منذ تحول اليهود الآتين من أصول شرقية إلى قوة تصويتية
لا يستهان بها في إسرائيل، وانحيازهم للأحزاب اليمينية مثل حزبي
"الليكود" ثم "شاس"، حتى بدأت تلتصق بهم صورة "المتعصبين
الأيديولوجيين، في مقابل اليهود من أصول أوروبية "الإشكنازيين"، الذين يتم
تصورهم في الخيال الشعبي الإسرائيلي بوصفهم عقلانيين ومعتدلين. تزامن هذا مع
انهيار "اليسار الإسرائيلي"، ممثلاً في سلطة حزب "مباي"،
اليساري ذي الطبيعة الإشكنازية الذي ظل مهيمناً في إسرائيل حتى صعود حزب الليكود
اليميني في 1977 على يد مصوتين من أصول شرقية غالباً .
هكذا وُصم اليهود الشرقيون أيضاً، من بين ما وصموا به،
بأنهم "الجماهير الغفيرة لإسرائيل"، في مقابل نخبتها الإشكنازية
المستنيرين الذين يصوتون لـ"مباي" و"حزب العمل" ويحبون السلام.
كانت هذه هي الخطوة الأولى، أما الثانية، فكانت أن الشرقيين نفسهم استوعبوا هذا
الوصم وصدّروه بصوص ذواتهم.
في هذا المقال المنشور
بالأصل في موقع "هاعوكِتس"، بعنوان "نحن العاطفيون: النضال الشرقي كخادم مخلص للإعلام النيو-ليبرالي"، تفكك شوشانا جباي، الباحثة الإسرائيلية من
أصول عراقية، عدداً من الأساطير المؤسسة للصراع الطائفي في إسرائيل، تفكك صورة
الشرقي والإشكنازي كما تخيلها كل منهما. من هي الطائفة الأكثر "حداثة"
في إسرائيل، الإشكناز أم الشرقيون؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال تعود الكاتبة، وهي
إحدى مؤسسي حركة "القوس الديمقراطي الشرقي" في إسرائيل، إلى بدايات
القصة، حينما التقى المبعوثين الصهاينة بممثلي الطوائف الشرقية في البلدان العربية
لتجنيدهم وإقناعهم بالهجرة لإسرائيل.
تنبع أهمية المقال من كونه يلقي الضوء على تاريخ
"اليهود العرب"، بعيداً عن السؤال التبسيطي حول ما إذا كانوا عملاء
لإسرائيل أم عرباً وطنيين، كما يلقي الضوء على التوتر الطائفي اليوم في إسرائيل
بين اليهود الإشكناز والشرقيين، كما يشرح عملية نفسية معقدة تنتهجها الجماعات
المهزومة، كيف يمكن للمقموع أن يتبنى صورة قامعه عن نفسه، وكيف يمكن إحلال الصراع
الرمزي، ضد التصنيفات والأنماط المسبقة، محل الصراع المادي، من أجل التوزيع العادل
للموارد.
كيف
جرى استيعاب اليهود الشرقيين في الخطاب الصهيو-إشكنازي
شوشانا جباي
ترجمة: نائل
الطوخي
أ-
إعادة تعيين الشرقيين لنفسهم
عندما نبحر، نحن اليهود الشرقيين، في الشبشب داخل قصيدة
آسي ديان،
نبتهج باستبطان الصورة السلبية التي لصقوها بنا في إسرائيل – بما يعني أننا نصنع إعادة
تعيين لذواتنا reclaiming
– ونتحمس للاهتمام الإعلامي [بنا]، فمن المفيد أن نتذكر أن هذا الفعل هو جله عبارة
عن استسلام لصورة أبناء اللآلهة التي يريد الإشكنازيون احتكارها لأنفسهم. استسلام
وخواء أيضاً، لأنه لم يتبق بنا أي شيء بخلاف نظرتهم إلينا. إعادة التعيين هذه في
صيغتها الشرقية الحالية ليس خطوة واثقة بنفسها أبداً وإنما خطوة مهزومة وبائسة
تدافع عن نفسها.
الأمر يتعلق بالانسحاب لنشاط طفولي -الآن، بينما
الإشكنازيون مصدمون مما فعلوه لنا، فهم بسرعة شديدة سيقدمون لنا المفاتيح لإدارة
الدولة، لأننا أعلنا في الإعلام أننا نحن النخبة الجديدة. وحتى هذا الحين فهم
يداعبون رؤوسنا ويمنحونا القليل من الاهتمام، وها نحن سعداء وفجأة نهذي بحلم على
غرار حلم مارتن لوثر كينج من أجل "شرقنة" الشعب كله بأسلوب العصر الجديد-
فكيف يمكن تنفيذ قفزة عظيمة من التمرغ في الصورة السلبية إلى الأماني والادعاءات بقيادة
الشعب بلا برنامج سياسي؟ ولكن حتى هذا الوقت فيا للخسارة، بينما يحسنون إلينا في
عروضنا التهريجية، بل يكسبون من هذا المال، فمؤسسو الدولة وأنسالهم النيوليبراليون
يواصلون التمرغ بلا عائق في عماهم النرجسي التام والتغطي بلا عائق بفانتازيا
التفوق.
لهذه الظاهرة ثمة تاريخ طويل وشعبي في الحيز العام الإسرائيلي
– وليس فقط في أفلام البوركاس. منذ
أن احتضن بيجن الشخشاخيم [لقب تحقيري يطلق على اليهود من أصول مغربية] أصبح للتوتر
العرقي/ الطبقي بين الشرقيين والإشكنازيين شرعية وتم التعبير عنه علناً سواء
سياسياً أو إعلامياً، ولكن بشرط أن يكون الكلام فقط عن المشاعر، عن الصور والأنماط
السلبية، وليس، حاشا لله، عن برامج مرتبة لأنشطة سياسية اجتماعية اقتصادية لتغيير
الوضع، "صرخة الألم"، كما سماها أحد المثرثرين حول الظاهرة في تجليها
الحالي، كأن النضال السياسي الشرقي ميلودراما عاطفية تدر الدموع ويعوزها المضمون
السياسي. على طريقة العالم، تحوز هذه العروض العاطفية دائماً نجاحاً قصيراً لدى
الجمهور المستهدف – عاصفة صغيرة في فنجان شاي ونجاحاً طويلاً لصالح المنتصر – سواء
كان هذا على هيئة سيل من الصلاحيات أو سيل من البنكنوت لأثرياء الإعلام.
يقال في حق رجال فنجان الشاي إن الشرقيين ينتصرون مجدداً
في التليفزيون، في برامج الواقع، وفي برامج الواقع التي تتشبه بالوثائقي، هذه
البرامج القائمة على التوتر الطائفي صاحب نسبة مشاهدة عالية في إسرائيل. ها قد احتشدنا
وأرسلنا إس إم إس وهوب، انتصرنا – مع إعلان دعائي وتاج على الرأس واحتفالات براقة
بالتتويج. نظراً لأننا لا نملك إمكانية الحرب والتغلب على بنى القوى القائمة في
الواقع، فهيا بنا نحتفل بعوالم الوهم التليفزيوني.
بقلب متألم، لم يبق إلا مشاهدة كيف تم سحب النشطاء
الشرقيين إلى هيكل المجد الإعلامي النيوليبرالي، وهم أيضاً، بالضبط مثل اليهود
الشرقيين في الضواحي [في إسرائيل]، الذين يتم اختيارهم بحرص على يد فرق تليفزيون
الواقع – ينشغلون فقط بالتمرغ وبالصراخ عن التصورات السلبية عن الشرقيين في عين
الإشكنازيين ليس إلا، التصورات السلبية وليس الهوية، التصورات السلبية وليس
التقسيم العادل للموارد. التصورات السلبية عن الشرقيين فحسب وليس الفلسطينيين أو أية
جماعة أخرى مقصاة بين السكان. هذا الدفق العاطفي المتزايد من الصراخ في التليفزيون
وارتفاعه في الشبكات الاجتماعية لا يسهم في تجنيد الناس للنضال ضد الظلم الهيكلي
للمنظومة.
في الإعلام المتعاطف بشكل مذهل في العقد الأخير، لا يوجد
مكان الآن إلا للشخصيات العامة الشرقية الجديدة التي كرست حياتها للترويج لمشاريعها
الشخصية، وللمقولات على الطريقة النيوليبرالية للأفراد الباحثين عن النجاح:
"لو كنت رجلاً إشكنازياً كنت لأصبح أكثر نجاحاً". حتى الآن ليس ثمة مكان
للبرامج السياسية المنظمة للشرقيين في صفحات الاقتصاد والسياسة في الجرائد، ولا
مكان للنضالات الاجتماعية الجماعية وللنشطاء على الأرض، مثل هؤلاء في المعابر
وأطقم الإسكان الشعبي، وليس من قبيل المصادفة ألا مكان لها، ولا هو أمر عرضي أن تتردد
مقولات تستخف بمن يتبنون مواقف طبقية وعالمية – لأن النضال الشرقي الثقافي الاختزالي
للنشطاء النيوليبراليين والصهاينة هو من انتصر الآن.
ما هي هذه الهوية الشرقية التي نضجت في العقد الأخير في
إسرائيل، وكيف يتم التعبير عن أهميتها، بخلاف الإشارة للهوية الإشكنازية في
المجتمع وشتيمتها بالقول "متشكنزون"؟ هل أن هذا الانشغال بنا فحسب، وغلق
العينين عن حقيقة أننا نحن اليهود الشرقيين لسنا فقط ضحايا العنصرية، وإنما شركاء
كاملون كجلادين لجماعات أخرى وأن هناك جماعات أخرى مقصاة من بيننا، وفي مقدمتها
الفلسطينيون، هل يشكل هذا نصراً أصلاً؟ بالمساعدة المحسنة للنيو ليبراليين الذين
ورثوا سلطة مباي [حزب اليسار في الستينيات]، تم تحييد التوتر الإثني وأصبح موضوعاً
ثقافياً فحسب ومعركة هزلية إعلامية مع الإشكنازيين بخصوص المكان في القمة وبخصوص
حق السيطرة على الآخرين. ولكن حتى الآن مازال هناك شرقيون يحتفلون بالانتصار على
مباي كأن قوائم انتخابات السلطة هي المشكلة فحسب. يتم استقبال اليد الخفية
للنيوليبرالية وممثليها بمحبة غامرة بوصفها خطوة ديمقراطية، على حد قول المثرثرين:
"في الموسيقى، الرياضة، الموضة والطعام هناك ديمقراطية للشرقيين".
لو أخذنا الاهتمام الكثيف الذي منحه النيوليبراليون
لموسيقى الكاسيت منذ التسعينيات نموذجاً، فيبدو أنهم في الواقع تسببوا في أن تلفظ
هذه الموسيقى أنفاسها وتتحول لعرض مثير للسخرية لمغنين أثرياء ومغنيي بوب أبله. ولا
يزال الموسيقيون الذين يصنعون موسيقى شرقية مركبة يحاربون من أجل رزقهم الأساسي.
كم عدد المستمعين اليوم للموسيقى المركبة لرافيد كحلاني، شي تسباري، وليرون عومرام،
أو لعازفي الموسيقى الكلاسيكية مثل مارك إلياهو أو يائير دلال، الذين يواصلون
التقاليد القديمة وبإمكانهم تغيير الموسيقى الإسرائيلية للأفضل؟ ليسوا كثيرين.
الشرقيون في عهد ما بعد مباي متخمون الآن باستمتاع من أكل زبالة التلفزيون التجاري
ويثرون فقط جيوب المغنين الأثرياء.
كيف يصعب علينا نحن اليهود الشرقيين أن نرى أن الأمر
متعلق بالهزيمة، وأننا في الواقع انضممنا للمنتصرين واستسلمنا لاستراتيجيتهم؟ ها
نحن نُحتضن ونُستقبل بتعاطف في الإعلام والسياسة، شريطة أن نكتفي بمطالب جماعتنا
فقط وألا ندخل أنوفنا في مواضيع أخرى.
أنتم النخب الجديدة
استراتيجية سياسية قديمة هي، معروفة من أيام
الإمبراطورية الرومانية التي قامت على منهج "فرق تسد" divide
et impera). صحيح أنه حتى
الآن لم تولد جماعة مقموعة في التاريخ وحدت قواها مع الجماعات التي تقع أسفل منها
في السلم الاجتماعي، بهدف هزيمة الحاكم بدلاً من أخذ الغنائم في اللحظة التي
يقترحونها لها، ولكن أن نسمي هذا انتصاراً؟ ثورة؟ "نحن النخب الجديدة"؟
فعلاً؟ "لماذا أنتم النخب الجديدة"، هكذا يتساءل المحاور المستمتع في
التليفزيون. "لأننا نحن من نقرر معدلات المشاهدة، نحن من نقرر أسعار الإسكان
(؟! – ش. ج) نحن نقرر من هو رئيس الحكومة"، يجيب الثرثار الشرقي الجديد بجدية
مطلقة، وفي الواقع يختم بهذا على الصورة المرغوبة للإشكنازيين كنخبة، ودور
الشرقيين بوصفهم قطيعهم الشعبي. (معدلات المشاهدة والتصويت الجمعي في صناديق
الانتخاب).
الكلام الفارغ عن النخب الجديدة، يأتي سوياً مع التهديد
الأبوكاليبسي معدوم الأسنان بانتفاضة الفقراء وانتفاضة الشرقيين ("سوف تحنون
إليّ"). هذه الدعوات هي نكتة تافهة بشكل خاص الآن بينما أسفل السلم الاجتماعي
تتكدس طبقات أكثر فقراً من الشرقيين، مثل العرب، الأثيوبيين واللاجئين المعدومين
من أفريقيا. وادي صليب والفهود السود
كانوا من زمن طويل أما الفقراء الشرقيون في التسعينيات فقد اختاروا التوبة
والتصويت لحزب شاس [الديني] احتجاجاً على أوضاعهم ولم يبادروا بانتفاضات.
لو عدنا للعقد السابق، سنجد محاولات ما للحرب ضد اختزال
النضال الشرقي في أفلام البوركاس، مثلما حاول المرحوم دودي حلبي، وهو أحد مؤسسي
"القوس الديمقراطي الشرقي" قوله بكلمات ثاقبة:
"أريد الزعم أن الانشغال بسؤال الهوية هو أمر
مشروط. مشروط بأي معنى؟ بمعنى أن الهوية ليست مضموناً في حد ذاتها، وإنما تخدم
قيماً أخلاقية مركزية، مثل الحرية، العدل، والمساواة. من هنا فإن الإخلاص الإنساني
يكون للقيم".
لهذا فبدلاً من الاستسلام لغواية كل أنواع الهراء
الجوهراني من عينة "نحن العاطفيون"، ينبغي تقرير بشكل حاسم أن الهوية
الشرقية هي تصنيف سياسي، أو كما وصفها دودي في وقته: "تصنيف أزرق أبيض"
[إسرائيليٍ]. ويضيف دودي في موضع آخر بخصوص الخطر الكامن في سياسات الهوية:
"لديّ العديد من التحفظات على سياسة الهوية، من
بينها بسبب خطر الجوهرانية وحتى الأصولية المتربصة على بابها، ولكني واع أيضاً
بإمكانات الاستخدام الصحيح والعقلاني التي تتيحها".
أي أن النقاش المندلع بين الشرقيين كما تمت كتابته
مؤخراً يجسد صراعاً بين الهوياتيين والطبقيين، فالأمر لا يتعلق بمعارضة شاملة
لسياسة الهوية، وإنما بانتقاد الانسحاب من الصراع بهدف تحقيق إصلاحات ثورية إلى
سياسة نيوليبرالية انهزامية تُختزل في ألعاب الوعي، والزخارف الخارجية الكهنوتية.
لنفترض أن الحلم كان تقليد نموذج السود في الولايات
المتحدة، هل يمكن تحرير ودفع اليهود الشرقيين بواسطة إعادة تعيين لذواتهم، فقط
بواسطة تبني التصورات السلبية المفروضة عليهم؟ صحيح أن الثقافة السوداء الأمريكية
الخاصة بنمط اللبس والموسيقى مثل الهيب هوب تحولت إلى نجاح مدوخ ونموذج للتقليد
لدى الشباب من كافة أنحاء العالم، الذين يحاولون السير والكلام والتصرف مثل السود،
ولكن هل حسّن هذا وضع المقموعين في الولايات المتحدة بعد هذا؟ هل توقف الشرطيون عن
إطلاق النار على الشباب السود في الشوارع؟ هم يواصلون كونهم منكوحين. أي انفصال
بين المستوى الثقافي والمستوى الاجتماعي/ السياسي الذي هو أساس الحياة، يتسبب في
استمرار القمع.
الانسحاب لسياسة مبتذلة وسطحية للهويات والرموز يحدث
الآن، خطوة بخطوة مع التدمير الذي يزرعه النيوليبراليون في البلد وفي العالم. في
النيو ليبرالية، كما كان الأمر في العهد الملكي، هناك إسكات اجتماعي. السلطة قوية
جداً واحتمالات النشاط السياسي العميق محدودة جداً، ناهيك عن الثورات. أيضاً تحت
العهد الملكي في الماضي انسحب [النيوليبراليون] لسياسات الهوية والرموز. نرى هذا
جيداً في نهاية القرن الثامن عشر في إنجلترا، التي واجهت خطر الزلازل الثورية مثل
جارتها فرنسا. في فترة رد الفعل السياسي هذه نشط المحافظون من أجل تهدئة الحماس
الثوري لدى الشعب وأعلنوا عن إصلاح أخلاقي – ضبط الأخلاق السيئة لدى النبالة، مثل
المراهنات على الأحصنة، المعارك والتصرفات الأنانية. دور هذا المنهج الأخلاقي أن يأتي
بديلاً للنقد السياسي الثوري. تعالوا لا نقطع رؤوس أولئك وإنما نحسن أخلاقهم. بالطبع
حاولت النبالة الإنجليزية أن تصبح أكثر "اخلاقية"، وواصلت سرقة خزانة
الدولة، إنهاء الانشغال بالديمقراطية ورفضه على مدار أربعين عاماً حتى سُن قانون
الإصلاح في 1832.
بعد إقامة حركة "القوس الديمقراطي الشرقي" في
التسعينيات، دُعي المخرج والفنان شلومو فازنه، والذي كان، من بين ما كانه، أحد
المتحدثين باسم الحركة، إلى برنامج سياسي في التليفزيون. قال المذيع "أفهم أن
لديكم أحاسيس قاسية". أجاب فازنه: "لم آت هنا للكلام عن مشاعر نفسية
وإنما للمطالبة بتقسيم عادل للموارد" (أنا أقتبس من الذاكرة تقريباً، ش.ج.)
مقولة فازنه تلمح للثورة التي جاءت بها في وقتها حركة القوس الديمقراطي الشرقي.
بدلاً من ممارسة تكتيكات الشفقة على آلامنا التي يصرخون بها بمرارة في عاصفة المشاعر
من أجل هز الطبقة الحاكمة، إيقاظ ضميرها ورحمتها، جاءت حركة القوس وقتها من خلال
معرفة منظمة وطالبت بالعدالة والمساواة للجميع. أي أن القوس كان الحركة الإصلاحية
التي طمحت لقيادة دمقرطة النظام الإسرائيلي بشكل عام وإعادة تنظيم المجتمع على قيم
العدالة الاجتماعية.
كذلك النضال في مجال سياسة الهوية كان إصلاحياً بطبعه،
لو اقتبسنا من البروفيسور يوسي يونا، وهو أحد مؤسسي القوس الديمقراطي الشرقي:
"جزء من تجليات العنصرية هي الشرقيون. نحن نريد عرض
الصورة بكامل تركيبها، ولا نأخذ وجهة نظر الضحية. عندما نكتب عن العنصرية، أريد أن
أن أتحمل مسئولية عن الأماكن التي أصبح فيها أنا الجلاد. نحن نوجد في مواقع قوة،
أنا لا أطرق على باب العنصري وأطلب منه ألا يكون عنصرياً تجاهي، وإنما أعرض عليه
المعضلة بكامل تركيبها".
على طول السنوات الأولى لحركة "القوس" اندلع
صراع مرير عن جوهر النضال الشرقي. كانت نتائجه هي فقدان الخط الإصلاحي الراديكالي الذي
يتضمن الملف الشرقي مع الملف الفلسطيني على حد سواء، وهو الربط الذي اشتمل على
بذرة عميقة لتغيير المجتمع الإسرائيلي. انتصر الجوهرانيون والصهاينة الذين أرادوا
المشاركة في منهج "فرق تسد"، وكانت النتيجة تفكك القوس وهجرة مؤسسيه.
الحرب ضد السلطة القوية تضحي أمراً شديد الصعوبة عندما يتفق أغلب المحكومين، أي
هؤلاء المقموعين الذين نريد تحريرهم، في الواقع مع أساس أفعال هذه السلطة. هذا
النضال الذي بلا ظهير اقتصادي، فالنشطاء والناشطات يأتون من البداية من طبقات
قليلة الحيلة في إسرائيل، لا يمكنه الصمود على مدار السنوات.
ب- قياصرة مبعدون في ممالك خاوية
تثبيت النضال الشرقي وتركزه على الصور السلبية لدى
الإشكنازيين بخصوصنا، يواصل في الواقع تثبيت المعبرة كخط صفري لتاريخنا ووسم وضعنا
كهامشي من الأزل. في معالجة لشعار رئيس حكومتنا الأبدي، "نسينا ماذا يعني أن
نكون يهوداً شرقيين"،
نسينا ماذا كنا هناك – في الدول الإسلامية على طول مئات السنوات – قبل أن نقوم هنا
بدور الجمهور الشعبي لدولة الصهاينة.
وما الذي كانه اليهود في هذه الدول حينما لم يكونوا
يذهبون للصلاة في المعبد؟ ما الذي كانوه بخلاف الاختزال الصهيوني الكامن في
"اضطهدونا أم لم يضطهدونا"، وفي"هل كانت الدول الدول العربية جحيماً
أم جنة عدن"؟ الإجابة أننا كنا أقلية نخبوية، العمود الفقري المديني للدول
العربية، متعاونين مع الملوك ومع القوى العظمى الأوروبية على طول مئات السنوات.
هذه إجابة يصعب على الكثيرين من يهود الشرق والكثيرين من النشطاء الشرقيين استيعابها.
حتى وهم يطلقونها بلغة ناعمة تدافع عن نفسها فهم لا يصدقونها في الحقيقة، وإنما
يصدقون فقط الصورة الإشكنازية عنهم.
|
مقهى يهودي في "ملاح" فاس عام 1912 |
لهذا، فالإجابة على الاستهزاء الثابت المعبر عنه في سؤال
"كيف يمكن أن تكونوا كلكم عملتم عند الملك"، لن تكون اعتذاراً على طريقة
"ولكن انظر إلى جدي، في الواقع كان خياط الملك أو طبيبه". الإجابة ستكون
نعم! كلنا عملنا عند الملك ثم عند القوى العظمى الاستعمارية. هكذا قدنا حياتنا
بحرص لمئات السنوات وبحثنا عن الأمن والأمان لدى السلطة. لهذا، لا يهم أبداً لو
كنت خياطاً فقيراً في طرابلس أو أخذت لقب سير من الملكة فيكتوريا لأنك دفعت لها
مالاً كثيراً.
نموذج مألوف آخر للمسافة بين الواقع وبين تصور اليهود
الشرقيين في إسرائيل عن ذواتهم باعتبارهم "الجماهير الشعبية"، يمكن
العثور عليه في الإجابة على سؤال نسبة اليهود الشرقيين بين الشعب اليهودي.
الغالبية الكاسحة من الشرقيين في البلد سيردون بأن الشرقيين يمثلون أغلبية بين الشعب
اليهودي! ولكن نسبة اليهود الشرقيين في الشعب اليهودي، أي مجموع اليهود في العالم،
هو حوالي 20% فقط. هذه النسبة ليست مدرَكة في الوعي الإسرائيلي السائد لأنها تناقض
صورة "الجماهير الشعبية" التي تحاول الهيمنة الصهيونية دفعها لنا منذ
وطأت أقدامنا دولة إسرائيل. كنا أقلية في البلدان الإسلامية وظللنا أقلية في
إسرائيل أيضاً. جميع اليهود الشرقيين يشعرون كأنهم أقلية في إسرائيل، أي يشعرون
بعدم الانتماء للثقافة المهيمنة، ولكنهم يعتقدون خطأ أنهم يشكلون الأغلبية العددية
في الدولة والشعب اليهوديين. باستثناء فترة قصيرة وحتى نهاية الثمانينيات التي شكل
فيها الشرقيون حوالي 60% من تعداد السكان في إسرائيل، فإحساس أننا نشكل أغلبية حقيقية
هو إحساس خاطئ. الشرقيون، بمن فيهم أغلب النشطاء الشرقيين، يحاولون الارتباط بإطار
divide
et impera الذي صاغ المؤسسة الصهيو-إشكنازية، وعدد قليل منهم فقط يعارضه.
الخطوة التي لم تتعاف منها الأقلية اليهودية الشرقية في
إسرائيل والتي قررت مصيرها إلى اليوم، حدثت في الواقع قبل شعار "تعالوا إلى
الأرض" وظلت مضببة ومسكوتاً عنها، وهي إخراج قادة الطوائف اليهودية في
البلدان الإسلامية من خلال التفكيك الداخلي للطوائف بينما هم مازالوا في بلادهم
الأم نتيجة لتدخل الصهاينة. لو أخذنا نموذجاً نصوص المبعوثين الصهاينة للعراق في
الأربعينيات والتي تستشهد بها الباحثة إستر مئير في مقالها "عوالم متصادمة:
اللقاء بين مبعوثي الاستيطان إلى يهود العراق في الأربعينيات وبداية
الخمسينيات" (من مجموعة مقالاتها "بين المهاجرين والمخضرمين: إسرائيل في
الهجرة الكبرى 1948-1953" والذي حررته داليا عوفار)، سنجد أن المبعوثين
الصهاينة لم ينشطوا إلا بين الشباب ولم يتوجهوا أبداً إلى كبار الطائفة ولا
نخبتها. صحيح أن مئير تصف هذه الخطوة الصهيونية بأنها ناتجة عن "يأس من الجيل
الأكبر وإيمان بالجيل الشاب"، ولكن الأمر يتعلق بعملية استراتيجية أساسية لدى
الأيديولوجيات الثورية، الثورية التي وظيفتها قطع الرؤوس.
الحديث هو عن تصادم حدث بين قادة أقلية دينية، معتدلين
وحذرين ذوي توجهات حديثة وكوزموبوليتانية، ودوماً ما شجعوا أبناء طائفتهم على
الحصول على تعليم غربي حديث، وبين ثوريين أصوليين، قوميين وعنيفين. رأى المبعوثون
نفسهم كمزارعين بسطاء وطبيعيين مقابل "الأغنياء الفاسدين"، "مرتدي
الحلل"، على رأس اهتماماتهم هناك "صعود السلم الاجتماعي". هم "يحبون
التفلسف"، كما كتب عنهم المبعوث أفيجدور مئيروف، قائد "مؤسسة الهجرة
الثانية"، وهو واحد من الكبار في المنظومة الأمنية للاستيطان، رجل عرف
متأخراً جداً أمراً أو اثنين عن ارتباط الموساد بمقتل المعارض المغربي مهدي بن بركة.
منظومة
التمثيلات لدى هؤلاء المبعوثين الصهاينة كانت مأخوذة من حياتهم هم ومن حياة آبائهم في شرق أوروبا
وقت الثورة الشيوعية. كانت النخبة اليهودية الشرقية مشابهة في نظرهم للنبالة
الروسية الفاسدة التي تمت تصفيتها من أجل قيادة الشعب. وحتى لو يكن الأمر متعلقاً
بتصفية بدنية مثلما في روسيا، ففي هذا الصراع التراجيدي كسب الثوريون. لم تجرؤ القيادة
اليهودية المعتدلة بطبعها على معارضة المبعوثين الصهاينة، كما تقول مئير، فهؤلاء
المبعوثون جاؤوا من أرض صهيون المحفوظ لها ارتباط خاص وعميق. كما أن من خلف
"هؤلاء المزارعين البسطاء والطبيعيين" كانت تقف الوكالة اليهودية، والتي
تصورَها قادة الطائفة الصغيرة، وفق مئير، كأنها "منظمة دولية ذات صلاحيات
سياسية وكأنها قائدة الشعب اليهودي، لهذا لم يجرؤوا على مواجهتها". سبب آخر
في رأي مئير كان أن شباباً كثيرين مالوا للشيوعية التي عُدت تهديداً أكبر بكثير.
بشكل
عام، فالقيادة اليهودية
الشرقية توصف في الإشارات القليلة إليها في الكتب المدرسية في إسرائيل بشكل ساخر
وشبه معاد للسامية بأنها "سلبية"، و"تهتم بثرواتها". ها هي
جملة من من تلخيص نموذجي للتلاميذ على شبكة الإنترنت "الحاخام ساسون كدوري،
ومثله الكثيرون من قادة الطائفة الأثرياء لم يرغبوا في الهجرة لأرض إسرائيل، لأن
هذه الخطوة كانت مرتبطة بفقدان ممتلكاتهم من العقارات وغلق مشاريع مثل البنوك
وأعمال الصرافة التي لا يمكنها التواجد في أرض إسرائيل".
الاحتقار الذي شعر به الصهاينة ضد اليهود البرجوازيين
والكوزموبوليتانيين هؤلاء تجذر جيداً أيضاً في نفوس المبعوثين الصهاينة المولودين
في العراق. كتب شلومو هالال، المولود في العراق، أنه أحبط لدى مرأى اليهود
المدينيين، العلمانيين والفاسدين في بغداد. في مقابل هذا، وصف هالال طائفة اليهود
الأكراد الساكنين في شمال العراق بأنها "المكان الوحيد الذي يحتوي ملامح
إنسانية لليهودية" (من نفس المقال لإستر مئير). نجد نفسنا أمام نفس التكتيك للتطويق انطلاقاً
من الضواحي الفقيرة وقطع رأس الطائفة.
دائماً ما يأسر الحسم المتعصب ألباب الشباب، وهنا في هذه
الحالة أيضاً تمرد شباب الطائفة، الذين ارتبطوا بوكلاء جاؤوا من أرض إسرائيل،
ورفضوا القيادة التقليدية للطائفة اليهودية. في رمز للإذلال والاحتقار هاجم الشباب
الصهاينة الحاخام ساسون كدوري في الشارع [في العراق] ورموا قلنسوته على الأرض.
علامات استبدال القيادة نراها حتى اليوم لدى الطوائف اليهودية الشرقية. كانت
للقيادة الدينية دائماً شرعية تحت الصهيونية (سك البروفيسور يهودا سنهاف مفهوم
"تديين"، لوصف العملية التي فرضها الصهاينة على اليهود الشرقيين)، فقط
بشرط ألا تنشغل بالسياسة. أحياناً، مثلما في المغرب، تعاون القادة الدينيون مع
الصهاينة على أمل أن تحافظ الصهيونية على الشباب تحت جناح الدين، ولهذا، كان هؤلاء
هم القادة الدينيون الذين تعافوا في إسرائيل مع مرور السنوات، استردوا قيادة
طوائفهم، بل ودخلوا السياسة كممثلين عن الدين. القيادة العلمانية [الشرقية] كانت هي من لم تتعاف، وكذلك مسؤولون ومعهم يساريون وشيوعيون كثر. والذين تحولوا إلى قياصرة مبعدين
في ممالك خاوية، ولم تقم لهم قائمة فيما بعد. هاجروا إلى بلدان عدوا فيها رعايا
مثل إنجلترا وفرنسا وكذلك الولايات المتحدة. في الحقيقة، كان هؤلاء القادة
العلمانيين الأواخر لطائفة اليهود الشرقيون. من لحظة هجرتهم لإسرائيل توقف اليهود
الشرقيون عن تقلد الوظائف الأكبر في الثقافة، الاقتصاد والسياسة، وفقدوا وضعهم
كنخبة. لهذا، فتسمية "النخب الجديدة" التي تنضح بالجهل المتذلل للنخبة
المؤسسة الجديدة القائمة في إسرائيل، تنثر الملح على جروح هؤلاء وذاكرتهم الطويلة.
نحن لسنا نخبة جديدة وإنما قديمة، قديمة جداً وسُلبت قوتها.
يصعب على الإسرائيليين استيعاب وجهة النظر هذه. من ولد
هنا، شرقياً كان أو إشكنازياً، كبر بصحبة صورة ذاتية مرغوبة للإشكنازيين بوصفهم طبقات
السلطة المستقرة من قديم الأزل، والعاملة لصالح كل الشعب، بضبط نفس شعوري،
عقلانية، مسئولية، اعتدال، نضج، هدوء وتهذيب. عندما نرضع أوصافاً تجميلية وتحسينية
طول الحياة في المدرسة، في الكتابات والحيز العام الإسرائيلي، يصبح من الصعب رؤية
الصهيونية الإشكنازية كما هي: أيديولوجيا متعصبة للثوريين. هذه الصورة تُنسب بشكل
عام للمستوطنين منذ 67، فقط لهم. واقع الحياة اليومية الصهيونية هو في جوهره واقع
من الاقتحام العدواني – عدم الحساسية، الاستهانة بحيز الفرد الآخر.
ولكن في الخطاب الصهيوني يتم إسقاط هذه التصورات واختزالها فجأة على تقاليد
اليهودي الشرقي في إسرائيل. هذا الإسقاط يشيع أيضاً لدى نشطاء شرقيين وهم لا
ينشغلون الآن إلا به.
ثمة فيلم
أنتجه الهستدروت الصهيوني عن يهود المغرب عام 1963
وأخرجه أرنان تسفرير. الفيلم يثير الاهتمام بشكل خاص فيما يتعلق بهذا التفاعل بين
الشرقيين الصهاينة وبين الهوية الشرقية. نص الفيلم كتبه الأديب أ. ب. يهوشواع، وهو
يهودي شرقي متحول يعد نفسه متعصباً صهيونياً. يعكس الفيلم بوضوح كيف يؤخذ من طائفة
ما صوتها. لا يتم إجراء لقاءات في الفيلم مع المتحدثين باسم الطائفة كما هو شائع
في العمل الصحفي عندما نصل لطائفة غير معروفة. في الواقع، لا يتم إجراء لقاءات مع
أحد. يقرأ المذيع ببساطة كلمات يهوشواع، الذي اجتهد وكتب حواراً متخيلاً بين اثنين
يتم تصويرهما في الفيلم. إلى هذه الدرجة تصل
الهيمنة الأيديولوجية في الفيلم. أصوات الطائفة نفسها غير مسموعة إلا في
الصلوات، الموسيقى والأغاني. وأحيانا ضجة، خليط من أصوات السوق، ومرة واحدة نسمع تسجيلاً
لكلمة "أرض إسرائيل" يقولها شخص لمحاوره. جملة واحدة تلخص علاقة يهوشواع
بيهود الشرق، عندما يتطرق النص لليهود الذين تبعوا المبعوثين الصهاينة إلى أرض
إسرائيل، يقول الصوت: "كأطفال يقدمون أنفسهم إلى أيدي الشباب الأجانب". هاهو القطيع، وهاهو
الراعي المخلص. حياتنا تحت جناح الصهيونية هي عملية إنقاذ عسكري لا نهائي متواصل
حتى اليوم للمخلِصين والمخلَصين.
مما يثير الاهتمام أن هذا
الفيلم نُفذ في صيغة قصيرة أخرى
من أجل جمهور المساهمين الأمريكيين، وكان هذه المرة مصحوباً بنص
مختلف يقرأه هربرت فريدمان من الحملة اليهودية الأمريكية لجمع التبرعات. يبدأ
الفيلم بمشاهد جانبية لمدينة كازابلانكا تم قطعها من الفيلم الإسرائيلي. في مقابل
هذا يبدأ الفيلم الإسرائيلي بصورة لقبور مهمَلة للآباء. في الفيلم الأمريكي هناك
ثقة ممنوحة ليهود أمريكا الذين ساهموا مادياً من أجل إمداد يهود المغرب بالتعليم،
الأدوية، والطعام، حتى في أيام الحرب العالمية الثانية، وثمة مشاهد تستعجل يهود أمريكا لمواصلة المساهمة. هناك أيضاً تلميح للتوتر الذي جاءت به الصهيونية
إلى العلاقات بين اليهود والعرب، ولكن هناك أيضاً وصف للعلاقات الطيبة بين اليهود
والعرب في جبال الأطلس، هذا بينما الصور عن العرب في الفيلم الإسرائيلي هي سلبية فقط، كمدبري مكائد، وليس ثمة ثقة ممنوحة ليهود
العالم الذين مولوا بسخاء الدولة الصهيونية وأنشطتها، بما فيها هذا النشاط. وإنما فقط
الإعلاء من شأن المبعوثين الصهاينة والصهيونية.
من
فرط ضبابية وتشظي التاريخ الشرقي يصعب رؤية حقيقتين. الأولى هي أن الطوائف
اليهودية في العالم كانت تعمل دائماً في تضامن، ساعدت الواحدة منهم الأخرى ودعمتها
بسخاء، قبل أن يربي هرتسل لحيته بوقت طويل. وهكذا اعتمدت الحركة الصهيونية أيضاً
بشكل ثقيل على طاولة الأسخياء قبل أن تبدأ ببيع الهاي- تك والسلاح. هذا التضامن
بين اليهود في أنحاء العالم الذي ساد على مدار الأجيال لا يشار إليه تقريباً.
أموال المساعدة الممنوحة للاجئين اليهود من الشرق ومن أوروبا بعد الهولوكست تقدم
دائماً وكأنها خرجت من خزانة الاستيطان اليهودي [في فلسطين] ثم من خزانة الدولة.
ولكن في الواقع فمساعدات يهود
العالم والتي خصصت لدعم اللاجئين اليهود هي التي مولت الاستيطان اليهودي في
البلاد. الحقيقة الثانية أن كثيراً من يهود الشرق مُنحوا مواطنة فرنسية وإنجليزية،
بل وإيطالية، ولهذا كان لديهم دائماً مكان يذهبون إليه على عكس يهود شرق أوروبا
الذي لاقوا صعوبة في العودة لبلدانهم بعد الهولوكست ولم تُفتح أبواب الدول الغربية
لهم إلا بالقطارة. في الحيز العام الإسرائيلي ليس هناك استبطان لهذه المعلومة
ولازالت جمل كاذبة عن إنقاذ الصهاينة ليهود الشرق في الكتب الدراسية هي غذاء أطفال
إسرائيل. ما العجب أن يرسل أي ذي أنف سائل مثل أوري أورباخ أو نفتالي بينت [من حزب
البيت اليهودي] حتى اليوم رجالهما للقيام بدور أصحاب البيوت في المدن الشرقية-
الروسية (المعروفة باسم مدن التطوير
رغم أنها لم يكن مقرراً لها التطوير في الحقيقة)؟
يصعب إذن الزعم أن الفيلم الصهيوني ليهوشواع معدّ وفق
النظرة المعيارية للأفلام الوثائقية في هذه الأيام. لو أخذنا نموذجاً تقريراً من التلفزيون الفرنسي من معسكر الانتقال في مارسيليا في هذه السنة بالضبط سنكتشف
للعجب العجاب أن "الأطفال" تعلموا الكلام خلال عدة أيام. وليس فقط أنهم
تعلموا الكلام، وإنما أصبحت لديهم أشياء قاسية يقولونها ضد النظام في إسرائيل. في ريبورتاج ساحر آخر، يعود على ما يبدو إلى 62-63، وقدمه التليفزيون الفرنسي
عن يهود الجزائر الذين وصلوا مدينة أشدود [في إسرائيل]، يتحدث رجال الطائفة باللغة
الفرنسية بهدوء ويحاذرون من نقد بلدهم الجديد. فقط الطبيب المثقف يعبر بشكل حاد
ويشرح لماذا غادر إسرائيل. السبب الأساسي هو الاحتقار الذي شعر به موجهاً ضده ممن
يسميهم "اليهود الغربيون". نعم، حدد الطبيب الجزائري ما يفصل بينه وبين
هؤلاء الذين تركهم خلفه في إسرائيل. اليهودي الشرقي في المنفى هو هذا الذي لا يريد
العيش في مهانة وإذلال موجهين لأبناء طائفته في إسرائيل. كم هو مثير للسخرية أن
الصهيونية تتحدث كثيراً عن انتصاب القامة، ولكنها في الواقع تعمل بلا هوادة على
خلق إنسان محني القامة. نجح هذا بدرجة أقل مع الفلسطينيين، ولكن النجاح كان أكبر
مع اليهود الشرقيين.
ج- أين اختفى إحساسنا بالسيادة؟
انظروا لصورة القائد اليهودي السير يحزقئيل ساسون، وزير المالية الأول للعراق وأبي البرلمان العراقي،
وصور عائلته، وقولوا هل رأيتم مهابة ونبالة كتلك لدى قادة سياسيين شرقيين في
إسرائيل؟ اقرأوا الأوصاف الخبيثة التي قام المبعوثون الصهاينة بلصقها بقادة المنفى
وليكن لديكم تصور لما حدث لطوائفهم لدى وصولهم دولة الصهاينة.
|
يحزقئيل ساسون |
ما يميزنا، نحن يهود الشرق في إسرائيل، عن أبناء طائفتنا
التي هاجرت للبلدان الغربية ليس فقط أن من سافروا إلى هناك كانوا بعضاً من أبناء
نخبتنا، وليس فقط النجاح المدوخ لهؤلاء الناس في جميع مجالات الثقافة، العلوم،
الفن، السياسة، والنضال من أجل حقوق الإنسان، مما يضعهم في الصف الاجتماعي الأول في
بلدانهم الجديدة. وإنما أن هناك، في بلدان الغرب، والتي يشيع فيها النموذج العالمي
للمساواة، نجح هؤلاء في الحفاظ بداخلهم على إحساسهم بالسيادة والمهابة الذي أخذوه
معهم في الحقيبة من بلدان الشرق.
لنأخذ البروفيسور دافيد أسولين ((David Assouline
نموذجاً، وهو عضو البرلمان الفرنسي والمتحدث باسم الحزب الاشتراكي، ومهتم بالتقدم
التكنولوجي ونشط في النضال من أجل الزواج المثلي. أخرج البروفيسور أسولين أيضاً فيلماً اسمه "الأرض الموعودة" وفيه يصف رحلته للبحث عن جذوره في المغرب وإسرائيل. من
بين من يستضيفهم أبناء عائلته في أشدود والذين يحكون له عن وادي صليب وعن الفهود
السود. وفق النضال الشرقي الجديد، فالبروفيسور أسولين "متشكنز"،
لأنه مع "قيم الإنسانية العالمية، حقوق الإنسان، الشيوعية أو الليبرالية التي
تأتي كلها من الغرب وتتوجه إلى الغرب". ليس مهماً أن اليهود الشرقيين كانوا
في اليسار قبل أن يروا صهيونياً إشكنازياً واحداً في حياتهم، واسألوا عن أفراهام
تسرفاتي وسيمون ليفي المغربيين وعن يهودا صديق وساسون دلال اللذين أعدما بتهمة
الشيوعية على يد السلطات العراقية. نسي اليهود الشرقيون في إسرائيل تماماً أن
الإشكنازيين في إسرائيل مروا أصلاً بعملية تحديث، وأن أغلب الإشكنازيين في إسرائيل
هم يمينيون ضيقو الأفق، بعيدون بعد السنوات الضوئية عن البروفيسور أسولين.
وما هو الطبيعي بالنسبة لنا، نحن الشرقيين في إسرائيل،
وفق الموضة الجديدة؟ يبدو أنها قيادة على غرار عضوة الكنيست [المتعصبة وعضوة
الليكود من أصول مغربية، والمتحدثة سابقاً باسم الجيش الإسرائيلي] ميري ريجِف.
هكذا تكتب الصحفية عنات سرجوستي، التي تحاول على قدر الإمكان أن تربط نفسها بموضة إعادة
التعيين الجديدة من أجل الدفاع عن السياسية ميري ريجف ولإقناع قرائها، لأن ريجف
فقط "تعبر عن بلدها الأم، المكان الذي جاءت منه. هي تبالغ في شعبويتها. هذا
هو توصيفها. وهي كسبته بإخلاص. يمكن بسهولة القول إن ميري ريجِف هي "فريحة"،
بالمعنى الثقافي للكلمة. هي ستريوتايب وتفخر بهذا. وهي تحظى بدعم واسع".
هذه الكلمات تقولها صحفية غير محسوبة باعتبارها أحد
محتقري اليهود الشرقيين. وما هو المكان الذي جاءت منه عضوة الكنيست ريجف؟ هل أن هامشية
مدن التطوير، حيث كبرت في إسرائيل، وهامشية مكانة أبويها في إسرائيل، مارسيل
وفليكس سيبوني، هما مكانها الطبيعي؟ ماذا نعرف عن وضع عائلتها في المغرب؟ لو كانت
قد كبرت في فرنسا، هل كان ثمة احتمال لأن تخدم كمتحدثة للجيش الفرنسي وتنضم لماري
لوبان؟ احتمال واه للغاية. وهل حدثت الهجرة لإسرائيل من فترة غير قصيرة، وأصبحت
كريات جت المكان الطبيعي لليهود الشرقيين؟ كيف حدث أن عضو البرلمان أسولين المثقف
اليساري الذي خرج للدفاع عن المسلمين في بلده ليس طبيعياً بالنسبة لنا، أما عضوة
الكنيست ريجف، الصهيونية الملتزمة، و"الشعبوية بطبعها"، وفق سرجوستي هي
الطبيعية؟ بالنسبة لقطاع من الأصوات بين الشرقيين فالنشط الجديد، الشخص الشعبوي هو
اليهودي الشرقي "الأصيل"، وهو نقيض المتشكنز الذي يبدو مزيفاً.
شخصية من برنامج الواقع تتوج بوصفها "الأصيلة
الشرقية" (عيناف بوبليل هي الشرقية الأولى التي لديكم)
على يد مثقف شرقي في مقال مليء بالاحتقار للذات، ويحظى بالمديح في هذا الموقع.
ولكن في الواقع فـ"الأصالة الشرقية"، يختارها لهذه الوظيفة معدو
التليفزيون التجاري. كيف أن من يقررون الذوق التجاري يتحولون لعارضين مخلصين
للأصالة الشرقية؟
|
من مسلسل "شعبوية" الإسرائيلي |
في
مقابل هذا، فلو أخذنا مسلسلاً رائجاً أخر، وهو مسلسل "شعبوية" للمخرج
ناؤور تسيون، الذي عانى التنديدات من نشطاء شرقيين، سنجد أن ليس هناك فارقاً أبداً
بين الشرقي الجديد والشرقي الانهزامي. المسلسل يتتبع تقلبات حياة شابات شرقيات من
الضاحية يحاولن التأقلم مع المجتمع
"الراقي"، "التل أبيبي"، "الإشكنازي". ولكن يا
خسارة، لأن تسيون على الفور سيلاحظ سلوكياتهن التي ستكشف، بلغته، عن الأصول
الشرقية لهؤلاء الفتيات المتشبهات بالمجتمع الراقي، واللاتي يسميهن فريحات خفيات.
حتى الشرقي الجديد يؤمن أن السلوكيات الشعبية تحدد اليهودي الشرقي وتكشف عنه وفق
كلامه، ولهذا فهو يخرجهن من الصندوق.
لو
أخذنا كلمة "تشكنُز" كمقياس، سنجد أنها أخذت في الانتفاخ مع السنوات،
حتى أصبحت لدى شرقيين بعينهم، ومن ضمنهم نشطاء، اسماً مثالياً مرادفاً للتغريب
الحداثي، لحقوق الإنسان، للأخلاق الرفيعة والتعليم. مسيرة هذا الانتفاخ تعرض علينا
ستائر النسيان التي أسدلت على ما كناه.
وفق أورنا ساسون ليفي وآفي شوشانا، فكلمة
"تشكنز"، تستخدم للإشارة إلى عبور (passing) من جوهر محدد إلى جوهر غير محدد، عبور للمجموعة الحاكمة
وتلقي قيمها. وما هي هذه القيم؟ في خيال نشطاء شرقيين فالإشكنازيون تحولوا إلى بيض
بروتستانت أنجلوساكسون كاملين. كأن معنى أن تكون يهودياً شرقياً بالتعريف لا يشتمل
في المئة وخمسين عاماً الأخيرة على ثقافة الغرب. كأنما معنى أن تكون يهودياً
شرقياً هو النقيض من أن تكون غربياً. نسينا بالفعل أن الأمر يتعلق هنا فقط بتقسيمة
سياسية محلية. بشكل مشابه يوصي كاتب المقالات والنشط الشرقي، بن درود يميني،
اليهود الشرقيين بأن "يتقبلوا قيم الغرب ويتشكنزوا".
على خلاف إضفاء هذه الهالة على الإشكنازيين، فمن الواضح،
وفق الفيلم الوثائقي When Jews Were Funny" "
الذي تجرى فيه لقاءات مع كوميديين
يهود عجائز في الولايات المتحدة، أن معرفة من هو اليهودي تتم عن طريق تمييز شخص ما
بسلوكيات تنتمي للعوام مثل الأكل بفم مفتوح (58:30)، مقاطعة
الحوار، التلويح باليدين، الكلام بصوت عال وبسرعة (55:58).
هكذا، فاليهود هم أولئك الذين يقولون علناً أشياء تجعل الأغيار، البيض البروتستانت
الأنجلو ساكسون، يرفعون حاجباً وينظرون إليهم في دهشة.
هناك
مفهومان خطيران لتزايد قوة مصطلح "التشكنز"
في الوعي الجمعي الشرقي: الأول هو أن التعليم العالي واستهلاك الثقافة مكتوبان
باسم الإشكنازيين حصراً، هذا رغم أن أغلب الطوائف اليهودية في شرق أوروبا هي من
حاربت، حتى فترة الهولوكست، بتعصب ضد التعليم، وهو ما لم يحدث لدى يهود الشرق
الذين لم يروا تعارضاً بين التحديث وبين التدين. في الواقع، فقد كان حاخامات يهود
الشرق هم من تبنوا بتعاطف التعليم الحديث الغربي وأرسلوا أولادهم للجامعات وليس
للمدارس الدينية.
المفهوم الثاني هو أنه إذا كان معنى الحصول على التعليم
واستهلاك الثقافة المعدودة رفيعة هو التشكنز، فأي مثقف شرقي هو بالضرورة متشكنز. كنت
قد استقرأت سابقاً وضع الشرقي الجديد وهو يعبر باستخفاف ضد مثقفين شرقيين ويصفهم
بالمتشكنزين لأنهم أساتذة في الجامعة، ويواصل في الحقيقة الفعل الصهيو-إشكنازي
بتصفية النخبة الشرقية، وهذه المرة على يد شرقيين "واعين".
واضح أن الشرقيين الجدد يشبهون بشكل مفاجئ الشرقيين
الصهاينة القدامى على غرار [لرئيس الأسبق من أصول مغربية] موشيه كتساف، [عضو
الكنيست السابق من أصول مغربي] مئير شطريت و[رئيسة الكنيست السابقة من أصول
عراقية] داليا إيتسيك. المعسكران مستعبدان لصالح إضفاء هالة على الإشكنازيين
ولصالح الرغبة في الانضمام لنظام قديم. كل واحد بطريقته. يتذلل كتساف إليهم بشكل
مباشر بأسلوب "كل إسرائيل إخوة"، بدون أن ينطق مفهومي "شرقي" و"إشكنازي"،
أما الشرقي الجديد الواعي بنفسه وفق كلامه، فيغرق الأرض بكلمات "شرقي –
إشكنازي – متشكنز"، أي يحتج ويشتم، ولكنه يواصل تقبل الصورة السلبية عنه باعتبارها
شيئاً بديهياً في احتجاجه، وفي الواقع يواصل استنكار ذاته والتزلف ("العرص هو
شيء حقيقي"، "الإشكنازيون يسمعون موسيقى الجاز بالبيت"). هذه
المحاولة لأن يعجب العاطفيين وأن يتزلف بدون محاربة الشر بشكل حقيقي، تصدّق في
الواقع على تقسيم الموارد في إسرائيل وفق معايير إثنية. كنت قد أدركت في الماضي
ألا فائدة من من توعية الطبقة الحاكمة بكونها إشكنازية. الانشغال بهذا ليس إلا
صرفاً تافهاً للأنظار واستنساخ للمشكلة في مكان غير ذي موضوع.
هناك تشابه واضح بين الاستراتيجية الشرقية الجديدة وبين
استراتيجية سندريلا التي جاءت من المعبرة، من بيت موشيه كتساف. وفق هذه الاستراتيجية
المحببة بشدة لدى وسائل الإعلام والمؤسسة في إسرائيل، فالشرقي المجنّد يبرز
خصوصيته ضد كل سائر الشرقيين من "المعبرة". أسطورة السندريلا الشرقية تغازل
بشدة المؤسسة الإسرائيلية والصحافة وتمنحك إمكانية أن تبدو ليبرالياً متفتحاً بثمن
بخس يبلغ عدة فصوص زجاجية. السياسي مئير شطريت يحب أن يحكي كيف وصل من سرير
الوكالة في المعبرة إلى رئاسة الوكالة اليهودية. يحسن تعريف رحلة التنقل
الاجتماعية من أجل الشرقيين في إسرائيل. الأمر يتعلق بمناطق محددة جيداً غير خطيرة
أبداً على مناطق الهيمنة في إسرائيل.
قد يكون الأديب أ. ب. يهوشواع بالتحديد، وفي خطاب
"الرعاع" الذي ألقاه عام 81ـ، أن يكون النموذج الأكثر تطرفاً لليهودي
الشرقي المنتقل للمعسكر الآخر. في هذا الخطاب يتطرق يهوشواع إلى جماعته الإثنية
[هو اليهودي الشرقي] بوصفهم "هم- الرعاع"، أما بالنسبة لإشكنازيي حزب
مباي، فهو يخاطبهم بوصفهم "نحن". ولسبب ما، تجاوزه النقد الشرقي. حتى
لهجته الغريبة، كأنه كبر في شرق أوروبا وليس في القدس السفاردية، لم تحظ بأية غمزة
من أي ستاند-أب كوميديان. الصهيونية غير محسوبة أبداً كأنها "تشكنز"،
برغم أنها الباب الذي ينفتح على المجموعة المهيمنة. بشكل مفارق، فالشرقي الذي يحب
الثقافة الييدشية [ثقافة يهود شرق أوروبا] على سبيل المثال، لا يُحسب متشكنزاً،
لأن الخبرة في كتابات [الأديب الروسي الذي يكتب بالييدشية عن عوالم الإشكناز]
شالوم عليخم لا تحظى بثواب اجتماعي بينما التجند في وحدة صاعقة القيادة العامة
للجيش ستصعد بك عالياً في سلم التقدم الاجتماعي.
يريد أغلب اليهود الشرقيين في إسرائيل الانضمام
للصهيونية ولا يريدون الانتماء للأقلية الشرقية. الهوية الإثنية الشرقية لا تعلي
من شأن هذه المجموعة وإنما هي معلقة كحمل على رقبتها، في مقابل هذا فاعترافك بأنك
صهيوني ستجازى عليه جيداً. ليس صدفة أن حتى [الصحفي] بن درور يميني أصبح واحداً من
كبار الصهاينة فعلاً مثل أستاذه ومعلمه أ. ب. يهوشواع. كيف أمكن أن يغيب عن الخطاب
الارتباط بين الوضع السياسي للشرقيين وبين كون إسرائيل مدينة أحادية الأيديولوجيا
ويعد الوعي الأيديولوجي بين طبقتها الحاكمة من أعلى المعدلات في العالم الديمقراطي
(وفق أ. اريكسون، الباحث في الهوية، في مقال هنريت دهان كاليف "الهوية
الإسرائيلين بين المهاجرين والمخضرمين"). في إسرائيل، كانت الصهيونية هي التي
تقرر ترقية المجموعات الإثنية أو الأفراد. المواطن الذي يرفض الأيديولوجيا
الصهيونية يُدفع إلى هامش المجتمع. وأكثر من هذا، فشعلة القيادة تنتقل لكل من يثبت
الراديكالية الأيديولوجية "الرائدة" [أطلق "مصطلح
"الرواد" على أوائل المستوطنين اليهود في فلسطين]. كانت الكيبوتسات
سابقاً هي التي تقوم بهذا الدور والآن حلت محلها المستوطنات. الشرقيون كملحقين من
الدرجة الثانية للصهيونية لا يمكنهم أن يكونوا قادة. ليس بإمكانهم إلا تلقي
الإحسانات على حسب مدى قربهم من الأفانجارد القائد، مثل المستوطنين الذين يسمحون
للشرقيين اليوم بالانضمام إليهم ضد الأفانجارد السابق للكيبوتسات.
في
الواقع، فكل هذا اللغو حول الإشكنازيين والتشكنز المتخيل للأفراد، يخفي موضوعاً
أكثر جوهرية وهو أن غالبية اليهود الشرقيين في إسرائيل ليس لديهم وعي شرقي أو أي
وجهة نظر شرقية ذات معنى (ياليتها كانت موجودة!) وإنما فقط وعي صهيوني. الوعي
الشرقي حدث في الماضي، في الارتباط بين العربية واليهودية، أما الآن فالأمر يتعلق
بالانشغال الذي لا فائدة منه بتحضير الأرواح. الآن أصبح هذا مجرد خطاب إسرائيلي.
__________________________
ترجمة المقال منشورة بالأصل في موقع smartsyria، على ثلاث حلقات، 1،
2،
و3.