجود اليهودي هناك وبدأت سنوات التيه في "المنفى". وفي
ليلة التاسع من آب يُقرأ في المعابد السفر المعروف بـ"مراثي إرميا"، وهو
واحد من أكثر أسفار المقرا حزناً وعذوبة، ويبدأ بنواح كاتبه على أورشليم:
"كيف جلست وحدها المدينة كثيرة الشعب، كيف صارت كأرملةٍ العظيمةُ بين
الأمم".
منذ "شتات اليهود" في أنحاء
العالم، لم يتوقف حنينهم لأرض إسرائيل/ فلسطين، وبالأحرى لأورشليم/ القدس، لم
يتوقف حنين اليهود منذ ألفي عام لمكان لم يعرفوه، ولم يروه ولم يقرأوا عنه إلا في
الكتب. هذه النوستالجيا، التي لا تقوم على خبرة حياتية مباشرة، ننظر إليها نحن
العرب باعتبارها جنوناً مطبقاً، بينما نعرفها جيداً. نعرف جيداً إحساس القشعريرة
الذي ينتابنا لدى القراءة عن قصر الحمراء أو عن مدينتي غرناطة وقرطبة، ومثل بعضهم،
تنتاب إسلاميونا أيضاً رغبة قوية في العودة للأندلس، لإعادة مجد ملوك بني أمية.
هذان نموذجان للحنين لماضٍ لم نعشه بشكل
مباشر، ولكن ليس عن هذين الحنينين جئنا لنتكلم اليوم، وإنما عن حنين آخر، لأم
كلثوم وفريد الأطرش، للقاهرة وبغداد وكازابلانكا واللغة العربية.
***
ولدت اليهودية في محيط شرقي، وولدت
الصهيونية في محيط غربي، ولدى رحيل الأخيرة إلى الشرق الأوسط اصطدمت بسكان المكان،
الفلسطينيين، هذا الصدام الذي وصل لذروته في 1948. بعدها بسنوات معدودة، في أوائل
الخمسينيات، سيحدث صدام آخر مع الشرق، الشرق اليهودي هذه المرة، اليهود العرب
المهاجرين لإسرائيل. قصة إسرائيل قصة مثيرة عن الهويات، عن محاولة تذويب الهويات
في مصهر هو "دولة إسرائيل" والغليان الذي ما يزال يجري حتى الآن في هذا
المصهر، تحت وطأة العجز عن الانصهار أو رفضه.
وصل اليهود الشرقيون إلى إسرائيل بعد أن انتصرت
إسرائيل في الحرب، بنت كيبوتساتها ومدنها، وهدمت مدن وقرى الفلسطينيين، وصلوا بعد
أن كان أعيد إحياء اللغة العبرية، بلكنة إشكنازية شرق أوروبية. وصلوا بحرفي الحاء
والعين على ألسنتهم، بألبستهم التقليدية على أجسادهم، ليصبحوا هدفاً لسخرية
الإعلام الإشكنازي منذ وصولهم ولعقود طويلة. في عام 1949، كتب بن جوريون عن طائفة
اليهود اليمنيين: "هم بعيدون عنا بمسافة ألفي عام إن لم يزد. تغيب عنهم
المفاهيم الأكثر أساسية والأولية للحضارة (لا الثقافة). علاقتهم بالأطفال والنساء
هي علاقة شخص بدائي".
ولكن بالنسبة لهم، لليهود الشرقيين أنفسهم،
كان الموضوع مختلفاً. لقد جاءوا غالباً من نخب مدينية علمانية، كان كثير منهم
بمثابة "خواجات" في بلدانهم العربية، وفور وصولهم رُشوا بالمبيدات،
وسُكنوا في معسكرات خيام بلا كهرباء، ثم في مدن الضواحي في إسرائيل، وسُخر من
لكنتهم العربية. من قام بهذه الأفعال المبنية للمجهول، من رشهم بالمبيدات وسكنهم
في مخيمات وسخر من لكنتهم هم اليهود الإشكنازيون، الآتون من شرق أوروبا، أبناء
المزراعين ذوي التعليم الديني، الصهاينة المتعصبين منغلقي الأفق.
بالمناسبة، أجري مرة الصحفي من أصل مصري،
إيال ساجي بيزاوي، حواراً مع
نتاشا أطلس، وانتهز الفرصة للكلام عن الكاتبة من أصل مصري هي الأخرى، جاكلين
كهنوف، التي كانت أول من عرّفت نفسها بالقول "أنا مشرقية"، مستعملة
مصطلح Levant، وكان مقصوداً به سابقاً الحط من شأن ثقافة اليهود الشرقيين.
بالنسبة لساجي بيزاوي في مقاله، فالثقافة المشرقية تميل للاعتدال والتسويف
والتسويات، في مقابل الثقافة الإشكنازية التي تميل للصدام والحسم والحرب. هذا
مقلوب الفكرة الشائعة في إسرائيل التي تنسب التطرف لليهود الشرقيين وتنسب الاعتدال
والتسامح والاستنارة للإشكنازيين.
***
في السنوات الأولى لمجيئهم لإسرائيل، سمع
كثير من اليهود الشرقيون أم كلثوم وفريد الأطرش في بيوتهم سراً، خجلوا من حنينهم
لبلدانهم الأولى لأنهم خافوا من الاتهام بعدم "التأسرل"، وخجل أطفالهم
من لكنة آبائهم التي تحوي حرفي العين والحاء. أسسوا نوستالجيا ضخمة للعالم العربي
الذي جاءوا منه، كانت هذه نوستالجيا ثقافية، غير مسيسة. كانت نوستالجيا لا تجد ما
تقوله ضد دولة إسرائيل.
تقبل اليهود الشرقيون التقسيمة المفروضة
عليهم، صدقوا أنهم آتون من أصول بدائية ومتخلفة ومتعصبة، في مقابل الإشكنازيين ذوي
الثقافة الأرقى، الإشكنازيين اليساريين المحبين للسلام. ومن أجل إثبات العكس،
إثبات أنهم لا يقلون وطنية وصهيونية، قامت الأجيال التالية لليهود الشرقيين
بالتصويت للأحزاب الدينية المتطرفة في عدائها للعرب، الليكود ثم شاس. بشكل عام،
يُنسب لتصويت الشرقيين وصول حكومة مناحم بيجن الليكودية للسلطة في السبعينيات. هذا
ما تريه لنا دراسة شوشانا جباي، بعنوان "نحن
العاطفيون، النضال الشرقي كخادم مخلص للإعلام النيو ليبرالي".
قمت بترجمة هذه الدراسة، ومن ساعتها بدأ
اهتمامي بحالة اليهود الشرقيين، لا كمجموعات كانت تتحدث العربية فيما قبل، وإنما
كقصة حزينة عن المجموعة التي كانت نخبة في بلادها ثم أزاحتها الصهيونية الإشكنازية
في إسرائيل إلى الهامش، فما كان منها إلا أن زايدت على المركز عبر إثبات الولاء
الزائد له. هذه قصة إنسانية عن مهمشين يعادون اليسار، قصة عن الخوف الإنساني من
الوصم، مما يدفع الفرد لتبني رؤى مخالفة لما يعتقده، أو لما يحدسه بداخله.
ظللت لسنوات لا أفهم هذا، إلى أن وهبنا الله
في مصر قصة الثورة، ورأيت المشهد الأكثر إيلاماً وثقلاً من حولي، عندما أحيط
الثوري في الشوارع بمجموعات المهمشين الذين يصرخون فيه ويتهمونه بالعمالة. أفهمني
هذا كيف يتصاعد الخطاب المركزي في هستيريا يقينية ومكشرة الأنياب، وكيف أن من سبق
وتبنوا رؤى مخالفة للخطاب المركزي، سيدفعهم علو صوت الأخير إلى الرغبة في الانضمام
إلى جوقته، لكي يصبحوا جزءاً منها ويعيدوا إنتاجها بشكل أكثر رثاثة. في إسرائيل،
يُتهم اليهود الشرقيون المنادون بالسلام وبحقوق الإنسان الآن
بـ"التشكنز"، مثلما سبق وأن اتُهم المدافعون عن حقوق الإنسان في مصر
بـ"العمالة للغرب". كأنما هناك شيئاً جوهرياً في "الشرق" يعني
أن تكون ضد الإنسان وحقوقه.
بجانب قوة الخطاب المركزي، كان هناك في مصر
أيضاً الخوف الشعبي من الفوضى والرغبة في الاستقرار، أما اليهود الشرقيون، فصحيح
أنهم تركوا الوضع الآمن إلى المجهول الإسرائيلي، ولكن بعد أن احترقت مراكب عودتهم
للبلدان العربية، وبعد أن صيغ تناقض جذري بين "العروبة"
و"اليهودية"، على يد الصهيونية أو على يد الحكومات العربية، في العراق
أُسقطت عن اليهود الجنسية العراقية، وفي مصر مُنح اليهود وثائق سفر بلا عودة. أي
أن كثيراً من اليهود الشرقيين في إسرائيل، وبهدف التكيف وإثبات الولاء ورأب الصدع
النفسي، فقد اختاروا التصهين، ورأوا نفسهم نقيضاً للعرب، ربما أكثر من
الإشكنازيين.
هذا الكلام أقوله بكل أنواع التعميم، وليغفر
لي الله تعميمي، فقد كان هناك الكثير من اليهود العرب من الجيل الأول في إسرائيل
ممن استطاعوا التوثيق لتجارب إذلالهم على يد النخب الإشكنازية، سامي ميخائيل
وشمعون بلاص وسمير نقاش من الجيل الأول، ومنهم أيضاً من أصر على مواصلة الكتابة
بالعربية داخل إسرائيل، مثل سمير نقاش، الذي عرّف نفسه، ربما لأول مرة في إسرائيل،
بأنه "يهودي عربي"، كما انتفضت حركة "الفهود السود"، اليهودية
الشرقية، في قدس السبعينيات، ضد هيمنة الإشكنازيين على الموارد.
واليوم أيضاً يظهر جيل جديد
من اليهود الشرقيين، جيل من الأكاديميين والمثقفين
والفنانين والناشطين السياسيين بالأساس، يعيدون الاعتبار لمفهوم "اليهودي
العربي"، ويتساءلون، نحن المتطرفون؟ نحن أم من بنى الدولة الصهيونية وهجر
الفلسطينيين، نحن أم من فرض علينا أن نكون متطرفين لنواكب صهيونيتهم؟ حرقتم قرى
الفلسطينيين وأسستم دولة صهيونية والآن تتهموننا بأننا أعداء السلام وتعايروننا
بالتصويت لشاس؟
هذا الجيل الجديد أيضاً لم ير البلاد
العربية التي جاء منها، مثلما لم نر نحن الأندلس ومثلما لم ير اليهود سابقاً
أورشليم، ولكنه يحن إليها، ويأخذ حنينه هذه المرة اتجاهاً مغايراً. بدلاً من
المناداة بالعودة لمصر أو العراق أو اليمن، مثلما نادى الصهاينة سابقاً بالعودة
لأورشليم، ومثلما ينادي إسلاميونا بالعودة للأندلس، فهو ينقد الرواية الصهيونية،
القائمة على التناقض الحتمي بين "اليهودي" و"العربي". حنينهم
للمدن التي لم يروها لم يعد مجرد طاقة ثقافية، وإنما أصبح سياسياً، يهدف لتغيير
المجتمع الذي يعيشون فيه. لبس الحنين وجهاً جديداً هذه المرة.
وفي رد فعل على نقدهم للصهيونية، شبيه برد
نعرفه جيداً من عينة "ما تروح تتطوع ف داعش"، يقال لليهودي الشرقي الذي
يفكك الرواية الصهيونية، لو كنت تحب العرب فاذهب لتعش بينهم. ولكن اليهودي الشرقي
لا يستطيع، لأنه نسى العربية، ولأنه ليس من السهل أن تطلب من إنسان ترك البلد الذي
ولد فيه، ولأن العرب لن يرحبوا به. بالمناسبة، أحب أن أذكّر بأن واحداً من
الاعتراضات، "الثورية" و"العلمانية"، ضد الإخوان المسلمين وقت
حكم محمد مرسي، كانت ترحيب عصام
العريان، القيادي الإخواني، بعودة اليهود المصريين لمصر.
***
قبل عدة أعوام صدر في إسرائيل كتاب بعنوان
"أصداء الهوية، جيل ثالث يكتب باليهودية الشرقية". جمع الكتاب
شهادات من أبناء الجيل الثالث من اليهود الشرقيين حول إحساسهم بهويتهم. كان الكتاب
بمثابة إعلان عن أن المصهر لم يعمل جيداً، أن إسرائيل لم تُذب داخلها الطوائف
المختلفة من اليهود، وأن الغلاية ما زالت تغلي. كان الكتاب أيضاً واحداً من
المحطات التي استطاعت فيها الهوية اليهودية الشرقية أن تفرض نفسها على المشهد
الثقافي في إسرائيل، وهي المحطات التي وصفها بدقة الشاعر ماتي شموئولوف في مقال
نشر مؤخراً في جريدة هاآرتس. يصف الكتاب بدقة حالة اليهودي الشرقي الذي يشاهد
الفيلم المصري ليلة السبت ويعجب بفؤاد المهندس وفريد الأطرش، وبعدها يصرخ
"الموت للعرب"، ويصوت لشاس أو الليكود، لأنه ينفر من الإشكنازيين الذين
يصوتون لحزب العمل، الحزب اليساري الأوروبي الأنيق.
ولكن هذا التيار الثقافي ليس تياراً مركزياً
بين اليهود الشرقيين في إسرائيل، ربما أصبح هكذا مؤخراً بين مثقفي اليهود
الشرقيين، ولكن لا يمكن الزعم بأنه مؤثر حتى الآن على الشارع الإسرائيلي. التيار
المركزي بين اليهود الشرقيين يصغي أكثر للدعاية التي تمارسها عليه النخبة
الإشكنازية، في برامج الواقع، والتي بمفادها فهؤلاء اليهود الشرقيون ممتعون
ومسليون، وليس أكثر. عنوان مقال شوشانا جباي المذكور هنا، "نحن
العاطفيون" يشير لهذا. تقولون أننا عاطفيون، إذن ليكن، نحن العاطفيون! تقول
جباي إن هذا ربما يكون هو الحادث الآن، ولكنه ليس تاريخياً. تاريخياً، كان اليهود
الشرقيون هم النخب المدينية المحافظة العقلانية في البلدان العربية، في مقابل
الإشكنازيين الصهاينة المؤدلجين المتعصبين، أبناء القرى الشرق أوروبية. تجربة المعابر،
وهي الخيام التي سكنها اليهود الشرقيون فور وصولهم، كانت تجربة مريرة، كانت كفيلة
بإنساء اليهودي العربي ذاكرته السابقة ودفعه لتبني ذاكرة أخرى، معكوسة، لما حدث.
الكثير من الروايات التي كتبها أدباء اليهود العراقيين مع وصولهم إسرائيل تشهد على
تأثير الصدمة النفسية عليهم وقتها.
في العام الماضي، بدأ في إسرائيل عرض الموسم
الأول من مسلسل "إمبراطورية زجوري" للمخرج ماؤور زجوري. تقوم حبكة
المسلسل، الذي حظى بنجاح مدو، على عائلة، أب وأم وثمانية أبناء، من أصول مغربية،
هي عائلة زجوري. يدخل أحد الأبناء، آڤيئيل، الجيش، ويتشكنز هناك، تصبح لكنته ونمط
حياته مثل لكنة ونمط حياة الإشكنازيين وينظر بقرف إلى عادات عائلته، يميل مثل
الكثير من اليهود الشرقيين لإنكار طائفته، يسخر منها ويدعي أنه ذاب في المصهر، ذاب
في الهوية الإسرائيلية الجماعية، يدعي أنه "إسرائيلي يهودي علماني" وليس
مجرد "يهودي مغربي"، ولكن الكثير من اللمحات والمواقف وزلات اللسان تكشف
لنا عن العكس. المسلسل شديد الحساسية ويلتقط أدق الاختلافات بين أنماط اليهود
الشرقيين، ويناقش الكثير من القضايا الشائكة في إسرائيل، مثل التشكنز وعلاقات الحب
بين اليهود والعرب، وتنصر اليهود وغيرها، بشكل شديد المرح والتشويق، ويتابعه
الإشكنازيون والشرقيون على السواء.
ربما يغير المسلسل شيئاً في الوعي
الإسرائيلي حول جدل الشرق والغرب، لكون هذا العمل الأول ربما الذي يقفز بالجدل حول
اليهود الشرقيين والإشكنازيين لمساحة الثقافة السائدة، ويقتحم أجهزة تليفزيون
الإسرائيليين في بيوتهم، ويجبرهم، عن طريق حبكته الذكية والمشوقة، على متابعته
وتقبل اللمحات القاسية التي يقدمها حولهم.
***
قبل ترجمتي لمقال شوشانا جباي، كنت قد عملت
لسنتين، كما أسلف، على ترجمة رواية ألموج بيهار، الآتي من أصول عراقية وتركية،
"تشحلة وحزقيل"، ومن المفترض أن تصدر الترجمة قريباً عن دار "الكتب
خان". كنت قد عرفت الكاتب من قبل، في ترجمة الزميل والصديق محمد عبود لقصته
"أنا
من اليهود". وفتنت بروحه التي تمزج مزجاً حقيقياً بين قيم اليهودية
والقيم الإنسانية، مثل العدل والتسامح. عامان عملت فيهما على الرواية كانا كافيين
لإفهامي أشياء كثيرة، عن جدل الشرق والغرب لدى اليهود الشرقيين، عن اليهودية
والصهيونية، ولكن الأهم، فُتنت بسؤاله عن "المنفى"، أيهما المنفى بالنسبة
لليهودي العراقي، بغداد أم أورشليم، بابل أم أرض إسرائيل؟
في نهاية هذه السلسلة من المقالات، الشخصية
وغير الشخصية، أحب أن أحكي عن حنيني أنا للقدس. أنا أيضاً أحن لمكان لم أزره ولم
أره ولم أعرفه سوى من الكتب والأغاني، أحن للقدس التي هي أورشليم ولأورشليم التي
هي القدس، ولا أحب أن يُغلق باب مدينتها وأنا ذاهب لأصلي، أو أن تجلس وحدها
المدينة التي كانت كثيرة الشعب، وتصير كأرملة العظيمة بين الأمم.
في كتابه "رأيت رام الله"، يكتب
مريد البرغوثي أن إحساسنا بفلسطين سيظل قاصراً طالما اختزل في الحنين للقدس،
وبالتحديد في قبة الصخرة، وأن فلسطين لن تصير وطناً إلا عندما نبدأ الشكوى من جوها
ومواصلاتها وزحامها، وأنا أعرف جيداً كيف أحب مدناً بمواصلات خانقة، وكيف أستطيع
رؤية السامي في عاديتها والعادي في سموها. عرفت كيف أحب القاهرة مثلاً، والتي شرح
لي أصدقائي الفلسطينيون أن المدينة القديمة فيها، شارع المعز بالأخص، تطابق
المدينة القديمة في القدس. وأنا أحب أن أرى القدس، بزحامها وباصاتها وحرارة جوها،
وأن أبصر داخل هذا صلاح الدين والنبي إرميا وغيرهم. هذا هو الحنين، يضبب المشهد
قليلاً لكي لا ترى ولكنه يطرب قلبك. وهذا هو البصر، ينزع الضباب ويريك جيداً ولكن
يمنعك من الغناء. وهذا هو الجدال الدائم بين الحنين والبصر.
ما أستطيع تأكيده الآن أنني أؤمن أن من
الضروري أن تتحرر فلسطين، وتحررها يعني عندي "دولة واحدة ديمقراطية علمانية
للعرب واليهود على حد سواء"، يعبد فيها كلٌ ربه بالشكل الذي يحبه، ويبني كلٌ
ذاكرته كما يحب وكما يتفق مع معتقداته، بلا سيطرة صهيونية على العرب، ولا سيطرة
عروبية على اليهود. هذا شعار سياسي، نادى به الكثير من الأفراد في مجتمعاتنا، حتى
وإن لم يتبلور حتى الآن في حركة مؤثرة، ولكنه أيضاً شعار شخصي، يخصني أنا، لأنني
طالما تمنيت التجول ببين الجانبين، العرب واليهود، وسمعت حكايات كل منهما عن نفسه،
ولضمت ما عرفته من العربية بما عرفته من العبرية. وأنا ببساطة لن أرتاح في التجول
في مكان عنيف يقوم على هيمنة طرف على آخر، أو قصة على أخرى.
________________________________________
نُشر
بالأصل في موقع "مدى مصر"، في سلسلة من خمس حلقات أخذت عنوان "كيف
تُعلمنا العبرية شيئاً عن ذواتنا".