Sunday, 29 March 2015

كيف ساعدتني جاكلين كهنوف على فهم أبي: شبه حوار مع نتاشا أطلس




 
نتاشا أطلس
في هذا المقال الذي نشرته "هآرتس" وأريد له أساساً أن يكون حواراً كاملاً مع المغنية نتاشا أطلس التي زارت إسرائيل مؤخراً، يسترجع الصحافي الإسرائيلي – من أصول مصريّة – إيال ساجي بيزاوي ذكرياته عن أبيه، ويسترجع نصوص الكاتبة الإسرائيلية من أصولٍ مصرية هي الأخرى، جاكلين كهنوف، ويفكّر في مفهوم الشرق، ويرسم لوحة أمامنا كدنا ننساها، من ذكريات اليهود العرب في بلداننا.



كيف ساعدتني جاكلين كهنوف على فهم أبي: شبه حوار مع نتاشا أطلس


إيال ساجي بيزاوي
ت: نائل الطوخي

الحق أن هذا كان مقرراً له أن يكون حواراً عادياً. حواراً معمقاً مع المغنية نتاشا أطلس، والتي كتبتُ عنها قبل ظهورها في مهرجات "مديتَرنا.. Mediterrana" في أشدود. تأثرت للغاية استعداداً لهذا اللقاء، الذي أُجل مراراً وتكراراً بسبب الجدول المزدحم تم إعداده لها في البلاد. في نهاية الأمر تمكنا من تحديد ميعاد للحوار، فقط في الأمسية الأخيرة لوجودها هنا، قبل طيرانها عائدة لبيتها في لندن بساعات. موضوعان أساسيان أثارا اهتمامي في هذا اللقاء: الأول، أردت فهم ما الذي جعلها تكسر المقاطعة الثقافية على إسرائيل، وجعلها تقرر الظهور هنا بعد سنوات من الرفض، والثاني، أردت أن أستوضح منها إن كانت كطفلة كبرت في بلغاريا وانتقلت للسكنى في بريطانيا مرت عليها سنوات خجلت فيها من جذورها العربية. أردت معرفة إن كان لها هي أيضاً، مثلما للكثيرين من أبناء الجيل الثاني من اليهود الشرقيين في البلاد، سنوات رفضت فيها اللغة والثقافة العربيتين. هل اشتملت سيرتها الذاتية على مرحلة ما من "الاكتشاف"، أرادت فيه العودة لأصولها الثقافية التي تم إهمالها، وهل فعلاً تم إهمالها؟
ولكن أراد الله، القدر، النجوم العليا وسائر قوى الطبيعة، أن يخضع أبي للعلاج في المستشفى في وضع حرج قبل اللقاء بساعات معدودة. لم يكن يمكن تحمل زيارته في قسم العناية المركزة، بينما هو مخدر وخاضع للتنفس الصناعي. عرفت أنني أوشك على فقده في الأيام القادمة، ولم أعرف قط ماذا سأفعل بكل هذا الألم. الفكرة الفورية كانت إلغاء الحوار مع أطلس. عندها فكرت أن هذا ربما يشتت انتباهي قليلاً، وفكرت في أنني أنا بنفسي لن أستطيع التركيز في الحوار، وإذا فلا داع مطلقاً له. وعندها فكرت أن هذا أفضل من الجلوس بلا عمل في البيت وأنني بالتأكيد سأجن من الأفكار المزعجة والمخيفة. وعندها فكرت أن هذا ربما يكون غير مناسب وغير محترم. وعندها تذكرت أنه بالتأكيد سيكون راغباً أن أذهب لهذا اللقاء. وعندها انتابتني بعض الهواجس والأفكار، وفي المستشفى كان قد طُلب منا أن نخلي الغرفة لأن وقت الزيارة انتهى، ووقت اللقاء بأطلس اقترب. 
في نهاية الأمر، فمن ناحية لم ألغ الحوار ومن ناحية أخرى لم أجره بشكل حقيقي. وصلت لمكان اللقاء بنتاشا أطلس مستنزفاً ومنهكاً. كنت بلا طاقة، بلا طموح، بلا أية قدرة على التواصل، بلا تركيز، وبالأساس حزين جداً. لم أخرج جهاز التسجيل، ولا حتى الآيفون لأقوم بالتسجيل، ولا قلماً وكراساً للكتابة، ولا حتى ورقة أسئلة كنت قد أعددتها. أردت فقط الكلام. عادي، حديث إنساني. بسيطة. بدون أن أتكلم عن نفسي أكثر مما ينبغي، وبدون أن أشركها فيما يمر بعائلتي الآن. عادي، فقط الاستماع. أن أحاول الإنصات حتى.
ولكن أبي كان هناك. ليس فقط في أفكاري وأحاسيسي. كان هناك أيضاً في الكلام القليل الذي منحتني إياه أطلس نفسها (في الحقيقة في الأسئلة القليلة التي سألتها إياها)، وبشكل خاص في طريقة كلامها. بداية الحوار بيننا كانت بالعربية – المصرية. ولكنها كانت ترد على أسئلة الحوار بالإنجليزية. قالت: "أول لغتين لي كانتا الإنجليزية والفرنسية. ولدت في بروكسل وأمي بريطانية، وعلى مدار أغلب حياتي كنت أسكن في بريطانيا. العربية كانت هناك دوماً، ولكني لم أجتهد بها إلا متأخراً جداً وتعلمت الحديث بها بشكل أفضل. يمكنني أن أجيب على أسئلة الحوار بالعربية، ولكن الإنجليزية أو الفرنسية أسهل لي".
فيما يخص أبي، الذي ولد في القاهرة وهاجر للبلاد في عمر الـ18 عاماً، كانت العربية هي لغته الأم. ولكن دراسته وتعليمه كانا بالفرنسية، والتي أصبحت بمثابة لغة أم ثانية له. وهكذا، في المنافسة الخفية والجلية أحياناً التي كانت بين هاتين الأمين، كانت هناك مجالات فضل فيها الكلام بالعربية، ومجالات أخرى فضل فيها الإنجليزية، ومتأخراً أكثر انضمت العبرية أيضاً. لو أُجري حوار معه، واضح أنه سيتمكن من الكلام بالعبرية أو بالعربية، ولكن بديهي أيضاً أنه كان سيفضل الفرنسية على الاثنتين. وهو اختيار لم يكن عَرَضياً في نظري، وربما كان رمزياً أيضاً بدرجة ما. مثل تفضيل الاختيار الثالث، هذا غير الموجود في الحقيقة، الفرنسية ليست الوطن الأول، مصر، ولا الثاني، إسرائيل.
جاكلين كهنوف

"مشرقية"، هكذا وصفت الأديبة وكاتبة المقالات اليهودية المصرية جاكلين كهنوف، هذه الخلطة الثقافية التي تقع بين الشرق والغرب، بين أوروبا وبلاد العرب. كهنوف، المولودة في القاهرة عام 1917، كانت يهودية من أصل تونسي وعراقي، عاشت في بلد مسلم وعربي، واعتنت بها مربية إيطالية ومدربة إنجليزية، ودرست في مدرسة فرنسية. لم تعرف اللغة العربية إلا قليلاً (وفق كلامها فقد حدث هذا بفضل اضطرارها للكلام مع الخدم العرب في بيت طفولتها)، كانت الفرنسية لغة الأم بالنسبة لها، أما العبرية فتعلمتها مع وصولها لإسرائيل في 1954، ومع هذا فضلت كتابة مقالاتها بالإنجليزية. هذه المقالات لم تُنشر بالإنجليزية، وإنما تُرجمت إلى العبرية ونُشرت لأول مرة في مجلة "ماسا" للأدب، والتي حررها يتسحاق بتسلئيل، ثم في مجلة "كيشِت"، والتي حررها الشاعر والمترجم أهارون أمير.
احتاجت كهنوف إلى الكثير من القوة والشجاعة حتى تعلن عن نفسها في تلك السنوات بوصف "أنا مشرقية". بدا في سنوات الخمسينيات والستينيات، وهي السنوات الرئيسية التي نشطت بها، وكأن لا شيء أخاف قادة الدولة أكثر من "مشرقة" المجتمع الإسرائيلي. سبق هذا تاريخ طويل من ترسخ مفهوم "المشرق.. Levant"، والذي استعمل في الأصل كمفهوم جغرافي يصف أبناء الشرق الأدنى، وأصله في الفعل الفرنسي، lever، بمعنى "أن يعلو". أي، المكان الذي تعلو منه الشمس. ولكن سريعاً جداً تحول هذا المفهوم إلى تعبير إدانة، وفق قاموس إبن شوشان على سبيل المثال يستعمل كـ"وصف لشخص ثقافته سطحية وأخلاقه خارجية فحسب، بدون تحضر حقيقي ولا اتزان روحاني".
هذه النظرة لأبناء وبنات الشرق استولت أيضاً على القادة الصهيونيين وزعماء الدولة. منذ الثلاثينيات، عندما زار مندوب الوكالة اليهودية ناحوم فيلنسكي الطائفة اليهودية في القاهرة، كتب لرئيس الوكالة أيامها موشيه شرتوك، أن "في القاهرة يضاف لتعفن المنفي تعفن المشرق". أكثر من هذا، فقد وجد أنه من الصواب أن يحذر الصهاينة في البلاد بقوله: "حافظوا على روحكم القتالية، على فضولكم وامتنعوا عن أي تغيير من شأنه أن يجعلكم مشرقيين. لأنه من الواضح اليوم لأي مراقب موضوعي أن مشرقة أرض إسرائيل ستشير للفشل النهائي للصهيونية". وأيضاً، في الخمسينيات، مع موجات الهجرة الكبرى ليهود البلدان الإسلامية (تلك المسماة هجرة "جماهيرية") بدا أن مشرقة المجتمع الإسرائيلي تحولت لتهديد ملموس أكثر بكثير. "لا نريد أن يتحول الإسرائيليون إلى عرب"، قال دافيد بن جوريون في هذا الوقت، "من واجبنا محاربة روح المشرق الفاسدة جماعات وأفراداً، وأن نحافظ على القيم اليهودية الأصيلة كما تبلورت في المنفى".
التأثيرات الثقافية الغريبة، خليط اللغات، وتكاثر الهويات – كل هؤلاء كانوا أعداء الفكرة القومية بشكل عام، والأيديولوجيا الصهيونية بشكل خاص. أرادت هذه أن تخلق هنا هوية "طاهرة"، إسرائيلية ويهودية، كانت لونها الحاسم بالطبع هو لون يهود شرق أوروبا. أما كهنوف، المرأة الشرقية التي وصلت لتوهاً للبلاد، فقد جرؤت على قول: "هذا إثراء متبادل، يسمونه في إسرائيل ‘مشرقة‘، أنا أراه إثراء وليس إفقاراً". مقابل جيل البالماح وجيل 1948 جرؤت كهنوف على وضع جيلها، جيل المشرقيين، هؤلاء من أبناء الأقليات الذين عاشوا في بلاد إسلامية وتعلموا على ركبة الثقافة الأوروبية. في مقابل الهوية الطاهرة، التي تبدو وكأنها  بريئة من التأثير والهجنة (!)، عرضت هوية "مبقعة"، "مفتوحة على العالم المحيط بنا، كان عربياً أو غربياً. مقابل الهوية الإسرائيلية التوحيدية والمتصلبة، عرضت هوية أكثر براجماتية، سائلة، تتفكك وتتشكل من جديد في أية لحظة.
"أنا عن نفسي"، كتبت في أحد مقالاتها، "أنا مشرقية نموذجية، بمعنى أنني أقيّم بدرجة متساوية ما أخذه من الأصول الشرقية وما أصبح نصيبي من الثقافة الغربية". وأبي أيضاً كان تشكيلة كتلك بين الأصول الشرقية ونصيبه الذي حازه من الثقافة الغربية. وليس في إسرائيل، المسماة غربية، حاز لنا على نصيبه هذا، وإنما جاء به من وطنه الأول، مصر. ولم يكن يحتاج ليهود شرق أوروبا في البلاد كي يعلموه ما هي أوروبا وما هي الثقافة الغربية. كان لديه هذا في البيت. من المدرسة الثانوية الفرنسية في القاهرة، من تأثير الاستعمار البريطاني على مصر، ومن أبناء الطوائف الذين عاشوا وقتها في المدن المصرية الرئيسية، والذين كان على علاقة بهم.
يبدو أن هذه الجملة لكهنوف كانت الأكثر اقتباساً من بين كتاباتها. صحيح أنها ظلت بمثابة  أديبة هامشية، بل ومجهولة، بالنسبة لغالبية القراء الإسرائيليين، ولكن الخبراء القليلين الذين عرفوا كتاباتها وتعاطوا معها، أكثروا من الاستشهاد بهذه الجملة، كأنها خلاصة الفكرة المشرقية، التي أرادت كهنوف عرضها على دولة إسرائيل كخيار من أجل البقاء في الحيز الشرقي – المتوسطي. "الربط الأرستقراطي بين الشرق والغرب"، هكذا وصفت الصحفية نوريت برتسكي فكرة كهنوف المشرقية، وقال المترجم والناقد الأدبي يورام برونوفسكي عنها إن "قوتها تكمن في ربطها بين الشرق والغرب، جوتة مع عبد الوهاب ومع الشاعر يسرائيل فنكاس".
ولكن، في عيني، مع كل السحر الكامن في الربط المتجانس بين الشرق وبين الغرب، بين أوروبا والعرب، ومع كل غواية خيار أن نكون "هذا وذاك"، فأفكار كهنوف حول الهوية المشرقية لا تتلخص في هذا. ليس صدفة أن تكتب عنها الأديبة رونيت مطلون – وهي الوحيدة في نظري التي تعمقت حقاً في كتابات كهنوف ونجحت في فهم تركيب أفكارها- أن "إمكانية أن تكون كل شيء، يبدو معناها في أحيان كثيرة ألا تكون شيئاً في السياق المشرقي". وبالفعل، يبدو أن كهنوف في نهاية الأمر لم تشعر بانتماء كامل لأي واحدة من أنواع الهويات التي نعرفها اليوم، ولم تشعر وكأنها في بيتها بأي من محطاتها المختلفة، فلم تحس بنفسها مصرية مئة في المئة عندما عاشت هناك، ولا فرنسية عندما عاشت في باريس، ولا أمريكية عندما عاشت في شيكاغو ونيويورك، وفي نهاية الأمر ففي البلاد شعرت كأنها بقيت واقفة خارج حدود الهوية الإسرائيلية.
مثل كهنوف، أبي أيضاً شعر أنه ليس مصرياً مئة في المئة برغم أنه ولد وعاش هناك حتى سن الثامنة عشر. مثلها، ففي حالته أيضاً كان تعليمه فرنسياً في الأساس ودوماً ما كان يوجه عينيه لباريس، ومع هذا فبرغم أنه عاش فيها شهوراً معدودة، شعر كأنه غريب عنها وغير منتم. ومثلها، فأيضاً إسرائيل، وقد دفعته صهيونيته لأن يبني فيها بيته، ويؤمن بعدالة وجود هذا البيت على طول حياته، حتى هذا المكان بدا له غريباً في نهاية الأمر، وبدت ثقافته له فظة وعدوانية، بلا أي تهذيب عرفه وجاء به من تعليمه الفرنسي المخلوط بالمصرية/العربية وبالقيم اليهودية، التي حتى هي وجد صعوبة في العثور عليها هنا.
على مدار السنوات حاولت فك الشفرة وأن أشرح أبي لنفسي. وكيف يمكن فهم شخص كانت آراؤه السياسية يمينية ويشير إلى أوري أفنيري، في وقت عد فيه الأخير يساراً جذرياً، بوصفه خائناً وعدو إسرائيل؟ وكيف يمكن شرح أنه كان اشتراكياً في جوهره ويصوت لليكود، لأن روحه تقززت من اليسار الإشكنازي، قراء جريدة "هاآرتس"، والتي اشترك هو نفسه فيها منذ الخمسينيات وحتى اليوم؟ وكيف أفسر لنفسي الضربة الوحيدة التي ضربها إياني على يديّ عندما أشرت على طفل عربي في الشارع برغم علاقته المتشككة لدرجة مستفزة تجاه جيرانه؟ وكيف يمكن فهم كلماته الحاسمة، العنصرية أحياناً، عندما كان يحكي عن العرب والمسلمين على مسامعي، بينما هو نفسه يقدر ويحترم أي عربي ومسلم يلتقيه، بل وقد تبنى صديقتي الطيبة "جميلة" ورآها مثل ابنته؟ كيف يمكن التخلص من "أيديولوجيته"؟ وبشكل عام، أي نوع موقف سياسي هذا الموقف؟
على مدار السنوات حظرت أمي عليّ وعليه الكلام عن مواضيع سياسية واجتماعية، فقد كانت هذه تشتعل سريعاً جداً وتصل إلى عراك لفظي وصارم. لم أنجح أبداً في فهم كيف أن أبي، المحب للناس، يستطيع أن يخرج من فمه جملاً صدمتني كثيراً. مع السنوات بدت كأن هويته – مثل هوية كهنوف ومثل هوية يهود شرقيين كثر - إلى هذا الحد مقسمة ومشققة، فقد حمّلني بنصفه اليساري، الإنساني، المعادي للقومية، ولكي يحس بنفسه سليماً قليلاً، فقط ليُشعر نفسه قليلاً كأنه في بيته، ويتخندق في مواقف يمينية، عنصرية، منعزلة ورأسمالية، لم أصدق قط أنه يتبناها في الحقيقة، فهي لم تتسق مع شخصيته ومع جوهره كله.
فقط عندما أصبحنا نحن الاثنين مرتاحين أكثر، ونجحنا في أن يمتنع كل منا عن إشعال النقاش ونار المعركة، أصبحنا سعداء باكتشاف أن لكل الأشياء في الحقيقة أساس معين نوافق عليه. فجأة، عندما أصبح مستعداً لأن يسمع ويتكلم، وجدنا أن هناك عوامل مشتركة غير قليلة لأفكارنا المختلفة. وأصلاً بفضل عواصف النقاشات بيننا، كان كل منا يعرف جيداً أن ثمة حقائق نسبية في كلام الآخر،  وفقط بسبب سخونة المعركة والتناطح فنحن غير مستعدين الآن للاعتراف بها. وهذا الاعتراف بنسبية الحقائق لم يكن له مكان بيننا إلا عندنا تهدف مناقاشتنا فعلاً، ومن خلال محاولة ورغبة صادقين، في أن يفهم كل منا موقف الآخر. وقتها، وقتها فحسب، استطعت فهم أبي، هو مثل كهنوف، لا يريد في الحقيقة التمسك بأيديولوجيا واحدة، كاسحة، تبدو وكأنها فاعلة دوماً، ودوما ما تخدم أصحابها. هذا من وجهة نظره موقف خفيف جداً، بسيط، وغير مركب، لا يجيد التعامل مع الأوتار الدقيقة للواقع.
بعد سنوات طويلة من محاولات فهم أبي وشرحه لنفسي، وجدت أن كهنوف في مقالاتها تجيد صياغة الأشياء أفضل مني ومنه. ووجدت أنه في نظرها أيضاً، مثلما في نظر أبي، فكل حادث وحادثة يحتاجان لبلورة الموقف من جديد، من خلال التفكير في السياق الفوري. ولا يمكن لأية أيديولوجية كبيرة توفير هذا، وهي ليست إلا هروباً إلى تفكير مثالي صلب لا علاقة له أصلاً بالحياة. أما التصلب الفكري، هذا الذي لا يساوم، غير المستعد للاعتراف بوجود روايات أخرى، بديلة، فهو العدو المؤكد للهوية المشرقية. وهكذا، حتى لو كان الربط بين الشرق وبين الغرب، بين جوتة وعبد الوهاب هو أساس وجود الهوية المشرقية، ففي رأيي أن ليس هناك اقتباساً أكثر صحة ومناسبة لوصف جيل المشرقيين، من ذلك الذي صاغته كهنوف نفسها، وكانوا وفق كلامها محترمين دائماً وعرفوا جيداً أن "الإنسان، بكل عدم قيمته، أكثر أهمية من المبدأ، بكل قداسته".
وربما بسبب هذه الفكرة، لم تستطع كهنوف في نهاية الأمر استبطان الفكرة القومية بشكل حقيقي، برغم أنه واضح من كتاباتها كونها حاولت. وربما بسبب هذا، لم ينجح أبي في نهاية الأمر في أن يكون إسرائيلياً حقيقياً، برغم أنه أراد هذا جداً. وجود حقيقة واحدة ووحيدة، مطلقة ومتصلبة، تبدو دُغري وتسبارية[1]، ما تقوله في أي ظرف يبدو كما لو كان الحقيقة الوحيدة، والكلام الغارق في الغضب والحنق – كل هذه الأشياء بدت في نهاية الأمر فظة بعينيه ومناقضة للمرونة الفكرية، ولمكان وضع علامات التشكك، وللتهذيب الذي يستلزمه السياق المشرقي. على مدار السنوات، في كل مرة سافرت فيها للقاهرة كنت أتوسل إليه ليأتي معي. ولكنه كان يرفض دائماً. "لم يعد لديّ أي شيء معهم"، كان يقول لي هذا بوجه منغلق. "كنا سوياً، كان الأمر جيداً، شكراً، انفصلنا، ومن وقتها وأنا أنتمي لهذا المعسكر، لإسرائيل". دوما ما كان يكرر لي حكايته بأنه في اليوم الذي تركوا فيه القاهرة رمت الجارة المسلمة قُلة ماء من الشرفة، في فعل يرمز إلى الطرد: اذهبوا ولا تعودوا. كان يقول لي: "في هذا اليوم أقسمت ألا تطأ قدمي مصر للأبد".
ولكن عندما جاء لزيارتنا صديق مصري، كان يعمل سابقاً في السفارة المصرية في إسرائيل، وسأله عن يومه الأخير في القاهرة، انفجر في البكاء. كانت هذه هي المرة الأولى التي أراه يبكي، وانتظرت حتى يعود ويحكي مجدداً حكايته عن الجارة وقُلة الماء. بدلاً من هذا حكى أبي لهذا الصديق عن بواب البناية الذي كان يحتضنه وهو خارج بحقيبته، كيف طلب منه أن يبقوا في مصر، وكيف بكا الاثنان، الواحد على كتف الآخر. لم أسمعه قط يحكي هذه الحكاية، وبالتأكيد لم أر أبي متأثراً هكذا من قبل. عندما سألته أين اختفت قصة الجارة وقُلة مائها،  قال إن في الحقيقة فهذا حدث وهذا أيضاً حدث. ولكن علينا أن نعرف أي قصة نحكيها ومتى ولمن.
"على مدار السنوات"، قالت لي نتاشا أطلس في الحوار القصير الذي أجريته معها، "كنت أقاطع إسرائيل وأرفض المجيء هنا للظهور في حفلات. ولكن عندما عرفت شاباً فلسطينياً متزوجاُ من يهودية إسرائيلية تغير شيء ما في داخلي. فجأة، بالتحديد هذا الوعي الشخصي، العرضي، جعلني أفكر في أنني قد أحتاج لأن أسلك طريقاً آخر. سهل جداً أن تقاطع. أسهل شيء أن تقول أنا لا أريد إسرائيل ولا أريد معرفة إسرائيليين ولا أريد المجيء هنا للظهور في حفلات. وعندئذ ماذا سيحدث؟ بماذا سيفيد هذا؟" ومثل مشرقية نموذجية لخصت كلامها قائلة: "في هذا الموقف ثمة شيء ما متصلب ولا يقبل التسوية، أتشكك في أنه سيخدم الهدف. أنا ضد سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وضد الاحتلال. هذا واضح. ولكن مقاطعتي حتى اليوم لم تفد بأي شيء. ربما يكون الطريق الطريق الصحيح بالتحديد هو المجيء هنا والظهور وترديد رأيك في الموضوع. بالطبع سأدفع على هذا ثمناً باهظاً. بالتأكيد لن يمكنني معاودة الظهور في مكان مثل بيروت، وربما حتى لن أستطيع الدخول للبنان. ولكن هذا هو الثمن الذي سأضطر لدفعه. لا يمكنني القول إن هذا بالضرورة هو الشيء السليم. ولكني أعرف أنني رغبت في تجربة شيء ما آخر يختلف عن المقاطعة التي كنت أنتهجها حتى الآن".
بعد يومين من لقائي مع أطلس رحل أبي، المشرقي الأخير في حياتي. لم أتقبل جميع آرائه ورؤاه في حياته، ولا الآن أيضاً. ولكن واضح لي أنني سأظل مديناً له على شيء واحد دائماً: عن كونه علمني أن هناك "جانباً" و"جانباً آخر"، عن كونه زرع فيّ احترام الإنسان كما هو حتى لو لم أتفق معه، على أنه مكنني أكثر من مرة بالاعتراف بوجود حقائق نسبية والتعامل معها، وباختصار، على أنه منحني للأبد- مع كل أفكاره المتناقضة والمتصادمة – قليلاً من المشرقية المطلوبة لكي أعرف أن حياة الإنسان قيمتها أكبر من أية فكرة. بالتحديد في هذه الأيام، التي نتمنى فيها جميعاً العثور على المخطوفين أحياء وإنقاذهم، والتي تثور الأنفس فيها وأي كلمة تزعزع العتبات، بالتحديد في هذه الأيام أعتقد أنه يمكن التوقف للحظة ومحاولة الإصغاء للحقائق، حتى وإن لم تكن إلا نسبية، التي يقولها أيضاً الطرف الثاني. ولا يكون هذا الفعل "معادياً لإسرائيل"، وإنما العكس بالضبط. من خلال إيمان أن هذا سيؤدي لسلامة الأطفال. لأن حياتهم، وهذا ما ينبغي أن يكون في رأيي، قيمتها أكبر من أي مبدأ.
___________________________
الحوار منشور بالعربية في ملحق فلسطين الصادر عن مؤسسة السفير لعدد أيلول/ سبتمبر 2014




[1] كلمة دوغري بالعربية واردة كما هي، والتسباري هو اليهودي مولود فلسطين. صورته الذهنية تتسم بالصراحة وعدم المرونة في مقابل اليهودي غير الإسرائيلي الذي بدا في الصهيونية مائعاً وضعيفاً.

Wednesday, 18 March 2015

كيف جرى استيعاب اليهود الشرقيين في الخطاب الصهيو-إشكنازي



منذ تحول اليهود الآتين من أصول شرقية إلى قوة تصويتية لا يستهان بها في إسرائيل، وانحيازهم للأحزاب اليمينية مثل حزبي "الليكود" ثم "شاس"، حتى بدأت تلتصق بهم صورة "المتعصبين الأيديولوجيين، في مقابل اليهود من أصول أوروبية "الإشكنازيين"، الذين يتم تصورهم في الخيال الشعبي الإسرائيلي بوصفهم عقلانيين ومعتدلين. تزامن هذا مع انهيار "اليسار الإسرائيلي"، ممثلاً في سلطة حزب "مباي"، اليساري ذي الطبيعة الإشكنازية الذي ظل مهيمناً في إسرائيل حتى صعود حزب الليكود اليميني في 1977 على يد مصوتين من أصول شرقية غالباً .
هكذا وُصم اليهود الشرقيون أيضاً، من بين ما وصموا به، بأنهم "الجماهير الغفيرة لإسرائيل"، في مقابل نخبتها الإشكنازية المستنيرين الذين يصوتون لـ"مباي" و"حزب العمل" ويحبون السلام. كانت هذه هي الخطوة الأولى، أما الثانية، فكانت أن الشرقيين نفسهم استوعبوا هذا الوصم وصدّروه بصوص ذواتهم.
في هذا المقال المنشور بالأصل في موقع "هاعوكِتس"، بعنوان "نحن العاطفيون: النضال الشرقي كخادم مخلص للإعلام النيو-ليبرالي"، تفكك شوشانا جباي، الباحثة الإسرائيلية من أصول عراقية، عدداً من الأساطير المؤسسة للصراع الطائفي في إسرائيل، تفكك صورة الشرقي والإشكنازي كما تخيلها كل منهما. من هي الطائفة الأكثر "حداثة" في إسرائيل، الإشكناز أم الشرقيون؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال تعود الكاتبة، وهي إحدى مؤسسي حركة "القوس الديمقراطي الشرقي" في إسرائيل، إلى بدايات القصة، حينما التقى المبعوثين الصهاينة بممثلي الطوائف الشرقية في البلدان العربية لتجنيدهم وإقناعهم بالهجرة لإسرائيل.
تنبع أهمية المقال من كونه يلقي الضوء على تاريخ "اليهود العرب"، بعيداً عن السؤال التبسيطي حول ما إذا كانوا عملاء لإسرائيل أم عرباً وطنيين، كما يلقي الضوء على التوتر الطائفي اليوم في إسرائيل بين اليهود الإشكناز والشرقيين، كما يشرح عملية نفسية معقدة تنتهجها الجماعات المهزومة، كيف يمكن للمقموع أن يتبنى صورة قامعه عن نفسه، وكيف يمكن إحلال الصراع الرمزي، ضد التصنيفات والأنماط المسبقة، محل الصراع المادي، من أجل التوزيع العادل للموارد.

كيف جرى استيعاب اليهود الشرقيين في الخطاب الصهيو-إشكنازي
شوشانا جباي
ترجمة: نائل الطوخي

أ‌-       إعادة تعيين الشرقيين لنفسهم

عندما نبحر، نحن اليهود الشرقيين، في الشبشب داخل قصيدة آسي ديان[1]، نبتهج باستبطان الصورة السلبية التي لصقوها بنا في إسرائيل – بما يعني أننا نصنع إعادة تعيين لذواتنا reclaiming – ونتحمس للاهتمام الإعلامي [بنا]، فمن المفيد أن نتذكر أن هذا الفعل هو جله عبارة عن استسلام لصورة أبناء اللآلهة التي يريد الإشكنازيون احتكارها لأنفسهم. استسلام وخواء أيضاً، لأنه لم يتبق بنا أي شيء بخلاف نظرتهم إلينا. إعادة التعيين هذه في صيغتها الشرقية الحالية ليس خطوة واثقة بنفسها أبداً وإنما خطوة مهزومة وبائسة تدافع عن نفسها.
الأمر يتعلق بالانسحاب لنشاط طفولي -الآن، بينما الإشكنازيون مصدمون مما فعلوه لنا، فهم بسرعة شديدة سيقدمون لنا المفاتيح لإدارة الدولة، لأننا أعلنا في الإعلام أننا نحن النخبة الجديدة. وحتى هذا الحين فهم يداعبون رؤوسنا ويمنحونا القليل من الاهتمام، وها نحن سعداء وفجأة نهذي بحلم على غرار حلم مارتن لوثر كينج من أجل "شرقنة" الشعب كله بأسلوب العصر الجديد- فكيف يمكن تنفيذ قفزة عظيمة من التمرغ في الصورة السلبية إلى الأماني والادعاءات بقيادة الشعب بلا برنامج سياسي؟ ولكن حتى هذا الوقت فيا للخسارة، بينما يحسنون إلينا في عروضنا التهريجية، بل يكسبون من هذا المال، فمؤسسو الدولة وأنسالهم النيوليبراليون يواصلون التمرغ بلا عائق في عماهم النرجسي التام والتغطي بلا عائق بفانتازيا التفوق.
لهذه الظاهرة ثمة تاريخ طويل وشعبي في الحيز العام الإسرائيلي – وليس فقط في أفلام البوركاس[2]. منذ أن احتضن بيجن الشخشاخيم [لقب تحقيري يطلق على اليهود من أصول مغربية] أصبح للتوتر العرقي/ الطبقي بين الشرقيين والإشكنازيين شرعية وتم التعبير عنه علناً سواء سياسياً أو إعلامياً، ولكن بشرط أن يكون الكلام فقط عن المشاعر، عن الصور والأنماط السلبية، وليس، حاشا لله، عن برامج مرتبة لأنشطة سياسية اجتماعية اقتصادية لتغيير الوضع، "صرخة الألم"، كما سماها أحد المثرثرين حول الظاهرة في تجليها الحالي، كأن النضال السياسي الشرقي ميلودراما عاطفية تدر الدموع ويعوزها المضمون السياسي. على طريقة العالم، تحوز هذه العروض العاطفية دائماً نجاحاً قصيراً لدى الجمهور المستهدف – عاصفة صغيرة في فنجان شاي ونجاحاً طويلاً لصالح المنتصر – سواء كان هذا على هيئة سيل من الصلاحيات أو سيل من البنكنوت لأثرياء الإعلام.
يقال في حق رجال فنجان الشاي إن الشرقيين ينتصرون مجدداً في التليفزيون، في برامج الواقع، وفي برامج الواقع التي تتشبه بالوثائقي، هذه البرامج القائمة على التوتر الطائفي صاحب نسبة مشاهدة عالية في إسرائيل. ها قد احتشدنا وأرسلنا إس إم إس وهوب، انتصرنا – مع إعلان دعائي وتاج على الرأس واحتفالات براقة بالتتويج. نظراً لأننا لا نملك إمكانية الحرب والتغلب على بنى القوى القائمة في الواقع، فهيا بنا نحتفل بعوالم الوهم التليفزيوني.
بقلب متألم، لم يبق إلا مشاهدة كيف تم سحب النشطاء الشرقيين إلى هيكل المجد الإعلامي النيوليبرالي، وهم أيضاً، بالضبط مثل اليهود الشرقيين في الضواحي [في إسرائيل]، الذين يتم اختيارهم بحرص على يد فرق تليفزيون الواقع – ينشغلون فقط بالتمرغ وبالصراخ عن التصورات السلبية عن الشرقيين في عين الإشكنازيين ليس إلا، التصورات السلبية وليس الهوية، التصورات السلبية وليس التقسيم العادل للموارد. التصورات السلبية عن الشرقيين فحسب وليس الفلسطينيين أو أية جماعة أخرى مقصاة بين السكان. هذا الدفق العاطفي المتزايد من الصراخ في التليفزيون وارتفاعه في الشبكات الاجتماعية لا يسهم في تجنيد الناس للنضال ضد الظلم الهيكلي للمنظومة. 
في الإعلام المتعاطف بشكل مذهل في العقد الأخير، لا يوجد مكان الآن إلا للشخصيات العامة الشرقية الجديدة التي كرست حياتها للترويج لمشاريعها الشخصية، وللمقولات على الطريقة النيوليبرالية للأفراد الباحثين عن النجاح: "لو كنت رجلاً إشكنازياً كنت لأصبح أكثر نجاحاً". حتى الآن ليس ثمة مكان للبرامج السياسية المنظمة للشرقيين في صفحات الاقتصاد والسياسة في الجرائد، ولا مكان للنضالات الاجتماعية الجماعية وللنشطاء على الأرض، مثل هؤلاء في المعابر[3] وأطقم الإسكان الشعبي، وليس من قبيل المصادفة ألا مكان لها، ولا هو أمر عرضي أن تتردد مقولات تستخف بمن يتبنون مواقف طبقية وعالمية – لأن النضال الشرقي الثقافي الاختزالي للنشطاء النيوليبراليين والصهاينة هو من انتصر الآن.
ما هي هذه الهوية الشرقية التي نضجت في العقد الأخير في إسرائيل، وكيف يتم التعبير عن أهميتها، بخلاف الإشارة للهوية الإشكنازية في المجتمع وشتيمتها بالقول "متشكنزون"؟ هل أن هذا الانشغال بنا فحسب، وغلق العينين عن حقيقة أننا نحن اليهود الشرقيين لسنا فقط ضحايا العنصرية، وإنما شركاء كاملون كجلادين لجماعات أخرى وأن هناك جماعات أخرى مقصاة من بيننا، وفي مقدمتها الفلسطينيون، هل يشكل هذا نصراً أصلاً؟ بالمساعدة المحسنة للنيو ليبراليين الذين ورثوا سلطة مباي [حزب اليسار في الستينيات]، تم تحييد التوتر الإثني وأصبح موضوعاً ثقافياً فحسب ومعركة هزلية إعلامية مع الإشكنازيين بخصوص المكان في القمة وبخصوص حق السيطرة على الآخرين. ولكن حتى الآن مازال هناك شرقيون يحتفلون بالانتصار على مباي كأن قوائم انتخابات السلطة هي المشكلة فحسب. يتم استقبال اليد الخفية للنيوليبرالية وممثليها بمحبة غامرة بوصفها خطوة ديمقراطية، على حد قول المثرثرين: "في الموسيقى، الرياضة، الموضة والطعام هناك ديمقراطية للشرقيين".
لو أخذنا الاهتمام الكثيف الذي منحه النيوليبراليون لموسيقى الكاسيت منذ التسعينيات نموذجاً، فيبدو أنهم في الواقع تسببوا في أن تلفظ هذه الموسيقى أنفاسها وتتحول لعرض مثير للسخرية لمغنين أثرياء ومغنيي بوب أبله. ولا يزال الموسيقيون الذين يصنعون موسيقى شرقية مركبة يحاربون من أجل رزقهم الأساسي. كم عدد المستمعين اليوم للموسيقى المركبة لرافيد كحلاني، شي تسباري، وليرون عومرام، أو لعازفي الموسيقى الكلاسيكية مثل مارك إلياهو أو يائير دلال، الذين يواصلون التقاليد القديمة وبإمكانهم تغيير الموسيقى الإسرائيلية للأفضل؟ ليسوا كثيرين. الشرقيون في عهد ما بعد مباي متخمون الآن باستمتاع من أكل زبالة التلفزيون التجاري ويثرون فقط جيوب المغنين الأثرياء.
كيف يصعب علينا نحن اليهود الشرقيين أن نرى أن الأمر متعلق بالهزيمة، وأننا في الواقع انضممنا للمنتصرين واستسلمنا لاستراتيجيتهم؟ ها نحن نُحتضن ونُستقبل بتعاطف في الإعلام والسياسة، شريطة أن نكتفي بمطالب جماعتنا فقط وألا ندخل أنوفنا في مواضيع أخرى.

أنتم النخب الجديدة

استراتيجية سياسية قديمة هي، معروفة من أيام الإمبراطورية الرومانية التي قامت على منهج "فرق تسد" divide et impera). صحيح أنه حتى الآن لم تولد جماعة مقموعة في التاريخ وحدت قواها مع الجماعات التي تقع أسفل منها في السلم الاجتماعي، بهدف هزيمة الحاكم بدلاً من أخذ الغنائم في اللحظة التي يقترحونها لها، ولكن أن نسمي هذا انتصاراً؟ ثورة؟ "نحن النخب الجديدة"؟ فعلاً؟ "لماذا أنتم النخب الجديدة"، هكذا يتساءل المحاور المستمتع في التليفزيون. "لأننا نحن من نقرر معدلات المشاهدة، نحن من نقرر أسعار الإسكان (؟! – ش. ج) نحن نقرر من هو رئيس الحكومة"، يجيب الثرثار الشرقي الجديد بجدية مطلقة، وفي الواقع يختم بهذا على الصورة المرغوبة للإشكنازيين كنخبة، ودور الشرقيين بوصفهم قطيعهم الشعبي. (معدلات المشاهدة والتصويت الجمعي في صناديق الانتخاب).
الكلام الفارغ عن النخب الجديدة، يأتي سوياً مع التهديد الأبوكاليبسي معدوم الأسنان بانتفاضة الفقراء وانتفاضة الشرقيين ("سوف تحنون إليّ"). هذه الدعوات هي نكتة تافهة بشكل خاص الآن بينما أسفل السلم الاجتماعي تتكدس طبقات أكثر فقراً من الشرقيين، مثل العرب، الأثيوبيين واللاجئين المعدومين من أفريقيا. وادي صليب والفهود السود[4] كانوا من زمن طويل أما الفقراء الشرقيون في التسعينيات فقد اختاروا التوبة والتصويت لحزب شاس [الديني] احتجاجاً على أوضاعهم ولم يبادروا بانتفاضات.
لو عدنا للعقد السابق، سنجد محاولات ما للحرب ضد اختزال النضال الشرقي في أفلام البوركاس، مثلما حاول المرحوم دودي حلبي، وهو أحد مؤسسي "القوس الديمقراطي الشرقي" قوله بكلمات ثاقبة:
"أريد الزعم أن الانشغال بسؤال الهوية هو أمر مشروط. مشروط بأي معنى؟ بمعنى أن الهوية ليست مضموناً في حد ذاتها، وإنما تخدم قيماً أخلاقية مركزية، مثل الحرية، العدل، والمساواة. من هنا فإن الإخلاص الإنساني يكون للقيم".
لهذا فبدلاً من الاستسلام لغواية كل أنواع الهراء الجوهراني من عينة "نحن العاطفيون"، ينبغي تقرير بشكل حاسم أن الهوية الشرقية هي تصنيف سياسي، أو كما وصفها دودي في وقته: "تصنيف أزرق أبيض" [إسرائيليٍ]. ويضيف دودي في موضع آخر بخصوص الخطر الكامن في سياسات الهوية:
"لديّ العديد من التحفظات على سياسة الهوية، من بينها بسبب خطر الجوهرانية وحتى الأصولية المتربصة على بابها، ولكني واع أيضاً بإمكانات الاستخدام الصحيح والعقلاني التي تتيحها".
أي أن النقاش المندلع بين الشرقيين كما تمت كتابته مؤخراً يجسد صراعاً بين الهوياتيين والطبقيين، فالأمر لا يتعلق بمعارضة شاملة لسياسة الهوية، وإنما بانتقاد الانسحاب من الصراع بهدف تحقيق إصلاحات ثورية إلى سياسة نيوليبرالية انهزامية تُختزل في ألعاب الوعي، والزخارف الخارجية الكهنوتية.
لنفترض أن الحلم كان تقليد نموذج السود في الولايات المتحدة، هل يمكن تحرير ودفع اليهود الشرقيين بواسطة إعادة تعيين لذواتهم، فقط بواسطة تبني التصورات السلبية المفروضة عليهم؟ صحيح أن الثقافة السوداء الأمريكية الخاصة بنمط اللبس والموسيقى مثل الهيب هوب تحولت إلى نجاح مدوخ ونموذج للتقليد لدى الشباب من كافة أنحاء العالم، الذين يحاولون السير والكلام والتصرف مثل السود، ولكن هل حسّن هذا وضع المقموعين في الولايات المتحدة بعد هذا؟ هل توقف الشرطيون عن إطلاق النار على الشباب السود في الشوارع؟ هم يواصلون كونهم منكوحين. أي انفصال بين المستوى الثقافي والمستوى الاجتماعي/ السياسي الذي هو أساس الحياة، يتسبب في استمرار القمع.
الانسحاب لسياسة مبتذلة وسطحية للهويات والرموز يحدث الآن، خطوة بخطوة مع التدمير الذي يزرعه النيوليبراليون في البلد وفي العالم. في النيو ليبرالية، كما كان الأمر في العهد الملكي، هناك إسكات اجتماعي. السلطة قوية جداً واحتمالات النشاط السياسي العميق محدودة جداً، ناهيك عن الثورات. أيضاً تحت العهد الملكي في الماضي انسحب [النيوليبراليون] لسياسات الهوية والرموز. نرى هذا جيداً في نهاية القرن الثامن عشر في إنجلترا، التي واجهت خطر الزلازل الثورية مثل جارتها فرنسا. في فترة رد الفعل السياسي هذه نشط المحافظون من أجل تهدئة الحماس الثوري لدى الشعب وأعلنوا عن إصلاح أخلاقي – ضبط الأخلاق السيئة لدى النبالة، مثل المراهنات على الأحصنة، المعارك والتصرفات الأنانية. دور هذا المنهج الأخلاقي أن يأتي بديلاً للنقد السياسي الثوري. تعالوا لا نقطع رؤوس أولئك وإنما نحسن أخلاقهم. بالطبع حاولت النبالة الإنجليزية أن تصبح أكثر "اخلاقية"، وواصلت سرقة خزانة الدولة، إنهاء الانشغال بالديمقراطية ورفضه على مدار أربعين عاماً حتى سُن قانون الإصلاح في 1832.
بعد إقامة حركة "القوس الديمقراطي الشرقي" في التسعينيات، دُعي المخرج والفنان شلومو فازنه، والذي كان، من بين ما كانه، أحد المتحدثين باسم الحركة، إلى برنامج سياسي في التليفزيون. قال المذيع "أفهم أن لديكم أحاسيس قاسية". أجاب فازنه: "لم آت هنا للكلام عن مشاعر نفسية وإنما للمطالبة بتقسيم عادل للموارد" (أنا أقتبس من الذاكرة تقريباً، ش.ج.) مقولة فازنه تلمح للثورة التي جاءت بها في وقتها حركة القوس الديمقراطي الشرقي. بدلاً من ممارسة تكتيكات الشفقة على آلامنا التي يصرخون بها بمرارة في عاصفة المشاعر من أجل هز الطبقة الحاكمة، إيقاظ ضميرها ورحمتها، جاءت حركة القوس وقتها من خلال معرفة منظمة وطالبت بالعدالة والمساواة للجميع. أي أن القوس كان الحركة الإصلاحية التي طمحت لقيادة دمقرطة النظام الإسرائيلي بشكل عام وإعادة تنظيم المجتمع على قيم العدالة الاجتماعية.
كذلك النضال في مجال سياسة الهوية كان إصلاحياً بطبعه، لو اقتبسنا من البروفيسور يوسي يونا، وهو أحد مؤسسي القوس الديمقراطي الشرقي:
"جزء من تجليات العنصرية هي الشرقيون. نحن نريد عرض الصورة بكامل تركيبها، ولا نأخذ وجهة نظر الضحية. عندما نكتب عن العنصرية، أريد أن أن أتحمل مسئولية عن الأماكن التي أصبح فيها أنا الجلاد. نحن نوجد في مواقع قوة، أنا لا أطرق على باب العنصري وأطلب منه ألا يكون عنصرياً تجاهي، وإنما أعرض عليه المعضلة بكامل تركيبها".
على طول السنوات الأولى لحركة "القوس" اندلع صراع مرير عن جوهر النضال الشرقي. كانت نتائجه هي فقدان الخط الإصلاحي الراديكالي الذي يتضمن الملف الشرقي مع الملف الفلسطيني على حد سواء، وهو الربط الذي اشتمل على بذرة عميقة لتغيير المجتمع الإسرائيلي. انتصر الجوهرانيون والصهاينة الذين أرادوا المشاركة في منهج "فرق تسد"، وكانت النتيجة تفكك القوس وهجرة مؤسسيه. الحرب ضد السلطة القوية تضحي أمراً شديد الصعوبة عندما يتفق أغلب المحكومين، أي هؤلاء المقموعين الذين نريد تحريرهم، في الواقع مع أساس أفعال هذه السلطة. هذا النضال الذي بلا ظهير اقتصادي، فالنشطاء والناشطات يأتون من البداية من طبقات قليلة الحيلة في إسرائيل، لا يمكنه الصمود على مدار السنوات. 

ب- قياصرة مبعدون في ممالك خاوية

تثبيت النضال الشرقي وتركزه على الصور السلبية لدى الإشكنازيين بخصوصنا، يواصل في الواقع تثبيت المعبرة كخط صفري لتاريخنا ووسم وضعنا كهامشي من الأزل. في معالجة لشعار رئيس حكومتنا الأبدي، "نسينا ماذا يعني أن نكون يهوداً شرقيين[5]"، نسينا ماذا كنا هناك – في الدول الإسلامية على طول مئات السنوات – قبل أن نقوم هنا بدور الجمهور الشعبي لدولة الصهاينة.
وما الذي كانه اليهود في هذه الدول حينما لم يكونوا يذهبون للصلاة في المعبد؟ ما الذي كانوه بخلاف الاختزال الصهيوني الكامن في "اضطهدونا أم لم يضطهدونا"، وفي"هل كانت الدول الدول العربية جحيماً أم جنة عدن"؟ الإجابة أننا كنا أقلية نخبوية، العمود الفقري المديني للدول العربية، متعاونين مع الملوك ومع القوى العظمى الأوروبية على طول مئات السنوات. هذه إجابة يصعب على الكثيرين من يهود الشرق والكثيرين من النشطاء الشرقيين استيعابها. حتى وهم يطلقونها بلغة ناعمة تدافع عن نفسها فهم لا يصدقونها في الحقيقة، وإنما يصدقون فقط الصورة الإشكنازية عنهم.
مقهى يهودي في "ملاح" فاس عام 1912

لهذا، فالإجابة على الاستهزاء الثابت المعبر عنه في سؤال "كيف يمكن أن تكونوا كلكم عملتم عند الملك"، لن تكون اعتذاراً على طريقة "ولكن انظر إلى جدي، في الواقع كان خياط الملك أو طبيبه". الإجابة ستكون نعم! كلنا عملنا عند الملك ثم عند القوى العظمى الاستعمارية. هكذا قدنا حياتنا بحرص لمئات السنوات وبحثنا عن الأمن والأمان لدى السلطة. لهذا، لا يهم أبداً لو كنت خياطاً فقيراً في طرابلس أو أخذت لقب سير من الملكة فيكتوريا لأنك دفعت لها مالاً كثيراً.
نموذج مألوف آخر للمسافة بين الواقع وبين تصور اليهود الشرقيين في إسرائيل عن ذواتهم باعتبارهم "الجماهير الشعبية"، يمكن العثور عليه في الإجابة على سؤال نسبة اليهود الشرقيين بين الشعب اليهودي. الغالبية الكاسحة من الشرقيين في البلد سيردون بأن الشرقيين يمثلون أغلبية بين الشعب اليهودي! ولكن نسبة اليهود الشرقيين في الشعب اليهودي، أي مجموع اليهود في العالم، هو حوالي 20% فقط. هذه النسبة ليست مدرَكة في الوعي الإسرائيلي السائد لأنها تناقض صورة "الجماهير الشعبية" التي تحاول الهيمنة الصهيونية دفعها لنا منذ وطأت أقدامنا دولة إسرائيل. كنا أقلية في البلدان الإسلامية وظللنا أقلية في إسرائيل أيضاً. جميع اليهود الشرقيين يشعرون كأنهم أقلية في إسرائيل، أي يشعرون بعدم الانتماء للثقافة المهيمنة، ولكنهم يعتقدون خطأ أنهم يشكلون الأغلبية العددية في الدولة والشعب اليهوديين. باستثناء فترة قصيرة وحتى نهاية الثمانينيات التي شكل فيها الشرقيون حوالي 60% من تعداد السكان في إسرائيل، فإحساس أننا نشكل أغلبية حقيقية هو إحساس خاطئ. الشرقيون، بمن فيهم أغلب النشطاء الشرقيين، يحاولون الارتباط بإطار divide et impera الذي صاغ المؤسسة الصهيو-إشكنازية، وعدد قليل منهم فقط يعارضه.
الخطوة التي لم تتعاف منها الأقلية اليهودية الشرقية في إسرائيل والتي قررت مصيرها إلى اليوم، حدثت في الواقع قبل شعار "تعالوا إلى الأرض" وظلت مضببة ومسكوتاً عنها، وهي إخراج قادة الطوائف اليهودية في البلدان الإسلامية من خلال التفكيك الداخلي للطوائف بينما هم مازالوا في بلادهم الأم نتيجة لتدخل الصهاينة. لو أخذنا نموذجاً نصوص المبعوثين الصهاينة للعراق في الأربعينيات والتي تستشهد بها الباحثة إستر مئير في مقالها "عوالم متصادمة: اللقاء بين مبعوثي الاستيطان إلى يهود العراق في الأربعينيات وبداية الخمسينيات" (من مجموعة مقالاتها "بين المهاجرين والمخضرمين: إسرائيل في الهجرة الكبرى 1948-1953" والذي حررته داليا عوفار)، سنجد أن المبعوثين الصهاينة لم ينشطوا إلا بين الشباب ولم يتوجهوا أبداً إلى كبار الطائفة ولا نخبتها. صحيح أن مئير تصف هذه الخطوة الصهيونية بأنها ناتجة عن "يأس من الجيل الأكبر وإيمان بالجيل الشاب"، ولكن الأمر يتعلق بعملية استراتيجية أساسية لدى الأيديولوجيات الثورية، الثورية التي وظيفتها قطع الرؤوس.  
الحديث هو عن تصادم حدث بين قادة أقلية دينية، معتدلين وحذرين ذوي توجهات حديثة وكوزموبوليتانية، ودوماً ما شجعوا أبناء طائفتهم على الحصول على تعليم غربي حديث، وبين ثوريين أصوليين، قوميين وعنيفين. رأى المبعوثون نفسهم كمزارعين بسطاء وطبيعيين مقابل "الأغنياء الفاسدين"، "مرتدي الحلل"، على رأس اهتماماتهم هناك "صعود السلم الاجتماعي". هم "يحبون التفلسف"، كما كتب عنهم المبعوث أفيجدور مئيروف، قائد "مؤسسة الهجرة الثانية"، وهو واحد من الكبار في المنظومة الأمنية للاستيطان، رجل عرف متأخراً جداً أمراً أو اثنين عن ارتباط الموساد بمقتل المعارض المغربي مهدي بن بركة.
منظومة التمثيلات لدى هؤلاء المبعوثين الصهاينة كانت مأخوذة من حياتهم هم ومن حياة آبائهم في شرق أوروبا وقت الثورة الشيوعية. كانت النخبة اليهودية الشرقية مشابهة في نظرهم للنبالة الروسية الفاسدة التي تمت تصفيتها من أجل قيادة الشعب. وحتى لو يكن الأمر متعلقاً بتصفية بدنية مثلما في روسيا، ففي هذا الصراع التراجيدي كسب الثوريون. لم تجرؤ القيادة اليهودية المعتدلة بطبعها على معارضة المبعوثين الصهاينة، كما تقول مئير، فهؤلاء المبعوثون جاؤوا من أرض صهيون المحفوظ لها ارتباط خاص وعميق. كما أن من خلف "هؤلاء المزارعين البسطاء والطبيعيين" كانت تقف الوكالة اليهودية، والتي تصورَها قادة الطائفة الصغيرة، وفق مئير، كأنها "منظمة دولية ذات صلاحيات سياسية وكأنها قائدة الشعب اليهودي، لهذا لم يجرؤوا على مواجهتها". سبب آخر في رأي مئير كان أن شباباً كثيرين مالوا للشيوعية التي عُدت تهديداً أكبر بكثير.
بشكل عام، فالقيادة اليهودية الشرقية توصف في الإشارات القليلة إليها في الكتب المدرسية في إسرائيل بشكل ساخر وشبه معاد للسامية بأنها "سلبية"، و"تهتم بثرواتها". ها هي جملة من من تلخيص نموذجي للتلاميذ على شبكة الإنترنت "الحاخام ساسون كدوري، ومثله الكثيرون من قادة الطائفة الأثرياء لم يرغبوا في الهجرة لأرض إسرائيل، لأن هذه الخطوة كانت مرتبطة بفقدان ممتلكاتهم من العقارات وغلق مشاريع مثل البنوك وأعمال الصرافة التي لا يمكنها التواجد في أرض إسرائيل".
الاحتقار الذي شعر به الصهاينة ضد اليهود البرجوازيين والكوزموبوليتانيين هؤلاء تجذر جيداً أيضاً في نفوس المبعوثين الصهاينة المولودين في العراق. كتب شلومو هالال، المولود في العراق، أنه أحبط لدى مرأى اليهود المدينيين، العلمانيين والفاسدين في بغداد. في مقابل هذا، وصف هالال طائفة اليهود الأكراد الساكنين في شمال العراق بأنها "المكان الوحيد الذي يحتوي ملامح إنسانية لليهودية" (من نفس المقال لإستر مئير).  نجد نفسنا أمام نفس التكتيك للتطويق انطلاقاً من الضواحي الفقيرة وقطع رأس الطائفة.
دائماً ما يأسر الحسم المتعصب ألباب الشباب، وهنا في هذه الحالة أيضاً تمرد شباب الطائفة، الذين ارتبطوا بوكلاء جاؤوا من أرض إسرائيل، ورفضوا القيادة التقليدية للطائفة اليهودية. في رمز للإذلال والاحتقار هاجم الشباب الصهاينة الحاخام ساسون كدوري في الشارع [في العراق] ورموا قلنسوته على الأرض. علامات استبدال القيادة نراها حتى اليوم لدى الطوائف اليهودية الشرقية. كانت للقيادة الدينية دائماً شرعية تحت الصهيونية (سك البروفيسور يهودا سنهاف مفهوم "تديين"، لوصف العملية التي فرضها الصهاينة على اليهود الشرقيين)، فقط بشرط ألا تنشغل بالسياسة. أحياناً، مثلما في المغرب، تعاون القادة الدينيون مع الصهاينة على أمل أن تحافظ الصهيونية على الشباب تحت جناح الدين، ولهذا، كان هؤلاء هم القادة الدينيون الذين تعافوا في إسرائيل مع مرور السنوات، استردوا قيادة طوائفهم، بل ودخلوا السياسة كممثلين عن الدين. القيادة العلمانية [الشرقية] كانت هي من لم تتعاف، وكذلك مسؤولون ومعهم يساريون وشيوعيون كثر. والذين تحولوا إلى قياصرة مبعدين في ممالك خاوية، ولم تقم لهم قائمة فيما بعد. هاجروا إلى بلدان عدوا فيها رعايا مثل إنجلترا وفرنسا وكذلك الولايات المتحدة. في الحقيقة، كان هؤلاء القادة العلمانيين الأواخر لطائفة اليهود الشرقيون. من لحظة هجرتهم لإسرائيل توقف اليهود الشرقيون عن تقلد الوظائف الأكبر في الثقافة، الاقتصاد والسياسة، وفقدوا وضعهم كنخبة. لهذا، فتسمية "النخب الجديدة" التي تنضح بالجهل المتذلل للنخبة المؤسسة الجديدة القائمة في إسرائيل، تنثر الملح على جروح هؤلاء وذاكرتهم الطويلة. نحن لسنا نخبة جديدة وإنما قديمة، قديمة جداً وسُلبت قوتها.
يصعب على الإسرائيليين استيعاب وجهة النظر هذه. من ولد هنا، شرقياً كان أو إشكنازياً، كبر بصحبة صورة ذاتية مرغوبة للإشكنازيين بوصفهم طبقات السلطة المستقرة من قديم الأزل، والعاملة لصالح كل الشعب، بضبط نفس شعوري، عقلانية، مسئولية، اعتدال، نضج، هدوء وتهذيب. عندما نرضع أوصافاً تجميلية وتحسينية طول الحياة في المدرسة، في الكتابات والحيز العام الإسرائيلي، يصبح من الصعب رؤية الصهيونية الإشكنازية كما هي: أيديولوجيا متعصبة للثوريين. هذه الصورة تُنسب بشكل عام للمستوطنين منذ 67، فقط لهم. واقع الحياة اليومية الصهيونية هو في جوهره واقع من الاقتحام العدواني – عدم الحساسية، الاستهانة بحيز الفرد الآخر. ولكن في الخطاب الصهيوني يتم إسقاط هذه التصورات واختزالها فجأة على تقاليد اليهودي الشرقي في إسرائيل. هذا الإسقاط يشيع أيضاً لدى نشطاء شرقيين وهم لا ينشغلون الآن إلا به.
ثمة فيلم أنتجه الهستدروت الصهيوني عن يهود المغرب عام 1963 وأخرجه أرنان تسفرير. الفيلم يثير الاهتمام بشكل خاص فيما يتعلق بهذا التفاعل بين الشرقيين الصهاينة وبين الهوية الشرقية. نص الفيلم كتبه الأديب أ. ب. يهوشواع، وهو يهودي شرقي متحول يعد نفسه متعصباً صهيونياً. يعكس الفيلم بوضوح كيف يؤخذ من طائفة ما صوتها. لا يتم إجراء لقاءات في الفيلم مع المتحدثين باسم الطائفة كما هو شائع في العمل الصحفي عندما نصل لطائفة غير معروفة. في الواقع، لا يتم إجراء لقاءات مع أحد. يقرأ المذيع ببساطة كلمات يهوشواع، الذي اجتهد وكتب حواراً متخيلاً بين اثنين يتم تصويرهما في الفيلم. إلى هذه الدرجة تصل  الهيمنة الأيديولوجية في الفيلم. أصوات الطائفة نفسها غير مسموعة إلا في الصلوات، الموسيقى والأغاني. وأحيانا ضجة، خليط من أصوات السوق، ومرة واحدة نسمع تسجيلاً لكلمة "أرض إسرائيل" يقولها شخص لمحاوره. جملة واحدة تلخص علاقة يهوشواع بيهود الشرق، عندما يتطرق النص لليهود الذين تبعوا المبعوثين الصهاينة إلى أرض إسرائيل، يقول الصوت: "كأطفال يقدمون أنفسهم إلى أيدي الشباب الأجانب". هاهو القطيع، وهاهو الراعي المخلص. حياتنا تحت جناح الصهيونية هي عملية إنقاذ عسكري لا نهائي متواصل حتى اليوم للمخلِصين والمخلَصين.
مما يثير الاهتمام أن هذا الفيلم نُفذ في صيغة قصيرة أخرى من أجل جمهور المساهمين الأمريكيين، وكان هذه المرة مصحوباً بنص مختلف يقرأه هربرت فريدمان من الحملة اليهودية الأمريكية لجمع التبرعات. يبدأ الفيلم بمشاهد جانبية لمدينة كازابلانكا تم قطعها من الفيلم الإسرائيلي. في مقابل هذا يبدأ الفيلم الإسرائيلي بصورة لقبور مهمَلة للآباء. في الفيلم الأمريكي هناك ثقة ممنوحة ليهود أمريكا الذين ساهموا مادياً من أجل إمداد يهود المغرب بالتعليم، الأدوية، والطعام، حتى في أيام الحرب العالمية الثانية، وثمة مشاهد تستعجل يهود أمريكا لمواصلة المساهمة. هناك أيضاً تلميح للتوتر الذي جاءت به الصهيونية إلى العلاقات بين اليهود والعرب، ولكن هناك أيضاً وصف للعلاقات الطيبة بين اليهود والعرب في جبال الأطلس، هذا بينما الصور عن العرب في الفيلم الإسرائيلي هي سلبية فقط، كمدبري مكائد، وليس ثمة ثقة ممنوحة ليهود العالم الذين مولوا بسخاء الدولة الصهيونية وأنشطتها، بما فيها هذا النشاط. وإنما فقط الإعلاء من شأن المبعوثين الصهاينة والصهيونية.
من فرط ضبابية وتشظي التاريخ الشرقي يصعب رؤية حقيقتين. الأولى هي أن الطوائف اليهودية في العالم كانت تعمل دائماً في تضامن، ساعدت الواحدة منهم الأخرى ودعمتها بسخاء، قبل أن يربي هرتسل لحيته بوقت طويل. وهكذا اعتمدت الحركة الصهيونية أيضاً بشكل ثقيل على طاولة الأسخياء قبل أن تبدأ ببيع الهاي- تك والسلاح. هذا التضامن بين اليهود في أنحاء العالم الذي ساد على مدار الأجيال لا يشار إليه تقريباً. أموال المساعدة الممنوحة للاجئين اليهود من الشرق ومن أوروبا بعد الهولوكست تقدم دائماً وكأنها خرجت من خزانة الاستيطان اليهودي [في فلسطين] ثم من خزانة الدولة. ولكن في الواقع فمساعدات يهود العالم والتي خصصت لدعم اللاجئين اليهود هي التي مولت الاستيطان اليهودي في البلاد. الحقيقة الثانية أن كثيراً من يهود الشرق مُنحوا مواطنة فرنسية وإنجليزية، بل وإيطالية، ولهذا كان لديهم دائماً مكان يذهبون إليه على عكس يهود شرق أوروبا الذي لاقوا صعوبة في العودة لبلدانهم بعد الهولوكست ولم تُفتح أبواب الدول الغربية لهم إلا بالقطارة. في الحيز العام الإسرائيلي ليس هناك استبطان لهذه المعلومة ولازالت جمل كاذبة عن إنقاذ الصهاينة ليهود الشرق في الكتب الدراسية هي غذاء أطفال إسرائيل. ما العجب أن يرسل أي ذي أنف سائل مثل أوري أورباخ أو نفتالي بينت [من حزب البيت اليهودي] حتى اليوم رجالهما للقيام بدور أصحاب البيوت في المدن الشرقية- الروسية (المعروفة باسم مدن التطوير[6] رغم أنها لم يكن مقرراً لها التطوير في الحقيقة)؟
يصعب إذن الزعم أن الفيلم الصهيوني ليهوشواع معدّ وفق النظرة المعيارية للأفلام الوثائقية في هذه الأيام. لو أخذنا نموذجاً تقريراً من التلفزيون الفرنسي من معسكر الانتقال في مارسيليا في هذه السنة بالضبط سنكتشف للعجب العجاب أن "الأطفال" تعلموا الكلام خلال عدة أيام. وليس فقط أنهم تعلموا الكلام، وإنما أصبحت لديهم أشياء قاسية يقولونها ضد النظام في إسرائيل. في ريبورتاج ساحر آخر، يعود على ما يبدو إلى 62-63، وقدمه التليفزيون الفرنسي عن يهود الجزائر الذين وصلوا مدينة أشدود [في إسرائيل]، يتحدث رجال الطائفة باللغة الفرنسية بهدوء ويحاذرون من نقد بلدهم الجديد. فقط الطبيب المثقف يعبر بشكل حاد ويشرح لماذا غادر إسرائيل. السبب الأساسي هو الاحتقار الذي شعر به موجهاً ضده ممن يسميهم "اليهود الغربيون". نعم، حدد الطبيب الجزائري ما يفصل بينه وبين هؤلاء الذين تركهم خلفه في إسرائيل. اليهودي الشرقي في المنفى هو هذا الذي لا يريد العيش في مهانة وإذلال موجهين لأبناء طائفته في إسرائيل. كم هو مثير للسخرية أن الصهيونية تتحدث كثيراً عن انتصاب القامة، ولكنها في الواقع تعمل بلا هوادة على خلق إنسان محني القامة. نجح هذا بدرجة أقل مع الفلسطينيين، ولكن النجاح كان أكبر مع اليهود الشرقيين.

ج- أين اختفى إحساسنا بالسيادة؟

انظروا لصورة القائد اليهودي السير  يحزقئيل ساسون، وزير المالية الأول للعراق وأبي البرلمان العراقي، وصور عائلته، وقولوا هل رأيتم مهابة ونبالة كتلك لدى قادة سياسيين شرقيين في إسرائيل؟ اقرأوا الأوصاف الخبيثة التي قام المبعوثون الصهاينة بلصقها بقادة المنفى وليكن لديكم تصور لما حدث لطوائفهم لدى وصولهم دولة الصهاينة.
يحزقئيل ساسون

ما يميزنا، نحن يهود الشرق في إسرائيل، عن أبناء طائفتنا التي هاجرت للبلدان الغربية ليس فقط أن من سافروا إلى هناك كانوا بعضاً من أبناء نخبتنا، وليس فقط النجاح المدوخ لهؤلاء الناس في جميع مجالات الثقافة، العلوم، الفن، السياسة، والنضال من أجل حقوق الإنسان، مما يضعهم في الصف الاجتماعي الأول في بلدانهم الجديدة. وإنما أن هناك، في بلدان الغرب، والتي يشيع فيها النموذج العالمي للمساواة، نجح هؤلاء في الحفاظ بداخلهم على إحساسهم بالسيادة والمهابة الذي أخذوه معهم في الحقيبة من بلدان الشرق.
لنأخذ البروفيسور دافيد أسولين ((David Assouline نموذجاً، وهو عضو البرلمان الفرنسي والمتحدث باسم الحزب الاشتراكي، ومهتم بالتقدم التكنولوجي ونشط في النضال من أجل الزواج المثلي. أخرج البروفيسور أسولين أيضاً فيلماً اسمه "الأرض الموعودة" وفيه يصف رحلته للبحث عن جذوره في المغرب وإسرائيل. من بين من يستضيفهم أبناء عائلته في أشدود والذين يحكون له عن وادي صليب وعن الفهود السود. وفق النضال الشرقي الجديد، فالبروفيسور أسولين "متشكنز"، لأنه مع "قيم الإنسانية العالمية، حقوق الإنسان، الشيوعية أو الليبرالية التي تأتي كلها من الغرب وتتوجه إلى الغرب". ليس مهماً أن اليهود الشرقيين كانوا في اليسار قبل أن يروا صهيونياً إشكنازياً واحداً في حياتهم، واسألوا عن أفراهام تسرفاتي وسيمون ليفي المغربيين وعن يهودا صديق وساسون دلال اللذين أعدما بتهمة الشيوعية على يد السلطات العراقية. نسي اليهود الشرقيون في إسرائيل تماماً أن الإشكنازيين في إسرائيل مروا أصلاً بعملية تحديث، وأن أغلب الإشكنازيين في إسرائيل هم يمينيون ضيقو الأفق، بعيدون بعد السنوات الضوئية عن البروفيسور أسولين. 
وما هو الطبيعي بالنسبة لنا، نحن الشرقيين في إسرائيل، وفق الموضة الجديدة؟ يبدو أنها قيادة على غرار عضوة الكنيست [المتعصبة وعضوة الليكود من أصول مغربية، والمتحدثة سابقاً باسم الجيش الإسرائيلي] ميري ريجِف. هكذا تكتب الصحفية عنات سرجوستي، التي تحاول على قدر الإمكان أن تربط نفسها بموضة إعادة التعيين الجديدة من أجل الدفاع عن السياسية ميري ريجف ولإقناع قرائها، لأن ريجف فقط "تعبر عن بلدها الأم، المكان الذي جاءت منه. هي تبالغ في شعبويتها. هذا هو توصيفها. وهي كسبته بإخلاص. يمكن بسهولة القول إن ميري ريجِف هي "فريحة"، بالمعنى الثقافي للكلمة. هي ستريوتايب وتفخر بهذا. وهي تحظى بدعم واسع".  
هذه الكلمات تقولها صحفية غير محسوبة باعتبارها أحد محتقري اليهود الشرقيين. وما هو المكان الذي جاءت منه عضوة الكنيست ريجف؟ هل أن هامشية مدن التطوير، حيث كبرت في إسرائيل، وهامشية مكانة أبويها في إسرائيل، مارسيل وفليكس سيبوني، هما مكانها الطبيعي؟ ماذا نعرف عن وضع عائلتها في المغرب؟ لو كانت قد كبرت في فرنسا، هل كان ثمة احتمال لأن تخدم كمتحدثة للجيش الفرنسي وتنضم لماري لوبان؟ احتمال واه للغاية. وهل حدثت الهجرة لإسرائيل من فترة غير قصيرة، وأصبحت كريات جت المكان الطبيعي لليهود الشرقيين؟ كيف حدث أن عضو البرلمان أسولين المثقف اليساري الذي خرج للدفاع عن المسلمين في بلده ليس طبيعياً بالنسبة لنا، أما عضوة الكنيست ريجف، الصهيونية الملتزمة، و"الشعبوية بطبعها"، وفق سرجوستي هي الطبيعية؟ بالنسبة لقطاع من الأصوات بين الشرقيين فالنشط الجديد، الشخص الشعبوي هو اليهودي الشرقي "الأصيل"، وهو نقيض المتشكنز الذي يبدو مزيفاً.
شخصية من برنامج الواقع تتوج بوصفها "الأصيلة الشرقية" (عيناف بوبليل هي الشرقية الأولى التي لديكم[7]) على يد مثقف شرقي في مقال مليء بالاحتقار للذات، ويحظى بالمديح في هذا الموقع. ولكن في الواقع فـ"الأصالة الشرقية"، يختارها لهذه الوظيفة معدو التليفزيون التجاري. كيف أن من يقررون الذوق التجاري يتحولون لعارضين مخلصين للأصالة الشرقية؟ 
من مسلسل "شعبوية" الإسرائيلي

في مقابل هذا، فلو أخذنا مسلسلاً رائجاً أخر، وهو مسلسل "شعبوية" للمخرج ناؤور تسيون، الذي عانى التنديدات من نشطاء شرقيين، سنجد أن ليس هناك فارقاً أبداً بين الشرقي الجديد والشرقي الانهزامي. المسلسل يتتبع تقلبات حياة شابات شرقيات من الضاحية يحاولن التأقلم مع المجتمع "الراقي"، "التل أبيبي"، "الإشكنازي". ولكن يا خسارة، لأن تسيون على الفور سيلاحظ سلوكياتهن التي ستكشف، بلغته، عن الأصول الشرقية لهؤلاء الفتيات المتشبهات بالمجتمع الراقي، واللاتي يسميهن فريحات خفيات. حتى الشرقي الجديد يؤمن أن السلوكيات الشعبية تحدد اليهودي الشرقي وتكشف عنه وفق كلامه، ولهذا فهو يخرجهن من الصندوق.
لو أخذنا كلمة "تشكنُز" كمقياس، سنجد أنها أخذت في الانتفاخ مع السنوات، حتى أصبحت لدى شرقيين بعينهم، ومن ضمنهم نشطاء، اسماً مثالياً مرادفاً للتغريب الحداثي، لحقوق الإنسان، للأخلاق الرفيعة والتعليم. مسيرة هذا الانتفاخ تعرض علينا ستائر النسيان التي أسدلت على ما كناه.
وفق أورنا ساسون ليفي وآفي شوشانا، فكلمة "تشكنز"، تستخدم للإشارة إلى عبور (passing) من جوهر محدد إلى جوهر غير محدد، عبور للمجموعة الحاكمة وتلقي قيمها. وما هي هذه القيم؟ في خيال نشطاء شرقيين فالإشكنازيون تحولوا إلى بيض بروتستانت أنجلوساكسون كاملين. كأن معنى أن تكون يهودياً شرقياً بالتعريف لا يشتمل في المئة وخمسين عاماً الأخيرة على ثقافة الغرب. كأنما معنى أن تكون يهودياً شرقياً هو النقيض من أن تكون غربياً. نسينا بالفعل أن الأمر يتعلق هنا فقط بتقسيمة سياسية محلية. بشكل مشابه يوصي كاتب المقالات والنشط الشرقي، بن درود يميني، اليهود الشرقيين بأن "يتقبلوا قيم الغرب ويتشكنزوا".
على خلاف إضفاء هذه الهالة على الإشكنازيين، فمن الواضح، وفق الفيلم الوثائقي When Jews Were Funny" " الذي تجرى فيه لقاءات مع كوميديين يهود عجائز في الولايات المتحدة، أن معرفة من هو اليهودي تتم عن طريق تمييز شخص ما بسلوكيات تنتمي للعوام مثل الأكل بفم مفتوح (58:30)، مقاطعة الحوار، التلويح باليدين، الكلام بصوت عال وبسرعة (55:58). هكذا، فاليهود هم أولئك الذين يقولون علناً أشياء تجعل الأغيار، البيض البروتستانت الأنجلو ساكسون، يرفعون حاجباً وينظرون إليهم في دهشة.
هناك مفهومان خطيران لتزايد قوة مصطلح "التشكنز" في الوعي الجمعي الشرقي: الأول هو أن التعليم العالي واستهلاك الثقافة مكتوبان باسم الإشكنازيين حصراً، هذا رغم أن أغلب الطوائف اليهودية في شرق أوروبا هي من حاربت، حتى فترة الهولوكست، بتعصب ضد التعليم، وهو ما لم يحدث لدى يهود الشرق الذين لم يروا تعارضاً بين التحديث وبين التدين. في الواقع، فقد كان حاخامات يهود الشرق هم من تبنوا بتعاطف التعليم الحديث الغربي وأرسلوا أولادهم للجامعات وليس للمدارس الدينية.
المفهوم الثاني هو أنه إذا كان معنى الحصول على التعليم واستهلاك الثقافة المعدودة رفيعة هو التشكنز، فأي مثقف شرقي هو بالضرورة متشكنز. كنت قد استقرأت سابقاً وضع الشرقي الجديد وهو يعبر باستخفاف ضد مثقفين شرقيين ويصفهم بالمتشكنزين لأنهم أساتذة في الجامعة، ويواصل في الحقيقة الفعل الصهيو-إشكنازي بتصفية النخبة الشرقية، وهذه المرة على يد شرقيين "واعين".
واضح أن الشرقيين الجدد يشبهون بشكل مفاجئ الشرقيين الصهاينة القدامى على غرار [لرئيس الأسبق من أصول مغربية] موشيه كتساف، [عضو الكنيست السابق من أصول مغربي] مئير شطريت و[رئيسة الكنيست السابقة من أصول عراقية] داليا إيتسيك. المعسكران مستعبدان لصالح إضفاء هالة على الإشكنازيين ولصالح الرغبة في الانضمام لنظام قديم. كل واحد بطريقته. يتذلل كتساف إليهم بشكل مباشر بأسلوب "كل إسرائيل إخوة"، بدون أن ينطق  مفهومي "شرقي" و"إشكنازي"، أما الشرقي الجديد الواعي بنفسه وفق كلامه، فيغرق الأرض بكلمات "شرقي – إشكنازي – متشكنز"، أي يحتج ويشتم، ولكنه يواصل تقبل الصورة السلبية عنه باعتبارها شيئاً بديهياً في احتجاجه، وفي الواقع يواصل استنكار ذاته والتزلف ("العرص هو شيء حقيقي"، "الإشكنازيون يسمعون موسيقى الجاز بالبيت"). هذه المحاولة لأن يعجب العاطفيين وأن يتزلف بدون محاربة الشر بشكل حقيقي، تصدّق في الواقع على تقسيم الموارد في إسرائيل وفق معايير إثنية. كنت قد أدركت في الماضي ألا فائدة من من توعية الطبقة الحاكمة بكونها إشكنازية. الانشغال بهذا ليس إلا صرفاً تافهاً للأنظار واستنساخ للمشكلة في مكان غير ذي موضوع.
هناك تشابه واضح بين الاستراتيجية الشرقية الجديدة وبين استراتيجية سندريلا التي جاءت من المعبرة، من بيت موشيه كتساف. وفق هذه الاستراتيجية المحببة بشدة لدى وسائل الإعلام والمؤسسة في إسرائيل، فالشرقي المجنّد يبرز خصوصيته ضد كل سائر الشرقيين من "المعبرة". أسطورة السندريلا الشرقية تغازل بشدة المؤسسة الإسرائيلية والصحافة وتمنحك إمكانية أن تبدو ليبرالياً متفتحاً بثمن بخس يبلغ عدة فصوص زجاجية. السياسي مئير شطريت يحب أن يحكي كيف وصل من سرير الوكالة في المعبرة إلى رئاسة الوكالة اليهودية. يحسن تعريف رحلة التنقل الاجتماعية من أجل الشرقيين في إسرائيل. الأمر يتعلق بمناطق محددة جيداً غير خطيرة أبداً على مناطق الهيمنة في إسرائيل. 
قد يكون الأديب أ. ب. يهوشواع بالتحديد، وفي خطاب "الرعاع" الذي ألقاه عام 81ـ، أن يكون النموذج الأكثر تطرفاً لليهودي الشرقي المنتقل للمعسكر الآخر. في هذا الخطاب يتطرق يهوشواع إلى جماعته الإثنية [هو اليهودي الشرقي] بوصفهم "هم- الرعاع"، أما بالنسبة لإشكنازيي حزب مباي، فهو يخاطبهم بوصفهم "نحن". ولسبب ما، تجاوزه النقد الشرقي. حتى لهجته الغريبة، كأنه كبر في شرق أوروبا وليس في القدس السفاردية، لم تحظ بأية غمزة من أي ستاند-أب كوميديان. الصهيونية غير محسوبة أبداً كأنها "تشكنز"، برغم أنها الباب الذي ينفتح على المجموعة المهيمنة. بشكل مفارق، فالشرقي الذي يحب الثقافة الييدشية [ثقافة يهود شرق أوروبا] على سبيل المثال، لا يُحسب متشكنزاً، لأن الخبرة في كتابات [الأديب الروسي الذي يكتب بالييدشية عن عوالم الإشكناز] شالوم عليخم لا تحظى بثواب اجتماعي بينما التجند في وحدة صاعقة القيادة العامة للجيش ستصعد بك عالياً في سلم التقدم الاجتماعي.
يريد أغلب اليهود الشرقيين في إسرائيل الانضمام للصهيونية ولا يريدون الانتماء للأقلية الشرقية. الهوية الإثنية الشرقية لا تعلي من شأن هذه المجموعة وإنما هي معلقة كحمل على رقبتها، في مقابل هذا فاعترافك بأنك صهيوني ستجازى عليه جيداً. ليس صدفة أن حتى [الصحفي] بن درور يميني أصبح واحداً من كبار الصهاينة فعلاً مثل أستاذه ومعلمه أ. ب. يهوشواع. كيف أمكن أن يغيب عن الخطاب الارتباط بين الوضع السياسي للشرقيين وبين كون إسرائيل مدينة أحادية الأيديولوجيا ويعد الوعي الأيديولوجي بين طبقتها الحاكمة من أعلى المعدلات في العالم الديمقراطي (وفق أ. اريكسون، الباحث في الهوية، في مقال هنريت دهان كاليف "الهوية الإسرائيلين بين المهاجرين والمخضرمين"). في إسرائيل، كانت الصهيونية هي التي تقرر ترقية المجموعات الإثنية أو الأفراد. المواطن الذي يرفض الأيديولوجيا الصهيونية يُدفع إلى هامش المجتمع. وأكثر من هذا، فشعلة القيادة تنتقل لكل من يثبت الراديكالية الأيديولوجية "الرائدة" [أطلق "مصطلح "الرواد" على أوائل المستوطنين اليهود في فلسطين]. كانت الكيبوتسات سابقاً هي التي تقوم بهذا الدور والآن حلت محلها المستوطنات. الشرقيون كملحقين من الدرجة الثانية للصهيونية لا يمكنهم أن يكونوا قادة. ليس بإمكانهم إلا تلقي الإحسانات على حسب مدى قربهم من الأفانجارد القائد، مثل المستوطنين الذين يسمحون للشرقيين اليوم بالانضمام إليهم ضد الأفانجارد السابق للكيبوتسات.
في الواقع، فكل هذا اللغو حول الإشكنازيين والتشكنز المتخيل للأفراد، يخفي موضوعاً أكثر جوهرية وهو أن غالبية اليهود الشرقيين في إسرائيل ليس لديهم وعي شرقي أو أي وجهة نظر شرقية ذات معنى (ياليتها كانت موجودة!) وإنما فقط وعي صهيوني. الوعي الشرقي حدث في الماضي، في الارتباط بين العربية واليهودية، أما الآن فالأمر يتعلق بالانشغال الذي لا فائدة منه بتحضير الأرواح. الآن أصبح هذا مجرد خطاب إسرائيلي.


__________________________
ترجمة المقال منشورة بالأصل في موقع smartsyria، على ثلاث حلقات، 1، 2، و3.





[1] المقصود "أغنية الفريحة"، التي كتبها أسي ديان، والفريحة هو الوصف المرتبط بالمرأة اليهودية من أصول شرقية، وتصف الكلمة امرأة مبالغة في حركاتها وصوتها وطريقة ملابسها، (ومقابلها تشير كلمة "عرص" في العبرية الحديثة إلى الرجل من أصول شرقية) ذي التاريخ الإجرامي غالباً الذي يلوح بيده وذو ذوق هابط). أغنية "الفريحة" تقال على لسان امرأة "فريحة" تفخر بكونها كذلك. كلمتا "العرص" و"الفريحة" من الكلمات المركزية لفهم التوتر الشرقي/ الإشكنازي في إسرائيل,. وتعبير "الإبحار داخل الشبشب" مأخوذ من كلمات الأغنية.
[2] سلسلة أفلام كوميدية وشعبية ظهرت في السبعينيات، يقوم اليهود الشرقيون ببطولتها وتعرض أنماطا عن شخصية اليهودي الشرقي
[3] جمع المعبرة، معسكر من خيام وأكشاك كان يوضع فيه اليهود (خاصة من أصول شرقية) حديثي الهجرة، لتأهيلهم لمواجهة الحياة الإسرائيلية.
[4] في بداية السبعينيات قامت حركة من اليهود من أصول شرقية، سمت نفسها "الفهود السود" بانتفاضة في وادي صليب وفي القدس احتجاجاً على سوء أوضاعهم مقارنة بالإشكنازيين.
[5] الشعار الأصلي لبنيامين نتنياهو الذي تشير إليه الكاتبة هو "اليساريون نسوا معنى أن تكون يهودياً".
[6] مدن فقيرة جرى بناؤها في الخمسينيات والستينيات، وفي النقب والجليل بالأخص، لاستقبال اليهود الشرقيين، ثم انضم إليهم اليهود الروس في التسعينيات.
[7] عيناف بوبليل هي إحدى بطلات برنامج الواقع الإسرائيلي “الأخ الأكبر، والكاتبة هنا تشير لمقال كتبه أفياهو أتياس على موقع هاعوكتس يزعم فيه أن بوبليل هي الشرقية الأولى في إسرائيل المعتزة بذاتها وبجذورها الشرقية.